فاتن فاروق عبد المنعم - القدس.. ملتقى الأنبياء، المكان المقدس الصغير:

رأى اليهود أنه من الخطر عليهم الآن بعد أن تمكن الرومان من دحرهم إعادة فتح أورشاليم وإعادة بناء المعبد (مقر يهوه) قائلين أن عليهم انتظار المبادرة من جانب الله بعد أن قام الرومان من جانبهم بتخفيف القوانين المناهضة لليهود وسمح لهم بتعيين البطريرك سمعان الرباني الذي اكتسب بالتدريج سلطات ملكية وأصبح معترفا به ملكا لليهود في الامبراطورية الرومانية (جيتو كما هي عادتهم) وقام بتوحيد السلطة الربانية القديمة بالسلطة الربانية الحديثة وهو ما عوضهم عن فقدان أورشاليم نوعا ما، وبلغ هذا المنعطف الجديد قمته مع ابنه يهوذا الذي كان يكنى بالأمير ويعيش في أبهة ملكية، وهكذا أصبح اليهود ينتظرون مسيحهم الذي سيعيد لهم المفقود وأصبح بيت كل يهودي هو بمثابة مكان مقدس صغير والكنيس بديلا عن معبد يهوه الذي تعذر عليهم إقامته وتمكنوا من الحصول على إجازة يوم السبت وهو ما اعتبروه بمثابة خطوة على الطريق.

حقيقة سرمدية طبقا لمعتقد اليهود:

هذا في الوقت الذي يرى فيه يهود المنفى (بابل) أن يهوه انتقل معهم لمنفاهم فإن اليهود الربانيين يرون أن جبل صهيون وقدس الأقداس هما مركز الخريطة اليهودية للعالم، بل إنهم يعتقدون أن آدم وحواء خلقا من ترابه، وقدم قابيل وهابيل قرابينهما عليه وكذلك نوح قدم القرابين عليه بعد الطوفان، وهو مكان اختتان إبراهيم ومسيحهم سيعلن عن العهد الجديد الذي سينقذ فيه العالم من على قمة صهيون.

أورشاليم الجديدة:

رصدت كارين كيف انتشرت المسيحية في الإمبراطورية الرومانية وكيف تم إنشاء أول كنيسة للمسيحيين والتي تكنى بأم الكنائس والتي تبعها كنائس أخرى وتقلص حلم اليهود باستعادة أورشاليم وبناء المعبد ففقدت بالتدريج الملامح اليهودية وتجلت الملامح المسيحية واعتبر هذا التجلي دحر الدين الأم (اليهودية) بشكله القديم وتعنت كهنتهم الذي قيد حركتهم، واستتبع ذلك تماسك البطريركية اليهودية التي منحها الامبراطور الروماني لهم ذات يوم، وتذكر كارين أنه في القرن السادس عندما أغار الفرس على فلسطين فإن اليهود تحالفوا معهم وهم الذين أحدثوا في المسيحيين المذابح والأسر وتركوا سدة الحكم في يد اليهود الذين اعتقدوا أن مجيء الفرس سيعجل بظهور مسيحهم الذي سيعيد إليهم أورشاليم ويبني لهم المعبد ولكن شيئا من ذاك لم يحدث.

ولما عاد الفرس إلى فلسطين رأوا أن السلم والأمن لن يتحقق دون تقديم بعض التنازلات للأغلبية المسيحية وهو ما كان مما قوض من حلم اليهود الذي كان آخذا في الصعود.

لما انتصر هرقل على الفرس قام بمحاكمة بعض اليهود الذين تواطئوا مع الفرس وتسببوا في حرق الكنائس وذبح وسبي المسيحيين بل إنه حرم عليهم دخول أورشاليم من جديد، ففر بعضهم إلى بلاد فارس وبعضهم إلى مصر ولم يبقى منهم إلا القليل الذين أمر هرقل بتعميدهم.

ظهور سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم:

كارين الراهبة المستشرقة لم تقل في الإسلام إلا بما هو أهله، بل إنها لم تنكر نبوة سيدنا محمد وأثنت على الإسلام كعقيدة وتعاليم وجوهر وأنه عقيدة سيدنا إبراهيم الذي لم يكن يهوديا ولا نصرانيا واستشهدت بالآية

(مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَٰكِن كَانَ حَنِيفًا مُّسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ 67) آل عمران

وشرحت في سلاسة وهدوء المتمكن من أدواته ومعلوماته لماذا كانت القبلة ناحية بيت المقدس ثم عادت إلى الأصل (الكعبة) كما كانت في زمن سيدنا إبراهيم وارتأت هذا دلالة قوية على أن الإله واحد والدين واحد، بل إنها قالت نصا:

«فقد كان التغيير علامة على عودة المسلمين إلى عقيدة إبراهيم الأصلية قبل انقسامها نتيجة لتشرذم اليهود والمسيحيين في طائفية متناحرة»

ورأت أن توجه المسلمين للكعبة هي بمثابة إعلانا ضمنيا من المسلمين أنهم لن ينحنوا لأي من الديانات القائمة بل لله وحده كما نجد في القرآن الكريم:

{ ِنَّ ٱلَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمۡ وَكَانُواْ شِيَعٗا لَّسۡتَ مِنۡهُمۡ فِي شَيۡءٍۚ إِنَّمَآ أَمۡرُهُمۡ إِلَى ٱللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُواْ يَفۡعَلُونَ (159) مَن جَآءَ بِٱلۡحَسَنَةِ فَلَهُۥ عَشۡرُ أَمۡثَالِهَاۖ وَمَن جَآءَ بِٱلسَّيِّئَةِ فَلَا يُجۡزَىٰٓ إِلَّا مِثۡلَهَا وَهُمۡ لَا يُظۡلَمُونَ (160) قُلۡ إِنَّنِي هَدَىٰنِي رَبِّيٓ إِلَىٰ صِرَٰطٖ مُّسۡتَقِيمٖ دِينٗا قِيَمٗا مِّلَّةَ إِبۡرَٰهِيمَ حَنِيفٗاۚ وَمَا كَانَ مِنَ ٱلۡمُشۡرِكِينَ (161) قُلۡ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحۡيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ ٱلۡعَٰلَمِينَ (162) لَا شَرِيكَ لَهُۥۖ وَبِذَٰلِكَ أُمِرۡتُ وَأَنَا۠ أَوَّلُ ٱلۡمُسۡلِمِينَ (163)} الأنعام

كارين من العدول التي فهمت الإسلام رسالة وعقيدة فقالت:

«ويؤكد القرآن الكريم مرارا أن الوحي الذي أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم لا يلغي رسالات من سبق من الرسل مثل آدم ونوح وإبراهيم وإسحق وإسماعيل ويعقوب وموسى وداوود وسليمان وعيسى، أي أن ما جاء به القرآن هو إعادة صياغة تذكرة بالرسالة الواحدة التي أرسلها الله للأمم جميعا، وعلى هذا تكون الوثنية تفضيل عقيدة أو مذهب إنساني على الله ذاته الذي يسمو فوق كل الأنظمة الإنسانية، لذا فإن المسلمين بعودتهم إلى العقيدة الأولى لإبراهيم، يجعلون من الإيمان بالله، وليس أي مؤسسة دينية أخرى هدفا لحياتهم»

والحق أنها أسهبت في تناول تاريخ اليهود على وجه الخصوص من خلال علاقتهم بالآخرين خاصة المسيحيين ثم المسلمين، ولأنها أقرت بأن الصراع الدائر على هذه البقعة هو صراع ديني بحت فقد عنيت بالقصص الديني من الكتاب المقدس مرجعيتها الأثيرة، حتى عندما تناولت مرور الفرس والرومان على هذه الأرض فإنهما كانتا تسعيان لمجد آلهتهما على تنوعها وممارسة سطوتهما من أجل مجد هذه الآلهة التي هي من بنات أفكار شياطين الإنس والجن، ورغم انحيازها الواضح لدينها وهذا طبيعي جدا لا عيب فيه إلا أنها التزمت منهجية البحث العلمي في تناول المختلف معها فكانت من الرقي والمهنية ما لا تخطئه العين، فلم تقل ما يقوله عوام المسيحيين عن سيدنا محمد بأنه كاذب ومهرطق ونقل القرآن من التوراة والإنجيل وغيرها من الافتراءات، بل رفضت أن تخلع تاج المشتغل بالعلم فكتبت ما رأته حقا وحقيقة في تجرد ونزاهة تحسب لها لكي تخلص إلى نتيجة ما أو تبلور رؤية تخصها يتفق معها من يتفق ويختلف معها من يختلف.

أما الإسهاب في شرحها للشرائع الثلاث كان من أجل أن تخلص إلى لب الصراع وحقيقته وكيفية الوصول إلى حل جذري، خاصة وأنها خلصت إلى نتيجة مفادها أنه لم تقم لليهود مملكة سوى في زمن سيدنا داوود لمدة أربعمائة عام ولم يعد وجود للهيكل الذي يزعمون أنه أسفل المسجد الأقصى.

ثم تعود لتذكر القارئ بأهمية وقدسية القدس والتي أطلق عليها المسلمون بيت المقدس أو بيت المعبد وهي ثالث الأماكن المقدسة لدى المسلمين ولم تنس ذكر حادثة الإسراء والمعراج ومغزى معراج الرسول إلى السماء السابعة وبلوغه سدرة المنتهى كي توضح للقارئ أهمية القدس للمسلمين ومدى ارتباطهم بها.

وطبقا لتحليل كارين فإن احتلال فلسطين هو القضية الأم التي انبثقت منها كل المشكلات التي يعانيها العالم الإسلامي اليوم.

القداسة في الإسلام شاملة وليست نخبوية:

هكذا عرفتها كارين بأن المسجد لدى المسلمين يناقش فيه كل أمورهم الدينية والدنيوية وأنه بذرة الدولة الإسلامية وعللت ذلك بأن بداية نشأة الدولة كانت ببناء المسجد النبوي والذي ناقش فيه المسلمون كل الأمور الحياتية الدنيوية في المسجد حتى العسكري والسياسي منها وهو دلالة واضحة على شمولية الإسلام وتفرده بدمج الديني بالدنيوي ليصبح للقداسة معنى شمولي من أجل صالح الفرد والمجتمع.

الحق أن كل هذه الشروح منها كانت من أجل توضيح نظرة أصحاب الشرائع الثلاثة اليهودية والمسيحية والإسلام لتلك البقعة التي احتدم الصراع حولها، وبصفة شخصية فقد تعمدت فتح الجرح من خلال صوت مختلف بمرجعية مختلفة ولكنها منصفة تركت كل فئة تعبر عن نفسها دون تدخل منها.

وللحديث بقية إن شاء الله

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى