خالد جهاد - خارج حدود جلدنا

أصبحت مختلف القيم أو الأفكار في زمننا الحالي خاضعةً للنظرة النسبية بغض النظر عن ما يردده الناس على اختلاف أطيافهم في العلن أو يصرحون به سواءاً كان ذلك في وسائل الإعلام التقليدية أو مواقع التواصل الإجتماعي، فالحقيقة هي ما يفعلونه لا ما يقولونه.. وقد ظلت ( أي الحقيقة) على مر العصور صامدةً تقاوم زحف هذه النظريات التي هدمت الإنسان وفككته ككيان من الداخل لتقف أمامه عاريةً تاركةً له خيار النظر إليها والإيمان والإفتتان بها رغم مرارتها، أو غض البصر عنها بحثاً عن (ما يناسبه) في مكانٍ آخر وبالمواصفات التي توافق رغباته حيث يمكنه أيضاً أن يختار لها ما شاء من الأسماء..

فأفرز التخبط الذي نعيشه خاصةً منذ مرحلة العولمة وما بعدها (مبادىء) جديدة لواقعٍ جديد وانسانٍ جديد لم نكن نتصور أن يصل إلى ما وصل إليه قبل ثلاثين عاماً من اللحظة الحالية، فعندما يتم ترديد الأكاذيب بصدق واحترافية لعددٍ كافٍ من المرات فإنها تتحول تلقائياً إلى حقيقة بالنسبة للكثيرين، فأحب البعض ذلك (التقارب) الذي اعتقده (مجانياً) تحت شعار (العالم قرية صغيرة) ولم يفكروا في أبعاده ولا في طبيعة سكان هذه (القرية) وماذا سيحدث في سبيل الوصول إليها وما مدى تأثيرها علينا جميعاً من الناحية النفسية والإجتماعية والثقافية والأخلاقية، فقد تم الترويج لعقود أن وجود (حدود) لأي شيء بشكلٍ عام يفقده قيمته وجماله ومتعته (تمهيداً) لإزالتها من كل ما نعيشه، ولتتساوى صغائر الأمور دون أن ندري مع قضايانا الكبرى والمصيرية تحت هذا (المبدأ)، وكنا على سبيل التمني نحلم بتلاشي تلك الحدود بين بلادنا لكننا لم ننتبه بتاتاً إلى أن الإنفتاح والتلاقي في العموم ينبغي أن يكون مدروساً بعناية وأن يكون بين كيانين أو عدة كيانات تمتلك الكثير من القيم والعناصر المشتركة التي لا يضر اتحادها بالهوية الخاصة لكلٍ منها، فالأفكار والأحلام العظيمة ينبغي أن تناقش وتنفذ بوعي وحكمة وبصيرة تخدمها وتحميها وتساعد على استمراريتها..

لكن ما حدث فعلياً كان ذوبان وتلاشي الثقافة الأم لكل بلد (وهذا يشمل أغلب بلاد العالم) أو انحسارها بشكل كبير لصالح نسق عالمي مادي بلا هوية لم يحقق على أرض الواقع سوى مزيدٍ من التباعد والتحزب والتشرذم بين الشعوب، وينظر إلى الأوطان على الخريطة كمجموعة من الشركات الإستثمارية التي تربطها المادة والمصالح من خلال شبكة من العلاقات التي لا تضع الإنسان أو الإعتبارات الأخلاقية في حساباتها ولا تتعامل مع أي شيء إلا بمنطق الربح والخسارة عن طريق تحويل كل ما حولنا إلى سلعة بما فيها عواطفنا تجاه أقرب المقربين إلينا، وجعلنا في حالةٍ من اللهاث الدائم بحثاً عن (الحياة) دون أن نتمكن من أن نعيشها في تفاصيل سطحية تقدم كأساسيات يتم التركيز عليها والترويج لها من خلال العديد من الوجوه المعروفة لنمط معيشة عصري بدءاً من الملبس والشكل الخارجي مروراً بطريقة التحدث والتصرف وانتهاءاً بأسلوب التفكير وتقييم الوضع الإجتماعي وتسطيح النظرة إلى قيمة العلم والعمل والثقافة وتحويلها إلى (حالة استعراضية) خاوية بلا مضمون..

فمع التحول الهائل في عالم الإعلام والفن في مطلع القرن الحالي والمتمثل في كم الإبهار البصري وظهور العديد من النماذج ذات المواهب المتواضعة وأحياناً المعدومة والتي حققت شهرةً واسعة ونجاحاً جماهيرياً كبيراً في فترةٍ قياسية.. تخلى المتفرج العادي عن (الحدود) التي اعتاد عليها بينه وبين الشاشة وبات راغباً في التحول إلى واحدٍ من النماذج التي تظهر عليها، مدفوعاً بشيء من الغيرة المقنعة التي وصلت في كثيرٍ من الأحيان إلى حقد طبقي غذته المقارنات وزيادة التطلعات نحو (النماذج الناجحة والسعيدة) التي تتصدر المشهد وتغزو أخبارها الشاشات والصحف والمواقع الإلكترونية، ومع تنامي هذه الرغبة بشكلٍ ملحوظ ومتوحش فقد الكثيرون اتصالهم ليس فقط مع واقعهم ومحيطهم وبيئتهم بل مع أحبائهم وحتى أنفسهم وخلقت حالة ممسوخة لإنسان بلا هوية خلع جلده ولم يستطع أن يجد (جلداً) جديداً يستر به عوراته، فإضطر إلى استكمال لهاثه دون أن يستطيع الوصول إلى ما يريده وبات غير قادر على العودة إلى ذاته وجلده الذي خرج منه بمحض إرادته، وليس ما نعيشه سوى نتاج لإنسلاخ الكثيرين عن أنفسهم وثقافتهم ومبادئهم وطبقتهم الإجتماعية بعد أن جعله البريق الزائف يخجل من أجمل الأشياء التي كانت تميزه وتسعده..

فعند استرجاع البشر للحظاتهم الجميلة والبعيدة سيجدون أن كل ما كان يسعدهم لم يكن له علاقة بما أصبحوا يعيشونه، فقد فقدوا ملامحهم وضحكتهم وبرائتهم وتلقائيتهم وفقدوا الأمان ودفىء العلاقات بينهم بعدما أغرتهم الإعلانات الضخمة والبرامج المثيرة بترك أماكنهم للركض خلف سراب، وخلف شعارات توظف كل شيء لخدمتها وخدمة مصالحها، تعزز الأنانية والنزعة الفردية والتنافسية بين الناس، تغوي كل شخص بأنه سيكون النجم الأوحد والذي لن يصل إلى ذلك إلا بإلغاء الآخر أو تناسي وجوده ليتسنى له (التركيز على هدفه) وليتسنى لهم إقناع أكبر عدد ممكن بهذه الفكرة..

فزادت عمليات التجميل وقل الجمال، زاد الحديث عن (الشعور بالآخرين) وتعاظمت الوحدة، زادت المشافي وتضاعف عدد (المرضى)، زادت المطاعم والجوعى يتزايدون في عالمنا كل يوم، زادت الندوات والأقلام والكتاب فيما يزحف الجهل من كل حدب وصوب، تكاثر (الفنانون) في وقتٍ يقترب فيه الفن الحقيقي بأبعاده ومعانيه وجمالياته من الإندثار، الإنسان يخاف من الإنسان.. يكذب عليه.. ينافقه.. يشتاق إليه.. يحتاجه.. دون أن يعرف نهاية لتضارب مشاعره وأفكاره التي تحكمها المادة وتسيرها بلا وعي.. الأغلبية خلعت جلدها وتشعر الآن ببردٍ قارس وتشعر بالإنهاك والخديعة والقلق والغربة.. فالعالم ليس قرية صغيرة كما اعتقدوا وعلى كل شخص منا أن يحاول العودة إلى نفسه إلى حقيقته إلى جذوره ومبادئه ومكانه مهما كان بسيطاً ومتواضعاً لأنه بتركه له سيعيش مسخاً تعيساً بلا جلد أو بوصلة في مساحةٍ بلا حدود وطريقٍ بلا معالم..

خالد جهاد..

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى