د. أحمد الحطاب - المنظومة التَّربوية عندهم والمنظومة التَّربوية عندنا

وأنا أبحث في العالم الافتراضي عن أسباب نجاح بعض المنظومات التَّربوية في أداء مهامها وتبوُّئها المراتب المتقدمة في التَّصنيفات العالمية، أثار انتباهي أن بعض البلدان المنتمية لأقصى شمال أوروبا كالسويد Suède والنرويج Norvège والدنمارك Danemark وفِنلندا Finlande، غالبا ما تتصدَّر هذه التَّصنيفات. وعلى رأس هذه البلدان، تأتي فنلندا، بحكم توفُّرها على منظومة تربوية لها نتائجٌ مُبهِرة على صعيد البرنامج الدولي لتتبُّع مكتسبات التلاميذ Programme International de Suivi des Acquis des élèves PISA.

وللتَّذكير، إن برنامجَ PISA وضعته وتُشرف عليه منظمة التَّعاون والتنمية الاقتصاديين Organisation de Coopération et de Développement Économiques OCDE.

حينها، ركَّزتُ اهتمامي على فنلندا، فوجدتُ أن هذا البلدَ يتوفَّر على منظومة تربوية لها من المميِّزات caractéristiques ما يجعلها تُحصِّل على أو تُفرِز إنجازات performances هائلة على مستوى البرنامج المذكور.

من بين هذه المميِّزات، أذكر على سبيل المثال ما يلي :

-قامت فنلندا، قبل نهاية الألفية الثانية بإصلاحات جذرية وصارمة لمنظومتها التَّربوية؛
-فقط 10% من التلاميذ كان باستطاعتهم إنهاءَ مسارهم الدراسي الثانوي خلال الستينيات. اليوم، نتيجةً لهذه الإصلاحات، وصلت هذه النسبةُ إلى أكثر من 90%؛
-حصول فنلندا سنة 2020 على ميزة "أحسن منظومة تربوية في العالم"؛
-اليوم، ما يُناهز 99% من سكان فنلندا يُحسنون القراءةَ والكتابة؛
-تعميم وتطبيق مبدأ "المساواة السياسية والاجتماعية"، الذي تتميَّز به بلدان شمال أوروبا، في مجال التَّربي والتَّعليم؛
-جعلت الدولة الفلندية من مجال التربية والتَّعليم الضامنَ الأساسي لبقاء البلاد على قيد الحياة. فكان من الازم أن يشملَ هذا المجالُ جميعَ المواطنين؛
-كلُّ ما له علاقة باشتغال المنظومة التَّربوية، مجاني من بنيات تحتية وتغذية وكُتُب ومعدَّات…؛
-إلى جانب مجانية التَّربية والتَّعليم، الالتحاق بالمدرسة إجباري بالنسبة لجميع أطفال فلندا البالغين 7 سنوات. وتمتدُّ المرحلة الإجبارية إلى غاية سنِّ 16؛
-تطبيق مبدأ المساواة بين الأطفال المتمدرسين تطبيقا صارما في الوسط المدرسي. بمعنى أن كل طفل فِلَندي له الحق في التَّأطير والعناية لتمكينه من التَّعبير عن استعداداتِه aptitudes، لكن حسب إيقاعه الخاص à son propre rythme؛
-تعويد الأطفال على روح المسئولية منذ نعومة الأظافر داخل الأسرة والمدرسة. بمعنى أن الأسرَ والمدرسةَ تثقين في الأطفال ثقةٍ كاملةً، دون التَّفريق في السلطة لكن بدون سُلطَوِية autoritarisme؛
-ليس هناك شيءٌ اسمه الرسوب المدرسي échec ،scolaire على الأقل، في المرحلة الإجبارية. بمعنى أنه لا يوجد ما يُسمَّى تكرارُ الأقسام le redoublement des classes. كما لا يوجد، في نفس المرحلة، تنقيطٌ notation للمتعلِّمين؛
-ما يتمُّ الإلحاحُ عليه هو "أن يتعلَّمَ المتعلِّمون كيف يتعلَّمون" بدون ضغطٍ pression ou stress أو إكراهٍ contrainte؛
-كل مَن أراد أن يتَّخذَ التَّربية والتعليم كمهنة، عليه أن يُمضيَ خمس سنوات في التعليم العالي للحصول على ماستر؛
-عدد ساعات التَّدريس مختصَرَة ليبقى للمدرسين الوقت الكافي للاعتناء بالأطفال ومرافقتهم في مسارهم الدراسي؛
-لا وجودَ للاكتظاظ داخل الأقسام، وذلك حتى يتمكَّنَ المدرسون من الاعتناء بكل طفلٍ على جدة، وكذلك تشجيع الأطفال على التَّعوُّد على أخذ الكلمة أمام أندادهم…

بعد هذه الجولة القصيرة في المنظومة التَّربوية الفِلَندية، يبدو لي أنه لا مجال للمقارنة بين عالمين الأول يوجد بفنلندا والثاني يوجد بالمغرب.

عالمان لا يجمعهما إلا الأسماء من قبيل : منظومة تربوية، متعلم، مدرسة، مدرس، قسم، الخ. لكن هذه الأسماء أو بالأحرى هذه المفاهيم، يُعطى لها كل ما تستحق من اهتمام و تؤخذ مأخذ جد عندهم. بينما عندنا، لا تعدو أن تكون مجرد كلمات تصلح في أحسن الأحوال للتواصل الإعلامي والاجتماعي، ومن فينة إلى أخرى، للترترة البرلمانية bavardage parlementaire.

لا مجال للمقارنة بين عالمين، الأول كرّس جهودَه لتكوين مواطنين مسئولين منذ نعومة الأظافر والثاني ضاع وقتُه في الإصلاحات وإصلاح الإصلاحات الفاشلة.

هناك، أي عندهم، المنظومة التربوية مُترسِّخة ومُتجدِّرة في المجتمع ويساهم الكلُّ في نجاحها، في أداء مهامها ولا يمكن أبدا أن تكون فريسة للمزايدات السياسوية أو النقابية.

عندنا، كم هم كثيرون الذين يزعمون أنهم يعملون لصالح المنظومة التربوية والحال أنهم لا يعرفون ما المقصود من هذا المفهوم. وعلى رأس هذه الفئة، النقابات التي، في غالب ممارساتها، تسيء لهذه المنظومة.

هناك، المنظومة التربوية تسعى جاهدةً لتمكين المتعلم من اكتساب الثقة بنفسه ومن التَّعلم في بيئة مريحة.

عندنا، لا وجود لهذه الأشياء ولو على الورق. بل الواقع يسير في الاتجاه المعاكس لهذين العاملين (الثقة و البيئة المريحة)، حينما يجد المتعلم نفسَه في أقسام يتجاوز عدد تلاميذها الستين. أو حينما يغرق المتعلِّمُ في ركام من الدفاتر والمراجع المدرسية أو حينما يدخل في دوامة الخوف من جراء حجم الواجبات المنزلية التي لا تزيد هذا المتعلم إلا إرهاقا أو عند اقتراب مواعد الامتحانات. عندنا، المدرسة مصدر للكوابيس وهناك، المدرسة، أولا وقبل كل شيء، مكان لإسعاد المتعلم.

هناك، المتعلم هو الشغل الشاغل الفعلي للسياسات التربوية وللمنظومة التربوية وللمدرسة وللمدرسين وللمجتمع (أولياء وأباء التلاميذ والجماعات المحلية الذين يلعبون دورا حاسما في التسيير الإداري والتربوي للمدرسة).

كل هذه الفعاليات تلحُّ على بثِّ روح المسئولية لدى المتعلم وحثه على أخذ المبادرة والقرارات أو إشراكه فيها والتَّعود على الاحترام المتبادل والاستقامة وعلى الاستقلال الفكري والتعبير عن الآراء بكل حرية والابتعاد عن الفردانية منذ نعومة الأظافر.
وهذا يعني أن المدرسة الفِنلندية تربِّي الأجيالَ وتُنمّي وتكوِّن شخصيتَهم لإشباعها، أولا وقبل كل شيء، بـأخلاق و قيم سامية.

عندنا، وجود المتعلم كجزء من المنظومة التربوية لا يتجاوز مستوى التصريحات والشعارات الفارغة التي لا تجد سبيلا إلى البلورة على أرض الواقع. وإن كان له وجود، فإنه، في غالب الأحيان، يُعتبر كإناءٍ فارغٍ يُملأُ بالمعارف الجافة التي تجعله يلجأ للحفظ والاستظهار. معارف مجردة لا حمولة لها لا من الناحية التربوية ولا من الناحية الاجتماعية.

عندنا، كل ما يجري داخل الأقسام يوحي بوضوحٍ أن المتعلمَ هو الذي يُسَخَّرُ للتعليم وليس العكس. وبعبارة أخرى، إن المتعلم، عوض أن يستمتع بالتعليم ويصبو إليه، فإنه يخضع له ويتحَمَّلُه بعيدا عن كل تنشئة اجتماعية.
هناك، المدرس يسعى إلى جعل المتعلم شخصا واثقا من نفسه ومطمئنا في بيئة تعليمية ويتعامل معه كشخص ناضج له مكانةٌ وصوتٌ داخل المنظومة التربوية والمدرسة والقسم.

هناك، المدرس يجعل المتعلمَ يُحس بأن المدرسة هي، أولا وقبل كل شيء، فضاءٌ لإسعاده. هناك، المدرس يضع المتعلم مند الصِّغَرِ أمام بعض المشكلات والصعوبات ليعوِّده على إيجاد حلول لها، وبالتالي، جعله يكتسب استقلالا في التفكير وفي اتخاذ القرار.

هناك، المدرس يعمل على أن تكون مجموعةُ المتعلمين في قسمِه متجانسةً وتلاميذُها متساوون بيداغوجيا وذلك بالسعي إلى محو الفوارق التّعَلُّمِية les différences d'apprentissage بينهم عملا بمبدأ تكافؤ الفرص principe d'égalité des chances وبعيدا عن الفوارق السوسيواقتصادية loin des différences socio-économiques، الإثنية ethniques والدينية religieuses...

هناك، المدرس يربط علاقات وطيدة ومنتظمة مع أولياء و أباء المتعلمين ليدلوا بدلوهم فيما يجري داخل الأقسام والمدرسة.

عندنا، المدرس أصناف من حيث التكوين التربوي إذ يتساكن في المنظومة التربوية مدرسون تكوَّنوا في مؤسسات تربوية وآخرون خضعوا لتكوين قصير وآخرون لا تكوينَ لهم.
عندنا، تكاد مهمة المدرس تنحصر في تلقين المعرفة، أي في تبليغها إلى المتعلمين. عندنا، يستحوذ المدرس على النصيب الأكبر من الوقت البيداغوجي المخصص للدرس داخل الأقسام وغالبا ما يُستهلك هذا الوقتُ في الكلام ثم الكلام.

عندنا، تربية المتعلمين وتكوين شخصيتِهم لا يشكلان أولويةً في مهمة المدرس. همُّه الأول والأخير هو تبليغ المعرفة وتراكمها لدى هؤلاء المتعلمين.

عندنا، لا يحظى مبدأ تكافؤ الفرص بالاهتمام الكافي من طرف المدرس. بل، غالبا، ما يتم انتهاكُه من طرف فئة من المدرسين الذين، بطريقة أو أخرى، يدفعون المتعلِّمين إلى طلب الدروس الخصوصية.

عندنا، المدرس لا اعتبار له لا ماديا ولا معنويا. وبحكم راتبه الشهري الضئيل، فإنه، يسعى إلى الاستجابة لمتطلبات الحياة العائلية والاجتماعية وذلك بحثا عن مصادر اخرى للرزق، الشيء الذي قد ينعكس سلبا على أداء مهمته النبيلة.
هناك، المدرسة عبارة عن فضاء يتلاءم وطموح المتعلم للتَّعلم والإدراك. هناك، المدرسة تكوِّن المتعلمَ ليصبح مواطنَ الغد وفاعلا مرتقبا للتنمية.

هناك، المدرسة فضاء يشارك في تصميمه المتعلمون. هناك، يعدُّ فشلُ المتعلم في دراسته بمثابة فشلٍ للمدرسة. هناك، المدرسة شأنها كشأن أية مؤسسة اجتماعية حيث أن وجودَها مبنيٌّ على الديمقراطية التي تساوي بين المتعلمين تربويا عملا بمبدأ تكافؤ الفرص.

ومن أجل هذا، فإنها توفر لهم كل ظروف الراحة والاطمئنان والثقة في النفس. هناك، المدرسة متفتِّحة على الحياة، أي أنها تستمد وجودَها من محيطها، وغالبا ما تُعدّ كأسرة أو كبيت أبناءُه هم المتعلمون.

هناك، المدرسة تعتمد على الكفاءات التربوية قبل الكفاءات المعرفية. هناك، المدرسة لا تقبل التنافسية بين المتعلمين بل تسعى إلى مساواتهم من حيث المعرفة والتربية والتكوين.

عندنا، المدرسة أصبحت عبارة عن معامل ميكانيكية تُنتج أشخاصا غرباء عن مجتمعهم، لا هم تعلموا ولا هم تربوا. وذلك لأن المدرسةَ نفسَها انعزلت عن المجتمع وعن محيطها وتقوقعت وتحجَّرتْ se sclérose إلى أن أصبحت كيانا خاصا لا وجود له إلا من خلال ما تنقله من معارف جافة، مجردة و غير مجدية اجتماعيا واقتصاديا.
مدرسةٌ، إن حُرِمت من مهمة نقل المعرفة وتراكمها لدى المتعلمين، لأصبحت عديمة الجدوى inefficaces. بل إنها، حاليا، تشكل عائقا من أكبر عوائق التنمية إن لم نقل عالةً على المجتمع و غولاً يلتهم الأموال الطائلةَ وينتج الضياع والفشل.

عندنا، المدرسة، عوض أن تجعل من مبدأ تكافؤ الفرص شعارا لها، فإنها تعمل على اختفائه ودحره. وذلك بجعل التنافسية بين المتعلمين هي المحرك الأساسي للتعليم والتَّعلُّم علما أنه من المفروغ منه أن أية منظومة تربوية تُحترم يجب حتما أن تُساوي بين المتعلمين، بحكم أنهم هم وقود التنمية الاجتماعية والاقتصادية مستقبلا. فما معنى أن تُقصيَ المدرسة شريحة عريضة من مريديها من هذه المهمة؟ عندنا...

إن هذه المقارنة تجعلني أطرح عدة تساؤلات :

1.إذا كان الطفل الفنلندي يستمتع بالحياة داخل المدرسة، فبماذا يستمتع الطفل المغربي لما يذهب إلى المدرسة (اقرأ الم ضرسة)؟
2.لماذا ينجح الطفل الفنلندي دون قيامه بالفروض المنزلية ولا ينجح الطفل المغربي رغم قيامه بهذه الفروض؟
3.لماذا ينجح الطفل الفنلندي وعدد ساعات دراسته أسبوعيا أقل من عدد ساعات دراسة الطفل المغربي؟
4.لماذا لا ينجح الطفل المغربي وهو يقضي بالمدرسة وقتا طويلا علما أنه مدجج بوابل من المراجع المدرسية والدفاتر؟
5.هل نجاعة التعليم ترتبط ارتباطا وثيقا بكثرة الكتب والدفاتر والمواد وأيام وساعات الدراسة؟
6.هل تستوي مدرسةٌ تسعى لإسعاد متعلِّمِيها ومدرسة تفعل كل شيء لإرهاقهم؟
7.هل تستوي مدرسةٌ تشرك أطفالَها في اتخاذ القرار ومدرسة تعتبرهم أشخاصا غير ناضجين؟
8.هل تستوي مدرسةٌ تُعتبر معبرا حقيقيا للحياة الاجتماعية والعملية ومدرسةٌ تنتج غرباء عن المجتمع؟

وفي الختام، يمكن القول إن سعادة المجتمع الفنلندي لم تأت من فراغ. لقد بدأت من المدرسة. لقد سبق لفِلندا أن صُنِّفت "أسعَدَ بلدٍ في العالم".

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى