نحن سبع شقيقات كلنا خوافات، أختي عاتكة، كبرانا، تخاف السرطان الذي ألتهم ثديها الأيمن فاستعاضت عنه بقطعة من البلاستيك. تدسّها في صدريتها كل صباح فيعتدل مظهرها. وفي الليل تطفئ أختي نور غرفتها قبل أن تخلع ثيابها، ثم، وكمن يكشّ عنه عقرباً سامة، تخلع الثدي الكاذب وترميه في عتمة خزانة الثياب وهي تحاذر أن تنظر إليه تعيش عاتكة خوفاً مستمراً من أن يمتد السرطان إلى ثديها الأيسر، وبطنها، وحنجرتها، ورحمها، وبقية أجزاء جسدها. وهي تعودت أن تعيش قلق الأشهر التي تفصل بين زياراتها الدورية المنتظمة للمستشفى، دون أن تتعود الخوف نفسه. أراقب هواجس شقيقتي الكبرى، فيحلو لي أن آخذها في حضني وأمسّد على شعرها الجميل وأطرد عنها أشباح الخوف. وأتمنى لو أفعل الأمر نفسه مع أختي عفاف.
عفاف تخاف من زوجها. من تجريحه المستمر لها لأنها أحبت قبله زميلا لها في الجامعة. سافر إلى هولندا لإكمال دراسته ولم يعد. وحسام، زوج عفاف، يعرف تفاصيل قصة الحب القديمة، لكنه يرفض أن يقلب الصفحة. وهو ما إن يصبّ في جوفه كأساً من الكحول حتى يبدأ بتعذيب عفاف وتذكيرها بحبها الفاشل وبحبيبها الذي فضّل عليها نساء أوروبا. يقتل، ذلك التذكير اليومي الشامت، في أختي الأمل بحياة زوجية سوية. إنها تخاف من إذعانها المستمر للإهانة، وتخشى أن يقودها التحريض الجارح إلى أن تهدم بيتها بيديها.
أختي عاطفة ليس لها زوج تخاف منه. لكنها تخاف الزمن، وتضع وجهها في وجه المرآة ساعات طوالاً. تتحسس التجاعيد الصغيرة. تشدّ ترهّل الرقبة. تدهن البقع الجافة وتطارد الشعرات البيضاء دون أن يطمئنها كل ذلك. إن نظرة الرعب سرعان ما تقفز إلى عينيها كلما فتح أحدهم سيرة العمر، بحيث أننا صرنا نتعمد تجاهل الاحتفال بعيد ميلادها أو تذكيرها به، لأن معنى ذلك أن تتهاوى مريضة لعدة أيام، وأن نمرض، نحن السبع، معها.
كنتُ أفهم أشكال الخوف، إلا ذاك الذي يتملك أختي وصال إزاء مديرها في العمل. إنه شيء يتجاوز الرهبة المعتادة التي يشعر بها الموظف أمام مدرائه. خوف حقيقي يجعلها تصلّي كل يوم وتنذر النذور لكي يتمّ نقل المدير إلى دائرة أخرى، قبل أن يكتب عنها تقريراً يؤدي إلى تقليل راتبها، أو حرمانها من الترقية، أو فصلها من الوظيفة. وقد انتسبت وصال إلى الحزب مع أنها لا تفقه شيئا في السياسة، لمجرد أن تبدو أقوى أمام مديرها. بدون جدوى. إنه يترصد كل هفوة. ومركزه في الحزب يجعله بمنأى عن صلواتها ونذورها. لن يفصل. لن ينقل. لن يحال على التقاعد. وستبقى تحت رحمته، تطوي صدرها على هواجسها إلى ما شاء الله.
كل واحدة منا لها خوفها الخاص. أختي منال تخاف على خطيبها، الذي هو ابن عمنا. الشاب الذي فتحت عينيها على حبه. حين خطبها، كانت سعيدة إلى درجة جعلتها أجمل وأرشق وأكثر بريقاً. وكان نادر، خطيبها، مهندساً حديث التخرج وجنديا في الاحتياط. لكن الحرب قامت. وبدل أن ينهي نادر خدمته العسكرية في سنتين، أصبح الأمر مرهونًا باستمرار الحرب. وذبلت منال. خبا بريقها وتحجرّت نظراتها. سكن الخوف وجدانها كله. ربّ لا تجعله طعماً للنار. “ربّ أبعد عنه القذائف والشظايا واحمه من الأسر. ربّ أعده سالماً وخذ مني ما تريد”. وكلما دخلت الحرب سنة جديدة، كبر خوف منال ولم تتعود أن تعيش على إيقاع الخطر. كانت تنهار في نوبة من القشعريرة والتقيؤ كلما سمعت باستشهاد جندي من أبناء الجيران. تبقى واقفة مثل دمية خشبية فوق سطح الدار، يوماً ويومين وثلاثة لعل نبأ يأتيها بأن خطيبها ما زال حياً.
أيتها النجوم، كم تشرفين من عليائك على أحزان الخوافات! وصل الأمر بمنال، في إحدى نوباتها، إلى الصراخ وهي تشدّ شعرها: “ليته يموت مرة واحدة وأستريح!”.
ثم راحت تلطم صدرها نادمة على الكلمات المجنونة التي صدرت عنها. تستغفر ربها وتنتحب وتخمش وجهها. فشلت كل محاولات أختي منى لتقييد يديها ومنعها من إلحاق الأذى بنفسها.
منى؟ انها الأخت التي لا تخاف إلا من ذاتها. من عواطفها الجامحة ونزواتها العنيفة ومن ذلك الطبع الحاد النزق والرغبات الهائلة المعلنة وغير المعلنة. هي الأجرأ بيننا. لا تخاف أحداً على هذه الأرض خارج ذاتها. لكنها تدرك أن جرأتها تقودها خطوة خطوة نحو الدمار. كنتُ أقول لمنى، عندما ننفرد معاً ونتبادل الاعترافات الحميمة: “أحسدك على جرأتك”. ثم أدق على الخشب ضاحكة. أما هي فكانت ترد بيقين مخيف: “جرأة المرأة عنوان جميل لحياة قصيرة”.
أنا الأخت السابعة، أخاف من كل الأمور التي تفزع شقيقاتي. كلها مرة واحدة. المرض الذي يترصدني في كل شهيق. السنوات التي تتقلّب أيامها وأشهرها بأسرع من تقلب أوراق كتاب. الموت الذي يحصد الأقارب والأصدقاء مثل كف شرهة تقطف الأنفاس ولا تشبع. وكنت أخاف زوجي، وأخته أستاذة الجامعة التي لا تخفى انزعاجها من أنني نقلت إلى أبنائي لهجة الحي الفقير الذي نشأت فيه.
أنا الخوّافة السابعة، لا أخشى مديري فحسب، بل مدرائي في العمل. رئيس الشعبة الذي يريدني بدقة الحاسبة الإلكترونية. رئيس القسم الذي ينظر إليّ نظرات وقحة كلما مررت من أمامه، سرعان ما تهبط نحو الساقين. مسؤول شؤون الموظفين الذي لا يكفّ عن الاستفسار عن ميولي السياسية وميول أفراد عائلتي، حتى الجد السابع. وبقدر خشيتي من زوجي، كانت ترعبني احتمالات انزلاقي في هاوية عاطفية طارئة، تكون الملاذ الذي أحتمي به من الجفاف المحيط بي. وهكذا فإنني كنتُ أخاف الآخرين وأخاف نفسي أيضا. ألتجئ إلى أعين شقيقاتي اللواتي تقاسمن معي الغرفة واللقمة واللحاف، تبادلن المعاطف والأحذية ومشابك الشعر، ولا أجد في أعينهن فناراً يهديني، بل أصداء لذلك الخوف الرهيب الذي يسيطر علينا… فأزداد انكماشاً.
… الى أن كان يوم!
نزلتُ من البيت أمسك بيد البنت والولدين أوصلهم إلى المدرسة كعادتي كل صباح.كان ذلك اليوم هو الثلاثاء. يوم مثل باقي الأيام. في شهر مثل باقي الأشهر. في سنة مثل باقي السنوات. أستيقظ في السادسة والنصف فأجهّز الفطور وأوقظ الصغار. أغسل وجوههم وهم نصف نيام. أمشط شعورهم وألبسهم ثيابهم ثم أدسّ طعامهم في حقيبة الكتب. أسرع بهم إلى مدارسهم قبل أن أجري إلى عملي. أي شيطان جعلني، ذلك اليوم، أغيّر البرنامج؟ قلت لأبنائي إنهم لن يذهبوا إلى المدرسة. وإنني لن أذهب إلى عملي. سنركب الباص ونتركه يأخذنا الى المحطة الأخيرة. وخلال ذلك سنفكر كيف سنمضي بقية النهار.
تركنا حقائب الأولاد عند بائعة الخبز في أول الشارع. انتظرنا الباص لنتراصف فيه وسط زحام الصباح. كنا مضطربين لمجرد إحساسنا بأن أمامنا فرحاً كثيراً… مختلفاً. سار الباص متثاقلاً مثل حبلى. يفرغ ما بجوفه محطة بعد محطة، حتى أصبح لكل واحد منا متسع للجلوس ومد الأرجل. لم أتبادل مع أولادي أيّ كلام. تركتهم لصخبهم ودهشتهم ورحت أتابع الحركة الدائبة على الأرصفة. أتساءل: هل بين هؤلاء إنسان لا يخاف البتة؟ وكيف يعيش إنسان لا يعرف الخوف؟ كيف يسير؟ كيف يتكلم؟ كيف يضحك؟ كيف يحب؟ وعند المحطة الأخيرة التفت إلينا السائق متسائلاً. يبدو أنه لمح في أعيننا تلك النظرة التي لا تقاوَم. نظرة غريق يلتمس قشة تُبقي به على ضفاف العيش.
كانت الشمس قد ارتفعت في السماء وازداد الطقس حرارة. لم ينطق السائق بكلمة. وقف وخلع سترة العمل الزرقاء واكتفى بما تحتها من رداء قطني قصير الكُمين. نزل ورفع عن الباص اللافتة التي تشير الى الاتجاه. أزال الرقم وعاد إلى مكانه ليطلق نٓفَسناً جباراً اختلط فيه الشهيق بالزفير… وانطلق بِنَا.
قطع الباص شوارع لم أرها من قبل. مرّ بأحياء جميلة نظيفة، وبيوت هادئة، وعمارات تبدو وكأنها مكاتب يعمل فيها مدراء متسامحون وتتنقل فيها موظفات آمنات. لم أكن أعرف أن مدينتنا تخبئ كل ذلك السحر وهي تستقبل ارتفاع قرص الشمس وتسارع حركة البشر. إن بغداد، صباح الثلاثاء ذاك، كانت أدفأ المدن وألطفها وداً. كيف لم نفطن إلى حضنها الوثير الجدير بالأمهات؟
لكن الباص توقف.
ما الذي يجعل السائق يدعس على الكابح، فجأة، فنندفع في مقاعدنا إلى أمام ثم نرتد ضاربين ظهورنا إلى الخلف؟ من هذه الفتاة الحسناء التي أشارت إليه تنوي الركوب؟ انفتح الباب الأوتوماتيكي وصعدت شابة تبدو نسخة طبق الأصل من أختي منال. ماذا تفعل أختي في هذا الحي البعيد عن بيت العائلة؟ صعدت منال مرتدية فستاناً أحمر، هي التي خبأت كل فساتينها الملونة منذ ذهب خطيبها إلى الحرب. كانت تضحك وتضحك وهي تقبلني وتقبل الأولاد وتقول إنها قررت اللحاق بِنَا في “رحلة العمر”.
وقبل أن تستقر منال في مقعدها، توقف الباص من جديد لتصعد أختي عاتكة. كان شعرها الطويل مصففًا في جديلة تنسدل بدلال على ظهرها، بعد أن كانت تربطه في مؤخرة الرأس مثل عجائز القرى. نظرت عاتكة إلينا معاتبة وهي تبتسم بحبور:
- أهكذا تتآمران من وراء ظهري وتنطلقان في رحلة العمر من دوني؟
دار الباص بِنَا بخفة. كأنه يتحرك وفق سلّم موسيقي أليف الفوضى. ولما توقف في المرة الثالثة صعدت منى دون أن تكلف نفسها عناء التحية. جلست جنب السائق مباشرة ووضعت كفها اليسرى على كفه التي تمسك بالمقود. سمعتها تغني له أغنية من فيلم قديم. ثم صعدت وصال. كيف سوَّلت لها نفسها أن تترك الوظيفة في بحر الأسبوع وتثير غضب مديرها الجبار؟ وعلى تخوم المدينة، وقف السائق ليأخذ عفاف وطفلتها هبة. كانت تحمل معها حقيبة ثياب، كأنها على سفر. ولم يكن يبدو عليها شيء من أحزان الفراق أو لوعات الحنين. ولما صعدت أختي عاطفة، أخيراً، هلّلنا جميعاً لإشراقتها التي جعلتها تبدو وكأنها أصغر من عمرها بعشر سنوات. لم تسأل أيّ منّا شقيقاتها إلى أين نتجه. كنّا متفقات على التجاهل. متواطئات مع السائق الذي أرسلته السماء. راغبات بالابتعاد. واثقات أن كل الاتجاهات ملائمة للانفلات ما دمنا معاً.
كانت المدينة قد أصبحت بعيدة عندما لاح أمامنا شاطئ. ولم أكن أعرف يومًا أن مدينتنا تقع على البحر، أو أن هناك بحراً قريبا منها. ولم أهتم بالسؤال. هل أصدّق أطلس الجغرافيا وأكذّب عيني؟ نزلنا إلى الساحل الرمليّ، الكبار منا يسابقون الصغار. من الكبير؟ من الصغير؟ ما العمر؟ ما الحياة؟ ما الفرح؟ ما الخوف؟ ما الحب؟ ما الحرية؟ ما الجنون؟ أسئلة ممنوعة في فضاء رحب. تحت سماء مفتوحة على المستحيل.
ركضنا مع خيالاتنا نسابق ظلالنا حتى بلغنا الموج. كنّا نتعثر ونضحك ونصرخ ونعاني وطأة السرور. غطسنا، والسائق معنا، في لجة مالحة وغسلنا أعيننا بماء الطمأنينة. أزلنا عن جلودنا قشرة الخشية المتيبّسة من دهور. ومن غمرة انهماكنا الجسدي والوجداني بمصافحة اللحظة النادرة، جاءنا صوت عاتكة تلهج بنشيد الحياة السريّ. التفتنا إليها والرمال والملح تلتصق بوجوهنا. رأينا ضفيرتها محلولة وشعرها مبثوثًا في الجهات الأربع، تفكّ أزرار قميصها الأبيض المطرز وتترك نفسها للشمس.
صعقنا المشهد.
انكشف قميص عاتكة عن نهدين مباركين مترعين بالعافية! سجدنا في الماء من هول المفاجأة. كان مجيء البحر إلى بغداد أسهل من عودة الثدي المُجتث إلى صدر أختي. كانت ترقص فوق الرمال محلولة الشعر مشرعة القميص. كاهنة تُصلّي للآلهة. تلهج بنشيد الحياة السريّ. هل مرّ الوقت علينا كما يمرّ على سائر البشر في سائر أنحاء الأرض؟ ألم نتفق أن الوقت والزمن والساعة والعمر كلها أسماء ممنوعة؟
نظر السائق إلى الشمس التي بدأت تتوارى وراء الأفق. سحب نفسه من أحضان منى ونفض رأسه من الرمل والغياب. وقف وصفّق بيديه الضخمتين قائلا إن أوان العودة قد حان. غصصنا بالطمأنينة الجديدة علينا لمجرد سماع الصوت الآمر بالعودة. حاولنا الاعتراض فتداخلت أصواتنا بالحجج. أصر على قراره. قلنا لآدم الوحيد في جنتنا:
- اذهب واتركنا.
- جئت بكنّ وأعود بكنّ.
توسلنا، سقنا أبرع حيلنا، جرّبنا أساليب إغراء لم نجرّبها، لكنه لم يتراجع. كان قد نهض من الرمل مثل كائن أسطوري عظيم البأس، وبدأ يمد يديه إلينا ليسحبنا، رغما عنا، إلى الباص الجاثم هناك مثل قبر كئيب. لم نكن شريرات، لكن رحلة العمر لا يمكن أن تنتهي بقرار من رجل غريب، حتى ولو كان شريكنا في المعجزة. جرّنا من أذرعنا من جديد فتماسكنا ضده. رفع يده ليضرب عاطفة فرفعنا قبضاتنا وهجمنا عليه. كانت الشمس قد توارت وحلّ ظلام شفاف. والشقيقات السبع استعدن رشدًا فقدنه من قسوة الخوف.
أمسكت منى باليد الخشنة التي أشبعتها تقبيلاً ولوتها إلى الخلف. شلّت عفاف ومنال ساقي الرجل الذي يريد أن يكون أخطبوط الليلة العجيبة. كان قوياً وكنا، بجموحنا، أقوى منه. كان ذكراً جبارًا وكنا إناثًا مقهورات مدربات على الخوف، ساعيات إلى لحظة أمان. أحطنا به بكل عنفواننا. كل واحدة منّا مستعدة لأن تغرس مخالبها في عينيه. لولا أن صوت عاتكة جاءنا باتراً:
- أتركن الحركة الاخيرة لي.
هجمت عليه محلولة الشعر، مكشوفة العافية، خارجة من حصار المرض. مغسولة الكفين من دبق الخوف. أطبقت على رقبة الرجل المزمجر دونما تردد، ونحن من حولها نستمدّ من ضعفنا قوة.
أخمدنا الأنفاس التي جاءت بنا إلى بحر بغداد، لئلا تعود بنا منه.
1993
إنعام كجه جي
Like
إبلاغ تحر
عفاف تخاف من زوجها. من تجريحه المستمر لها لأنها أحبت قبله زميلا لها في الجامعة. سافر إلى هولندا لإكمال دراسته ولم يعد. وحسام، زوج عفاف، يعرف تفاصيل قصة الحب القديمة، لكنه يرفض أن يقلب الصفحة. وهو ما إن يصبّ في جوفه كأساً من الكحول حتى يبدأ بتعذيب عفاف وتذكيرها بحبها الفاشل وبحبيبها الذي فضّل عليها نساء أوروبا. يقتل، ذلك التذكير اليومي الشامت، في أختي الأمل بحياة زوجية سوية. إنها تخاف من إذعانها المستمر للإهانة، وتخشى أن يقودها التحريض الجارح إلى أن تهدم بيتها بيديها.
أختي عاطفة ليس لها زوج تخاف منه. لكنها تخاف الزمن، وتضع وجهها في وجه المرآة ساعات طوالاً. تتحسس التجاعيد الصغيرة. تشدّ ترهّل الرقبة. تدهن البقع الجافة وتطارد الشعرات البيضاء دون أن يطمئنها كل ذلك. إن نظرة الرعب سرعان ما تقفز إلى عينيها كلما فتح أحدهم سيرة العمر، بحيث أننا صرنا نتعمد تجاهل الاحتفال بعيد ميلادها أو تذكيرها به، لأن معنى ذلك أن تتهاوى مريضة لعدة أيام، وأن نمرض، نحن السبع، معها.
كنتُ أفهم أشكال الخوف، إلا ذاك الذي يتملك أختي وصال إزاء مديرها في العمل. إنه شيء يتجاوز الرهبة المعتادة التي يشعر بها الموظف أمام مدرائه. خوف حقيقي يجعلها تصلّي كل يوم وتنذر النذور لكي يتمّ نقل المدير إلى دائرة أخرى، قبل أن يكتب عنها تقريراً يؤدي إلى تقليل راتبها، أو حرمانها من الترقية، أو فصلها من الوظيفة. وقد انتسبت وصال إلى الحزب مع أنها لا تفقه شيئا في السياسة، لمجرد أن تبدو أقوى أمام مديرها. بدون جدوى. إنه يترصد كل هفوة. ومركزه في الحزب يجعله بمنأى عن صلواتها ونذورها. لن يفصل. لن ينقل. لن يحال على التقاعد. وستبقى تحت رحمته، تطوي صدرها على هواجسها إلى ما شاء الله.
كل واحدة منا لها خوفها الخاص. أختي منال تخاف على خطيبها، الذي هو ابن عمنا. الشاب الذي فتحت عينيها على حبه. حين خطبها، كانت سعيدة إلى درجة جعلتها أجمل وأرشق وأكثر بريقاً. وكان نادر، خطيبها، مهندساً حديث التخرج وجنديا في الاحتياط. لكن الحرب قامت. وبدل أن ينهي نادر خدمته العسكرية في سنتين، أصبح الأمر مرهونًا باستمرار الحرب. وذبلت منال. خبا بريقها وتحجرّت نظراتها. سكن الخوف وجدانها كله. ربّ لا تجعله طعماً للنار. “ربّ أبعد عنه القذائف والشظايا واحمه من الأسر. ربّ أعده سالماً وخذ مني ما تريد”. وكلما دخلت الحرب سنة جديدة، كبر خوف منال ولم تتعود أن تعيش على إيقاع الخطر. كانت تنهار في نوبة من القشعريرة والتقيؤ كلما سمعت باستشهاد جندي من أبناء الجيران. تبقى واقفة مثل دمية خشبية فوق سطح الدار، يوماً ويومين وثلاثة لعل نبأ يأتيها بأن خطيبها ما زال حياً.
أيتها النجوم، كم تشرفين من عليائك على أحزان الخوافات! وصل الأمر بمنال، في إحدى نوباتها، إلى الصراخ وهي تشدّ شعرها: “ليته يموت مرة واحدة وأستريح!”.
ثم راحت تلطم صدرها نادمة على الكلمات المجنونة التي صدرت عنها. تستغفر ربها وتنتحب وتخمش وجهها. فشلت كل محاولات أختي منى لتقييد يديها ومنعها من إلحاق الأذى بنفسها.
منى؟ انها الأخت التي لا تخاف إلا من ذاتها. من عواطفها الجامحة ونزواتها العنيفة ومن ذلك الطبع الحاد النزق والرغبات الهائلة المعلنة وغير المعلنة. هي الأجرأ بيننا. لا تخاف أحداً على هذه الأرض خارج ذاتها. لكنها تدرك أن جرأتها تقودها خطوة خطوة نحو الدمار. كنتُ أقول لمنى، عندما ننفرد معاً ونتبادل الاعترافات الحميمة: “أحسدك على جرأتك”. ثم أدق على الخشب ضاحكة. أما هي فكانت ترد بيقين مخيف: “جرأة المرأة عنوان جميل لحياة قصيرة”.
أنا الأخت السابعة، أخاف من كل الأمور التي تفزع شقيقاتي. كلها مرة واحدة. المرض الذي يترصدني في كل شهيق. السنوات التي تتقلّب أيامها وأشهرها بأسرع من تقلب أوراق كتاب. الموت الذي يحصد الأقارب والأصدقاء مثل كف شرهة تقطف الأنفاس ولا تشبع. وكنت أخاف زوجي، وأخته أستاذة الجامعة التي لا تخفى انزعاجها من أنني نقلت إلى أبنائي لهجة الحي الفقير الذي نشأت فيه.
أنا الخوّافة السابعة، لا أخشى مديري فحسب، بل مدرائي في العمل. رئيس الشعبة الذي يريدني بدقة الحاسبة الإلكترونية. رئيس القسم الذي ينظر إليّ نظرات وقحة كلما مررت من أمامه، سرعان ما تهبط نحو الساقين. مسؤول شؤون الموظفين الذي لا يكفّ عن الاستفسار عن ميولي السياسية وميول أفراد عائلتي، حتى الجد السابع. وبقدر خشيتي من زوجي، كانت ترعبني احتمالات انزلاقي في هاوية عاطفية طارئة، تكون الملاذ الذي أحتمي به من الجفاف المحيط بي. وهكذا فإنني كنتُ أخاف الآخرين وأخاف نفسي أيضا. ألتجئ إلى أعين شقيقاتي اللواتي تقاسمن معي الغرفة واللقمة واللحاف، تبادلن المعاطف والأحذية ومشابك الشعر، ولا أجد في أعينهن فناراً يهديني، بل أصداء لذلك الخوف الرهيب الذي يسيطر علينا… فأزداد انكماشاً.
… الى أن كان يوم!
نزلتُ من البيت أمسك بيد البنت والولدين أوصلهم إلى المدرسة كعادتي كل صباح.كان ذلك اليوم هو الثلاثاء. يوم مثل باقي الأيام. في شهر مثل باقي الأشهر. في سنة مثل باقي السنوات. أستيقظ في السادسة والنصف فأجهّز الفطور وأوقظ الصغار. أغسل وجوههم وهم نصف نيام. أمشط شعورهم وألبسهم ثيابهم ثم أدسّ طعامهم في حقيبة الكتب. أسرع بهم إلى مدارسهم قبل أن أجري إلى عملي. أي شيطان جعلني، ذلك اليوم، أغيّر البرنامج؟ قلت لأبنائي إنهم لن يذهبوا إلى المدرسة. وإنني لن أذهب إلى عملي. سنركب الباص ونتركه يأخذنا الى المحطة الأخيرة. وخلال ذلك سنفكر كيف سنمضي بقية النهار.
تركنا حقائب الأولاد عند بائعة الخبز في أول الشارع. انتظرنا الباص لنتراصف فيه وسط زحام الصباح. كنا مضطربين لمجرد إحساسنا بأن أمامنا فرحاً كثيراً… مختلفاً. سار الباص متثاقلاً مثل حبلى. يفرغ ما بجوفه محطة بعد محطة، حتى أصبح لكل واحد منا متسع للجلوس ومد الأرجل. لم أتبادل مع أولادي أيّ كلام. تركتهم لصخبهم ودهشتهم ورحت أتابع الحركة الدائبة على الأرصفة. أتساءل: هل بين هؤلاء إنسان لا يخاف البتة؟ وكيف يعيش إنسان لا يعرف الخوف؟ كيف يسير؟ كيف يتكلم؟ كيف يضحك؟ كيف يحب؟ وعند المحطة الأخيرة التفت إلينا السائق متسائلاً. يبدو أنه لمح في أعيننا تلك النظرة التي لا تقاوَم. نظرة غريق يلتمس قشة تُبقي به على ضفاف العيش.
كانت الشمس قد ارتفعت في السماء وازداد الطقس حرارة. لم ينطق السائق بكلمة. وقف وخلع سترة العمل الزرقاء واكتفى بما تحتها من رداء قطني قصير الكُمين. نزل ورفع عن الباص اللافتة التي تشير الى الاتجاه. أزال الرقم وعاد إلى مكانه ليطلق نٓفَسناً جباراً اختلط فيه الشهيق بالزفير… وانطلق بِنَا.
قطع الباص شوارع لم أرها من قبل. مرّ بأحياء جميلة نظيفة، وبيوت هادئة، وعمارات تبدو وكأنها مكاتب يعمل فيها مدراء متسامحون وتتنقل فيها موظفات آمنات. لم أكن أعرف أن مدينتنا تخبئ كل ذلك السحر وهي تستقبل ارتفاع قرص الشمس وتسارع حركة البشر. إن بغداد، صباح الثلاثاء ذاك، كانت أدفأ المدن وألطفها وداً. كيف لم نفطن إلى حضنها الوثير الجدير بالأمهات؟
لكن الباص توقف.
ما الذي يجعل السائق يدعس على الكابح، فجأة، فنندفع في مقاعدنا إلى أمام ثم نرتد ضاربين ظهورنا إلى الخلف؟ من هذه الفتاة الحسناء التي أشارت إليه تنوي الركوب؟ انفتح الباب الأوتوماتيكي وصعدت شابة تبدو نسخة طبق الأصل من أختي منال. ماذا تفعل أختي في هذا الحي البعيد عن بيت العائلة؟ صعدت منال مرتدية فستاناً أحمر، هي التي خبأت كل فساتينها الملونة منذ ذهب خطيبها إلى الحرب. كانت تضحك وتضحك وهي تقبلني وتقبل الأولاد وتقول إنها قررت اللحاق بِنَا في “رحلة العمر”.
وقبل أن تستقر منال في مقعدها، توقف الباص من جديد لتصعد أختي عاتكة. كان شعرها الطويل مصففًا في جديلة تنسدل بدلال على ظهرها، بعد أن كانت تربطه في مؤخرة الرأس مثل عجائز القرى. نظرت عاتكة إلينا معاتبة وهي تبتسم بحبور:
- أهكذا تتآمران من وراء ظهري وتنطلقان في رحلة العمر من دوني؟
دار الباص بِنَا بخفة. كأنه يتحرك وفق سلّم موسيقي أليف الفوضى. ولما توقف في المرة الثالثة صعدت منى دون أن تكلف نفسها عناء التحية. جلست جنب السائق مباشرة ووضعت كفها اليسرى على كفه التي تمسك بالمقود. سمعتها تغني له أغنية من فيلم قديم. ثم صعدت وصال. كيف سوَّلت لها نفسها أن تترك الوظيفة في بحر الأسبوع وتثير غضب مديرها الجبار؟ وعلى تخوم المدينة، وقف السائق ليأخذ عفاف وطفلتها هبة. كانت تحمل معها حقيبة ثياب، كأنها على سفر. ولم يكن يبدو عليها شيء من أحزان الفراق أو لوعات الحنين. ولما صعدت أختي عاطفة، أخيراً، هلّلنا جميعاً لإشراقتها التي جعلتها تبدو وكأنها أصغر من عمرها بعشر سنوات. لم تسأل أيّ منّا شقيقاتها إلى أين نتجه. كنّا متفقات على التجاهل. متواطئات مع السائق الذي أرسلته السماء. راغبات بالابتعاد. واثقات أن كل الاتجاهات ملائمة للانفلات ما دمنا معاً.
كانت المدينة قد أصبحت بعيدة عندما لاح أمامنا شاطئ. ولم أكن أعرف يومًا أن مدينتنا تقع على البحر، أو أن هناك بحراً قريبا منها. ولم أهتم بالسؤال. هل أصدّق أطلس الجغرافيا وأكذّب عيني؟ نزلنا إلى الساحل الرمليّ، الكبار منا يسابقون الصغار. من الكبير؟ من الصغير؟ ما العمر؟ ما الحياة؟ ما الفرح؟ ما الخوف؟ ما الحب؟ ما الحرية؟ ما الجنون؟ أسئلة ممنوعة في فضاء رحب. تحت سماء مفتوحة على المستحيل.
ركضنا مع خيالاتنا نسابق ظلالنا حتى بلغنا الموج. كنّا نتعثر ونضحك ونصرخ ونعاني وطأة السرور. غطسنا، والسائق معنا، في لجة مالحة وغسلنا أعيننا بماء الطمأنينة. أزلنا عن جلودنا قشرة الخشية المتيبّسة من دهور. ومن غمرة انهماكنا الجسدي والوجداني بمصافحة اللحظة النادرة، جاءنا صوت عاتكة تلهج بنشيد الحياة السريّ. التفتنا إليها والرمال والملح تلتصق بوجوهنا. رأينا ضفيرتها محلولة وشعرها مبثوثًا في الجهات الأربع، تفكّ أزرار قميصها الأبيض المطرز وتترك نفسها للشمس.
صعقنا المشهد.
انكشف قميص عاتكة عن نهدين مباركين مترعين بالعافية! سجدنا في الماء من هول المفاجأة. كان مجيء البحر إلى بغداد أسهل من عودة الثدي المُجتث إلى صدر أختي. كانت ترقص فوق الرمال محلولة الشعر مشرعة القميص. كاهنة تُصلّي للآلهة. تلهج بنشيد الحياة السريّ. هل مرّ الوقت علينا كما يمرّ على سائر البشر في سائر أنحاء الأرض؟ ألم نتفق أن الوقت والزمن والساعة والعمر كلها أسماء ممنوعة؟
نظر السائق إلى الشمس التي بدأت تتوارى وراء الأفق. سحب نفسه من أحضان منى ونفض رأسه من الرمل والغياب. وقف وصفّق بيديه الضخمتين قائلا إن أوان العودة قد حان. غصصنا بالطمأنينة الجديدة علينا لمجرد سماع الصوت الآمر بالعودة. حاولنا الاعتراض فتداخلت أصواتنا بالحجج. أصر على قراره. قلنا لآدم الوحيد في جنتنا:
- اذهب واتركنا.
- جئت بكنّ وأعود بكنّ.
توسلنا، سقنا أبرع حيلنا، جرّبنا أساليب إغراء لم نجرّبها، لكنه لم يتراجع. كان قد نهض من الرمل مثل كائن أسطوري عظيم البأس، وبدأ يمد يديه إلينا ليسحبنا، رغما عنا، إلى الباص الجاثم هناك مثل قبر كئيب. لم نكن شريرات، لكن رحلة العمر لا يمكن أن تنتهي بقرار من رجل غريب، حتى ولو كان شريكنا في المعجزة. جرّنا من أذرعنا من جديد فتماسكنا ضده. رفع يده ليضرب عاطفة فرفعنا قبضاتنا وهجمنا عليه. كانت الشمس قد توارت وحلّ ظلام شفاف. والشقيقات السبع استعدن رشدًا فقدنه من قسوة الخوف.
أمسكت منى باليد الخشنة التي أشبعتها تقبيلاً ولوتها إلى الخلف. شلّت عفاف ومنال ساقي الرجل الذي يريد أن يكون أخطبوط الليلة العجيبة. كان قوياً وكنا، بجموحنا، أقوى منه. كان ذكراً جبارًا وكنا إناثًا مقهورات مدربات على الخوف، ساعيات إلى لحظة أمان. أحطنا به بكل عنفواننا. كل واحدة منّا مستعدة لأن تغرس مخالبها في عينيه. لولا أن صوت عاتكة جاءنا باتراً:
- أتركن الحركة الاخيرة لي.
هجمت عليه محلولة الشعر، مكشوفة العافية، خارجة من حصار المرض. مغسولة الكفين من دبق الخوف. أطبقت على رقبة الرجل المزمجر دونما تردد، ونحن من حولها نستمدّ من ضعفنا قوة.
أخمدنا الأنفاس التي جاءت بنا إلى بحر بغداد، لئلا تعود بنا منه.
1993
إنعام كجه جي
Like
إبلاغ تحر