د. محمد عبدالله القواسمة - رواية "ليلة عسل.." لمؤنس الرزاز في دائرة الذكرى

أذكر أني التقيت الروائي مؤنس الرزاز(1951-2002)عندما كان يعمل في وزارة الثقافة، وقدم لي مخطوطة روايته "ليلة عسل: عن الرجل الذي انتهت حياته قبل أن يموت" لمراجعة لغتها وبنائها، وإبداء الرأي فيها من الناحية النقدية؛ ليتدارك ما فيها من نقص قبل نشرها من قبل المؤسسة العربية للدراسات والنشر، التي كانت تتولى نشر أعماله.

أسرعت في قراءة المخطوط وضمنته ملاحظاتي النقدية، وبعض التصحيحات اللغوية، لكن لم يستقر في عقلي أن أكتب عن الرواية حتى بعد صدورها؛ فلم أشأ أن تتسرب أفكاري التي أثارتها "ليلة عسل.." إلى مؤنس فأحزنه، وبخاصة ما كنت أعرفه عما يقاسيه في ذلك الوقت من مشاعر الإحباط والكآبة. فاكتفيت بما كتبته من قراءات في جريدة "الرأي" عن رواياته الأربع: "الشظايا والفسيفساء"، و"مذكرات ديناصور"، و"سلطان النوم وزرقاء اليمامة" و"عصابة الوردة الدامية" وقد صدرت كلها في كتابي "الخطاب الروائي في الأردن"2000م.

أما الآن فأعود ضمن دائرة الذكرى للكتابة عن تلك الأفكار والتوقعات التي نشبت في ذهني بعد قراءتي مخطوط رواية" ليلة عسل.." بمناسبة مرور أربعة وعشرين عامًا على صدورها، واثنين وعشرين عامًا على وفاة مؤلفها.

لقد شعرت بعد انتهائي من قراءة المخطوط قراءة متأنية بالحزن الشديد؛ لما طاف في عقلي من أفكار أثارتها تلك القراءة لرواية قصيرة هي أقل روايات مؤنس حجمًا؛ إذ تقع في اثنتين وسبعين صفحة من القطع المتوسط، وملخص تلك الأفكار أني وجدت رواية "ليلة عسل.." تنبئ بنهاية مشروع مؤنس الروائي وبنهاية مؤنس نفسه. إنها بمنزلة إعلان عن تينك النهايتين.

هي نهاية مشروع مؤنس الروائي لأنها تخالف روايات مؤنس الرزاز السابقة كلها ليس في حجمها فحسب، بل في بنيتها الفنية والفكرية واللغوية أيضًا. فالمعروف أن رواياته منذ بداية مشروعه الروائي الذي بدأ عام 1982 بصدور روايته" "أحياء في البحر الميّت" (1982)، مرورًا بروايتيه "اعترافات كاتم صوت" (1986)، و"متاهة الأعراب في ناطحات السراب" (1986) وانتهاءً بروايته "حين تسقط الأحلام"(1997) - تتمرد على الشكل التقليدي للرواية؛ فبناؤها يقوم على التشظي في الأحداث، والعجائبية في السرد، والانحراف في الزمن، والغموض في الشخصيات. ووجود تناقضات ومفارقات وتضادات في عناوين رواياته كلها. لننظر ذلك في عناوين:" متاهة الإعراب في ناطحات السحاب" و"الشظايا والفسيفساء"، و"سلطان النوم وزرقاء اليمامة" وغيرها.

فلا غرابة في ذلك؛ فما مؤنس إلا امتداد للروائيين الرائدين في الرواية الحداثية على الساحة الأردنية، وهما: غالب هلسا، وتيسير السبول. الأول في رواياته السبع وبخاصة: "الضحك"، و"البكاء على الأطلال"، و"ثلاثة وجوه لبغداد"، والثاني في روايته الوحيدة "أنت منذ اليوم".

بخلاف روايات مؤنس كلها رواية "ليلة عسل.." فجاءت تقليدية البناء، وفي لغة واضحة، وتسلسل زمني ومنطقي محكم، تقدم حكاية ذات أحداث واقعية، لها مقدمة ووسط ونهاية، فلا تساير رواياته الأخرى إلا في العنوان " ليلة عسل: عن الرجل الذي انتهت حياته قبل أن يموت". حيث نجد فيه هذه المفارقة والتنافر اللغوي.

وتحكي الرواية عن شخصية رجل أعمال في الخمسين من العمر، يدعى جمال البيك، وهو رب أسرة من زوجة وابن وابنة، ويعاني لانشغال من حوله بأعمالهم، من الفراغ والملل رغم ثرائه الواضح الذي يجعله على أعتاب الطبقة الغنية، فيقرر أن يتزوج لارا الفتاة الصغيرة، ويذهبان في رحلة شهر العسل إلى باريس، وهناك تنشب الخلافات بينهما، فيعودان إلى عمان، وفيها ينفصلان لعدم التكافؤ والانسجام، ويعود جمال بيك إلى حياته السابقة.

لا شك في أن هذا التحول المفاجئ في طريقة السرد، وتناول الأحداث، وبناء الشخصيات، وفي طرح حكاية جمال بيك، بصورة تشبه في جوانب كثيرة منها شخصية مؤنس نفسه - يمثل التراجع عن مشروع مؤنس الروائي ضمن ريادته للحداثة الروائية، أو الأصح بشي بتوقفه عن كتابة الرواية، وهذا ما ظهر عندما بدأ بكتابة نوع من السيرة على شكل اعترافات، كما فعل القديس أوغسطين والفيلسوف جان جاك روسو.

فإذا شكل التوقف عن الكتابة الروائية انتهاء مؤنس روائيًا فإن كتابة الاعترافات، أو ما سماه السيرة الجوانية شكل بداية نهايته البيولوجية. كما أوضح ذلك في بيان السبب الذي من أجله كتب المذكرات من خلال مقتطع من اعترافاته التي اطلع عليها الكاتب جعفر العقيلي، وكتبها بمجلّة أفكار (ع 301، ص 97) يقول المقتطع: " السبب الرئيس الذي يدفعني إلى كتابة اعترافاتي يكمن في التقاط حاستي السادسة مؤشرات خفيّة تشير بشكل شبه قاطع إلى أنني سوف أفارق هذه الدنيا، وأنتقل إلى الرفيق الأعلى ما بين عام 2000 وعام 2007" وهذا ما حدث إذ توفي في الثامن من شباط عام 2002.

هكذا أيقنت بعد قراءتي رواية "ليلة عسل.." بأن مؤنس قد توقف قلمه الروائي عام 2000م مع صدور هذه الرواية؛ فقد قال كل شيء ولم يعد في جعبته ما يقوله في هذا الجنس الكتابي، الذي حلق فيه، وما كتبه بعد ذلك لم يكن غير وداع للحياة، شأنه شأن كثير من الأدباء، خاصة من بحساسية مؤنس الرزاز عندما تفتر عزيمتهم في الإبداع تفتر همتهم في استقبال الحياة وتقبلها. وفي ذلك اقتراب من النهاية المحتومة.

وربما يحق لي التساؤل في النهاية هل كانت قراءتي لرواية" ليلة عسل.." موفقة؟ هل يصح التنبؤ بمآلات الروائي استنادًا إلى ما جاء في رواياته؟ هل كنت على صواب حين بدأت الحزن على مؤنس عند صدور روايته تلك؟

على كل حال ستظل رواية "ليلة عسل.." في دائرة الذكرى.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى