كلمات وإشارات-6- عبد القادر زمامة

16- كتاب الذريعة إلى مكارم الشريعة:
التأمل والتعلق في أهداف شريعة الله سبحانه، ومالها من مقاصد في حياة الإنسان وسلوكه، فردا وجماعة، ومالها من مكارم في دفع الحرج والمشقة... قضية شغلت حيزا كبيرا من اهتمام التفكير الإسلامي، وبرزت في الألسنة والأقلام والآثار على ممر العصور والأحقاب عند أعلام مشهورين بالتفقه في الدين والاهتداء بنور العقل، ومسايرة سبل الحكمة في فهم النصوص، والربط بينها، تعميما وتخصيصا وإجمالا وتفصيلا، وإيضاحا وتبيينا، ووسائل وغايات.
ولا يتيسر ذلك إلا باستعداد كاف، وملكة قادرة على فهم الأصول والفروع، وإدراك الموافقات والمخالفات بين الجزئيات والكليات استنادا إلى صحيح النقل، وسليم العقل.
وقائمة المهتمين بهذه القضية طويل الذيل. والكتب التي تبحث فيها كثيرة ومتنوعة تتشابك في بعضها عقليات وثقافات وأساليب في الفهم والتفكير والتعبير.
والكتاب الذي نتحدث عنه وعن صاحبه الآن هو كتاب: "الذريعة إلى مكارم الشريعة"، ومؤلفه هو: أبو القاسم حسين بن محمد بن الفضل، المعروف بلقبه: الراغب الأصبهاني المشهور.
ولنبدأ بالحديث إجمالا عن هذا المفكر الإسلامي قبل الحديث عن كتابه الذي بين أيدينا.
ونلاحظ – مع الأسف – أن كتب التاريخ والطبقات – فيما نعلم – لم يحظ هذا المفكر عندها بما يستحق من اتساع في ترجمته، ووصف كاف لما قطعه من مراحل في حياته، وما امتاز به من تنوع في ثقافته ومعلوماته، وماله من شيوخ وتلاميذ، واتجاهات فكرية ومذهبية.
وحتى تاريخ وفاته التي يجعلها كثير من المؤرخين سنة 502هـ - 1108م يظهر أن ذلك ليس صحيحا لعدة قرائن نلاحظ في نصوص كتبه... لا مجال لتتبعها الآن... فالأمر يحتاج إلى تمحيص... ولهذا نرى بعض الباحثين المعاصرين يحتفظون بينما نرى بعضهم يجازفون.
ولعل خير من يترجم الراغب الأصبهاني من الناحيتين: الفكرية والثقافية هو كتبه وآثاره المفيدة التي نجد منها الآن:
- المفردات في تفسير غريب القرآن.
- الذريعة إلى مكارم الشريعة.
- محاضرات الأدباء.
- تفصيل النشأتين، وتحصيل السعادتين.
- تفسير القرآن الكريم ومقدمته.
والحديث الآن منصرف إلى كتاب: "الذريعة إلى مكارم الشريعة" وهو كتاب مطبوع عدة طبعات. وقد استفاد منه كثيرون: سابقون ولاحقون، يذكرون ذلك تارة، وينسون أو يتناسون تارة أخرى.
والكتاب ينطلق من مقدمته إلى خاتمته من فكرة جوهرية هي:
التفرقة الواضحة بين أحكام الشريعة ومكارمها. فأحكام الشريعة تتناول ما جاء به الإسلام من أنواع العبادات والمعاملات أمرا ونهيا وإباحة.
ومكارمها تتناول آثار هذه الأحكام حين امتثالها، في تهذيب النفس وتصحيح الإدراكات وتفسير الأشياء، والإقبال على الطيبات، واجتناب الخبائث، والاقتناع بالحكمة الربانية: أمرا ونهيا وإباحة كما جاءت...
فالموضوع الذي يبحث فيه هذا الكتاب موضوع تلتقي فيه الأخلاق بالدين، والفلسفة الاجتماعية بالحياة الإنسانية، والأصول بالفروع، والتفكير بالسلوك.
وعقلية الراغب عقلية شمولية: عقلا ونقلا وفكرا ووجدانا ولغة وأدبا...
- فالآية القرآنية
- إثراء الأحاديث النبوية
- إثراء الأبيات الشعرية
- والأخلاق الإنسانية
- إثراء الواقعية الاجتماعية
- إثراء الاختيارات العقلية
والكتاب دقيق الترتيب والتبويب، ولكل باب موضوع خاص يظهر من عنوانه.
والأبواب الأولى من الكتاب ذات منهاج فلسفي منطقي في بيان ما يعنيه العقل، والنفس، والفعل، والعمل، والصنع، والطبع، والسجية، والخلق، والعادة، والقوة، والضعف، مع تقسيمات وتفريعات ودلالات وإيضاحات لغوية واجتماعية وأخلاقية، ثم ربط ذلك بنصوص من القرآن الكريم والسنة النبوية والحكم والأمثال والأبيات الشعرية الجيدة المعنى والمبنى.
ويعجبك في الراغب أنه ذو عقلية رغم شموليتها، فإنها لا تجري وراء العمومات والسطحيات، والكلمات الفضفاضة، ولكنها تحدد المفاهيم تحديدا منطقيا، كما تحدد الكلمات تحديدا لغويا، ولا تسرع إلى نتيجة قبل الاقتناع والإقناع.
فالخير والشر والسعادة والشقاء والصدق والكذب والفضيلة والرذيلة والاختيار والاضطرار والحلال والحرام والعلم والجهل لها معان محددة، ومفاهيم يجتهد الراغب أن يجعلها في متناول قارئ كتابه عن طريق: التقسيم والتفريع، وضرب الأمثلة، وسوق الشواهد.
والأبواب الأخيرة من الكتاب ذات منهاج تحليلي تهذيبي سلوكي خلقي، يظهر فيها الراغب أنه ذو رسالة إصلاحية والتزام ديني واجتماعي يحاول أن ينشرهما في الناس، ويربط بينهما وبين أحكام الشريعة عن طريق الاقتناع والإقناع بأن هناك تكاملا بين أحكام الشريعة ومكارمها، وظاهر الإنسان وباطنه، وإيمانه وسلوكه، وعبادته وأخلاقه.
وقد تنبه بعض المؤرخين الذين ترجموا للراغب الأصبهاني إلى تأثر الإمام أبي حامد الغزالي بالراغب فقالوا:
"كان الغزالي يحمل معه دائما في رحلاته كتاب: "الذريعة إلى مكارم الشريعة" وقد تأثر بها كثيرا في كتابه: "ميزان العمل"، كما تنبهوا إلى شيء آخر وهو: أن المفسر البيضاوي الشهير استفاد في تفسيره الشهير من أقوال وتحقيقات الراغب الأصبهاني.
وتفسير البيضاوي مطبوع.
أما تفسير الراغب الأصبهاني، فما يزال مخطوطا (فيما نعلم)، والذي طبع منه هو: "مقدمته" وهي مقدمة جيدة تدل على عمق تفكير الراغب، وطول نفسه في الأصول والفروع.
بعد هذا العرض، وهذه الإشارات العابرة الموجزة يبقى الراغب الأصبهاني قمة من قمم التفكير الإسلامي والثقافة الإسلامية، وتبقى آثاره المطبوعة والمخطوطة كنزا من كنوز المعرفة، وينبوعا من ينابيع الدراسة المفيدة في الأصول والفروع، ومقاصد الشريعة ومكارمها. ونكتفي هنا الآن بهذه الإشارات.

17- أبو علي الفارسي:
نضج البحث في نحو اللغة العربية على مراحل شاهدت خطواتها الكوفة والبصرة أولا، ثم عاصمة بغداد ثانيا.
- فعملية تقعيد القواعد.
- ورصد الاستعمالات.
- واستقراء الإعراب.
- والعلاقة بين المعنى والإعراب.
- والعمدة والفضلة والأداة.
كل هذا وغيره جعل النحو العربي ثريا بالشواهد والقياسات التي خاض غمراتها كثيرون من أعلام المدن الثلاث: الكوفة والبصرة وبغداد قبل أن تنشأ مراكز وأقطار أخرى في المشرق والمغرب.
والحديث الآن منصرف إلى أبي علي الفارسي المتوفى سنة 377هـ، وهو فارسي الأب عربي الأم،
تقاذفته مدن: بغداد والموصل وحلب وشيراز غيرها، وفي كل منها له تلاميذ ومؤلفات وصلات ومجالس ومناظرات وصداقات وعداوات.
ويكفي أبا علي الفارسي فخرا أن يكون أبو عثمان بن جني مؤلف كتاب: "الخصائص" من تلاميذته، وقد لازمه حضرا وسفرا أكثر من أربعين سنة...!
واشتهر أبو علي بمنطقيته القياسية التي استعملها في تقعيد القواعد بعد التتبع والاستقراء، كما اشتهرت كلمة تلميذه ابن جني وهو يذكر فضله عليه:
ما كان أقوى قياسه، وأشد بهذا العلم اللطيف أنسه، فكأنه إنما كان مخلوقا له.
والطريف في مؤلفات أبي علي الفارسي أنه كان يؤلف كتبا ذات منهج خاص ومضمون خاص، ويسميها باسم مضاف إلى المدينة التي ألفت فيها الكتاب أو الشخص الذي ألف له.
وهكذا نجد من مؤلفاته: البغداديات، والحلبيات، والبصريات، والشيرازيات، والعسكريات، والعضديات، والإيضاح العضدي، وما أشبه ذلك.
وهذه الكتب هي في الحقيقة تكملة وشرح وتطبيق وتقييد وإيضاح لما جاء في كتاب "سيبويه" بمنهج علمي دقيق يعتمد على الاستقراء والتتبع والاستنتاج والقياس، وبذلك يعتبر أبو علي من "الجسور" التي عبر عليها النحو العربي في طريقه إلى القواعد السليمة والمناهج القويمة...!

18- ويل لأقماع القول:
من البلاغة النبوية ما يقف أمامه الخبير المتضلع من اللغة والبيان موقف المتعجب المستغرب، الذي يجد أمامه ألفاظا وتراكيب وصفات وإضافات تسحر الألباب، لدقة المعنى وجمال اللفظ وطرافة التركيب وإصابة الهدف...! جرت على لسان الرسول عليه السلام.
وقد نبه شراح الحديث النبوي الشريف على أشياء كثيرة من البلاغة النبوية، التي جاءت عفوية في الخطب، والأحاديث والأسئلة والأجوبة التي استعملها الرسول عليه الصلاة والسلام.
وهذا التعبير: "ويل لأقماع القول" الذي جاء به ابن الأثير في كتابه: "النهاية" ج 3 ص: 277 على أنه حديث من هذا القبيل. حيث إنه يصف طائفة من الناس تحفظ، وتروي، وتنقل من الأقوال والأحكام والفضائل، إلى غيرها ما لا تنتفع به هي، ولا تستفيد منه.
والأقماع جمع، والمفرد قمع، وهو معروف مستعمل. تصب فيه السوائل لتصل إلى الإناء! ولا يبقى فيه شيء فهو واسطة، ينفع الآخرين ولا ينفع نفسه... فإذا كان هذا هو شأن القمع... وهو آلة جامدة، فلا يليق بالإنسان الذي يعي ويفهم ويفكر أن يكون مثله، بل يجب عليه أن يستفيد أولا.
ولا شك أن مضمون:
- ويل لأقماع القول...!
ينتج عنه مضمون.
- رب مبلغ أوعى من سامع...!
وذلك جانب من البلاغة النبوية التي تمثل ما حباها الله به من حسن الفهم والتفهيم في أمة، هي أمة البيان.



عبد القادر زمامة

دعوة الحق
العددان 305 و306

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى