د. زياد العوف - مرآة الأخلاق في "جنّة الحيوان" للدكتور طه حسين

إذا كانت حياة المرء على هذه الأرض تُقاس بأعماله ومنجزاته ومآثره التي يخلّفها للناس وللمجتمع بعد رحيله، فإنّ العمر الإبداعي للأديب والمفكّر الراحل طه حسين (١٨٨٩-١٩٧٣م) يناهز الستة عقود، وضع خلالها ما يربو على الخمسين كتاباً تنوّعت موضوعاتها مابين الأدب ونقده، والفكر وتحليله، والعلم ومباحثه، والثقافة وروافدها، والمجتمع وقضاياه، وغير ذلك من الموضوعات.
على أنّ الجامع المشتَرَك لهذه المؤلّفات جميعها يتجلّى- في ظنّي- في أمرين اثنين:
أوّلهما طغيان أسلوب طه حسين الأدبي عليها جميعها.
وثانيهما البعد الإصلاحي والتنويريّ
لهذه الأعمال؛إنّها مؤلّفات تحمل رسالة اجتماعيّة وثقافية ومعرفية لاتنفكّ تعرضها، وتلحّ عليها، وتبشّر بها، مااستطاعت إلى ذلك سبيلاً.

1.jpg

لقد وقع اختياري في هذا المقال على كتاب أدبي طريف يعرِض فيه الكاتب لبعض العِلل والآفات الاجتماعية كما تتمثّل في أخلاق وسلوكيّات بعضٍ من أفراده.
ينطلق المؤلف في هذا الكتاب من ملاحظة التشابه بين سلوك وأخلاق بعض الحيوان ، ونظير ذلك عند بعض البشَر.
إنّ كتاب " جنّة الحيوان" إذاً معنيّ بتسليط الأضواء على عدد من العيوب الاجتماعية التي يلمسها المؤلف عند بعض أفراد المجتمع، وهو يعتمد الأسلوب السرديّ الحواريّ في ذلك، الأمر الذي يضفي على موضوعاته كثيراً من الإمتاع والتشويق، لكنه لا يرقى إلى اعتباره كتاباً قصصيّاً بالمعنى الدقيق للمصطلح النقديّ؛ إذ إنّه يفتقر إلى الكثير من مقوّمات هذا الفنّ الأدبيّ.
في حوارية" الشجاع" - وهو هنا الأفعى- يسلّط الكاتب الضوء على بعض أفراد المجتمع ممّن غلبتْ عليهم الأثَرَةُ والجشع والاستغلال، فغدَوا أشبه ببعض الأفاعي الشَرِهة الفتّاكة عندما تلتفّ حول فريستها فتعتصرها حتى تلفظ أنفاسها، فتُسلم نفسها غذاءً شهيّاً للحيّة الرقطاء.. جاء في هذا النّص الجميل على قسوته:
" وقد زعم بعض الصقالبة للجاحظ أيضاً أنَّ من الحيّات ما يلتفّ على البقرة الحلوب التفافاً حتّى يبلغ ضرعَها فيرتضعه في شَرَهٍ، وما يزال يشرب ما فيه من لبن حتّى يمتلئَ وينتفخَ ويتراصَّ، وإذا هو يترك البقرة، ويستلقي سكرانَ من كثرة ما شرب، ولكنّه قد اضطرَّ فريسته إلى الهلاك. وكذلك يفعل صاحبُنا في جمعه للمال حين يجمعه، وفي التماسه للمنصب حين يلتمسه، يرى الفريسة أمامه فينظر إليها، ويصل بها نفسه وقلبه وعقله، ثمَّ يثِبُ إليها حين تمكنه الفرصةُ، ثمَّ يلتفّ عليها، وما يزال يمتصّها، ويرتضعها ارتضاعاً حتّى يأتيَ على آخر ما عندها." ( ص. ٥٩)
أمّا النِّفاق السياسيّ والاجتماعيّ، والرقص على الحبال المشدودة فنجد مثاله في حواريّة" الثعبان".
جاء فيها:
" وقد استطاع من الأمر ما لم يستطعه من المصريين إلّا الأقلّون عدداً، فأرضى المحافظين والمسرفين في المحافظة بنوع خاصّ، وأرضى المجدّدين والغُلاة في التجديد بنوع خاصّ........... ولكنَّ صاحبنَا لم يتطرّف، وقد تطرَّف المعتدلون من حوله، ولم يجدّد وقد جدّد المحافظون من حوله...... .......... وربّما أحسّ المحافظون المصرّون على المحافظة منه ميلاً إليهم، وحِرصاً على أن تتّصل أسبابه بأسبابهم، ولكن على شرط ألّا تنقطع أسباب المودّة والإخاء بينه وبين المتطرّفين.......... .....
قلتُ لصاحبي: أتستطيع أن تحدِّثني بما تريد إليه من هذه القصّة التي لاتنتهي؟ قال صاحبي: لا أريد إلّا إلى شيء يسير جدّاً، وهو أنّ الذين يريدون العافية، وقضاء المآرب، وتحقيق المصالح...........يَحسُنُ بهم أن يسيروا سيرة هذا الرجل البارع.
قلتُ لصاحبي: ليس كلُّ الناس يقدِر أن يكونَ ثعباناً، وليس من الخير أن تكثرَ في مصرَ الثعابين." (ص. ١)
على أنّ بعض نصوص هذا الكتاب يخلو من الإشارة إلى بعض أنواع الحيوان، وإن كان يعتمد الأسلوب الرمزيّ في الإشارة إلى بعض المشكلات الاجتماعية وتحليلها والتّنبيه إلى خطرها المحدق بالمجتمع. من ذلك مثلاً ما نجده في حوارية" الغانيات" من التحذير من الآثار الناجمة عن عدم تحقيق مبدأ المساواة والعدالة الاجتماعية بين أفراد المجتمع، وخطر ذلك على السلم والأمن الاجتماعيّ.
جاء في هذه الحوارية:
" - من أين أقبلتِ يابنتي؟
- من حيث لا تبلغ الظنون..
- ماذا تريدين يابْنَتي؟
- أريد مالا تقدرون..
- كيف تقولين يابْنَتي؟
- أقول مالاتصدّقون!
- أسرفتِ في الرمز يابْنَتي.
- بل مالكم كيف تحكمون!
وينظر الشيخ حوله فلا يرى من يحاوره، وينكر الشيخ نفسه لولا شكوك تساوره، فقد رأى شخصها الجميل، تُظلّه هذه الغصون، ولم يزلْ صوتها الضئيل، يثير في نفسه الشجون..........وقد جعل أهل القرية يتحدّثون إذا التقوا عن هؤلاء الفتيات الحِسان اللائي يعرِضنَ لهم في الغلس حين يطلق النهار سهمه المضيء فيشقّ به ظلمات الليل، وفي الأصيل حين يطلق الليل سهمه المظلم فيبّدد به ضوء النهار......... .....
قال الباشا للشيخ حين خلا إليه: ألا تخبرني عن هذا البلاء العظيم الذي نُمتَحَنُ به في هذه الأيام الشِداد؟
قال الشيخ مبتسماً: لا تسلني أنا عن هذا البلاء، وسلْ عنه فتاة من هؤلاء الفتيات اللائي ملأْنَ علينا أرض مصرَ جمالاً وأملاً وخوفاً وإشفاقاً، قال الباشا: ومَن عسى أن تكونَ هؤلاء الفتيات!
قال الشيخ: لا أدري، ولكنّي كلّما سألتُ واحدة منهنَّ عن اسمها رفعتْ كتفيها وابتسمتْ عن ثغرٍ جميل، وقالتْ ساخرةً: تريد أنْ تعرف اسمي؟ فاسمي هو" العدالة الاجتماعية" ." ( ص.ص ٨١-٨٦)
على هذه الشاكلة تمضي كلّ حواريات هذا الكتاب الأدبي الشائق حيث يعرض طه حسين لكثير من العيوب والنقائص والآفات الاجتماعيةالتي تكدّر على المجتمع صفاءه، وتنغّص على الكثير من أبنائه مسار حياتهم، فتتركهم نهْباً للظلم والجهل والفقر والمرض..وهي العلل والآفات التي نذر طه حسين نفسه وعلمه وأدبه وفكره للتحذير من آثارها، ومحاربتها ومحاولة المساهمة في القضاء عليها مااستطاع إلى ذلك سبيلاً.
*-دكتور زياد العوف، أعلام الأدب العربيّ الحديث-قراءة جديدة- ، مؤسسة يسطرون للطباعة والنشر والتوزيع، القاهرة، ٢٠٢٠م، ص ص ٢٠-٢٤ .

دكتور زياد العوف

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى