د. محمد لبيب سالم - فنجان قراءة

"إنها يا سادة القراءة التي تجعلنا ملوك ولو كنا خفراء"

القراءة تجعلني أعيش الماضي وأخلطه بالحاضر واستشعر بهما المستقبل. فقراءة كتاب عن تاريخ مصر وأنت تحتسي فنجانا من القهوة لهو شيء يجعلك تعيش مع أجدادك من المصريين وهم يفكرون ويبنون ويبدعون ويخترعون. ستعرف انهم أول من أسس لقاعدة هندسية وحسابية مهمة وهي أن مساحة المربع علي وتر المثلث قائم الزاوية تساوي مساحتي المربع علي ضلعي المثلث الآخرين.

وعندما تقرأ كتابًا آخر عن التطور ويأخذك إلي العالم الفذ الصغير ذو العقل المتقد داروين والذي أسس لعلم التطور والوراثة وهو شاب لا يزيد عمره عن 21 عاما. ثم تتطلع علي كل ما تلاه من اكتشافات ومعارف من خلال مناظرات وخلافات واختلافات وتغيرات في الرؤي ونظرتك للحياة، يجعلك تشعر بمدي فضل هؤلاء العلماء الذين أضافوا علمًا ومعرفة إلي عقلية العالم من خلال تجارب وملاحظات ومشاهدات تقرأها بسهولة ويسر وأنت تكمل فنجان القهوة بكل مالديك من قوة النقد سواء كان نقدا نظريا لاذعا هداما أو بناءا.

وعندما تنتقل إلي كتاب آخر عن الحضارة الإغريقيّة زمن طاليس وجالينوس وأبو قراط وأرشميدس وفيثاغورث ثم إلي أفلاطون ومنه إلي تلميذه سقراط ثم أرسطو ومهارة الإغريق في تحويل المشاهدات والتطبيقات التي أسستها الحضارة المصرية القدية إلي قواعد ونظريات استمرت أكثر من ألف عام تشعر وكأن جهود هؤلاء العلماء والفلاسفة السابقون لم تضع هباء, بل كانت هي اللبنات الأولي لصرح العلم المعاصر وبدونها لم يكن للعلم أن تقوم له قائمة .

ثم تدرك كيف ابحرت سفينة العلم بين نهار مضيء وليل مظلم وليل مضيئا ونهار مظلم حتي رست بعد آلاف الأعوام الصعبة علي شاطيء العلم وهي محملة بكل منتجات العلم والمعرفة والأدب والفنون والثقافة بعد أن كادت تغرق بين الحين والآخر لولا الملاحون المهرة والفدائيون من العلماء المخلصين.

تشعر بكل ذلك عندما تنتقل إلي كتاب يتحدث عن قصة العلم في عصر ما قبل التاريخ مرورا بالحضارات القديمة المصرية والصينية والهندية والفارسية والبابلية والآشورية والأفريقية والرومانية ثم ينتقل بك إلي الحضارة الإسلامية لمدة ٦ قرون ثم تنطفيء شمعته ليسود الظلام في العصور الوسطي ثم تنهض أوروبا في أواخر القرن الخامس عشر علي يد علماء أفذاذ مثل كوبرنيكوس وجاليلو وفيزاليوس وإسحق نيوتن ومن عاصرهم من الفلاسفة الكبار مثل فرانسيس بيكون وليوراندوا دافنشي ومايكل أنجلو ثم بعدهم داروين الذي هز العالم بكتابه أصل الأنواع. ثم يأخذك الكتاب إلي عصر النهضة العلمية ثم عصر الثورة الصناعية ثم عصر الثورة التكنولوجية الذي جعلنا ننعم بالرفاهية ثم إلي ما نحن فيه من ثورة المعلوماتية الرهيبة التي جعلت العالم بيت واحد من خلال الذكاء الاصطناعي وانترنت الاشياء والعالم الافتراضي.

هكذا القراءة التي تأخذك في رحلة بين محطات الحياة من علم وفن وأدب وفلسفة عبر العصور فلا امل ولا تتأفف بل يزداد حبك وشغفك للمعرفة وترفع قبعتك تحية لكل من أخلص في الماضي ليترك لنا أثرا في الحاضر لم نكن لنطوره لولا السابقون. ماذا بعد ذلك من فوائد تأخذها من القراءة بلا مقابل. معلومامات وتجارب شخصية ومجتمعية وقومية للآخرين من بدايات العالم حتي حاضرك دون أن تقوم من مكانك. هل هناك استثمار مجاني اخر يعطيك كل فوائد القراءة التي عندما تغزوا عقلك تنميه وتطوره وتذكيه وتزكيه علي غيره من العقول.

إنها القراءة التي تجعلك تدرك ليس فقط تاريخ الأفراد والأمم ولكن أيضا تجعلك تدرك جغرافية الفكر في الشرق والغرب والشمال والجنوب علي مدار الأزمنة المختلفة. إنها المرآة السحرية التي تستطيع بها أن تري كل العالم قديمه وحديثه وانت جالس علي مقعدك المفضل في بيتك وأنت تحتسي فنجانا من القهوة.

إنها يا سادة القراءة التي تجعلنا ملوك ولو كنا خفراء.

خالص تحياتي
د. محمد لبيب سالم
أستاذ علم الحيوان كلية العلوم جامعة طنطا مصر
وكاتب وروائي وعضو اتحاد كتاب مصر

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى