د. أحمد الحطاب - الخلط بين لغة التدريس والهوية

إصلاحُ التعليم أو المنظومة التربوية ولغةُ التدريس مشكلتان كان بالإمكان إيجاد حلول لهما خلال عشرات السنين التي مضت. لكن مَن يُسمون أنفسَهم سياسيين مُدبِّرين للشأن العام يفضِّلون الاستفادةَ من مُتعة وارتياح كراسي السلطة، أو بعبارة أخرى، إن إيجاد حلول لقضية وطنية مرتبطٌ بها مصيرُ بلادٍ وأجيال بأكملها، لا قيمةَ لها مقارنة مع هذين الارتياح والمُتعة.

كلنا نعلم أن الإصلاحات المتتالية فشلت كلُّها، وكل ما بُدِلَ من جُهد مالي، بشري وزمني ذهب سدىً. لماذا؟ لأن الإصلاحَ، من الضروري أن يكونَ نابعا من إرادةٍ سياسيةٍ قوية، ومن الغيرة على الوطن ومن جعل مصلحته فوق كل اعتبار. لوكان الإصلاحُ نابعا من إرادةٍ سياسيةٍ قوية ومن حب الوطن ومن مصلحتِه العُليا، لنجح في بلوغ أهدافه. ولانشغلنا، بعد ذلك النجاح، فقط، في تحسين مردودية وجودة أداء منظومتنا التربوية. وعدم توفُّر الإرادة السياسية هو الذي جعل ويجعل مَن بيدهم الأمرُ يُطلقون الإصلاحَ بعد الإصلاح ويتركونه يسيرُ لوحده دون تتبُّعٍ ودون تقييم مختلف مراحله. وكأن الإصلاحَ يتضمَّن أو يتوفَّر، في حدِّ ذاته، على ما يجعله ناجحا. الإصلاحُ، وخصوصا، إصلاحُ المنظومة التربوية، عبارة عن خارطة طريق، إن لم يتم تتبُّعُ مراحلها خطوة بخطوة، فلا شيءَ يضمنُ نجاحَها. وهذه اللامبالاة وهذا الإهمال هما اللذان أرادهما السياسيون لمنظومتنا التربوية. النتيجة، هدرٌ للأموال وضياعٌ للأجيال. أنْ يبقى إصلاح التعليم بدون حل على امتداد أكثر من 60 سنة، إنه فعلا لأمر غريب لا يقبله لا العقل ولا المنطق. أمر يطرح أكثر من نقطة استفهام!

أما لغة التَّدريس يا ما أثارت من نقاش ومن تجاذبات ومن أخد وردٍّ ومن غضب جهاتٍ سياسيةٍ وغير سياسيةٍ ومن انتقالٍ من لغةٍ أجنبية إلى اللغة العربية ومن تراجعٍ عن اللغة العربية والعودة إليها، علما أن مَن يؤدِّي ثمنَ هذه التَّقلُّبات هم الأجيال الصاعدة. فأين هو الضمير السياسي؟ وأين هي روحُ المسئولية السياسية، الاجتماعية والأخلاقية؟ النتيجة هي أن كل الأجيال التي تزامن وجودُها في المدرسة مع هذه التَّقلُّبات، لا يتقنون لا اللغةَ العربيةَ ولا اللغة الأجنبية والدليل على ذلك، احتلالُ بلادنا المراتب المتأخِّرة في البرنامج الدولي لتتبُّع مكتسبات التلاميذ Programme International de Suivi des Acquis des élèves PISA فهل يُعقلُ أن متعلِّما اجتاز مرحلة التَّعليم الأساسي الإجباري enseignement fondamental obligatoire يجد صعوبةً في القراءة والكتابة؟

أنا، شخصيا، أفضِّلُ التَّدريسَ باللغة العربية، لكن بشروط. فما هي هذه الشروط؟ إن التَّدريسَ باللغة العربية، له شرطان أساسيان. الشرط الأول هو أن يُتقِنَ المتعلِّمون هذه اللغة. وكي يُتقنونها، يجب أن يبدأَ تملُّكها منذ نعومة الاظافر. وعوضَ أن يتمَّ الاهتمامُ بلغة التَّدريس، فإن السياسيين فضَّلوا التَّردُّدَ بين هذه اللغة أو تلك، غير مبالين بمصير أجيالٍ بأكملها. والغريب في الأمر، أن جلَّ هؤلاء السياسيين يتفادون تسجيلَ بناتِهم وأبنائهم في المدرسة العمومية. أليس هذا نفاقٌ ما بعده نفاق؟ الشرط الثاني يتمثَّل في إتقان لغة التَّدريس من طرف المدرسين. ولو تمَّ الاهتمامُ بلغة التَّدريس منذ نعومة الأظافر، لانعكس هذا الاهتمامُ على المدرسين منذ زمان!

غير أن الاهتمامَ باللغة العربية لا تُمطره السماء! إنه يستوجب تحضيراً متقناً وبعيدَ المدى. كيف ذلك؟ أولا، لا بد أن تتوفَّرَ البلادُ على مؤسسة تهتم بتطويراللغة العربية لجعلها تواكب التَّطوٌّرَ الحاصل في إنتاج المعرفة، وخصوصا، تلك التي يتمُّ إنتاجُها في مختلف مجالات العلوم والتِّكنولوجيا. ثانيا، لا بدَّ من وجود بنيةٍ تواكب ما استجدَّ من مصطلحات في جميع مجالات المعرفة وترجمتها إلى اللغة العربية و وضعِها رهن إشارة القطاعات الوزارية بما فيها قطاعُ التَّربية والتَّعليم. ثالثا، لا بدَّ من إحداث مؤسسة تهتمُّ بترجمة الكُتُب الصادرة في مختلف مجالات المعرفة و وضعها رهن إشارة الباحثين والسياسيين بمختلف مشاربهم…

وعوض أن يهتمَّ السياسيون بكل هذه الأمور، فإنهم تفرَّغوا للمزايدات والتَّجاذبات والتَّطاحنات حول قضيةٍ تتعلَّق بمصير يلادٍ بأكملها. أليس هذا إِظْهارٌ بَشِعٌ وفَظِيعٌ لنفاق سياسي أبشع وأفظع. والفظاعة الكبرى أن البعضَ من هؤلاء السياسيين ربطوا لغة التدريس بالهوية وبحب الوطن و ب... وهم أكثر الناس دوساً لهذه الهوية. لو كان هذا الربطُ نابعا من إرادةٍ سياسيةٍ واضحة وصادقة، لقلنا إنكم مُحِقُّون. لكن، عندما يبعث هؤلاء السياسيون بناتِهم وأبناءَهم إلى المدارس الأجنبية، يتَّضِح كلُّ شيءٍ! ربطوا لغةَ التَّدريس بالمواطنة وحب الوطن والقومية العربية وب... وهم مَن برعوا في نسيان هذا الوطن وفي تركه عُرضةً للفساد.

يا أيها السياسيون، كُفُّوا عن النفاق! إن الهوية، وأنتم تعرفون هذا تمام المعرفة، مجموعة من الخصائص والصفات مرتبطة أولا بتراب وثقافات (بما فيها اللغات) وعادات وتقاليد البلاد. لكن، مَن قال إن مغربياً سيفقِد هويتَه إذا تكلّم وكتب بلغات أخرى، غير العربية، وعندما يتعلق الأمر بتدريس العلوم والتكنولوجيا؟ يا لها من سخافة ويا له من هُراء!

هل فقد المهاجرون العرب والمسلمون المعاصرون (وأخص بالذكر الأدباء والعلماء بمختلف تخصصاتهم، وما أكثرهم) هويتَهم عندما استقروا في بلدان المهجر مضطرين لتعلُّم لغاتها؟ بل بالعكس، ما ألاحظه أنا شخصيا، هو أن هويتَهم تتقوى وتزداد حضورا. هل فقد قدماء العلماء العرب والمسلمين هويتَهم عندما كانوا، من أجل العلم، يتنقلون من بلد إلى آخر وكانوا مضطرين أن يتعلموا لغةَ بلد إقامتهم؟ هل فقد الطلبة المغاربة الذين يدرسون بالخارج، وهم عشرات الآلاف وبمختلف اللغات، هويتَهم؟ هل فقد العلماءُ المسلمون هويتَهم، ما بين القرن الثامن والثالث عشر، عندما انكبوا على ترجمة ما أنتجه اليونانيون من معرفة في شتى المجالات؟

يا مُدبِّري الشأن العام، كفى من استحمار الناس وكفى من تجميد العقول! إنكم تعرفون تمام المعرفة أنه، من بين أسباب فشل التعليم في هذا البلد السعيد، إخضاعُه لتعريب متوحش وارتجالي، غير متبصر وغير استشرافي.

بالطبع، إنكم غير معنيين بهذا الأمر لأن أبناءكم وبناتكم يدرسون بلغات، غير العربية، إما في المؤسسات الخاصة ذات الجودة العالية وإما بأغلى وأرقى المؤسسات بالخارج. المنطق يقول : "كان عليكم، قبل تسجيلهم بهذه المؤسسات، أن تخافوا عليهم من فقدان هويتهم"! شتان ما بينكم وبين الهوية بمعناها النبيل!

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى