د. محمد عبدالله القواسمة - قصيدة في مدح الطوفان

فجرت معركة «طوفان الأقصى» التي انطلقت في السابع من تشرين الأول 2023م، عندما هاجم المقاومون الفلسطينيون في غزة بلدات غلاف غزة المحتلة، وأوقعوا خسائر كبيرة في قوات الاحتلال، وأسروا كثيرًا من الجنود الصهاينة - قرائح كثير من الشعراء، فنظموا القصائد في هذه المعركة، ومدحوا المقاومة العربية والفلسطينية، وبخاصة المقاومة في غزة.

من القصائد التي نظمها الشعراء العرب في هذه المعركة المهمة قصيدة الشاعر والإعلامي العراقي محمد نصيف، وجاءت بعنوان «طوفان الأقصى في تشرين»، وظهرت على منصة اليوتيوب الرقمية في الشهر الذي انطلقت فيه المعركة.

يتبنى الشاعر في قصيدته ضمير الجماعة، فيتكلم باسم هؤلاء المقاومين الذين هبوا لمواجهة قوات الاحتلال بكل حماسة كالطوفان الهادر، والشاعر في مطلع القصيدة يعد تلك المعركة زحفًا نحو تحرير المسجد الأقصى:

آتونَ نحوَكَ يا أقصى على لهبِ آتونَ نزحفُ طوفانًا من الغضبِ

ويمضي الشاعر في تمجيد شهر تشرين الأول الذي وقعت فيه معركة «طوفان الأقصى»، فهو يُذكّره بحرب العاشر من رمضان التي حدثت قبل خمسين عامًا حين عبرت القوات المصرية قناة السويس في السادس من الشهر نفسه عام 1973م. فإذا كانت القوات المصرية قد فاجأت القوات الإسرائيلية بعبور القناة فإن المقاومة الفلسطينية فاجأتها بعبور الحاجز الأمني المقام على حدود غزة من الأسلاك الشائكة، وأجهزة الاستشعار، والرشاشات التي تعمل بالتحكم عن بعد:

تشرينُ من بعدِ خمسينَ انقضتْ وجعًا يعودُ يخفقُ فيهِ بيرقُ العربِ

تشرينُ يا باعثَ الآمالِ كم ظمئتْ أرض العروبةِ حتى جئتَ بالسحبِ

تشرينُ يا موعدَ الأحرارِ يا قدرًا للراكبينَ المنايا دونما رهبِ

للطالبينَ المعالي دونما كللٍ والسالكينَ سبيلَ الموتِ للشهب

الموتُ عرسٌ لنيلِ العزِّ نركبُهُ تجثو الخطوبُ لنا طوعًا على الركب

نلاحظ أن الشاعر في هذه الأبيات يمتدح شهر تشرين والمقاومين الفلسطينيين، فشهر تشرين باعث الآمال وموعد الأحرار بالنصر، وقد جاء بعد ظمأ الأرض العربية للفوز على أعدائها. أما المقاومون فهم شجعان لا يخافون الموت، بل يستعذبونه في سبيل تحقيق المجد والحرية. والشاعر يتوسل إلى هذه المعاني باستخدام الرموز إلى ما تحقق في هذا الشهر من خير وفوز ورفعة للعرب بألفاظ: السحب، والبيرق، والشهب. وبتصوير الموت في نظر المقاومين بأنه عمل محبب كالعرس، وإظهار المصائب كأنها تسجد لهم. وفي هذا مبالغة واضحة تذكرنا بمبالغات المتنبي في مدح سيف الدولة من مثل قوله:

تظلُّ مُلوكُ الأَرضِ خاشِعَةً لَهُ تُفارِقُهُ هَلكى وَتَلقاهُ سُجَّدا

ومدح أبي تمام للخليفة المعتصم من مثل قوله:

لَوْ لَمْ يَقُدْ جَحْفَلًا، يَـوْمَ الْوَغَـى، لَغَـدا مِنْ نَفْسِهِ، وَحْدَهَا، فـي جَحْفَـلٍ لَجِـبِ

وينتقل الشاعر في قصيدته إلى دعوة القدس إلى أن تبتهج بهذا اليوم الذي انطلقت فيه الحرب، فما عليها إلا أن تكون كالعروس تتبختر بأحلى الثياب، أو كمريم العذراء بما جنته من هناءة وسعادة وهي تقطف ثمار النصر في تناص مع الآية القرآنية" وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا"(مريم - 25)

يا قدسُ أنتِ العروسُ اليوم فابتهجي تبختري في فساتينِ السنا القُشُبِ

يا قدسُ يا مريمُ العذراء دانية لك القطوفُ فقرّي في حمًى خصبِ

هزي إليك بجذع النخل قد عذبتْ فيه الثمار لتجني زاهيَ الرطبِ.

ويمتد الشاعر بمدحه إلى فلسطين كلها، فهي مصدر فخر لمن ينتسب إليها، وهي أرض الأكرمين، والمصلحين، وبوصلة الأحرار من العرب، وهي بمنزلة نبض لبلادهم وعصبها، وبخاصة العراق بلد الشاعر.

هذي فلسطينُ دربُ الحقِّ فانتسبوا تاجًا من العزِّ تُهدي كلَّ منتسبِ

هذي فلسطينُ أرضُ الأكرمينَ حمًى والمصلحينَ اعوجاجَ العالمِ الخربِ.

ويتجه الشاعر بانتقاده المطبعين العرب مع إسرائيل، ويرى أن ما يفعلونه شر سيرتد عليهم، بل إنه مثل مرض الجرب الذي ستطهرهم منه معركة طوفان الأقصى:

قل للمطبعِ قد شاهتْ وجوهُكُمُ رُدّتْ بضاعتُكُم في شرِّ منقلبِ

أخلاقُكُم جربٌ يجتاحُ أمتَنا طوفانُ غزةَ تطهيرٌ من الجربِ.

أما الصهاينة فيرى الشاعر أنه جد الجد في محاربتهم، وحانت ساعة حسابهم على أعمالهم في ظلم العرب، واغتصاب أرضهم، وأن الذل لاحقهم؛ فما عليهم إلا الهرب أمام هؤلاء المقاومين المؤمنين، الذين سيتحقق على أيديهم ما وعدهم الله بتحرير بيت المقدس، ودخول المسجد الأقصى في قوله تعالى من سورة الإسراء: «وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا»(من آية 7):

هذا هو الجَدُّ يا صهيونُ فاعتبروا فليسَ ما تشهدونَ اليومَ باللعبِ

لا تفرحوا اليومَ إنَّ الذلَّ لاحقكُم هذي معاقلُكُم كومًا من الحطبِ

سندخل المسجد الأقصى كدخلتِنا الأولى نتبّرُ ما تبنونَ من قببِ».

وفي نهاية القصيدة يحيي الشاعر معركة طوفان الأقصى، فقد أفرحت القلوب بما حققته، وهي مصدر الفخر لأمته العربية، وسيذكرها التاريخ في سطوره العطرة. لقد أثبتت فعلًا أن صوت البنادق أبلغ من صوت الكلمات، وهذا يلتقي مع مطلع قصيدة أبي تمام في فتح عمورية:

السيف أصدق إنباء من الكتب في حده الحد بين الجد واللعب.

يقول الشاعر:

اللهُ أكبرُ يا طوفانَ غزتِنا حرّرتَ أعماقنا من خانقِ الكربِ

يرفُّ فوقَ رؤوس الخصمِ بيرقُنا إنذارَ صاعقةٍ في قلب مرتعبِ

سيكتب الفخر مزهوًّا مآثرَنا وسوف تعبقُ فخرًا أسطرُ الكتبِ

رَشْقُ الرصاصِ قوافٍ حينَ نطلقهُ هيَ البنادقُ تحكي أبلغَ الخطبِ

لا شك أن قصيدة «طوفان الأقصى في تشرين» تطفح بالمشاعر الإنسانية، والعواطف الجياشة التي تمجد معركة» طوفان الأقصى». وقد التقت بقصيدة أبي تمام في فتح عمورية التي هب فيها الخليفة المعتصم لنجدة امرأة اعتدى عليها الروم. وكان التقاء القصيدتين في الوزن والقافية، وفي الفخر بما تحقق في المعركتين، إذ أعيد في المعركة الأولى لتلك المرأة التي صرخت:» وامعتصماه!» كرامتها، وأعيد في المعركة الثانية للأمة العربية هيبتها وعزتها. والشاعر محمد نصيف يقدم تلك المعاني باستخدام الصور المتداولة، والرموز القريبة، والمعاني الواضحة، والألفاظ المألوفة، والاستفادة من النص القرآني، ومن التراث الشعري العربي، وبخاصة شعر الحماسة لدى أبي تمام.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى