ككلّ خريف يختار هذه الزاوية من الغرفة و يقف طويلا أمام النافذة حتى يخيّل لمن ينظر إليه بأنّه تحوّل إلى تمثال يشبه اللّوحة التي عشقها أكثر من أيّ شيء آخر فصار بيتنا جزء منها و ليس العكس. وبمجرّد امتلائه بكل أسرار ما وراء النّافذة يلقي بجسده على السرير و يفتح كتابا لأجاثا كريستي يلتهمه التهاما ،أقف أنا في المطبخ أتذكر قولها بأنّ أفكار الجرائم و القتل تخطر ببالها كلما وقفت في مطبخها و أمسكت سكينا بيدها و راحت تقشر البطاطس.
أتساءل بيني و بين نفسي لماذا اختارت البطاطس بالذات؟.. تقرف ذاكرتي من البطاطس فأرميها جانبا و أحرمه من طبقها اللذيذ الذي يعشقه في هذه الفترة بالذات.أفضّل طبق معكرونة سيذكّره بمرحلة جميلة قضيناها في روما ، كان يفضّل أن نخرج لنجوب المدينة أيام العطلة و حين نعود إلى البيت يطلب منّي تحضير طبق معكرونة ليغيب بعد ذلك وقتا طويلا في المرسم ، كان يجد في الرسم ملاذا من أعباء تخصّصه التقني الدقيق . ضحك كثيرا يوم قلت له:
-هل المعكرونة هي ملهمتك؟
ردّ عليّ في حنان و هدوء.
-أفهمك ، أكيد أنّ قلبك يتفطّر غيرة و تعتقدين بأنّني أرسم امرأة غيرك لهذا تقولين هذا الكلام.
وضعت يدي على فمي لأكتم شهقة و أنا أقول:
-صحيح ،لماذا تصرّ على أن تجعل من لوحتك هذه سرّا؟
تنهد يومها عميقا ثمّ قال :
-فقط لأنّني أستمدّ منك القوة على الإبداع ،وأعلم أنّك لو رأيتها قبل أن أكملها لن تعجبك و بالتالي لن أستطيع إكمالها.
و أكملها و هيّأ جوّا خاصا للإحتفال بها ، لبس بذلته السوداء و طلب منّي أن ألبس فستانا بلون البحر .
حبست أنفاسي قبل أن يرفع الغطاء عنها، قال لي :
-أغمضي عينيك
أغمضتهما ليصيبني دوار البحر و كأنّني على ظهر سفينة ، أحسست بقرب العودة إلى الوطن ، ثمّ ارتفع صوته ليعيدني إلى المرسم:
-الآن أقدّم لك لوحتي التي قضيت شهورا في رسمها.
فتحت عيني ، ذهلت من المنظر قلت و الدهشة تكسّر جليد كلامي:
-أيعقل أنّك قضيت شهورا في هذا المرسم لترسم هذه؟
سحابات الحزن أبعدت وجهه عنّي، أبعدته كليّة ، وقف مديرا لي ظهره ليحجب عنّي اللوحة ، استدركت قائلة :
-أنا آسفة ، قدّر موقف امرأة كانت تعايش ميلاد لوحة و تتوقع بأنّها لها..هنيئا لك لوحتك.
لحظتها فقط وصلتني أصوات النوارس و هي تعبر بحره و تعيده إلى شواطئي مبتسما تمتم قائلا :
-أعرف أنّها لوحة غريبة ، لا أحد يمضي وقتا طويلا في رسم نصف وجهه.
-لا عليك عزيزي ، أتفهم رمزية اللوحة.
و وقفت أشرح له كيف أنّ ابتسامة “موناليزا” حيّرت العلماء و طرحوا السؤال: لماذا كانت نصف ابتسامة ؟ و بعد المسح الضوئي لهذه اللوحة التحفة و تحليلها ببرنامج كمبيوتر تبيّن بأنّ موناليزا كانت سعيدة 83في المائة، مشمئزة 9في المائة ،و أنّها كانت خائفة بنسبة 2في المائة .
قلت له كلامي هذا و في أعماقي يتوالد خوف كبير من نصف الوجه ذاك، عزائي الوحيد أنّ انتهاءه من رسم اللوحة يعني العودة إلى الوطن أيضا.
أعلن لي الخبر و كأنه يقدّم لي هدية على تقبّلي للوحته أو فرحة بانتهائه من رسمها.
اللوحة الآن صارت تنافسني المكان ، و الوطن صار اللامكان منذ أن عدنا.
أصبح طبق المعكرونة جاهزا، هكذا سأسحبه من عالم أجاتا كريستي
إلى تناول وجبة العشاء. توجهت نحوه ، كان غارقا في القراءة ، كان عليّ أن أناديه حتى ينتبه لوجودي:
-محمود العشاء جاهز.
ظلّت عيناه تلتهمان الصفحات و أنا متسمّرة في مكاني أمام تلك اللوحة ، أعدت ندائي : محمود ، ألا تسمع؟
و بالكاد ردّ :
-سمعتك ، لا تقلقي نفسك لا يهمّ أن أتعشى.
– وضعك هذا أصبح يقلقني.
-أي وضع تقصدين؟
-إدمانك على قراءة روايات أجاتا كريستي
ضحك ضحكة مجنونة ثمّ قال:
-بعدما أدخلوني السجن و خرجت منه لأعرف بأنّ الخارج منه سيدخل في سجن أكبر ، أفكر في الإعدام، أحتاج إلى حكم بالإعدام حقيقي.
أدركت حينها بأنّه لم يتخلّص من حالة الإحباط ،لقد عاد إلى الوطن ممتلئا بالرغبة في العمل، أعطى كلّ وقته لتلك المؤسسة . كثيرا ما قلت له بأنّنا منذ عدنا إلى الوطن و أنا أشعر بالاغتراب لكثرة غيابه عنّي ، كان مؤمنا بالنجاح و لم يكن يعرف بأنّ الخفافيش يزعجها النجاح و يشكّل خطرا على مناصبها و كراسيها ، دبّروا له المكيدة بإحكام و ألبسوه التهمة كاملة ليجد نفسه وراء القضبان .
خمس سنوات سجن كانت كافية بأن تخلق منه نصف الوجه الآخر الذي سقط من لوحته تلك التي سمّاها ” الغريب”.
كان لا بدّ أن أصرخ أكثر ،أن أحدث ضجيجا في عالمه:
-محمود ، أرجوك يجب أن تخرج من هذه الحالة ، الحمد لله براتبي من وظيفتي حفظنا كرامتنا ، لكن رغم هذا عليك أن تخرج من عزلتك و أن تبدأ من جديد.
تعالت ضحكاته أكثر و هو يقول لي:
-من جديد، و أين يوجد الجديد؟
بحثت في زوايا اللّحظات عن منفذ من مأزق سؤاله، قلت له :
-لماذا لا ترسم، يمكنك تنظيم معارض للوحاتك.
و لم يكفّ عن الضحك الذي قطّع صوته و هو يقول لي:
-و كأنّك لا تعلمين بأنّ الفنّ لا يجلب الخبز في هذا البلد.
كان غارقا في الضحك و هو الذبيح ، و أنا لم أعد أقو على التحمّل، امتدّت يدي إلى الكتاب أبعدته عنه ، سحبته من يده و أنا أصطنع ابتسامة و أعلن له عن قراري :
- ستأكل الطبق كاملا و سترسمني أريد أن أكون النصف الآخر لوجه اللوحة.
* المجلة الثقافية مجلة جزائرية
أتساءل بيني و بين نفسي لماذا اختارت البطاطس بالذات؟.. تقرف ذاكرتي من البطاطس فأرميها جانبا و أحرمه من طبقها اللذيذ الذي يعشقه في هذه الفترة بالذات.أفضّل طبق معكرونة سيذكّره بمرحلة جميلة قضيناها في روما ، كان يفضّل أن نخرج لنجوب المدينة أيام العطلة و حين نعود إلى البيت يطلب منّي تحضير طبق معكرونة ليغيب بعد ذلك وقتا طويلا في المرسم ، كان يجد في الرسم ملاذا من أعباء تخصّصه التقني الدقيق . ضحك كثيرا يوم قلت له:
-هل المعكرونة هي ملهمتك؟
ردّ عليّ في حنان و هدوء.
-أفهمك ، أكيد أنّ قلبك يتفطّر غيرة و تعتقدين بأنّني أرسم امرأة غيرك لهذا تقولين هذا الكلام.
وضعت يدي على فمي لأكتم شهقة و أنا أقول:
-صحيح ،لماذا تصرّ على أن تجعل من لوحتك هذه سرّا؟
تنهد يومها عميقا ثمّ قال :
-فقط لأنّني أستمدّ منك القوة على الإبداع ،وأعلم أنّك لو رأيتها قبل أن أكملها لن تعجبك و بالتالي لن أستطيع إكمالها.
و أكملها و هيّأ جوّا خاصا للإحتفال بها ، لبس بذلته السوداء و طلب منّي أن ألبس فستانا بلون البحر .
حبست أنفاسي قبل أن يرفع الغطاء عنها، قال لي :
-أغمضي عينيك
أغمضتهما ليصيبني دوار البحر و كأنّني على ظهر سفينة ، أحسست بقرب العودة إلى الوطن ، ثمّ ارتفع صوته ليعيدني إلى المرسم:
-الآن أقدّم لك لوحتي التي قضيت شهورا في رسمها.
فتحت عيني ، ذهلت من المنظر قلت و الدهشة تكسّر جليد كلامي:
-أيعقل أنّك قضيت شهورا في هذا المرسم لترسم هذه؟
سحابات الحزن أبعدت وجهه عنّي، أبعدته كليّة ، وقف مديرا لي ظهره ليحجب عنّي اللوحة ، استدركت قائلة :
-أنا آسفة ، قدّر موقف امرأة كانت تعايش ميلاد لوحة و تتوقع بأنّها لها..هنيئا لك لوحتك.
لحظتها فقط وصلتني أصوات النوارس و هي تعبر بحره و تعيده إلى شواطئي مبتسما تمتم قائلا :
-أعرف أنّها لوحة غريبة ، لا أحد يمضي وقتا طويلا في رسم نصف وجهه.
-لا عليك عزيزي ، أتفهم رمزية اللوحة.
و وقفت أشرح له كيف أنّ ابتسامة “موناليزا” حيّرت العلماء و طرحوا السؤال: لماذا كانت نصف ابتسامة ؟ و بعد المسح الضوئي لهذه اللوحة التحفة و تحليلها ببرنامج كمبيوتر تبيّن بأنّ موناليزا كانت سعيدة 83في المائة، مشمئزة 9في المائة ،و أنّها كانت خائفة بنسبة 2في المائة .
قلت له كلامي هذا و في أعماقي يتوالد خوف كبير من نصف الوجه ذاك، عزائي الوحيد أنّ انتهاءه من رسم اللوحة يعني العودة إلى الوطن أيضا.
أعلن لي الخبر و كأنه يقدّم لي هدية على تقبّلي للوحته أو فرحة بانتهائه من رسمها.
اللوحة الآن صارت تنافسني المكان ، و الوطن صار اللامكان منذ أن عدنا.
أصبح طبق المعكرونة جاهزا، هكذا سأسحبه من عالم أجاتا كريستي
إلى تناول وجبة العشاء. توجهت نحوه ، كان غارقا في القراءة ، كان عليّ أن أناديه حتى ينتبه لوجودي:
-محمود العشاء جاهز.
ظلّت عيناه تلتهمان الصفحات و أنا متسمّرة في مكاني أمام تلك اللوحة ، أعدت ندائي : محمود ، ألا تسمع؟
و بالكاد ردّ :
-سمعتك ، لا تقلقي نفسك لا يهمّ أن أتعشى.
– وضعك هذا أصبح يقلقني.
-أي وضع تقصدين؟
-إدمانك على قراءة روايات أجاتا كريستي
ضحك ضحكة مجنونة ثمّ قال:
-بعدما أدخلوني السجن و خرجت منه لأعرف بأنّ الخارج منه سيدخل في سجن أكبر ، أفكر في الإعدام، أحتاج إلى حكم بالإعدام حقيقي.
أدركت حينها بأنّه لم يتخلّص من حالة الإحباط ،لقد عاد إلى الوطن ممتلئا بالرغبة في العمل، أعطى كلّ وقته لتلك المؤسسة . كثيرا ما قلت له بأنّنا منذ عدنا إلى الوطن و أنا أشعر بالاغتراب لكثرة غيابه عنّي ، كان مؤمنا بالنجاح و لم يكن يعرف بأنّ الخفافيش يزعجها النجاح و يشكّل خطرا على مناصبها و كراسيها ، دبّروا له المكيدة بإحكام و ألبسوه التهمة كاملة ليجد نفسه وراء القضبان .
خمس سنوات سجن كانت كافية بأن تخلق منه نصف الوجه الآخر الذي سقط من لوحته تلك التي سمّاها ” الغريب”.
كان لا بدّ أن أصرخ أكثر ،أن أحدث ضجيجا في عالمه:
-محمود ، أرجوك يجب أن تخرج من هذه الحالة ، الحمد لله براتبي من وظيفتي حفظنا كرامتنا ، لكن رغم هذا عليك أن تخرج من عزلتك و أن تبدأ من جديد.
تعالت ضحكاته أكثر و هو يقول لي:
-من جديد، و أين يوجد الجديد؟
بحثت في زوايا اللّحظات عن منفذ من مأزق سؤاله، قلت له :
-لماذا لا ترسم، يمكنك تنظيم معارض للوحاتك.
و لم يكفّ عن الضحك الذي قطّع صوته و هو يقول لي:
-و كأنّك لا تعلمين بأنّ الفنّ لا يجلب الخبز في هذا البلد.
كان غارقا في الضحك و هو الذبيح ، و أنا لم أعد أقو على التحمّل، امتدّت يدي إلى الكتاب أبعدته عنه ، سحبته من يده و أنا أصطنع ابتسامة و أعلن له عن قراري :
- ستأكل الطبق كاملا و سترسمني أريد أن أكون النصف الآخر لوجه اللوحة.
* المجلة الثقافية مجلة جزائرية