د. محمد عبدالله القواسمة - 2/2 الرواية والسياسة

2/2

أما عن نشأة العلاقة بين الرواية والسياسة فنلاحظ أنها بدأت مع نشوء الرواية في الغرب ففي رواية "دون كيشوت" لسرفانتس التي نشرت في جزءين بين أعوام 1605 و1615عام نجد تلك القطيعة بين العصر الإقطاعي عصر الفرسان، والدخول في عصر النهضة عصر العقل والتنوير، عصر ديكارت وجون لوك. ونجد السخرية من الفروسية والأديرة وطقوسها، ورفض محاكم التفتيش ودمويتها، حتى إن دون كيشوت يعترف وهو على فراش الموت بأنه كان مجنونًا وعاد إلى عقله وإلى اسمه الحقيقي ألونسو كيخاتو.

أما بعد ذلك فقد دخل الغرب في العصر الحديث في صراع إيديولوجي وسياسي بين الرأسمالية والواقعية الاشتراكية. حتى غدت الرواية المعاصرة تعبر، كما يرى الناقد الماركسي جورج لوكـاش عن تناقضات المجتمع البورجوازي وصراعه مع الطبقات الاجتماعية المعارضة. ويرى الناقد الفرنسي لوسيان جولدمان بأنها غدت بحثًا عن القيم الأصلية في مجتمع يتصف بضياع الإنسان وسيطرة قيم السوق والتشييء والاغتراب والاستلاب.

هكذا ظهر دور الرواية الروسية في كشف مشاكل الواقع من فقر وبؤس واستغلال، مثل:"الأم" لجوركي، و" الجريمة والعقاب" لدوستويفسكي، و" دروس الآلام" لتولستوي. كما عبرت الرواية الغربية في أمريكا وأوروبا عن الأوضاع السياسية في تلك البلاد، نذكر منها رواية "المحاكمة" لكافكا التي تنتقد الإجراءات الحكومية وفساد دوائرها، ورواية جين ماير "المال الأسود" التي تفضح فساد الحكومة في أمريكا والتفاوت الطبقي.

أما الرواية العربية السياسية فظهرت كما عند الغرب مع نشأة الرواية العربية قبل الحرب العالمية الثانية في بلاد الشام ومصر، وليس، كما يرى، حسين مروة بأنها ظهرت بمصر في ستينيات القرن الماضي مع بداية النضال ضد الاستعمار. فقد ظهرت رواية "عودة الروح" لتوفيق الحكيم التي كان لها تأثير في فكر عبدالناصر عام 1933م، ثم رواية "كفاح طيبة" 1939 لمحفوظ التي استلهمت التاريخ الفرعوني لمقاومة الإنجليز.

بدت الرواية العربية السياسية أداة للوعي والتغيير، فتناولت القضايا العربية وبخاصة قضية التحرر من الاستعمار، وقضية فلسطين والنكسة، والإرهاب والربيع العربي. فعلى سبيل المثال تناولت رواية "الريح الشتوية" 1977 لمبارك ربيع معاناة الإنسان العربي من ظلم المستعمر الفرنسي، وأظهرت رواية ثلاثية نجيب محفوظ مقاومة الشعب المصري للمحتلين الإنجليز، ورواية "رجال في الشمس" مأساة الإنسان الفلسطيني وتشرده بعد ضياع وطنه، ورواية"أصوات في المخيم" تناولت القضية الفلسطينية منذ النكبة حتى هزيمة حزيران 1967م، ورواية "شرق المتوسط " لعبدالرحمن منيف تحدثت عن التعذيب الوحشي في السجون. كما صورت الرواية العربية ما يجري في فلسطين المغتصبة مثل رواية" ليل الضفة الطويل" و"غيوم على الشيخ جراح" ، كما عبرت الرواية العربية عن قضايا الإرهاب مثل رواية "سوق الإرهاب"، وعالجت أحداث الربيع العربي مثل "وداعًا ساحة النخيل"، التي صورت الحراك العربي في حركته البائسة نحو التغيير. وبرزت الرواية القومية في روايات صنع الله إبراهيم وواسيني الأعرج وإلياس خوري وغيرهم.

هكذا كان للرواية السياسية الدور المهم في التغيير السياسي والاجتماعي، والتعبير عن طموح المجتمع وأزماته. وفي إنارة الطريق للجماهير والسياسيين، ورسم طرق الخلاص لهم. من خلال رصد التأثير المتبادل ين الأفكار والأحداث السياسية وبين العوالم الحميمة والخاصة للشخصيات، فكما يرى جورج أورول مؤلف رواية" 1984"، ورواية "مزرعة الحيوان" بأن الرواية تصور عوالم ممكنة تتجاوز الخطاب السياسي والإعلامي.

لكن مع هذا الدور الذي تقوم به الرواية فإنها مثل الأجناس الأدبية الأخرى والفنون لا تغير العالم، إنها تسائله وتفككه، فرواية "الشياطين" لدوستيفسكي، على سبيل المثال، كما يرى إيرفينغ هاو لن تجعل اشتراكيًا يتراجع عن أفكاره بعد قراءتها، ويوصي الناقد الأمريكي جوزيف بلونتر Joseph Blotner. في كتابه "الرواية السياسية" بعدم توظيف الرواية الأقنعة التراثية والمجازية والتاريخية للتعبير عن القضايا السياسية بل عليها بأن تطرح الخطاب السياسي بوضوح دون مجاز أو رمز، وهذا لا ينطبق على الرواية السياسية في البلاد العربية والسلطوية؛ فلا بد من لجوء المؤلف إلى الرموز والأقنعة التاريخية حتى لا يتعرض للمساءلة والتعنيف.

وبعد فإن الرواية السياسية تجعل الإنسان مدركًا ما حوله، وأكثر فاعلية في تغيير مجتمعه، وأقدر على التعبير عن تجربة المنفى، وحقوق الناس، والتنديد بالاستبداد، وعلى السخرية من ضعف العرب، والركون للهزيم والتخاذل. وهي الأداة المناسبة في توعية الناس وتفهم واقعهم وتنويرهم وتحريضهم على التغيير إلى الأفضل، وهي تنجح في مهمتها بقدر ما تبتعد عن المباشرة، وتكون صادقة في التعبير عن الحياة ومفعمة بالأحلام والآمال.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى