د. أحمد الحطاب - ما المقصود من "ولكنَّ أكثَرَ الناسِ لا يعلمون" في القرآن الكريم؟

جُملة "ولكنَّ أكثَرَ الناسِ لا يعلمون" موجودة في كثير من آيات القرآن الكريم. من بين هذه الآيات، أخصُّ بالذكر :

1.يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ اللَّهِ وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (الأعراف، 187).

2.وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (سبإ، 28).

3.لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (غافر، 57).

4.قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلَىٰ يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (الجاثية، 26).

بدون أدنى شكٍّ أن كلَّ كلمةٍ تتضمَّنها آياتُ القرآن الكريم لها سِياقٌ خاصٌّ بها. وبالتالي، لا يمكن تفسيرُها أو تأويلُها خارجَ هذا السِّياق. وهذا التَّفسير أو التَّأويل قد يتغيَّرُ حسب موقع الكلمة في الجملة.

وهذا مثالٌ من القرآن الكريم : "يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَأْكُلُواْ ٱلرِّبَوٰٓاْ أَضْعَٰفًا مُّضَٰعَفَةً ۖ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (آل عِمران، 130). في هذه الآية الكريمة، كلمة "لا تأكلوا"، ليس لها المعنى المُعتاد، أي تناولُ الطعام أو الغذاء. بل تعني "لا تتعاطوا" الربا.

مثالٌ آخر من القرآن الكريم : "أَلَمْ تَرَ أَنَّ ٱللَّهَ يَسْجُدُ لَهُۥ مَن فِى ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَن فِى ٱلْأَرْضِ وَٱلشَّمْسُ وَٱلْقَمَرُ وَٱلنُّجُومُ وَٱلْجِبَالُ وَٱلشَّجَرُ وَٱلدَّوَآبُّ وَكَثِيرٌ مِّنَ ٱلنَّاسِ…( الحج، 18).

فهل يُعقل أن ٱلشَّمْسَ وَٱلْقَمَرَ وَٱلنُّجُومَ وَٱلْجِبَالَ وَٱلشَّجَرَ وَٱلدَّوَآبَّ تسجد لله سجودا كما يسجد البشرُ؟ السجودُ في، هذه الآية، يعني الخضوع والطاعة. لماذا؟ لأن ٱلشَّمْسَ وَٱلْقَمَرَ وَٱلنُّجُومَ وَٱلْجِبَالَ وَٱلشَّجَرَ وَٱلدَّوَآبَّ، مخلوقات مُسيَّرةٌ بإرادة الله، أي، أنه سبحانه وتعالى، هو الذي يدبِّرُ امورَها ويحدِّد أدوارَها في الكون. فهي تسيرُ بمشيئته.

بعد هذه التَّوضيحات، دعونا ننتقل إلى موضوع هذه المقالة الذي هو : ما المقصود من"ولكنَّ أكثَرَ الناسِ لا يعلمون" في القرآن الكريم؟

عندما نتصفَّح القواميس والمعاجم، نجد أن فعلَ "عَلِمَ" له مرادفات كثيرة من بينها أفعال "أدرك"، "تعرَّف"، "خَبِرَ"، "دَرى"، "رأى"، "شَعَرَ ب"، "عَرَفَ"، "عَقِلَ"، "فطن"، "فقِه"، "فهِم"، "وعى"، "تحقَّقَ"... فما هو القاسم المشترك بين هذه الأفعال؟ ولماذا نقول إن كلمةً ما مرادِفة لكلمةٍ أخرى؟

وهنا، لا بدَّ من التَّنبيه أن القرآنَ الكريمَ ليس فيه مرادفات. كل كلمة فيه لها سياقٌ خاصٌّ بها يحدٍّدُ معنهاها الثابت. فالمرادفات ليست إلا وسيلة يلجأ لها البشرُ لتحليل وتفسير وتأويل ما تحمله آياتُ القرآن الكريم من معاني. هذا من جهة، ومن جهة أخرى، كلام الله كلامٌ مطلقٌ ولا يجوز أن توجدَ فيه كلماتٌ، أي المرادفات، معانيها نسبية.

بالنسبة للسؤال الأول، ما هو مشتركٌ بين هذه المُرادِفات هو مفهوم المعرفة. إما المعرفة التي سبق أن اكتسبها شخصٌ ما، عبر تفاعلِه مع الوسط ومع الآخرين. وإما المعرفة التي يكون شخصٌ ما بصدد البحث عنها.

بالنسبة للسؤال الثاني، تكون كلمةٌ ما مُرادِفةً أو مترادِفةً لكلمةٍ أخرى، عندما يكون لهما نفسُ المعنى أو معنى متقارِب.

وكيفما كان الحالُ وسواءً تعلَّقَ الأمرُ بالمعرفة المكتسبة أو بالمعرفة المبحوث عنها، فإن الهدفَ الذي يسعى إلى تحقيقه الشخصُ الذي يريد أن "يعلمَ"، هو استعمالُ المعرفة التي يتوفَّر عليها أو تلك التي يبحث عنها لإدراك أو لفَهمِ أو للتَّعرُّف أو ليرى ما يجري حوله من أحداثٍ وظواهر ومظاهر… في حياته اليومية أو في الوسط الذي يعيش فيه. كيف يتمُّ ذلك؟

الجواب على هذا السؤال يتطلَّبُ منا الرجوع إلى مرادِفات فعل "عَلِمَ" لنلاحِظَ أنها كلَّها لها علاقة بالحواسِّ الخمس التي هي : البصر، السمع، الشم، اللَّمس والذوق، وعلى وجه الخصوص، البصر والسمع. عندما نرى أشياءً أو نسمع أصواتا أو نشم روائحَ أو نلمس أشياءً أو نتذوَّق أطعمةً، فإننا نتعرف على ماهيتِها. علما أن الحواس الخمس هي عبارة عن وسائط تجعل الإنسانَ على اتصال دائم مع ما يجري في الوسط الذي يعيش فيه.

غير أن هذه الحواس ليست هي التي تجعل الأنسانَ يدرك ويفهم ويتعرَّف… على ما يجري حوله. بل الدماغ هو الذي يستقبل ما تُرسِله له هذه الحواس من تنبيهات، ثمَّ يحلِّلها، ثم يجعل الإنسانَ يدرك، يفهم، يتعرَّف…

ورجوعا إلى عبارة "ولكنَّ أكثَرَ الناسِ لا يعلمون" التي هي جزءٌ من عنوان هذه المقالة، نجد أن أهمَّ كلمات في هذه العبارة هي : "أكثَرَ"، "الناسِ" و "لا يعلمون".

"أكثرَ" تعني أن هناك فئتين من الناس : الذين يعلمون والذين لا يعلمون. لكن الذين لا يعلمون هم كثرةٌ أو، بعبارة أخرى، هم أكثر من الذين يعلمون. ولمزيد من التًَّوضيح ، سكَّان الأرض حاليا يناهز عددُهم 8 ملايير نَسَمة. وهذا يعني، إن اقتضى الحالُ، أن أكثرَ من خمسين في المائة من سكان المعمور، "لا يعلمون".

"الناسِ" تعني جميع الناس أو كل الناس أو عالمُ البشر، بغض النظر عن كل الاعتبارات كيفما كانت. وهذا هو ما نلاحظه في الآيات الأربعة السابقة الذكر. فكل الناس معنيون بيوم القيامة. وكل الناس معنيون برسالة محمد (ص). وكل الناس معنيون بما خلق ويخلق اللهُ. وكل الناس سيموتون وسيُحييهم اللهُ ليوم القيامة.

أما "لا يعلمون"، فتعني ليس لهؤلاء الناس علمٌ بما هو مذكورٌ في آيات القرآن الكريم التي توجد فيها عبارة "ولكنَّ أكثَرَ الناسِ لا يعلمون". وما قيلَ عن كلمة "أكثرَ"، ينطبق كذلك على هذه الكلمة.

وهذا هو ما نلاحِظه في الآيات الأربعة السالفة الذكر. فكثيرٌ من الناس لا يعلمون أن الساعةَ، أي القيامة عِلمُها عند الله وأنها تأتي بغتةً، أي فجأةً وبدون سابق إنذار. وكثيرٌ من الناس يجهلون أن النبي والرسول محمد (ص) بُعِثَ للبشرية جمعاء. وكثيرٌ من الناس لا ينتبهون لِعَظَمَةِ الخالِق في مخلوقاته. وكثيرٌ من الناس يشكِّكون في يوم البعث.

بعد هذه التَّوضيحات، آن الأوانُ للإجابة عن السؤال الذي هو عنوان هذه المقالة : ما المقصود من "ولكنَّ أكثَرَ الناسِ لا يعلمون" في القرآن الكريم؟

أولا، هذه الجُملةُ تُؤكِّد تأكيدا قاطعا أن اللهَ سبحانه وتعالى هو، وحده، الذي يعلم ما لا يعلمُه البشرُ مهما بلغت درجتُهم في المعرفة والعلم ولو كانوا موسوعيين، مصداقا لقوله، عزَّ وجلَّ : "...يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ… (البقرة، 255). وعِلم الله، في هذه الآية، هو العٍلم بمفهومِه الواسع الذي يشمل علمَ كل شيء. وليس العلمُ الذي سجنه الفقهاء في كلِّ ما له علاقة بالدين الإسلامي. و"بما شاء"، في هذه الآية الكريمة، تعني أن ما عرفه الناسُ في الماضي ويعرفه الناسُ في الحاضر وما سيعرفُه الناسُ في المستقبل، هو فضلٌ من الله ومرتبطٌ بإرادتِه ومشيئتِه.

ثانيا، قد يقول قائلٌ : ما دام اللهُ، بإرادةٍ منه، هو الذي يتيحُ للناس ما عرفوه في الماضي وما يعرفونه في الحاضر وما سيعرفونه في المستقبل، فالناسُ، الذين تمَّ ذكرُهم في الآيات القرآنية التي تتضمَّن "وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ"، لا حرجَ عليهم لأن اللهَ هو الذي أراد أن "لا يعلمون". وهنا، أنا شخصيا، أقول لا ثمَّ لا. لماذا؟

لأن اللهَ، سبحانه وتعالى، فضَّل البشرَ على جميع مخلوقاتِه بالعقل. وبواسطة العقل، بإمكان البشرِ أن يبحثوا عن المعرفة وعن العلم. وهذا هو ما يحدث في جميع أنحاء العالم، إما بطريقة مُنظَّمة ومنهجية في مختبرات ومراكز البحث، وإما عن طريق التَّعليم والتَّعلُّم، وإما عن طريق وسائل الإعلام… لكن، هل كل الناس مُتاحةٌ لهم هذه الفُرصُ للبحث عن المعرفة؟ بالطبع لا ثمَّ لا! لماذا؟

لأن الإدراكَ والفهمَ والتَّعرُّفَ، أشياءٌ لا يمكن أن تنطلقَ من فراغ، بمعنى أن الدماغَ الفارغة لا يمكنها أن تُدركَ وتفهمَ وتتعرَّفَ. وهذا يعني أن الشخصَ الذي يريد أن "يعلَمَ"، لا بدَّ أن تتوفَّرَ لديه، مسبقا، معارفٌ وتجارب وخبرات وتمرُّس ودراية…

والمعارف والتجارب والخِبرات والتًّمرس والدراية… هي التي أدت وتؤدِّي إلى تصنيف الناس إلى فئتين : "الذين يعلمون" و "الذين لا يعلمون". فمَن هم "الذين لا يعلمون"؟ قد يقول قائل هم أصحاب الدماغ الفارغة. وأنا أقول : منطقيا، لا وجودَ للدماغ الفارغة. لماذا؟

لأن الإنسان منذ ولادتِه يكتسب نوعا معينا من المعارف، وكلما تقدَّم في السن، كلما زادت معارفُه واكتسب التجاربَ والخِبراتِ والتَّمرسَ والدرايةَ. فمَن هم إذن "الذين لا يعلمون"؟ إنهم، بكل بساطة:

-الأميون الذين، رغم توفُّرهم على عقول، لا يبحثون عن مزيد من المعرفة والوعي والإرشاد والموعظة…؟ إما كُرهاً أو طواعيةً. وبكل غرابة، نِسَبُ الأمية مرتفعةٌ في البلدان الإسلامية.

-الناس الذين لديهم كلُّ ما يلزم ليعلموا، لكنهم، بمحضِ إرادتهم، لا يُريدون أن يعلموا.

-الناس الذين يريدون أن يعلموا، لكن لا أحدَ أوصل لهم كلامَ الله واطلعهم على رسالاتِه السماوية.

-الناس الذين يُنكرون كلامَ الله ولا يعترفون بوجوده، أي الملحِدون. وعلى ذكر الملحدين، لن يستطيعَ أي ملحد وأية ملحِدة أن يبيِّنَ/تبيِّنَ، بالأدلَّة القاطعة، عدمَ وجود الله.

-المسلمون وأهل الكتاب غير المؤمنين.
-الناس المسلمون الذين لا يقرأون كتاب الله، وإن قرأوه، لا يعملون بآياته، مصداقا لقوله سبحانه وتعالى : "وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَٰذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا (الفرقان، 30). "مهجورا" يعني متروكا لا من حيث القراءة والفهم والإتِّعاظ. وفي هذا الصدد، كثيرون هم المسلمون الذين هجروا القرآنَ الكريمَ. بل هم كثيرون المسلمون الذين لا يرون في القرآن الكريم إلا نيلُ "البركة" من خلاله. فتراهم يعلِّقونه في سياراتهم، في بيوتهم، في مكاتبهم، في مقرات عملهم… لكنهم لا يقرأونه إلا في شهر رمضان، علما أن هذه القراءة هي فقط قراءة بدون تدبُّر…

-الناس الجاحدون لقدرة الله وقوته وعظمته.

-الناس الذين يؤمنون بالخرافات والأساطير والخُزعبلات والشعودة والسحر… ويتَّخذون بشرا أولياءَ من دون الله...

أرأيتم لماذا قال سبحانه وتعالى "وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ"؟ وفي هذا الصدد ليس من المبالغ فيه إذا قلنا، كما سبق الذكرُ، أن أكثر بكثير من نصف سكان الأرض الحاليين، بما فيهم شريحة عريضة من المسلمين، لا يعلمون ما قاله ويقوله الله في الآيات الكريمة المتضمِّنة ل"وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ". بل لا علمَ لهم بما وردَ من كلام إلهي في القرآن الكريم.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى