إبراهيم قيس جركس - كتاب الغرباء: نحو فلسفة إنسانية-وجودية جديدة [ج1]

«1»

يقول الفيلسوف الوجودي الدنماركي سورن كيركغارد أنّ هناك طريقتان للخداع: الأولى هي تصديق ما هو ليس صحيح، والثانية هي رفضت صديق ما هو صحيح.

الامتثال والتوافق هما أفيون الشعوب والمجتمعات المعاصرة، والتّوافق يعني الالتزام المُطلَق بالقواعد والمعايير التقليدية السائدة في المجتمع والامتثال لها، وبذلك تعتبر إرادته مطلقة.

لكنّ التوافق هو مجّرد طريقة في العيش، وليس أسلوب حياة، لأنّه لا توجد طريقة محدّدة أو أسلوب معيّن وصحيح لكيفية عيش الحياة.

ينشأ الإنسان ويكبُر مُحاطاً بأفيون التوافق والامتثال، ووَيلٌ لذلك الفرد الذي يرفضهما، فإنّه إمّا يُنبَذ أو يوصَم أو يُخصى اجتماعياً.

التوافق هو دين الألفية الثانية. إنّه داء الغالبيّة المطيعة والملتزمة بالقانون؛ بل هو العَلَف الذي يمنح الجماهير البائسة المعنى لوجودهم الطارئ لأنّهم في أعماق زنازين وعيهم يمكنهم سماع عقل الزواحف وهو يصرخ بأنّ الحياة لا معنى لها، وأنّ المَرء سيواجه فَناءً أبدياً مُحَتّماً.

إذاً كيف يمكن للإنسان أن يعيش تحت نير هذا الإكراه العَدَمي؟

إنّه يفعل ذلك بالطريقة نفسها التي يركّز فيها المدمن النّمطي حياته حول عقاقيره ومخدّراته... المخدّر المُفَضَّل لدى الغالبيّة هو التوافق والامتثال. وكما أنّ دافع المُدمن على الهيرويين للعيش هو السّعي للحصول على جرعات من العقار، كذلك يسعى الإنسان التقليدي والمُتَطابق النمطي إلى التوافق مع المجتمع والامتثال لعاداته وتقاليده.

السبب الذي دفعني لاقتباس عبارة كيركغارد هو أنّ الإنسان مُذنبٌ في كلتا الحالتين. إنّه يصدّق ويتّبع بشكل أعمى ما هو غير صحيح عن طريق التوافق، ويرفض بعنادٍ قبول ما هو مناسب في النّموذج الوجودي للحياة، وبفعل ذلك بشكل أساسي بسبب الخوف. فالخوف مثله مثل المال والمخدّرات، دافعٌ قويٌّ وقاهر. الإنسان يخشى القلق ويخاف من الوقوع في أحابيله، كما أنّه يسعى لتجنّب المعاناة، ويخاف من الحرّيّة،والأهم من ذلك أنّه يخاف من الفناء والعَدَم بعد الموت. لذلك فهو يهرب من هذه الحقائق بالإنكار، ويهرع سريعاً إلى أحضان التوافق مع القطيع وشعور الطمأنينة والانسجام بين أفراده.

ولكن ليس هناك خطأ أو صواب. ليس هناك خيرٌ وشرٌّ بالمطلق. ولا وجود لوحوش أو عباقرة في الحياة بالرغم من آرائنا القاسية.

أنتَ، بصفتكَ إنسان، حُرٌّ في أن تعيش كما تشاء، ووفقاً للطريقة التي تراها مناسبةً بالنسبة لك.

للأسف الشديد يتبنّى الإنسان بشكلٍ غير واعٍ أسلوب التوافق في الحياة، وهو وضع الامتثال والإذعان، ثمّ يحدّد هذا الوضع بصفته فضيلة،في حين أنّه في الواقع مجرّد نظامٍ مُبَجّلٍ من قبلنا لكيفيّة العيش، ونحن لا ندرك أنّ هناك العديد من الأنظمة والمناهِج المختلفة للعيش. وهكذا ينشأ الأفراد ويكبرون على أساس أنّ صورتهم الاجتماعية ومكانتهم، والزّواج، والعَمَل جميعها عناصر ومكونات ضروريّة للعيش، في حين أنّهم يلتزمون بهذه المبادئ والقواعد التي تعلّموها ونشأوا عليها ويمتثلون لها بشكلٍ مُطلَق فقط لأنّ الجميع يفعلون ذلك: وهذا معنى التوافق بالضبط.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى