أدب مغربي قديم في الأدب المغربي القديم : إدريس الكتاني - من العوائد المغربية الممتازة.. سلطان الطلبة بمناسبة تتويجه في ربيع هذا العام

سيبدو هذا العنوان غريباً عن إخواننا في الشرق. وليس عجيباً هذا، فالمغرب نفسه - لا تاريخه فحسب - غريب في نظر بعض الشرقيين عن الشرق. أما نحن هنا فليس منا من لا يعد المغرب قطعة من الشرق العربي، وجزءاً لا يتجزأ من الجامعة الإسلامية الكبرى. فعسى أن يعمل إخواننا الشرقيون على هذا الاعتبار، ويقلعوا عن تجاهلنا وتناسينا في وقت نجعل نحن فيه الشرق - ومصر في الطليعة - محط أنظارنا وكعبة معارفنا؛ ونتطلع إليه كالمنحط في أسفل الوادي يروم معزوفة ما فوق الروابي التي تعلوه

عفا الله عنا وعنكم يا إخواننا المصريين! كلانا مقصر نحو أخيه ولكن ما عذركم أنتم - وقد أتيح لكم أكثر من ذي قبل - أن تقولوا وتعملوا عملاً صالحاً، وأن تمدوا يد الإسعاف لهذا الشرق العاني فتوقظوه من غفوته؟ إن اليد الضعيفة مع أختها يد قوية، وهي مع أخواتها الضعيفات أشد وأقوى. قد والله نعقل كثيراً ولكننا لا نعمل إلا ونحن جهلاء. . . عفا الله عنا. . . في تاريخ الحياة العلمية بالمغرب الأقصى ما يجعل المغاربة دائماً يفخرون بأمجاد الأجداد، ويعتزون بما خلفه ملوك العرب وأمراء الإسلام من المآثر الحميدة بهذه البلاد العربية الإسلامية. وفي الحق أن الدول التي تعاقبت على المغرب لا يخلو تاريخها من حسنات شتى في مصالح البلاد العامة. وكم تجد لهم في خصوص النواحي العلمية من اهتمام خاص بالعلم والعلماء والأدب والأدباء؛ ولكن الذي يؤسف له حقاً أن الكتب التاريخية لا تزال حتى الآن موضوعة على الرفوف أو مدفونة في الخزائن تلعب بها الأيدي الجاهلة إذ تتركها غذاء للأرضة، وملعباً للخنافس والعناكب

وليس يهمنا الآن أن نلم بجميع ما لتلك الدول من المفاخر الخاصة بنشر التعليم وتشجيع طلابه، فهذا ما يملأ كتباً عدة، وحسبنا من ذلك أن نأتي بوصف أحد تلك المظاهر (الممتازة) فهذه وحدها دليل ساطع على الشعور الكامن من قديم في نفوس ملوكنا نحو بعث التعليم ونهضة الحياة العلمية. ويلاحظ على الخصوص في هذه الظاهرة مبلغ تعمق ملوكنا في فهم نفسية رعاياهم، وكيف ينفذون إلى قلوبهم فيملكون إحساسها بعبقريتهم الفذة. . .

في ربيع كل عام من بدء ثلاثة قرون مضت يقيم طلاب العلم بفاس ومراكش (سلطنة) رسمية لها أبهة السلطان وجلال العلم، تدوم سبعة أيام؛ ثم في اليوم الثامن تتقوض وتنهار ويعود سلطان الطلبة بعد سلطنة أسبوع طالباً عادياً كما كان قبل أسبوع فقط!

هذه أدوار فكاهية طريفة تقوم بها الحكومة المغربية رسمياً في أواخر فصل الربيع من كل سنة، وهي عادة يلذ للسائح الأجنبي أن يشاهدها ويسجل شتى مظاهرها، وقد تسلسل العمل بها منذ القرن الحادي عشر دون أن يحدث ما يمنع سيرها المعتاد

والحديث عن هذه السلطنة تجره إلى أفواه الطلبة طلائع أيام نيسان التي تتفتح فيها الطبيعة عن أكمامها، وتبتسم الأغصان عن أزهارها، وتحلو الحياة لأبنائها

فإذا هجم نيسان نشوان طروباً يجر أثوابه الخضراء اليانعة، هب طلبة القرويين بفاس وطلبة الكلية اليوسفية بمراكش. يطلبون من جلالة الملك الإذن لهم في إقامة سلطنتهم السنوية. وعند الترخيص لهم بذلك يجتمعون على انفراد بإحدى مدارسهم التي يسكنونها، ثم يقوم (مقدم) المدرسة منادياً ببيع (سلطنة الطلبة) بالمزاد العلني، ولكل طالب الحق في أن يبتاعها لنفسه مادام يستطيع أن يزيد في ثمنها على غيره، فإذا انتهت فيها الرغائب ووقف ثمنها على طالب ما، سجل العدليان الشرعيان اللذان يحضران هذا المزاد هذا البيع على الطالب المشتري، ثم ينفض جمع الطلاب معلنين سلطانهم. أما ثمن هذه (السلطنة) فيتراوح غالباً بين 10000 و 5000 فرنك. ويلاحظ أن شراءها خاص بالطلبة الغرباء عن البلد محظور على غيرهم. ولعل هذا الامتياز قصد إليه لترغيب أهالي البادية والحواضر النائية في ورود منهل العلم من كليتي القرويين وابن يوسف، وتشجيعهم عليه بإدخال أسباب الغبطة والانشراح إلى صدورهم

أما مهمة هذه (السلطنة) فهي قيام (سلطان الطلبة) على رأس رعاياه في موكب رسمي حافل، بنزهة على شط وادي الجواهر بضواحي فاس وهذا الموكب في هيئته المؤلف منها صورة مصغرة لموكب صاحب الجلالة ملك المغرب مولاي محمد الخامس أيده الله

ويقوم (سلطان الطلبة) على أثر تعيينه بتأليف هيئة حكومته من نخبة أصدقائه الطلاب ومن بينهم وزير للمالية ومحتسب بارع في الهزل والنكات الفكاهية

وفي أول جمعة تلي ذلك ترسل الحكومة المغربية لسلطان الطلبة كسوة فاخرة وتقوم بتنظيم موكبه الرسمي. وعند الساعة الحادية عشرة يتحرك هذا الموكب من المدرسة التي يتفق أن سلطان الطلبة ساكن بها، فيركب هو جواداً مطهماً وترفع المظلة الملكية (الشمسية) فوق رأسه ومن حوله الحراب تحملها الشرطة، وتتقدمه موسيقى عسكرية ثم قواد (المشوَر) فرساناً حاملين السيوف، وتتلوه حاشيته وجمهور غفير من رعاياه الطلبة مشاةً على الأرجل، ثم أصحاب الطبول والمزامير، ويحيط بالجميع من اليمين إلى الشمال سلسلتان من الشرطة والعسس ومقدمي الحارات ويخترق الموكب الأزقة والشوارع سائراً بين أمواج صاخبة من الأهالي إلى أن يصل إلى جامع الأندلس فيؤدي السلطان به صلاة الجمعة. ثم يتابع الموكب سيره لزيارة ضريح السلطان الأعظم مؤسس عرش الدولة العلوية الشريفة المولى الرشيد سنة (1040 - 1083 هـ) بداخل قبة الشيخ أبي الحسن علي بن حرزهم بمقبرة الغرباء خارج باب الفتوح، وهذا السلطان هو الذي سن للطلبة هذه (السلطنة) وحباهم بعطفه الكبير فهم يزورون ضريحه أولاً قياماً بواجب شكره وتذكاراً لعهده اللامع. وعند المساء بعد صلاة العصر يعود موكب (سلطان الطلبة) من حيث أتى بينما الوجوه تطفح بشراً، والنساء يملأن السطوح بزغاريدهن المازحة العابثة

وفي عشية اليوم التالي يخرج (سلطان الطلبة) في موكبه الرسمي كهيئته الأولى قاصداً إحدى ضواحي المدينة حيث ضربت خيام (دولة الطلبة) بسهول خضراء على ضفاف وادي الجواهر يتوسطها سرادق كبير لسلطان الطلبة وحاشيته. وتقدر هذه الخيام بنحو المائة غالباً خمسون منها للحكومة، وهذه خاصة بالطلبة تضم كل منها جماعة من بينهم، وباقي الخيام للأهالي الذين يلذ لهم أن يقضوا نزهتهم الربيعية بجوار (دولة الطلبة) التي تعيش أسبوعاً واحداً، وقد يرخص لها بزيادة أسبوع آخر.

وتقوم واردات الميزانية العامة لهذه (الدولة) المحدودة بالزمان والمكان من:

1 - ثمن (السلطنة) الذي يدفعه (سلطان الطلبة) على أن تتعهد له الحكومة في مقابل ذلك بإجابة طلب يتقدم به إليها كإطلاق سراح مسجون له، أو جعله موظفاً في بعض الإدرات ونحو هذا.

2 - الهدايا التي يقدمها جلالة الملك إلى الطلبة باسم سلطانهم، وتتكون هذه عادة من الأكباش وأكياس الحنطة وأكياس من السكر وغيرها، ومن المال أيضاً.

3 - الهدايا التي يتقدم بها الأهلون إليهم عن طيب نفس.

4 - الضرائب التي يجبيها (سلطان الطلبة) من وجوه البلاد وتجارها بواسطة (ظهائر) موقعة بإمضائه والتي يؤديها هؤلاء بكل سرور.

5 - (الذعائر) التي تجمع بواسطة (محتسب) سلطنتهم الماجن الذي يرتدي حلة في شكل مضحك، ويجعل في عنقه سبحة من التين يلتهم منها الواحدة بعد الأخرى من حين إلى آخر، ثم يتجول في شوارع المدينة راكباً بغلة، وواضعاً في حجره صندوقاً مغلقاً يظل يملؤه - من ثقب فيه - بالفرنكات والريالات (كذعيرة)* يفرضها على التجار والبقالين بزعم أنه وجد في مبيعاتهم غشاً يعاقب على ارتكابه

وفي خلال أسبوع هذه (السلطنة) ينصرف الطلاب جميعاً للمرح واللهو بقلوبهم وعقولهم معاً، ويقبلون على حياة بعيدة عن حياة الجامعة فيها متعة النفس وصفاء الحديث وطرب القلب.

فإذا مضت ستة أيام وأقبل يوم الأربعاء، تهيأت (أمة الطلبة) حكومة وشعباً لاستقبال جلالة الملك أو خليفته - إن لم يكن هو في البلد - الذي يشرف مملكتهم الصغيرة في موكب عظيم ليقدم لهم هداياه الخاصة، وفي العشية ينتظر (سلطان الطلبة) مع هيئة حكومته سلطان المغرب المفدى؛ حتى إذا لاح موكبه عن قرب ترجل الأول عن فرسه. وتقدم إلى السلطان الأعظم مطأطئاً رأسه، فيقبل يده الكريمة، ويرفع إليه الكتاب المتضمن طلبه الخاص الذي يؤمل من جلالته الأمر بتنفيذه، ثم يرجع إلى الوراء فيركب فرسه، ويتقدم إلى أن يقف قريباً منه

وهنا تتمثل لنا الديمقراطية الحق في ملوكنا الذين ورثوها كابراً عن كابر. ففي هذه الساعة يتنازل (سلطان المملكة المغربية) فيتحدث إلى (سلطان الطلبة) بكل تواضع حديثاً تمليه العاطفة، وتوحيه الرغبة الصادقة في بعث النهضة العلمية. وفوق ذلك يتنازل لسماع حديث دعابة ومزاح ممتع من محتسب سلطان الطلبة الحاذق في الفكاهة والمجون. فإن هذا يتقدم من جلالة الملك ويخاطبه بصوت جهوري أمام ألوف من الناس بنحو قوله: كيف استطعت وأنت ملك كسائر الملوك العاديين أن تقف بجانب أكبر ملك في الدنيا تخضع لأوامره ملايين من القمل والذباب والضفادع والبراغيث وغيرها من الهوام والحشرات؟ فيرد عليه جلالة الملك بنكتة رقيقة تمثل سمو الهزل عند الملوك، ويسارع سلطان الطلبة فيعرب عن قبوله لجلالته ضيفاً في مملكته ويرحب به باسم أمته أكبر الترحيب. ثم يقوم المحتسب الماجن فيلقي أمام السلطانين ورعاياهما خطبتين ضاحكتين عابثتين في الإشادة (بالزردة) والتنويه بالأطعمة الفاخرة

وعند الفراغ من هذه المظاهرة الرائعة يستأذن جلالة الملك من سلطان الطلبة في الرجوع فيأذن له بعد أداء الاحترام الواجب ويعود جلالته في موكبه الفخم إلى قصره العامر

وفي الجمعة التالية يقوم سلطان الطلبة في موكبه بأداء صلاة الجمعة في جامع أبي الجنود، ثم يرجع لمقر دولته التي لا يبقى على انهيارها إلا يوم واحد. ففي مساء اليوم التالي يكون الطلبة على أهبة الرجوع لمدارسهم حيث تستأنف الدراسة بالكلية صباح يوم الأحد

ويدهشك بل يغريك بالضحك الذي لا تملك معه نفسك أن تجد الطلاب صباح يوم السبت يبحثون عن سلطانهم فلا يجدونه. لقد فرَ ليلة هذا اليوم مختفياً بين غضون ظلامها القاتم خوف أن يصبح على أبواب ثورة عامة من رعيته التي يلذ لها أن تنقض عليه يوم انتهاء سلطنته حتى لا يدخل إلى نفسه شيطانها فيوهمها أنه حقاً (سلطان الطلبة) وأن واجباً عليهم أن يخضعوا له ويقروا بسلطانه عليهم

هذه هي الرواية التمثيلية التي ألفها السلطان (مولاي الرشيد) لطلبة العلم وبعثهم على تمثيلها بأنفسهم كل سنة على مسرح الحياة لكي يعطيهم درساً عملياً في التدريب والتمرين على أن يكونوا رجالاً أكفاء مقتدرين لهم ما للناس في الحياة من حق

وفي ظني أنه لو كان معروفاً لدى حكومتنا الماضية نظام الكشافة الحديث، لما جعلوا غير الفرق الكشفية مع موسيقاها العذبة جنداً وحراساً لموكب (سلطان الطلبة) حرصاً على أن يكون المظهر طالبياً بحتاً، يمثل أمة في الطلبة بسلطانها وجندها وموسيقاها، وفي هذا وحده من الروعة والمظهر الجذاب ما يشوق الأبناء إلى التعلم ويبعث الآباء على تشجيعهم عليه بالبذل والسخاء. أما الآن، فالمستقبل كفيل بأن يكون هذا وأكثر من هذا. وعسى أن ينتبه الطلبة من الآن إلى هذه النقطة الدقيقة فيؤلفوا من بينهم فرقاً كشفية تقوم بهذه المهمة، فوق أنها تكون عضواً عاملاً في النهضة المغربية الحديثة.

هذه رواية ناطقة أتينا على وصفها معتمدين على ما شاهدناه، وسمعناه، لا على ما قرأناه. فإن تاريخ نشوء هذه (السلطنة) والأسباب التي دعت إليها ووصف مناظرها وظاهرها المتنوعة، كل هذا طواه الزمن في مهملات التاريخ. وما أكثر ما أهمله التاريخ وليت شعري ما الذي حدا بالمؤرخين المغاربة إلى عدم الاكتراث بهذه المنقبة الخالدة؟ أكبر الظن عندي أن هؤلاء اطمأنوا إلى بقائها وخلودها مشاهدة أكثر من اطمئنانهم إلى بقاء مؤلفاتهم التاريخية فاعتمدوا على ذلك ولم يكتبوا ومن يدري؟ فلعلهم كتبوا وأضعنا نحن فجهلنا، وأيَاً كان الأمر فإن اطمئنانهم إلى بقاء (سلطنة الطلبة) قد صدق وسيبقى صادقاً إلى الأبد. ولا أنكر فهناك في بعض الكتب لمحة برقية وعلى الأفواه أسطورة تاريخية وعندي أطروفة فكاهية، فإذا سنحت الفرصة فسأقص خرافتي وإلى اللقاء يا قرائي وقارئاتي في الشرق الحبيب

(فاس - المغرب)

إدريس الكتاني


* (الذعيرة) وهي في اللهجة المغربية بمعنى الغرامة، وقد فاتني التنبيه عليها وقتذاك.



مجلة الرسالة - العدد 310
بتاريخ: 12 - 06 - 1939

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى