د. زياد العوف - "سارة" أو يتيمة العقّاد القصصيّة*

من بين عشرات الكتب القيِّمة التي دوّنها العقّاد في الأدب والفكر والثقافة تبرز "سارة" بوصفها القصّة الوحيدة- بل اليتيمة- في عِقد مؤلّفاته الثمين.
على أنّ "سارة"(١) تبدو يتيمة لسببين اثنين: الأول لكونها وحيدة في نوعها بين أعمال العقّاد الأدبية الأخرى.
أمّا السبب الثاني فيتمثّل في موقف العقّاد المتحفِّظ من فنّ القصّة بوجه عام؛ إذ إنّه يراها دون مستوى الألوان الأدبية الأخرى، وبخاصةٍ الشعر. يقول في ذلك:
" قال: وما المقياس الذي نرتّب به هذه الرّتبَ يا تُرى؟
قلتُ: لعلّه مقاييس شتّى لا مقياس واحد، ولعلّ الناس يختلفون كاختلافهم في كلّ شيء يرجع إلى المشرب والتعبير غير أنني أعتمد في ترتيب الآداب على مقياسين يغنياني عن مقاييس أخرى، وهي الأداة بالقياس إلى المحصول، ثمّ الطبقة التي يشيع بها كلّ فنٍّ من الفنون... ما أكثر الأداة وأقلّ المحصول في القصص والروايات!
إنّ خمسين صفحة من القصّة لا تعطيكَ المحصول الذي يعطيكهُ بيت كهذا البيت:
وتلفَّتتْ عيني، فمذ بَعُدتْ
عنّي الطّلول، تلفّتَ القلبُ
.... ....... ..... ......
أمّا مقياس الطّبقة... فلا خلاف في أنّ منزلة الطّبقة التي تروج بينها القصّة دون غيرها من الفنون.." (٢)
من الواضح إذاً أنّ العقّاد لا ينظر بعين الرضا إلى فنّ القصّة الجميل،
ومن حسنِ الطالع أنّ الروائي الكبير ( نجيب محفوظ) قد كفانا مؤونة الرّد على آراء العقّاد في مقال مهمّ نشره في مجلّة" الرسالة" المرموقة عام(١٩٤٥م) ، حيث جاء في تضاعيفه:
" هذان هما المقياسان اللذان قضى بهما العقّاد على القصّة بالهوان؟
أمّا عن الأداة والمحصول، فالحقّ أنّهما شيء واحد في كلّ فنّ رفيع، ففي الشعر الجيّد كما في القصّة الجيّدة تتّحد الأداة والمحصول...فإذا زادت الأداة على المحصول فذلك شاهد ضعف أو ركاكة قد يعتوران الشعر كما قد يعتوران القصّة، ولكنه ليس صفة ملازمة للقصة دون غيرها من فنون الأدب................. فالقصة لا ترمي لمغزى يمكن تلخيصه في بيت واحد من الشعر...........ولا تحسبنَّ التفاصيل في القصّة مجرّد ملء فراغ، ولكنّها ميزة الرواية حقّاً على فنون القصة الأخرى وفنون الأدب عامّةً.. ......... .......
أجل إنّ القصة لا تزال أعظم انتشاراً من الشعر، ولكن أكان ذلك لسيّئة فيها أم لحسنة؟ إنّ الخاصة التي تقرأ الشعر الرفيع وتتذوّقه تقرأ القصّة الرفيعة وتشغف بها، وإذا كان العقّاد لا يقرأ القصة إلّا مضطرّاً فطه والمازنيّ والحكيم وأيزنهاور يقرؤونها بغير اضطرار." (٣)
نعود إلى قصة "سارة" فنشير في عُجالة إلى الّلغَط الذي رافق صدورها في طبعتها الأولى عام(١٩٣٨م) ثمّ في الطبعات الأخرى التي تلتها؛ إذ رأى بعضهم أن القصة ذات صلة وثيقة بحياة العقّاد الشخصية، وأنّ أحداثها إحدى تجارب العقّاد القاسية التي طبعتْ مسار حياته، بل إنّ الكاتب
( أحمد حسين الطماوي)- وكان على صلة بالعقّاد- قد وضع كتاباً في ذلك بعد وفاة العقّاد تحت عنوان"سارة العقّاد أو أليس داغر" ذكر فيه أنّ سارة ،ليستْ سوى ( أليس داغر) وهي ابنة الكاتبة المعروفة في حينه( لبيبة هاشم)
صاحبة مجلة( فتاة الشرق)، وأنها كانت على علاقة وثيقة بالعقّاد.
أمّا "سارة" القصّة، وهي محور مقالنا هذا، فإنها تندرج في إطار القصة التحليلية، وبصورة أدقّ قصّة التحليل النفسيّ؛ إذ إنّ هذا هو السّمتُ الغالب عليها.
فالقصة في مجملها تتلخص في علاقة حبّ جمعتْ بين( همّام) و( سارة) ،بطلَي القصة، ومارافق هذه العلاقة من صعود وهبوط، وظنون وشكوك، وأخيراً مِن قطع مؤلم لها. خصّص لها الكاتب فصلاً كاملاً، عنوانه" القطيعة" . يسهب العقّاد في تحليل شخصية كلّ مِن ( همّام وسارة) وكذا في توصيف وتحليل طبيعة وظروف ومراحل العلاقة التي جمعتْ بينهما.
قسّم العقّاد قصته إلى ستة عشر فصلاً حملت العناوين التالية:
١- أهو أنتَ؟ ٢- موعِد ٣- الشكوك
٤- علاج الشك ٥- الرّقابة ٦- وكيف الرّقابة؟ ٧- مضحِكات الرّقابة ٨- القطيعة ٩- مَن هي؟
١٠- وجوه ١١- كيف عرَفها ١٢- أيام
١٣- لماذا هام لها؟ ١٤- حُبَّان
١٥- لماذا أشكّ فيها ١٦- جلاء الحقيقة.
على أنّ العقّاد قد أخّر الحديث عن بداية تعارف بطلَي القصة إلى الفصل الحادي عشر " كيف عرفها" وقد علّل الرّاوي ذلك بقوله:
"ترتيب الحوادث أن تنتهي ثمّ نكرُّ راجعين للسؤال عن بدايتها، وسبيل التاريخ أن تنطوي السِّيَر وتنصرم الدول ثمّ نتقصّى مناشئها وأسباب ظهورها....... فنحن لا نحيد عن مجرى الزمان حين نعرف الساعة كيف تلاقت سارة وهمّام، بعد أن عرفنا منذ برهة كيف كانت القطيعة وكيف كان اللقاء الأخير." ( ص.٧٩)
الكاتب إذاً على وعيّ تام بترتيب عناصر قصته وأجزائها، وهو يعتمد في ذلك قواعد المنطق، في حين يختار أن يضعنا في زحمة الأحداث في الفصل الأول( أهو أنت) حيث التقى العاشقان على غير ميعاد بعد فتور العلاقة بينهما، مرجئاً الحديث عن لقائهما الأول حتى الفصل الحادي عشر انسجاماً مع بعض فنون السرد وفقاً لأسلوب العودة للوراء( فلاش باك) ، وإن كان بشكل
منطقيّ لا فنّي.
أسوق فيما يلي بعض الأمثلة للتدليل على السمة التحليلية الغالبة على القصة . جاء في فصل" مَن هي؟" :
" من هي سارة؟......هي جميلة،
جميلة لا مِراء، ليست أجمل من رأى همّام في حياته....... ولكنها جميلة جمالاً لا يختلط بغيره في ملامح النساء .......... .......
لونها كلون الشهد المصفّى.......وعيناها نجلاوان وطفاوان، تخفيان الأسرار ولا تخفيان النزَعات، فيها خطفة الصقر
ودَعة الحمامة...... استغرقت الأنوثة،
فليس فيها إلا أنوثة" (ص.ص ٦٣- ٦٤).
ويسترسل الراوي في توصيف، بل تحليل، شخصية سارة فيقول:
"لها فراسة نفّاذة في كلّ ما بين الجنسين من علاقة......... تحبّ التدليل كما تحبّه كلّ بنت من بنات حواء، ولكنّها تكره التدليل السخيّ الفيّاض كما تكره التدليل المعسول الناصع الحلاوة." ( ص.ص ٦٥-٦٧)
أماّ ثقافتها ومعتقدها وأخلاقها فإنّها" تقرأ أوربا كما تعبد أزياءها، ولكن ماذا تقرأ؟ إنْ شئت فلا مانع من بيرون وشوبنهوَر..... وأنْ تقرأ في ديوان بيرون قصة دون جوان، وأن تقرأ في القصة أنباء خلاعته وعبثه.....(ص.٦٩)
ويخلُص الراوي إلى استنتاج مؤدّاه:" أغلب الظنّ أنّ الفتاة على ما بها من جموح وشطط كانت وشيكة أن تستقيم وتتّزِن لو رُزِقتْ زوجاً يوائم شوقها إلى الرجولة، ويغلق عليها منافذ الغواية، ولكنّها خابتْ في الزواج فشقِيَتْ." ( ص. ٧٢)
على أنّ الراوي في قصة " سارة" لم يغفل بواعث هذه العلاقة التي جمعتْ بين البطلين فيقول في ذلك:" نعم، فقد كان لهيامه بها أسباب مختلفات......فمِن تلك الأسباب الواضحة أنّه كان يحسّ إحساساً شديداً أنّ توديع العاطفة قد يرادف في معناه توديع الحياة.
لأنّه تعلّق بها وهو في العَقد الرابع من عمره... ....ومِن أسباب هيامه بها ألفة متغلغلة في أنحاء النفس.....
ومِن الحقّ أن نذكر هنا أنّ الرجل يعشق الأنثى مبدأ الأمر، لأنّها امرأة بعينها........ولكنّه إذا أوغل في عشقها.....أحبّها لأنّها المرأة.......وكذلك تجمّعتْ أسباب الهيام.......حتى استحكمتْ أواصر الملازمة." (ص.ص ١٠١-١٠٢).
على أنّ الشكوك المتراكمة التي شابتْ هذه العلاقة في بعض مراحلها قد منحتْ الراوي سبباً إضافيّاً للخوض في تحليلات من هذا القبيل، من ذلك مثلاً قولهُ:
" وكان قد خبر من أحوال المرأة والرجل ما أقنعه أنّ الخيانة بينهما ليستْ من الصعوبة والامتناع....خذوا أسرارهم من صغارهم....وسِرُّ سارة إنّما طرق مسامع همّام- أول ما طرقها- من لسان طفلها الصغير."( ص. ١٠٩)
على أنّ داء الشكّ لم يزلْ يساور نفس همّام حتى السطور الأخيرة من القصة. يحاور البطل نفسه، فنقرأ:" أليس من الجائز أنّها وفتْ لكَ في أيام عشرتها واستحقّتْ وفاءك لها وصيانتكَ إيّاها وغيرتكَ عليها؟ أليس من الجائز أنّها يئستْ منكَ فزلّتْ بعد الفراق..؟"( ص.١١٩)
هكذا ينهي العقّاد قصّته"سارة" تاركاً مجالاً رحباً للتأويلات والتفسيرات والشكوك، بما يطلق العِنان لهواجس وتحليلات وتخيّلات القارئ الذي ينهي قراءة القصّة دون أنْ ينهي التفكير في أحداثها، وقد يكون هذا مِن لوازم التشويق والإثارة التي حشدها الكاتب لقصّته التحليلية هذه.



*- الدكتور زياد العوف، أعلام الأدب العربيّ الحديث، قراءة جديدة، مؤسسة يسطرون للطباعة والنشر والتوزيع، القاهرة، ٢٠٢٠م،
ص ص ٣٥-٤٢ .
١- عباس محمود العقّاد، سارة، مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة، القاهرة،٢٠١٣م.
٢- عباس محمود العقّاد، أنا، مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة، القاهرة، ٢٠١٣، ص. ١٦٢
٣- نجيب محفوظ، " القصة عند العقاد"، في: نظرية الرواية، إعداد وتقديم محمد كامل الخطيب، وزارة الثقافة، دمشق، ١٩٩٠م، ص.ص ١٦٠- ١٦٦

دكتور زياد العوف

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى