خالد جهاد - الضمير والطبيعة

تفاجأنا الحياة على الدوام بحقيقتها التي تجمع باقتدار ما بين المتناقضات التي قد لا يخطر ببالنا تلاقيها معاً، بل واحتوائها لبعضها البعض رغم استحالة ذلك وفقاً للمنطق والفكر الإنساني الذي تناقله البشر وتلقنوا أسسه وقواعده منذ بداية الخليقة..

حيث قد نرى وجهاً مغايراً للطبيعة بعد أن تفننا في العبث بها وتخريبها وتطويعها لتناسب رغباتنا وأطماعنا التي لم يسلم منها الإنسان نفسه وكان لها على الدوام مبرراتها وأكاذيبها التي تسبقها لتضمن استمراريتها ووجودها، فكل من يتأمل سيلاحظ ترابط هذا الكون بشكلٍ لا مجال للصدفة فيه ولا يخرج عن نواميسه سوى البشر، وهذه ليست بالخاطرة أو الفكرة الفلسفية بل هي نتيجة مراقبةٍ حثيثة على مدار سنوات عرفت لحظاتٍ متشابكة من الإستغراب والحيرة والشك والملل والإثارة والخوف وحتى الاشمئزاز، حيث قد ينطق ما نخاله جماداتٍ بلغةٍ واضحة لكنها تختلف في مفرداتها ووقعها ورموزها عن تلك التي نتعامل بها فيما بيننا شرط أن نفتح قلبنا وروحنا بتواضع لهذه المعاني كي تستطيع التجلي لنا.. فبقية المخلوقات تمتاز بالكثير من الكبرياء وعزة النفس التي تمنعها من البوح أو الحديث أو الظهور أمام من ينكرها أو ينتقص منها ويشكك بها أو بوجودها..

وهو ما جعلها تنسحب بعيداً عنا لتظل في عوالمها النقية بعد أن وجدت من الإنسان ما وجدت.. فتركته لغروره وصراعاته وظلمه وأطماعه ونفاقه وتناقضه متيقنةً من عودته لأنه برغم كل جبروته لا زال ضعيفاً، فلم تفلح مظاهر الحضارة الزائفة ولا تعدد اللغات ولا الشهادات العليا التي باتت محل تباهٍ أكثر من كونها مسؤوليةً أو أمانة في جعل حياة الناس ذات معنىً وقيمة في ظل رفع الأغلبية لشعاراتٍ لا تطبقها، بدءاً من المثقفين والمتعلمين الذين بات أكثرهم يعيش في قصورٍ وهمية شيدها ليتمايز عن بقية فئات المجتمع دون أن يكون جزءًا منه ووصولاً إلى نسبةٍ ليست بالبسيطة من الفقراء أو أبناء الطبقات المتوسطة التي تحلم بمحاكاة الأثرياء والمشاهير بغض النظر عن الأفكار التي يعتنقونها والحياة التي يعيشونها والمواقف التي اتخذوها والطريقة التي وصل بها بعضهم إلى ما هو عليه الآن، متناسين بإرادتهم الجذور والأصول التي نبتت منها وجعلهم مشغولين بالوهم والسراب، فاستساغوا على مر السنين كل ما هو قبيح تحت مسميات التجديد والتطوير ومجاراة العصر وأغمضوا أعينهم عنه بل وأوجدوا له مسمياتٍ جديدة تجعله أكثر قبولاً وأقل اهتزازاً أمام أسئلة (الضمير) المشروعة في ظل ما يعيشه عالمنا كل يوم..

فالناس باتت تتساءل عن رحيل الكثير من المشاعر والجماليات في حياتنا دون أن تتساءل عن دورها في ذلك، فباتت تبحث عن الطبيعة.. هذه الكلمة متعددة الأبعاد والتي تشمل كل ما هو فطري وصادق وأصيل وتتشعب لتحيط بنا من كل جانب من جوانب حياتنا، فننشد من خلالها الراحة والسعادة بأي ثمن لكن بعد أن قتلنا كل ما أنتجته لننتمي إلى عالمٍ افتراضي لم يأخذ منا أيامنا فقط بل تركها بلا روح.. خاويةً.. فارغةً.. عاجزةً في عواطفها.. مهتزة في قيمها.. لا تملك رؤيةً واضحة عن حاضرها ولا ذكرى صادقة عن ماضيها ولا نظرة موضوعية لمستقبلها، ولا يتعدى بحثها عن ما تفتقده مجرد ديكورات أو اكسسوارات تضيفها إلى ما جنته من أفكار مادية معاصرة لن تستفيد منها حتى وإن حصلت عليها، فالعيب فينا لا في زمننا وزمننا بكل ما يحمله من سلبيات ماهو إلا ترجمةٌ ومرآة لأفعالنا واختياراتنا وقراراتنا التي اتخذناها أو تلك التي أحجمنا عن اتخاذها وصمتنا تجاهها، ارضاءاً لنزواتنا وأنانيتنا واعتقاداً منا بأن دورنا يكمن في خدمة مصالحنا ومجدنا الشخصي فقط..

ونعود لنتساءل اليوم لمَ نحن تعساء فيما نحارب كل ما هو حقيقي ونتجاهل كل نداءٍ وصوت يدعونا إلى الشعور ببعضنا وتقدير ما نملكه قبل أن نندم، ولعل مراقبتنا لحياة وسلوك أي كائن أو حيوان نراه (لا يعقل) قد تكون كفيلةً بأن تلهمنا شيئاً من إنسانيتنا التي سقطت منا في رحلةٍ لم تتعلق فيها قلوب أكثرنا سوى بالمال والضوء والشهرة، فكانت حرباً على الطبيعة أوصلتنا إلى ما نعيشه اليوم من حربٍ متواصلة على الإنسان في كل مكان بدءاً من فلسطين ووصولاً إلى أقاصي الأرض..

خالد جهاد..

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى