مقدمة سميرة شرف.
ارتبط الإنسان بالشعر إبداعاً و تلقياً بأواصر التقدير و الانجذاب لعالمه الفريد في خلق ما يتميز و يتَّسم بخصوصيَّةٍ تتطلَّب جودةً و إتقاناً، تمكِّنه من حصد الإعجاب و التسليم بقدرته على التثقيف و الإمتاع و المؤانسة.
فأصبح الشعر ابتكاراً خلاقاً يدخل عالَم النفس و الروح، فيغيِّر فيها الألوان والطبائع و الصور. و من هذا المنطلق، انجذب كثيرون إلى منبعه، ينهلون منه ما به يمتِّعون و يستمتعون. فصار له حيزُ وجودٍ معتبَرٍ في كل زمانٍ و مكان و سطحاً يطفو على أديمه عمق الإحساس و الشعور باعتباره خلاصة تجربةٍ انسانيَّةٍ ذات معنى وهدف.
وتعدُّ عمليَّة إصدار ديوان شعريٍّ توثيقاً لقصائد شاعر أبدعها متفرقةً في الزمان و المكان، قد تكون في موضوع واحد(كالحبِّ مثلاً) أو قد تتعدَّد مواضيعها و تختلف في نفس المجال(الإنسانيِّ مثلاً) لتقوى به تجربته الشعرية والتي تمتدُّ في الزمن تطوراً و تفاعلاً مع المحيط الذي يعيش فيه و يسعى دوماً إلى إغنائه و الحضور فيه ببصمةٍ خاصَّةٍ و أثرٍ واضح.
و بين أوَّلِ قصيدةٍ ينظمُها الشاعر و آخِرُ إبداعٍ له، زمن معركةٍ نفسيَّةٍ و عاطفيَّةٍ تجعل المخاض عسيراً عند كلِّ ولادةٍ. مما يراكِم لديه كماً من المقاييس التي يستقيها من انطباعات المتلقين نُقاداً و عاديينَ، لتصبح بوصلتَه للتقدُّم نحو اتجاهٍ صائبٍ، معتمداً تجاوز العثرات السابقة لتحقيق إجادةٍ مُرضِيةٍ له و لغيره.
و يبدو أن ولوج عالَم الشاعر، رحلةٌ في غياهبٍ معلومٍ(القصيدة) للبحث و الاستكشاف و التقويم. و هذا ما يصبو إليه كلُّ ساعٍ إلى قراءة ديوانٍ، توفَّرتْ لديه الإرادةُ المولِّدةُ للإحساس من جديد ٍ.
و أنا أخوض غمار هذه الرحلة، وجدتها ممتعةً، مثمرةً، ساحرةً، بما وفَّرته لي من أسباب الدهشةِ و الانبهارِ بشخصية الشاعر مصطفى الحاج حسين،و بتجربتِه الحياتية التي يمكن اعتبارها بصدقٍ نموذجاً للعزيمة و الإصرار على تجاوز المعاناة بكل أشكالها، و التعلُّق بتلابيب الكلمة كطوق نجاةٍ من بؤسِ واقعٍ مريرٍ تكاثفت على تجسيده عديدٌ من الظروف الذاتية و الموضوعية.
إنه الأديب السوري مصطفى الحاج حسين، عبر ستة عقود من الزمن (مواليد حلب، 1961) تشكلت لديه معالمُ شخصيَّةٍ عصاميَّةٍ مكافحةٍ مبدعة، اختارت الكلمة سبيلاً للتعبير و التغيير. فكان شغفه بالقراءة و هو صغير إعلاناً عن أديب محتمَلٍ برز و هو يخوض تجربةً إبداعيَّةً بمحاولات في نظم الشعر و كتابة القصة القصيرة، ليصير أديباً تعترف باسمه المجلات الأدبية و الصحف و الملتقيات و المحاضرات، فيعلو صوتُه منابر الأدب و الثقافة في كلِّ المحافظات السورية.
و ستستمرُّ شعلته متقدةً لتتجاوز حدود بلده إلى العالم العربي، بمشاركاته المتميزة في المسابقات الأدبية، و حصوله على التفوُّق فيها عن جدارةٍ و استحقاق ٍ.
و للشاعر مصطفى الحاج حسين إصدارات سجل اسمه بها قيمة مضافة للساحة الأدبية العربية و منها:
في القصة:
(قهقهات الشيطان- المبدع ذو الضفتين)
و في الشعر دواوين:
01 - قبل أن يستفيق الضوء
02 - راية الندى
03 - تلابيب الرجاء
04 - أصابع الركام
05 - نوافذ على الجرح
و كلها طبعة ورقية
وله دواوين طباعة الكترونية:
06 - تابوت العدم
07 - أجنحة الجمر
08 - قصيدتي مقبرتي
09 - أبجدية القبلا
10 - ذبيح الجهات
11 - سعف السراب
12 - أخاديد الظلام
و هذا العطاء الأدبي منحة من الشاعر مصطفى الحاج حسين يروم بها التعبير عن الذات أولا و الوجود ثانيا بكل تجلياته المادية و المعنوية، و تفاعلها مع العيش و المأمول عيشه، باعتبار أن الشعر أرض الانفعال و الفعل لخلق التفاعل و هو مطمح كل أديب له رسالة التأثير على أرض الواقع.
و الشاعر مصطفى الحاج حسين، مسكون بالهم الإنساني عامة من ظلم و قهر و استبداد، يحاول دوما التمسك بانتمائه و وطنيته و قوميته كمقاربة حقيقية لقانون البقاء تحت ظل الجمال، وهو ما ستترجمه قصائده في هذا الديوان(شقوق الماء) الذي يستمد سماته من الطبيعة أولا(الفن الصادق) كما تشير إليه أغلب عناوين قصائده، و هي ستون قصيدة اتسمت بنبرة الحزن و الأسى و الحسرة و الأسف، مردها سعيه الحثيث إلى النفور من القبح و الرداءة. و بالمزاوجة بين المحسوس و المعقول في تمثله للأفكار و حسن صياغتها و رحابة المعاني التي تضمنتها قصائده، لاهثا وراء الجمال المعنوي في كل موضوع طرحه بانسياق فني تعبيري أعفاه من الالتزام بالقواعد الشكلية لاستمالة القارئ.
وقد برع الشاعر مصطفى الحاج حسين في الاقتصاد اللغوي في التعبير، مستجيبا فنيا لما يمليه الترابط المعنوي في الصياغة الشعرية، و الواقعية في المطاوعة الفنية لما يريد قوله، في إطار القصيدة النثرية الحداثية التي تعد تحررا من قيود القصيدة الشعرية السابقة لها زمنيا، استجابة لتطور العصر و تقدم آليات الأشتغال فيه حسب المتطلبات التي يفرضها الواقع المادي و المعنوي.
والشاعر مصطفى الحاج حسين مدرك لهذه الحركية المنسجمة مع رؤيته الفنية، لذلك جند لها إمكانياته و طاقاته الإبداعية للنجاح في إثبات ذاته الشاعرة ضمن كوكبة ممن آمنوا بالتحرر قبل الحرية، بإسهام مسهب في هذه الطفرة النوعية التي شهدها الشعر العربي الحديث و التي حققت انجازا فنيا كبيرا على مستوى تحديث الشعر العربي الذي كان، كسائر مناحي الحياة في حاجة إلى قوالب جديدة تستوعب تراكمات التغيير و تؤطره. فجاءت القصيدة النثرية، التي برع فيها شاعرنا و هو يتعامل مع التجربة الشعورية بها، بإبداع سيمكنها من الخروج إلى أرض الواقع، قصائد تشهد دواوينه على جمالها و جودة نظمها في هذا النموذج المستحدث.
وإذا اعتبرنا (شقوق الماء) آخر إبداعات الشاعر زمنيا، فلدينا أن نقيس قيمتها من حيث سلم التدرج للتطور الفني، بحكم ان الشاعر مصطفى الحاج حسين يسعى دوما إلى الأخذ بآراء النقاد و جمهور المتلقين، و الاستفادة منها بتواضع كبير، ليكون ديوان (شقوق الماء) مثالا على سعيه الحثيث نحو قصيدة أرقى و أجود و أنفع و أطول رسوخا في ساحة أدبية تعج بالانتاج و الإصدار و النشر و التوثيق إلكترونيا يكون فيها الانتشار الواسع و الإقبال الكبير على الأقوى تأثيرا و تغييرا في الفرد و المجتمع.
و في ديوان (شقوق الماء) أعتبر عناوين القصائد سرا من أسرار روعة النصوص في مدى إتقان الشاعر في جعلها جسرا من جسور العبور إلى قراءة النص و فهمه واستيعابه بشكل لا تجد فيه هامش خطأ في التوقع. لذلك فالتوقف عند العنوان و التمعن فيه، كفيل بأن يدل على مضمون القصيدة كلها، مثلا(عقوق، خصام، بزوغ، المصير، احتضار، غواية ،حشرجة...) يوجد المعنى نفسه مدرجا ضمن قالب لغوي تعبيري يشكل جسد قصيدة عار من التكلف و الحشو، منساق لدواخل الشاعر و مكنوناته للتشكيل على أحسن صورة ممكنة ستترجم لواعجه و مواجعه و فواجعه (أمنيات محالة، لسوء حظي، زوابع الشتات، أحب موتي، وصيتي..) بسحر شاعري يفرض الإعجاب برقي اللغة و تميز المعنى المرتبط بذات الشاعر المنصهرة في واقعها، تتجرع آلامه، فتبحث لها بدل الوجع و الأنين عن صورة أجمل تلفظ بها الآه عاليا.
و أفضل شاهد على ما سبق(شقوق الماء) عنوان الديوان الذي أفاض في رسم معالم الدقة في التصوير الفني و الرمزية السلسة في الجمع بين لفظي تركيبه جمعا سيولد استفزازا محمودا لقارئ الديوان في طرح سؤال سيجد جوابه في القصائد تباعا عندما ستثري مخيلته إمكانية التوفيق بين المادي/المادي، و المادي/المعنوي .
فالشق هو الصدع، و قد يكون ظاهرا أوغير غير ظاهر يحيل عليه التسرب البين للسوائل أو الأدخنة أو الأشعة، و كلها مواد ستصبح في العنوان معان تستنبط ونحن نطرح السؤال بصيغة سريالية تضفي عليه التفرد التعبيري في خلق تركيبة من عنصرين في الواقع (الشقوق/الماء) هي عنصر مستحيل (تشقق الماء).
وهنا ندرك ما للكلمة عند الشاعر من قدرة على خلق الدهشة و بث الاطمئنان إلى صورة تجد لها مرتعا في تخيلك، الذي بفضل دينامية التأثر، يرسم للماء شقوقا في لوحة لن تتكرر عند اثنين، لأنها إبداع المتلقي وحده.
نعم إنه الوصال المحظور حقيقة، المباح في الخيال، و هذا ما سيترجم لنا بمتعة، تلقي فظائع الواقع الخاص و العام للشاعر مصطفى الحاج حسين (الشقوق) في الماضي و الحاضر في كل مناحي الحياة: سياسيا(دول التحالف، ضمائر، من يحاكم الحاكم؟)
اجتماعيا(كفى، عقوق، خصام، حشرجة)
فكريا(كلاب الثقافة)
دينيا (يا سيدي الموت، أحب موتي، لست بيوسف)
وبصيغة تمكن من تحقيق مباشر للتعاطف و الشجب و المؤازرة باتخاذ موقف جديد، أو تصحيح موقف بدا خطأه، مع العلم أننا نتقاسم هذا الواقع مع الشاعر و نعيش معه فيه بظروف خاصة غالبا ما يكون فيها الهم واحد، و المطلب واحد، و المسالك متعددة.
وسيرتفع منسوب الانتشاء بهذا الغوص في كل العناوين ذات التركيب الإضافي مثلا:
(مطر الذاكرة، زوابع الشتات، شهقة المدى، طاووس الغبار، رمق العبور، شهيق الخراب)
وكلها تحمل من الصور الإبداعية معنى و مبنى ما سيشهد للشاعر مصطفى الحاج حسين على براعته الأدبية في النفاذ إلى أعماق نفس المتلقي لرجها و خلخلة عقله بما يتوفرعليه من قوة و صمود و وفاء للوطن و للأحبة و للقيم الإنسانية الفضلى و للتاريخ.
شكرا شاعرنا الكبير على هذه التحفة(شقوق الماء) والتي لامست حسي و ذوقي بما لامسته دواوين الشعراء الكبار الذين بصموا ذاكرتنا بروائعهم الخالدة.
الناقدة : سميرة شرف
المغرب
****
*****
******
* شقوقُ الماء..
في شقوقِ الماءِ
تندسُّ حرائقُ عطشي
أشربُ من رمادِ خطايَ
وأنادي على سقوطي
ليحملني إلى ضفّةِ التّبعثرِ
هناكَ سأشتلُ ظلّي
في أحراشِ هروبي
عبثاً أحملُ الدَّربَ معي
وأسافرُ في شهقةِ الرّيحِ
يا موجَ اللظى القادمِ
هذهِ أضرحةُ أحلامي
خذها مراكبَ محملةً بخرابي
أرتكزُ على دمعتي
يتنفّسني الاختناقُ
ويبصرُ في غصّتي موتي
أكادُ ألمسُ نبضَ العراءِ
وأمسكُ أيدي ذنوبي
خذني يا وجعي لحضنِ آهتي
وعرِّج على المدى المنخورِ
والمحفورِ في وريدي
سيشربُ من صمتي الزَّمانُ
وتأكلُ الغيومُ من لحمي
ما تشتهي البيداءُ
وأفاعي العدمِ
أنا الشّاهدُ على انتحارِ
البياضِ
والمحكومُ بالفواجعِ
وطني بلا أسوارٍ
داهمهُ العصفُ
وطني قيثارةُ الأمطارِ
طالَها القصفُ
أشربُ من لبنِ الرّيحِ
أشواكَ الكلامِ
ويقطرُني النّزفُ
عندَ بوّابةِ السّلام.*
إسطنبول
* أمنياتٌ محالة..
آهٍ لو يَنامُ دمي
ويستريحُ قلبي من عناءِ الضّجيجِ
وترحلُ عنّي أنفاسي
تغادرُني روحي
تتنزّهُ خارجَ حطامي
وأبقى وحيداً بلا أوجاعٍ
لا يحرقُني شوقٌ
ولا يُبكيني اغترابٌ
وحدي
لا تكابدُني عذاباتُ البلادِ
ولا أعرف أخبارَ الخرابِ
بفمي لا تتخشّبُ اللقمةُ
وبحنجرتي لا يتحجّرُ الماءُ
أنامُ ملءَ جوارحي
وأضحكُ بدونِ دمعٍ
أكتبُ قصيدتي
بمفرداتٍ من ورقِ الوردِ
أنادي من دونِ خوفٍ
وأجلسُ في ظلِّ الأمانِ
أتحسّسُ النّدى بأصابعِ لهفتي
وأحتضنُ عرائشَ الضّحى
دونَ أن ترجمَني الأقاويلُ
ليتني أقلّبُ أوراقَ ذاكرتي
وأضحكُ ملياً مع أصدقائي
من دونِ أيِّ غدرٍ
أو خيانةٍ
ليتني أمشي في دروبٍ
غيرِ ملغّمةٍ
وأحلّقُ في سماءٍ
ممنوعٌ فيها القنصُ
وأدخلُ غرفتي
من دونِ أن تعترضَني الحواجزُ
وليتَ ظلّي يحافظُ على أسراري
ولا يبيعُ رأسي لمن يشتري
بثمنٍ بخسٍ.*
إسطنبول
* عقوق..
تمضي عنّي
وكَأنَّ عُرُوقَكَ
ضاقت من دمي!
وتَنتَزِعُ روحي
من نبضِ وجودِكَ!
ما عادت أنفاسُكَ
تحتاجُ أغصانَ ربيعي!
ويباسُ دمعتِكَ
وجفافُ بسمتِكَ
وترابُ أصابِعِكَ
تقاطعُ ندى حناني!
اذهب
أينما شاءَ هجرُكَ
ابتعد
قدرَ ما أرادت قسوتُكَ
لا تكترث لانكساري
ولا لدمعي وأعاصيرِ ناري
لا تسل عنّي
ولا تَذكُرْني أمامَ الليالي
سأحضنُ موتي في غيابِكَ
وأقولُ لجرحي:
تجمّل وتجلّد
لا بدَّ أن يدركَ
كم سبّبَ لي من المواجعِ
حينَ تنبذُهُ الطّرقاتُ
ويسرقُهُ
من ظنَّهم بدلاً عنّي
وحيداً ستواجهُ الشّتاتَ
تُقرِّعُكَ الذّكرياتُ
ويعضُّكَ البردُ المسعورُ
تتمسّكُ بأذيالِ النّدمِ
وتصرخُ:
- يا أمّي
يا ضوءَ روحي
شبعتُ ذلَّاً في غربتي
وأكلَني نزيفُ القهرِ
سامحيني
واغفري ليَ انتحاري.*
إسطنبول
* أوّل الأسماء..
وتصرخُ تجاعيدُ روحي النّاحبةِ
في وجهِ الدّروبِ الهاربةِ
أطلّي على بكاءِ خطايَ النّاحلةِ
وسافري في لهاثِ دمي
اسكني فضاءَ اشتياقي المتّقدِ
ونامي على بساطِ التّشرّدِ
يتعكّزُ الموتُ على أسوارِ نبضي
تنمو الجِراحُ في حقولِ لغتي
يشهقُ السّؤالُ في آهتي الجَرداءِ
يا حلب تركتُ عندَ أعتابِ أمواجِكِ
نشيدَ أجنحتي العاثرةِ
وقيثارةَ الرؤى النّاهدةِ
ضمّيني إلى أعشابِ همسِكِ
حجراً يتعبَّدُ ظلالَ اسمِكِ
من ترابِكِ يتوضّأُ الضّوءُ
والسّماءُ تغفو على جنانِ صدرِكِ
لتركعَ النّجومُ في محرابِ عطرِكِ
أنتِ مَن تباهى بها اللهُ
وقالَ لملائكتِهِ عنكِ
هذهِ معجزتي
وهذه درّةُ آياتي
فاسجدوا
أوّلُ الأسماءِ قالَها آدمُ:
حلب..
أوّلُ أبوابِ الجَنّةِ
بوابةُ حلب
وأوّلُ الشّعراءِ تغنّى
بعشقِهِ لكِ يا حلب
يا وجهَ الأرضِ أنتِ
ظلُّكِ ماءُ اليابسةِ
أعيديني إليكِ متعبّداً يا حلب
خذي خلايا عمري وقوداً لنورِكِ
أعيديني ليتفتّحَ وردُ قصيدتي
وتبزغَ من أنداءِ ضحكتي
أسرابُ النّدى
وعلى أسطحةِ البهاءِ
ترسمُ أصابعي
قوافلَ الخلودِ الأشمِّ
أعيديني يا حلب
ليبدأَ فيكِ موتي
سامقاً كأمجادِ قلعتِكِ
الرّافلةِ بالمَدى المسحور.*
إسطنبول
* افتحي الباب..
افتحي الباب
تهدَّمَ شوقي
وتقوَّضَ حنيني
وتهالكت نبضات قلبي
وأنتِ لا تسمعينَ
خبطاتِ روحي المحترقة
تآكلت جدرانُ غيابكِ
تورّمَ زجاج نافذتكِ
واهترأ صدى الانتظار
أطلّي من شرفةِ الصّمتِ
انظري لتوقّدِ لهفتي
تأمّلي انكسارَ عمري
فقد جنّت ابتسامتي
وبكى عليَّ مزلاج هجرانكِ
الصّدئ
وأوشكَ مفتاح بابكِ
أن يثورَ بوجهِ.*
إسطنبول
* بـزوغ..
بِكَمْ تبيعُ النَّسمةُ صدرَهـا الطَّريَّ
للمعتقلِ؟!
بكَمْ تبيعُ جرعةَ المـاءِ الباردةَ
حقولَـها الواسعـةَ لهذا المُعتقلِ؟!
بكَمْ يبيعُ الفضاءُ أجنحتَهُ البيضاءَ
أيضاً لهذا المعتقلِ؟!
وهذهِ الشمسُ، كمْ ستطلُبُ ثمناً
لأنوثةِ ضفائرِهـا؟!
وماذا إنْ كانَ المُعتقَلُ
لا يملُكُ ثمنَ رائحةِ المطـرِ؟!
لا تـدِرْ وجهَكَ، يا أملُ
عنْ مهجَعِ المعتقَلِينَ
يبقى في قلبِ الذّبيحِ أملٌ
يبقى في صوتِ المخنوقِ
بقايا حشرجةٍ
وستظلُّ الأصابعُ النازفةُ
تتوجّسُ الجدرانَ
إلى أنْ يبزُغَ الثُّقبُ الأبيضُ.*
إسطنبول
* مطر الذّاكرة..
مطرُ الذّاكرةِ
يغسلُ أعشابَ الشّوقِ
ورياحٌ هوجاءُ
تسرقُ منّي أوراقَ البوحِ
ومساءٌ موحشٌ
ينادي دفءَ حضورِكِ
وأرى ابتسامتَكِ
تزهو في قطرةِ المطرِ
وتبلّلُ جنوني
أحبُّكِ يا اختناقي
ويا موتيَ الشّاهقَ
مسكنَ انتحاري
وموئلَ سقوطي
يناديكِ ارتعاشي
ودمعُ حروفي
أحبُّكِ والمطرُ يهمي في بكائي
تعالَي نرتّبُ فوضى ماضينا
ونضفي على صمتِنا المهجورِ
بعضَ الأغاني الهاربةِ
ودعيني أفضي إليكِ
بشموسِ قلبيَ الآثمةِ
سأعترفُ
بما اقترفت أصابعي
من كتابةِ القصائدِ عنكِ
وبما قالَهُ فؤادي
بحقِّ عينيكِ الغائمتينِ
حماقاتٍ جمّةً ارتكبَتْها أحلامي
حينَ خصَّصت أجنحتي
لمطاردتِكِ
كانَ عليَّ أن أنسحبَ
من بلاطِ حبِّكِ المقدّسِ
ليسَ من حقّيَ أن أحبَّ النّدى
ليسَ من حقّيَ أن أجهرَ باسمِكِ
ممنوعٌ عليَّ أن أطرقَ بابَكِ
أن أجلسَ على طاولةٍ
أنتِ موجودةٌ عليها
أن أعبرَ شارعاً قد تمرّينَ منه
أن أحيا بمدينةٍ أنتِ تسكنِينَها
أن أنتسبَ لزمنٍ أنتِ تملكينَهُ.*
إسطنبول
* دولُ التحالف..
يخونُني المجدافُ
حينَ أُبحرُ في لغتي
أصارعُ رياحَ القهرِ
أتصدّى لأمواجِ الخيانةِ
أعاركُ حيتانَ الغربةِ
وأشقُّ دربي
داخلَ لججِ الموتِ
أنا قبطانُ الهزيمةِ
أجرجرُ جرحي بصمتٍ وألهثُ
يلاحقُني سخطُ الفناءِ
الأرضُ تخلَّت عن ترابِها
السّماءُ تنكَّرت لسحابِها
والأشجارُ اغتالت ثمارَها
حتَّى أنَّ الشّمسَ
عضَّت فتيلَها
ولاذت في الظّلمةِ
والقمرَ فجّروه
بتهمةِ الإرهابِ
أبحثُ عن رقعةٍ تتّسعُ
لنزيفِنا
لآهاتِنا
لصرختِنا المعفَّرةِ بالاختناقِ
لا مكانَ لجثّةِ السّوريِّ
سقطت أقدامُنا من خطاوينا
وترامت عن إرادتِنا سواعدُنا
تدحرجت أسماؤنا في المدى
مَن يضمّدُ اندثارَنا؟!
مَن يحنو على ذلِّنا؟!
ومَن يطعمُ أرواحَنا
رغيفَ الكرامةِ؟!
لا مكانَ لرأسيَ المقطوعِ
ولا للسانيَ المبتورِ
ولا لأشجارِ أحلاميَ المثمرةِ
كلُّ الكائناتِ شاركت في ذبحِنا
حتّى الدُّودُ والزّواحفُ
العروبةُ في دمِنا
مزجُوها بالوباءِ
الإسلامُ في قلوبِنا
أحرقوا شفتيهِ
الإنسانُ في قاماتِنا
أتاحوا له النّباحَ
باسمِ دولِ التّحالفِ!!*
إسطنبول
* لسوءِ حظّي..
لم تأبهي بحبِّي
صَدَدتِ بابَكِ بوجهِ قصائدي
وكانَ عذابي
يسعدُ فيكِ الغرورَ والتّجبّرَ
تتكبرينَ..تبتعدينَ عنّي
تجرحينني
تتمتعينَ باحتراقي
وكانت دموعي رخيصةً
لأنَّ حبّيَ كانَ كبيراً
وشِعري عنكِ غزيراً.. قويّاً
رجوتُكِ أن تسمعيني
وأنتِ عنّي راحلةٌ
كم صرخةً من قلبي
هتفتُ خلفَكِ؟!!
وقلبُكِ يسخرُ من تتبّعي لخطواتِكِ
صرتُ أضحوكةَ أصدقائي..
والليلُ رفيقٌ ثقيلُ الظّلِّ
وسادتي تضيقُ بأحلامي
أحلامي تشكو من خيبتي
غرفتي سئمت ذكرَ اسمِكِ
قهوتي وسجائري وحدَهما
يشاركاني احتراقي
ضجَّت من رسمِكِ دفاتري
وأقلامي اعتراها النّزقُ
وقلبي لا يفهمُ
فاسمُكِ..صوتُكِ.. صورتُكِ
لا يبرحونَ النبضَ منّي
وروحي متعلّقةٌ بكِ
بدأتُ أكرهني
فأنتِ لاتستحقينني
اذهبي.. لا.. لا ترجعي
يا فتاتي
فأنتِ معقَّدةٌ.*
إسطنبول
* أيادي الانكسار..
تَراكَضَ بيَ الغيابُ
أخذني من حضنِ النّشوةِ
ورماني في غيهبِ العدمِ
التفّتِ الدّروبُ حولَ عنقي
وتهالكتِ السّماءُ فوقَ أنفاسي
يحاصرُني صريرُ المدى
وتمسكُني أيادي الانكسارِ
أنادي..
لكنَّ صوتيَ مقفلٌ
وأجنحتي تلهو بها النارُ
يا بلدَ النّدى
مشتاقٌ لضفائرِ النَّسماتِ
وهمساتِ القمرِ
كانت أمّي تمشِّطُ ضوءَ الصّباحِ
وتطعمُ قصيدتي من خبزِها
تحنو على وجعي فيزهرُ
وتسقي ظلمةَ قلبي
من حليبِ لمساتِها
فترفرفُ في داخلي الآفاقُ
ومن كلِّ صوبٍ
تباركُني الجِهات.*
إسطنبول
* بوصلةُ العماء..
أَرتمي على دمعِ خطايَ
أبلّلُ دربي باشتياقي
يعضُّ السّرابُ لهفتي
ويسرقُ منّي الغبارُ قامتي
تزحفُ غصّتي فوقَ اليأسِ
وتكبرُ بداخلي أنيابُ المسافاتِ
ينمو الجرحُ في رؤايَ
تهبُّ في وجهي الهزيمةُ
وأنا أتوغّلُ في آهتي
يا أمّي كيفَ المجيءُ؟!
والبحرُ يقضمُ أجنحتي!
يشتعلُ قنديلُ الاختناقِ
وتَرجُمني شواطئُ الغيابِ
يَعلَقُ الانكسارُ بأشرعتي
وتلوكُ النّارُ أوردتي
منعوا عنّيَ السّماءَ
سرقوا من لغتي الأرضَ
وصادروا لي الجِهاتَ
يفتّشونَ الليلَ عن حلمي
ويسلبونَ جيوبَ النّهارِ
مخافةَ أن يهرّبَ قصائدي
الماءُ يابسٌ
وأنا بلا شفتينِ
والهواءُ متفحّمٌ
وأنا بلا رئتينِ
والخبز مرٌّ
وأنا بلا شهيّةٍ
من يدلّني على ضحكتي
لأرتديها؟!
ومن يحفظَ ليَ اسمي
حتّى أعرفَني؟!
ومن ظنَّ دمعتي
أقحوانةَ ضياء؟!*
إسطنبول
* يا ناري..
يا ناري
لو تحرقينَ أشعاري
قبل أن تشي بأخباري
وتفضح أسراري
احرقيني
وانتشري في كتبي وداري
وأبعدي عنّي الحبَّ
الذي شبَّ بداخلي كالإعصارِ
ساعديني
قبل أن يتمكّنَ من دماري
لا.. لن أسلّم قلبي لامرأة
بعدَ اليومَ.. وهذا قراري
الحبُّ الحَقَ بي الأذى
عذّبني.. وأبكاني
وهدّمَ قلاعي وأسواري
اشتعلي في نبضي بجنونٍ
والتهمي مروجي وأشجاري
ولا تتوقفي حينَ أبكي
سرعانَ ماينتهي مشواري
أنتِ في دمي مأجّجةٌ
تأكلينَ ليلي ونهاري
لا ترحمينَ
ولا تتقبلينَ أعذاري
انهمري فوقَ يباسي
ولا تخشينَ الملامةَ
سأقولُ للجميعِ
كان هذا انتحاري.*
إسطنبول
* المصير..
على رقعةِ الغبارِ
سيكتبُ التّاريخُ حكايتنا
ويحفظها في فمِ اللهبِ
سيذكرُ تفاصيلَ مأساتنا
مزوّدةً بالحقائقِ الدَّامغةِ
على أنَّ قتلنا كانَ
مجرَّدَ اختبارٍ للعربِ
كم فيهم من طاقةٍ
على اللامبالاةِ
والتّفرجِ على ذبحنا
وتهجيرنا من صحنِ دارنا
دونَ أن يرفّ لهم جفن؟!
هم أوّلُ من أغلقَ الحدودَ
في وجهِ دمعتنا!
هم آخرُ من استنكروا
وراودتهم فكرةُ عقدِ
اجتماعٍ طارئٍ!
قالوا:
أنَّ طقسَ بلادهم
لا يناسبَ ما اعتادت عليهِ أجسادنا
من طقسٍ معتدلٍ
صحراؤهم ستكون شديدةً علينا!
طعامهم قد لا تستسيغهُ معداتنا الخاوية
وقد نخطئُ في معرفةِ قيمةِ نقودِهم
أمامَ الدّولار.. واليورو
وَمِنَ المحتملِ أن نقعَ في الإرباكِ
مابينَ أن نهمسَ بذلٍ كلمةَ سيّدي
بدلَ أن نهتفَ بفرحةٍِ - مولايَ -
وهنا تكونُ الطّامةُ الكبرى
ولهذا..
ولأجلِ أن ننعمَ بالرّاحةِ الأبديةِ
حرّضوا علينا الموتَ
من كلِّ الجهاتِ
وكانَ الموتُ مطواعاً لرغباتِهم
تفنَّنَ وأبدعَ وتألَّقَ
في طريقةِ حصادِنا
على عَجَلةٍ نموتُ
من غيرِ أيّةِ محاولةٍ للتصدّي
نموتُ ودمنا يبتسمُ
أمامَ عدسةِ التّصويرِ
للذكرى الخالدة
وفي مجلسِ الأمنِ المراوغِ
تُتلى أسماء القتلى بتأثّرٍ واضحٍ
لمنحِها بطاقة اشتراكٍ
للإقامةِ في مقابرٍ جماعيّةٍ
في هذهِ المرّة لا أحدَ يستخدمَ
حقّ الفيتو اللعين
كلّ الأممُ المتحضّرةِ
منحتنا حقّ الموتِ المباغتِ والجّماعي
وعلى كلِّ مهاجرٍ مشرّدٍ
أن يلحقَ بركابِ القتلى
إنقاذاً لكرامتهِ وسمعةِ بلدهِ
من دونِ اعتراضٍ أو تذمّرٍ
هذا قرارٌ دولي.. أتّخذَ بالإجماعِ
على كلّ مواطنٍ سوريّ بريءٍ
أن يموتَ وبأسرعِ ممّا ينبغي
حتّى تنعمَ إسرائيل بالطمأنينة
ويمضي عرسانهم إجازاتهم
لشهر العسلِ البهيجِ
في مرتفعاتِ الجّولانِ المغتصب
بهدوءٍ وسرورٍ
قالوا:
السّوريّ عاشَ أكثرَ مما يجب
ألم يكن أوّل من اخترعَ الأبجديّة؟
فمنَ الحكمةِ أن يزولَ
هذا الكائن القديم
ليتيح الفرصةَ لوجودِ الآخرينَ
وفي هذا
ترشيدٌ للتفجّرِ السّكاني.*
إسطنبول
* أناديك..
حينَ يهدأُ ندائي عليكَ
قلبي لا ينامُ
يتنصّتُ على قدومِ رائحتِكَ
وروحي تتلمَّسُ حنينَكَ
تعالَ..
اِجعلْ طريقَكَ من تحتِ شرفتي
على الأقل
مُر من طريقٍ زرعتُ لهفتي عليهِ
دمي في عروقِكَ
ألم يسألْكَ عنّي؟!
وروحي في كيانِكَ
ألمْ تشتَقْ إليَّ؟!
ماذا أنتَ فاعلٌ بانتظاري؟!
وهل ستتركُ دمعتي
عطشى للقياكَ؟!
ألمْ تخلقْ من شمسي؟!
ألمْ أطعمْكَ من نبضي؟!
أليس أنتَ ابني؟!
فلماذا تسقيني يداكَ اختناقي؟!
تعالَ..
أعطيكَ ما تبقى عندي من حياةٍ
أقدّمُ إليكَ ماءَ حلمي
وأودِعُ فيكَ ذهابي
لا تذبحْ قلبيَ الذي يخشى عليكَ
لا تجرحْ بسمتي التي تتلقّفُ أخبارَكَ
ولا تتركْني فريسةً لأشواقي
ليس لكَ سوى أبٍ واحدٍ
وحدَهُ يخشى عليكَ
ووحدَهُ يسألُ عنكَ
ويهتمُّ بأمرِكَ
فلا تقتلْهُ بعنادِكَ
ستندمُ
حينَ يتمكّن منّيَ الموتُ
حينها سيحيلُ بيننا قبري
ولن تتمكّنَ من الاعتذار.*
إسطنبول
* زوابعُ الشّتاتِ..
تتسرَّبُ منّي أشرعتي
وخطايَ محشوَّةٌ بالظّلام
أقفُ عندَ مشارفِ ضياعي
يلتهمُ السّرابُ أنظاري
ويتمسَّكُ بعريَّ البردُ
ليشربَ المطرُ دفءَ دموعي
أينَ تركتني دروبي؟!
تضحكُ الرِّيحُ بهزءٍ
من صراخي
ويعتمرُ الضّبابُ سقوطي
أينَ من كانوا رفقةَ هنائي؟!
من أكلوا من صحنِ حبّي
وناموا على سواعدِ ابتسامتي؟!
هل خطفتهم زوابعُ الشّتات؟!
يا ويلَ قلبي من هذا العراءِ الضّاري
.يرتديني صمتُ الحجرِ
ويقعدُ في حضنيَ النّزيفُ
وينهمرُ فوقي ترابُ الأسئلةِ
يا ليتَ للضوءِ رائحةٌ
.كانَ نبضي يهتدي إليهِ
ويأخذني لأعتابِ بلادي
وهناكَ..
سأمشّطُ للقلعةِ شَعرَها
وأمسحُ عن تاجِها
غبارَ الحروب
وأطوفُ على أحياءِ حلبَ الشّهباء
أكسو جدرانَها بقبلاتي.*
إسطنبول
* آهِ لو تعرف..
لو تعرف كيفَ يغرزُ الوقتُ
خناجرهُ في جذوعِ روحي
لو تعرف كم للّيلِ مخالبَ
تنقضُّ على حنجرتي
لو تعرف كم في الهواءِ
طعم اختناقي
وكم لجدرانِ غرفتي
عيوناً ترمقني بشذرٍ
وكم لسجائري من لغةٍ قاسيةٍ
توخذني بجمرِ لعناتها
وفنجانُ قهوتي يكادُ
يتكسّر على شفاهِ قلقي
لو تعرف كم للصباحِ
من ظلمةٍ تداهم انتظاري
لو تعرف كم مرّةً يتحشرجُ الماءُ
في ظمئي
وكم للصمتِ وجوهاً مرعبةً
حروفي تنهالُ عليَّ ضرباً
أقلامي تكتِّفُ آهتي
ودفاتري تسرقُ منّي
استغاثات حنيني
آهٍ لو أنّكَ تعرف
لماكنتَ أوقدتَ خوفي
أخشى عليكَ من نسمةٍ
تعترضُ طريقكَ
من لقمةٍ لا تستسيغها
من وسادةٍ تكونَ قاسيةً
تحتَ رأسكَ
وأخافُ عليكَ من فرحةٍ
تخيّب ظنّكَ
ومن صديقٍ يغدرُ
ببراءتِكَ
لا أثقُ بالأيامِ
لأتقبّلَ ابتعادكَ
مازلتَ صغيري
وعليّ الاطمئنانَ عليكَ
في كلِّ لحظةٍ.*
إسطنبول
*قارعات الموت..
على قارعاتِ موتي السّحيقِ
تتلفَّتُ جثّتي صوبَ الهربِ
وتبحثُ أشلاءُ صرختي
عن سماءٍ تتّسعُ لخيبتي الزّرقاء
حدودُ الفضاء مكسّرةُ الأصابعِ
لا تلتقطَ هزيمتي وتمضي!
لتمنحني نسائمَ طريّةً
الشّمسُ معفّرةٌ بالدّمِ
والأفقُ مثقلٌ بالخوفِ
شابت الجّهاتُ
وتجعَّدَ مسارُ الدّروب
أركضُ خلفَ ضحكتي
المتورمةِ بالفزعِ
أشدُّ حبالَ الحزنِ
وأعضُّ على دمعتي
لأمنعها من الانفحار
أنا في أزمنةِ التّلاشي
يفترشني التّرابُ
ويشتلُ في جمجمتي النّار
يشيّدني صدى تكسّري
يأكلني خواءُ الظّلام
ويكتبُ السّدى أشعارَهُ
على جدرانِ غصّتي
موتٌ ينمو في بلادي
على اتّساعِ الطّفولةِ!
على رمادِ الأمومةِ!
على إذلال الرّجولةِ!
وعلى أحداقِ النّدى!
فمن يرشُّ عطرَ الخلاصِ
على أنفاسِ سوريا؟!
من يوقفُ زحفَ العدم؟!*
إسطنبول
* نسغ التّكوينِ..
يجفّفني دمعُ موتي
بمناديلِ الرّماد
يحضنني انكساري
ومواجعي تحنو عليَّ
يحملني صمتي اليابسُ
على أكتافِ جراحي المتفجّرةِ
ويطوفُ بي على لهبِ آهتي
أجنحتي نشيج رؤايَ
وتمتدُّ المسافات
مابينَ اختناقي وبوحي
تتشابكُ هزائمي بسقوطي
ومن جحرِ عطشي
تطلُّ سماءٌ من تهدّمٍ
وغيوم من لظى القهرِ
أنا انهيارُ الأزمنةِ
وركامُ الهواء المتفسِّخِ
أنا صليلُ الجِّهاتِ
ونزيفُ المدى المنكمش
أتهجّى براكينَ التّلاشي
لاشيءَ يسندُ فتاتَ قامتي
غيرُ جدارِ العدم
وتسرقُ الظّلالُ مني خطواتي
تؤرجحني رغباتُ الغبارِ
تفترسني أنيابُ الحكمةِ
ويغتصبني بردُ الزّمهرير
تعبت منّي المقابر
وأنا في كلِّ موتٍ
أحطّمُ أبوابَ الرّغبةِ
وأشتهي دروباً ناهدةً
لأمتشقَ هامةَ الضّوء
وأرحلُ لمدينةٍ أنجبت أحرفي
وشيّدت الشّطآنَ لقصيدتي
وعلى تيجانِ قلاعها العصيّة
كَتَبَت..
حلب رحمُ الحياة.*
إسطنبول
* أحبُّ موتي..
رأيتُ بكائي يشحذُ لي
بسمةً
فبكيتُ من شدَّةِ فرحي
وأقبلتُ عليهِ
أبلِّلُ خدَّيهِ برطبِ شكري
يا دمعَ كلماتي
قصيدتي تدثِّرُ روحي
بفضاءٍ يتفتّحُ على الأمنياتِ
وتطيِّرُ في سماءِ آهتي
فراشاتِ الحنينِ
أحبُّ حزني
فهو مَن لا زمني
حينَ تخلّى عنِّيَ الهناءُ
ظلَّ يساهرُني
ويغفو في حضنِ شهقتي
ويطعِمُني بأصابعِهِ
فتاتَ الذّكرياتِ
وكانَ يناغي هواجسي
ويداعبُ احتراقي
ويزوّدُ اختناقي بنوافذِ السّرابِ
يا روعةَ آلامي الثّقيلةَ
حينَ تعصفُ فيها الليالي
كم كانت تضيءُ طريقَ انهزامي!
وتأخذني إلى قبرٍ رؤومٍ
يحتملُ جنونَ جثَّتي الرّعناءِ
وعبثَ أفكاري الشّريدةَ
بعيداً عن أعينِ الشّياطينِ
أنا لن أفارقَ
انكساري
ولن أتخلّى عن تبعثري
سأمسكُ بشعاعِ لهفتي الرّقطاءِ
وأتشبَّثُ بانتحاري
أحبُّ موتي
لا داعيَ أن أودّعَ الأمواتَ
ولا مَن هربَ من دفاعِهِ عنّي
كلُّهم شاركوا
باغتيالِ ابتسامتي المتفتّحةِ
وبقيتُ
أتعكّزُ على حلمٍ
مقوَّضِ الضّوءِ.*
إسطنبول
* الدّربُ المرصد..
قالت ليَ الدّروبُ:
- لا اسمَ لكَ في الوطن
ولا في قوائمِ القتلى
فارجع.. ولا تقترب
قبلَ أن أقضمَ قدميكَ
مرصودةٌ أنا
باسمِ الحاكمِ العسكريِّ
الذي يبيدُ الآثمينَ
لا تكن ملحاحاً فتقتل
لقد نفرت منكَ البلادُ
من يومِ أن تجرأتَ
ورفعتَ رأسَكَ عن الأرضِ
وتطلّعتَ صوبَ السّماء
وأنتَ لم تخلق إلاّ للترابِ
مع الزّواحفِ وجدتَ لتنمو
وتحصدَ الغلالَ لحضرةِ الوالي
لا تدنُ من ترابٍ يمقتُ ظلَّكَ
ولا من سماءٍ تتأفّفُ من قامتِك
أو بحرٍ متعطّشٍّ لخنقِك
اذهب..
حيثُ ما هربَ البقيّةُ
الوطنُ ليس لمن نادى للحرّية
لا حرّيّةَ هنا إلاّ للسادةِ الكبارِ
أنتم حثالةُ الضعفِ
رعاعُ الحاشيةِ
تعملونَ بلا أجرٍ
تأكلونَ لحمَ بطونِكم
تنامونَ فوقَ حصى العراءِ
ليس من حقِّكمُ الكلامُ
ولا كرامةً لكلِّ مَن يتأبّى
طوبى لحاكمٍ يدفنُ شعبَهُ
في رمالِ الخنوعِ
طوبى لأرضٍ تطردُ أصحابَها
وتستقدمُ إليها الغرباء.*
إسطنبول
* عرائشُ النّدى..
ستغفو الجّنازةُ على ظهرِ حنيني
وأنا أحاولُ إرسالَ موتي
لمسقط قصيدتي
وتشاركُ أحرفي في تشييعِ غربتي
وتقيمُ العزاء لدروبي
سيموتُ السّؤالُ على شفتيَّ
دمعتي..
الطّاعنةِ بالاشتياق
وتتهاوى رغبتي في المسيرِ
تنحدرُ منّي ماأحملُ من مسافاتٍ
فوقَ آهةِ عمري الغائرة
في اضمحلالِ الذّاكرةِ
ياموتَ الدّهشةِ
على أغصانِ جنوني
كنتُ أحبُّ أصابعَ احتراقي
وأكتبُ بحبرِ احتضاري
قصائد الأدغال السّامقة
وكانت السّماء
تتأرجحُ في ركامِ لهاثي
أنا من أضاعَ المدى
من شقوقِ قبرهِ
وأحرقَ بحرَ صوتهِ
وأفلتُّ من حضنِ أشرعتي
أثقالَ صمتي
سأبني لجثّتي
عرائشَ النّدى
وأتركُ في الأرضِ
أحصنةَ دفاتري
ليقرأني الماء.*
إسطنبول
* طاووس الغبار..
من شقوقِ الدّهشةِ
أتسلّلُ إلى نزيفي
أتنصّتُ على صمتي
وأسترقُ النظرَ إلى أحلامي
مخبّأةٌ في سراديبِ النّبضِ
لا تجهرُ بنارِها
أراها تفعمُ بالشروقِ
يتكَوَّنُ الفجرَ في دمي
وتنمو فضاءاتُ الصّهيلِ
ستولدُ في داخلي الصّرخةُ
وتدكُّ الأرضَ بالرّعدِ
سيهطلُ الضّوءُ من ظلمتي
ويثورُ ركامُ الخوفِ
إعصارُ جنونٍ حارقٍ
يحطِّمُ سدودَ الجَفافِ
ويرتطمُ بأحجارِ الموتِ
وتحبو على لغتي
أوجاعُ السّؤالِ
تنسابُ من أحرفي
جمراتُ الدّمعِ
أتلمَّسُ ما ضاعَ منّي
من وميضِ الخطواتِ
وفضاءٌ متعرّجُ الاشتعالِ
تتحسَّسُني شهقةُ الكلماتِ
وصوتي المترهّلُ النّبراتِ
المكبّلُ بعثراتِ العمرِ
تتوجَّسُني ملامحُ وحدتي
تخطفُ من وجعي احتمالاتِ الرّيحِ
وأشرعتي يمزّقُها صدى هروبي
ألاحقُ فيضَ التٌصحرِ
ألازمُ انهمارَ الرّجاءِ
أنا بكاءُ الأزمنةِ
وانتحارُ الهواءِ الكفيفِ
تركتُ خلفي بلاداً
مهدّمةَ الأضواءِ
ترزحُُ تحتََ وطأةِ الكارثةِ
يحكمُها طاووسُ الغبارِ
تلتهمُ ساكنيها
بلا أدنى ترددٍ
يزمجرُ العدمُ على أبوابِها
يحيطُها الانهيارُ
تحيقُ بها زلازلُ
البغضاءِ
القادمةُ من سحيقِ
الكفر.*
إسطنبول
* معراج الحنين..
صمتي في مهبِّ الكلامِ
وصوتي تسكنهُ الرِّيحُ
وأراني
أحتطبُ يباسَ أمنياتي
وأوزِّعُ فاكهةَ لغتي
على عماءِ الماءِ
ليبصرني ظلّي
ويجرّ آهتي لأعالي الطريق
تتأجَّجُ رمالُ الدّمعِ
في سماءِ وحشتي
وتنكرني جدرانُ رحيلي
أبحثُ عن كسرةِ أرضٍ
لأحطَ عليها أثقالَ روحي
تداهمني أوجاعُ حروفي
تأكلُ ماتبقى لي من فضاءٍ
والموتُ يتسلَّقُ عزيمتي
كلُّ الجهاتِ تفضي إلى نحيبي
وجثَّتي تعدو
في حقولِ الخوفِ
الهواءُ يتصبَّبُ عرقاً
وينصبُ لي شباكَهُ الرّقطاء
لأعلقَ في براثنِ الهاويةِ
ويقتحمني العراءُ الأسودُ
يمتطيني الهلاكُ المتوثِّبُ
إلى شواطئِ قامتي المتهالكةِ
جرحي يسكنهُ المدى اللائبُ
الجّبالُ تتظلّلُ بدهشتي
والليلُ يتعلَّقُ بركابِ انهياري
فإلى أينَ تتّجهُ مساراتُ شتاتي؟!
تعبتُ من دروبٍ تطرقُ بابي
وكلّما سلَّمتها خطايَ
تآمرت على حلمي
وغدرتني.*
إسطنبول
* لستَ بيوسف..
لستَ بيوسفَ
ولم يأكلكَ الذئبُ
ولا باعكَ أخوتكَ
أو رموكَ في بئرٍ عميقٍ
ولكنّني عميتُ
ما عادت تُبصرني كلماتي
ولا عادت تحمِلُني خطواتي
وغرقتُ بدمعِ أيّامي
نارٌ تنتشرُ بحنجرتي
وسكاكينَ تمزّقُ آهاتي
ليتكَ..
تركتَ عندي ذكرى تواسيني
أو كلاماً حلواً يلازمني
في غيابِكَ الملعونِ
كنتُ أكفكفُ بهِ
نزيفَ أوقاتي النّاحبة
لكنّكَ باغٍ شقيُّ
تُعذِّبَ شيخوختي
بجحودِكَ الفظِّ
في الصّبحِ والمساءِ
تنهرُ حبّي وحناني
وتتأفَّفُ
من حرصي عليكَ
تضيقُ ذرعاً من أبوّتي
وتظنُّ لهفتي
لا معنى لها
ولا قيمة.*
إسطنبول
* كلابُ الثّقافة..
أقولُ للكلماتِ
لا تَتبَعِيني
فما نفعُكِ
وقد أحرقتُ أصابعي؟!
ابتعدي
عن تسلِّقِ دمي
لن أُودِعَكِ في دفاتري
ما جدوى
أن أنزِفَكِ؟!
والقراءُ أداروا ظهورَهُم
وتوجّهوا نحوَ الظّلام!
وحدَهُمُ المخبِرونَ
يتربَّصونَ لكِ عندَ المُنعَطفاتِ
يعبِّئونَكِ في كيسٍ أسودَ
يحملونَكِ عندَ أقدامِ الوالي
لينالوا عطاياهُ
ثمَّ ينتشرونَ للبحثِ عنّي
في كلِّ الأماكنِ والزّوايا
وتأبى الأرضُ أن تحملَني
والأشجارُ تطردُني إنِ اقتربتُ
الهواءُ يفرُّ منّي
القمرُ مخبرٌ سرّيٌّ
والليلُ خائِنٌ لا يتستَّرُ
تطاردُني كلابُ الثَّقافةِ
تَتّبعُ أثري
تشمُّ حبري
وتدلُّ عليَّ تقاريرُ
الحرِّيةِ الكاذبةِ
تقدّمُ رأسي هديةً للمقصلة.*
إسطنبول
* ليتَ للكلماتِ أيادٍ..
ليتَ للكلماتِ أيادٍ
لتحملكَ إليَّ رغماً عنكَ
فأنتَ لا تجيبُ نداءَ قلبي
وقد أضناهُ الانتظار
واحترقت ينابيعُ نبضهِ
ليتكَ تدخلُ أحراشَ كلماتي
وتبصرُ نارَ الدّموعِ
وتحسُّ بأغصانِ أحرفي
التي تقصَّفت
من كثرةِ موتي
الذي لا يرتوي منّي
تعالَ..
يا من أدمنتَ تعذيبي
وتعوَّدَ قلبكَ على قهري
ولأنّي أسامِحُ
ظننتَ أنَّ فؤادي
بلا ذاكرةٍ
ألا يكفيكَ موتي
في كلِّ ليلةِ غيابٍ؟!
سل الليلَ عن أوجاعِ
روحي
سل القندِيلَ
عن ظلمةِ صوتي
تعالَ اسأل سجائري
كم أحرقني انتظارك
وأنا أطفئُ صمتي
بوابلٍ من قلقٍ وحيرةٍ
لكنَّكَ يابنيَّ
تملكُ قلباً أصمَّاً
بلا نبضٍ يلهو بأوجاعي
وينامُ بلا حنينٍ
لينهضَ صباحاً على نسياني
وكأنَّكَ لستَ منّي!!
وكأنَّ حليبَ أمُّكَ
كانَ ماءً مالحاً
تنفرُ من طعمِهِ
وطهرِهِ.*
إسطنبول
*شّهِيقُ الخراب..
أمسكُ بِبَصَري
وأنا أسقُطُ من علياءِ دمعتي
الذَّاهلةِ
عن إشراقةِ صمتي
ويتهاوى فوقي سَدِيمُ الهَواجِسِ
تنهارُ ذاكرتي
بما تحملُ من جثَثِ الولاداتِ
التَّائقةِ لضُحكَةِ الشَّغَفِ
الطَّالعِ من خلجاتِ النَّدى
أرتطِمُ بصدى الظُّلمةِ
ويتفجَّرُ نزيفُ السُّؤالِ
علامَ الأرضُ تركبُ أمواجَ
حَيرَتِي؟!
عَلامَ السَّماءُ تجثو على آهتي؟!
وعَلامَ الضَّوءُ يتيبَّسُ على أغصانِ
حروفي؟!
إنِّي أبتعِدُ عَنِّي
أغادِرُ فضاءَ صَوتي
تجتازني المدنُ المتهدِّمَةُ
يبتلِعُنِي ركامُ المدى
وخُطُواتي ظلَّتْ بلا دُرُوبٍ
تَمُوءُ أمامَ الجِهاتِ
والجِهَات ُ أسدَلَتْ صحاريها
تمشي من فوقي الزَّواحفُ
ألتقطُ سحابةً ضلَّتْ عنِ السَّمـاءِ
أريدُ قطرةً من شُعـاعٍ
إن كُنتِ تذكُرِينَ أشرعتي
يبكي السَّرابُ
يَنُوحُ التُّرابُ
يَشْهَقُ الخَرَابُ
وَيَصرُخُ الضَّبَابُ
قَدْ كُنتُ في غيرِ هذا الزَّمنِ
الآنَ ما عادَ للشمسِ غيرُ ظلمَتِهَا
وما عادَ للبحرِ سوى جَفَافِهِ
الأزرقُ صَارَ دَماً
الأبيضُ ارتدى عمامةً سوداءَ
والأحمرُ لوَّنَ كُلَّ الخرائطِ
أَهزُّ جِذعَ قصيدتي
تَسَّاقَطُ عليَّ المقابِرُ
وتهرُبُ منِّي أصابعي
خلفَ احتراقِهَا
فأصرخُ ملءَ عروبتي
يا أمَّتِي!!! قَدْ حانَ أنْ تُورقي
فيهاجمني التَّاريخُ
ويَطرُدُنِي الأجدَادُ
فأرتمي بقُشُوري.*
إسطنبول
* ياسيّدَ الخراب أنتَ..
منذُ زمنٍ سحيقٍ
وأنا أسكنُ دمعتي
لا أغادرُها أبداً
وهي لم تتخلَّ عنّي
حتّى في أشدِّ حالاتِ
الفرحةِ العابرةِ
عنوانيَ الدَّائمُ
الذي لم أغيّرهُ قط
دمعتي المتدفّقةُ
بالنارِ والحسرةِ
كتبتُ على بوّابةِ أيّامي
من هنا مفارقُ الغربةِ
تبتدئُ وتمتدُّ
إلى أقاصي الاختناقِ
حجرٌ يتكسَّرُ في دمي
ماءٌ يتصلَّبُ في حنجرتي
وصحارى قاتمةٌ تعصفُ
في صوتي
وأكداسٌ منَ الانتظاراتِ
ترقدُ في قلبي
أَفرد ْ لي ذراعيكَ يا حزنُ
يا أبتي
الذي تربَّيتُ في كنفِهِ
ليسَ لي غيرُكَ
لا أَئْتَمنُهُ على دمعتي المُتَجَدِّدةِ
وحدَكَ مَن يتقنُ رعايتَها
ويسهرُ على تفتُّحِها
فلا تهجرني يا أبتيَ الصَّلبُ
وقد بدأتُ أولى خطواتي
وأنا أمسكُ أصابعَكَ
لا أعرفُ سوى الظُّلماتِ
لا أثقُ إلاّ بالأوجاعِ
أنا ربيبُ الانهزاماتِ
نشأتُ في زمنِ الانهياراتِ
وحدَهُ الحاكمُ العربيُّ
مَن يستحقُ هتافاتي
تحيا يا أميرَ الموتِ
يا سيّدَ الخرابِ أنتَ
يا قاتلَ الأحلامِ البيضِ
اغسل قدميكَ بدموعِ الأوطان
ليرتفعَ علمُ البلادِ
فوقَ الجماجمِ.*
إسطنبول
* رمقُ العبور..
أسترقُ الكلامَ من غيابكِ
معاجمُ أضواءٍ تنبثقُ
من رائحةِ ظلالكِ البعيدةِ
تتنهَّدُ الأرضُ اشتياقاً لحضوركِ
وتتحسَّرُ السّماءُ شغفاً لضحكتكِ
قلبي يرسمكِ في كلِّ خفقةٍ
روحي تلوّحُ لكِ بمنديلِ التّعطّشِ
تتلفَّتُ الجِّهاتُ لقدومكِ
ويضجُّ الهواءُ من انتظارهِ
وأراكِ دونَ أن تأتينَ
تنشقُّ المسافاتُ عن وجهكِ
الرّمال تضيءُ الطّريقَ إليكِ
السّرابُ يتكمّشُ بضفائرِ همسكِ
والماءُ يتدفَّقُ من لثغةِ الحنين
أحبُّكِ...
والحلمُ يعاندُ صحراءَ أوجاعي
ألقاكِ...
في حضنِ النّسمةِ
في شبقِ الصّمتِ
نركضُ على جسرِ اللهفةِ
وأنا...
أمدُّ إليكِ رمقَ العبورِ.*
إسطنبول
* ثقوب الغاشية..
يتأبَّطني الغمامُ
يطوّقُ خاصرةَ حقولي
ويسقي من عصارةِ أحرفِهِ
أصابعَ لغتي السّاجيةِ
لتنهضَ قصيدتي بثقلِ ثمارها
تتّجهُ لعراءِ القلوبِ
تحفرُ في الدّمِ ظلالها
وتسكنُ شبابيكَ الرّيحِ
هناكَ تشعلُ فتيلَ النّضوبِ
لتمطرَ ذاكرةُ الأرضِ
أحصنةَ المدى النّابتِ
في سعفِ الأصيلِ
ويمتدُّ جوعُ النّهايةِ
يقطرُ منهُ خواءُ الأمدِ
الجَّانحِ نحو الانطفاءِ
كلُّ هذهِ الأمواجِ
من جراحِ السّراب
تتحطّمُ نشوةُ آفاقِ العطشِ
والموتٌ يرفرفُ بجناحيهِ
فوقَ شهقةِ الملحِ الجّليلِ
وأنا أتفقّدُ أضلعَ النّسمةِ
هل تكسّرت بُحَّةُأوتارها؟!
أم تعلَّقت بأعطافِ النّدى؟!
لتسرقَ المسافاتُ بكاءَ اللحاءِ
من خطواتِ الحُلمِ السّامقِ بحرقتِهِ
كأنّهُ عندليبُ البسمةِ الضّاويةِ
أهزُّ عرشَ السّرمَدِ العاتي
أصرخُ ملءَ انهياري
ياوهجَ التّفتُّحِ الأصمِّ أجِرني
يالثغةَ الأنداءِ الرّؤومَةِ
خذيني إلى ركنِ اليقينِ
إنّي أفتِّشُ عن نهوضي القاتمِ
مبعثرٌ أنا كأشلاءِ القصيدةِ
أقرأُ زغبَ البدايةِ الخرساء
على أوراقِ العتمةِ المالحة
في صحارى عمري القشيبِ
وثقوبِ روحي الغاشيةِ.*
مصطفى الحاج حسين.
إسطنبول
الفهرس:
=======================
01 - تقديم الأستاذة: سميرة شرف
02 - شقوقِ الماء
03 - أمنيات محالة
04 - عقوق
05 - أوّل الأسماء
06 - افتحي الباب
07 - بزوغ
08 - مطر الذّاكرة
09 - دول التحالف
10 - لسوء حظّي
11 - أيادي الإنكسار
12 - بوصلة العماء
13 - يا ناري
14 - المصير
15 - أناديك
16 - آهٍ لو تعرف
17 - زوابع الشتات
18 - قارعات الموت
19 - نسغ التّكوين
20 - أحبُّ موتي
21 - الدرب المرصود
22 - عرائش النّدى
23 - طاووس الغبار
24 - معراج الحنين
25 - لستَ بيوسف
26 - ليت للكلمات أيادٍ
27 - كلاب الثقافة
28 - يا سيد الخراب أنتَ
29 - شهيق الخراب
30 - رمق العبور
31 - ثقوب الغاشية
======================
مصطفى الحاج حسين.
ارتبط الإنسان بالشعر إبداعاً و تلقياً بأواصر التقدير و الانجذاب لعالمه الفريد في خلق ما يتميز و يتَّسم بخصوصيَّةٍ تتطلَّب جودةً و إتقاناً، تمكِّنه من حصد الإعجاب و التسليم بقدرته على التثقيف و الإمتاع و المؤانسة.
فأصبح الشعر ابتكاراً خلاقاً يدخل عالَم النفس و الروح، فيغيِّر فيها الألوان والطبائع و الصور. و من هذا المنطلق، انجذب كثيرون إلى منبعه، ينهلون منه ما به يمتِّعون و يستمتعون. فصار له حيزُ وجودٍ معتبَرٍ في كل زمانٍ و مكان و سطحاً يطفو على أديمه عمق الإحساس و الشعور باعتباره خلاصة تجربةٍ انسانيَّةٍ ذات معنى وهدف.
وتعدُّ عمليَّة إصدار ديوان شعريٍّ توثيقاً لقصائد شاعر أبدعها متفرقةً في الزمان و المكان، قد تكون في موضوع واحد(كالحبِّ مثلاً) أو قد تتعدَّد مواضيعها و تختلف في نفس المجال(الإنسانيِّ مثلاً) لتقوى به تجربته الشعرية والتي تمتدُّ في الزمن تطوراً و تفاعلاً مع المحيط الذي يعيش فيه و يسعى دوماً إلى إغنائه و الحضور فيه ببصمةٍ خاصَّةٍ و أثرٍ واضح.
و بين أوَّلِ قصيدةٍ ينظمُها الشاعر و آخِرُ إبداعٍ له، زمن معركةٍ نفسيَّةٍ و عاطفيَّةٍ تجعل المخاض عسيراً عند كلِّ ولادةٍ. مما يراكِم لديه كماً من المقاييس التي يستقيها من انطباعات المتلقين نُقاداً و عاديينَ، لتصبح بوصلتَه للتقدُّم نحو اتجاهٍ صائبٍ، معتمداً تجاوز العثرات السابقة لتحقيق إجادةٍ مُرضِيةٍ له و لغيره.
و يبدو أن ولوج عالَم الشاعر، رحلةٌ في غياهبٍ معلومٍ(القصيدة) للبحث و الاستكشاف و التقويم. و هذا ما يصبو إليه كلُّ ساعٍ إلى قراءة ديوانٍ، توفَّرتْ لديه الإرادةُ المولِّدةُ للإحساس من جديد ٍ.
و أنا أخوض غمار هذه الرحلة، وجدتها ممتعةً، مثمرةً، ساحرةً، بما وفَّرته لي من أسباب الدهشةِ و الانبهارِ بشخصية الشاعر مصطفى الحاج حسين،و بتجربتِه الحياتية التي يمكن اعتبارها بصدقٍ نموذجاً للعزيمة و الإصرار على تجاوز المعاناة بكل أشكالها، و التعلُّق بتلابيب الكلمة كطوق نجاةٍ من بؤسِ واقعٍ مريرٍ تكاثفت على تجسيده عديدٌ من الظروف الذاتية و الموضوعية.
إنه الأديب السوري مصطفى الحاج حسين، عبر ستة عقود من الزمن (مواليد حلب، 1961) تشكلت لديه معالمُ شخصيَّةٍ عصاميَّةٍ مكافحةٍ مبدعة، اختارت الكلمة سبيلاً للتعبير و التغيير. فكان شغفه بالقراءة و هو صغير إعلاناً عن أديب محتمَلٍ برز و هو يخوض تجربةً إبداعيَّةً بمحاولات في نظم الشعر و كتابة القصة القصيرة، ليصير أديباً تعترف باسمه المجلات الأدبية و الصحف و الملتقيات و المحاضرات، فيعلو صوتُه منابر الأدب و الثقافة في كلِّ المحافظات السورية.
و ستستمرُّ شعلته متقدةً لتتجاوز حدود بلده إلى العالم العربي، بمشاركاته المتميزة في المسابقات الأدبية، و حصوله على التفوُّق فيها عن جدارةٍ و استحقاق ٍ.
و للشاعر مصطفى الحاج حسين إصدارات سجل اسمه بها قيمة مضافة للساحة الأدبية العربية و منها:
في القصة:
(قهقهات الشيطان- المبدع ذو الضفتين)
و في الشعر دواوين:
01 - قبل أن يستفيق الضوء
02 - راية الندى
03 - تلابيب الرجاء
04 - أصابع الركام
05 - نوافذ على الجرح
و كلها طبعة ورقية
وله دواوين طباعة الكترونية:
06 - تابوت العدم
07 - أجنحة الجمر
08 - قصيدتي مقبرتي
09 - أبجدية القبلا
10 - ذبيح الجهات
11 - سعف السراب
12 - أخاديد الظلام
و هذا العطاء الأدبي منحة من الشاعر مصطفى الحاج حسين يروم بها التعبير عن الذات أولا و الوجود ثانيا بكل تجلياته المادية و المعنوية، و تفاعلها مع العيش و المأمول عيشه، باعتبار أن الشعر أرض الانفعال و الفعل لخلق التفاعل و هو مطمح كل أديب له رسالة التأثير على أرض الواقع.
و الشاعر مصطفى الحاج حسين، مسكون بالهم الإنساني عامة من ظلم و قهر و استبداد، يحاول دوما التمسك بانتمائه و وطنيته و قوميته كمقاربة حقيقية لقانون البقاء تحت ظل الجمال، وهو ما ستترجمه قصائده في هذا الديوان(شقوق الماء) الذي يستمد سماته من الطبيعة أولا(الفن الصادق) كما تشير إليه أغلب عناوين قصائده، و هي ستون قصيدة اتسمت بنبرة الحزن و الأسى و الحسرة و الأسف، مردها سعيه الحثيث إلى النفور من القبح و الرداءة. و بالمزاوجة بين المحسوس و المعقول في تمثله للأفكار و حسن صياغتها و رحابة المعاني التي تضمنتها قصائده، لاهثا وراء الجمال المعنوي في كل موضوع طرحه بانسياق فني تعبيري أعفاه من الالتزام بالقواعد الشكلية لاستمالة القارئ.
وقد برع الشاعر مصطفى الحاج حسين في الاقتصاد اللغوي في التعبير، مستجيبا فنيا لما يمليه الترابط المعنوي في الصياغة الشعرية، و الواقعية في المطاوعة الفنية لما يريد قوله، في إطار القصيدة النثرية الحداثية التي تعد تحررا من قيود القصيدة الشعرية السابقة لها زمنيا، استجابة لتطور العصر و تقدم آليات الأشتغال فيه حسب المتطلبات التي يفرضها الواقع المادي و المعنوي.
والشاعر مصطفى الحاج حسين مدرك لهذه الحركية المنسجمة مع رؤيته الفنية، لذلك جند لها إمكانياته و طاقاته الإبداعية للنجاح في إثبات ذاته الشاعرة ضمن كوكبة ممن آمنوا بالتحرر قبل الحرية، بإسهام مسهب في هذه الطفرة النوعية التي شهدها الشعر العربي الحديث و التي حققت انجازا فنيا كبيرا على مستوى تحديث الشعر العربي الذي كان، كسائر مناحي الحياة في حاجة إلى قوالب جديدة تستوعب تراكمات التغيير و تؤطره. فجاءت القصيدة النثرية، التي برع فيها شاعرنا و هو يتعامل مع التجربة الشعورية بها، بإبداع سيمكنها من الخروج إلى أرض الواقع، قصائد تشهد دواوينه على جمالها و جودة نظمها في هذا النموذج المستحدث.
وإذا اعتبرنا (شقوق الماء) آخر إبداعات الشاعر زمنيا، فلدينا أن نقيس قيمتها من حيث سلم التدرج للتطور الفني، بحكم ان الشاعر مصطفى الحاج حسين يسعى دوما إلى الأخذ بآراء النقاد و جمهور المتلقين، و الاستفادة منها بتواضع كبير، ليكون ديوان (شقوق الماء) مثالا على سعيه الحثيث نحو قصيدة أرقى و أجود و أنفع و أطول رسوخا في ساحة أدبية تعج بالانتاج و الإصدار و النشر و التوثيق إلكترونيا يكون فيها الانتشار الواسع و الإقبال الكبير على الأقوى تأثيرا و تغييرا في الفرد و المجتمع.
و في ديوان (شقوق الماء) أعتبر عناوين القصائد سرا من أسرار روعة النصوص في مدى إتقان الشاعر في جعلها جسرا من جسور العبور إلى قراءة النص و فهمه واستيعابه بشكل لا تجد فيه هامش خطأ في التوقع. لذلك فالتوقف عند العنوان و التمعن فيه، كفيل بأن يدل على مضمون القصيدة كلها، مثلا(عقوق، خصام، بزوغ، المصير، احتضار، غواية ،حشرجة...) يوجد المعنى نفسه مدرجا ضمن قالب لغوي تعبيري يشكل جسد قصيدة عار من التكلف و الحشو، منساق لدواخل الشاعر و مكنوناته للتشكيل على أحسن صورة ممكنة ستترجم لواعجه و مواجعه و فواجعه (أمنيات محالة، لسوء حظي، زوابع الشتات، أحب موتي، وصيتي..) بسحر شاعري يفرض الإعجاب برقي اللغة و تميز المعنى المرتبط بذات الشاعر المنصهرة في واقعها، تتجرع آلامه، فتبحث لها بدل الوجع و الأنين عن صورة أجمل تلفظ بها الآه عاليا.
و أفضل شاهد على ما سبق(شقوق الماء) عنوان الديوان الذي أفاض في رسم معالم الدقة في التصوير الفني و الرمزية السلسة في الجمع بين لفظي تركيبه جمعا سيولد استفزازا محمودا لقارئ الديوان في طرح سؤال سيجد جوابه في القصائد تباعا عندما ستثري مخيلته إمكانية التوفيق بين المادي/المادي، و المادي/المعنوي .
فالشق هو الصدع، و قد يكون ظاهرا أوغير غير ظاهر يحيل عليه التسرب البين للسوائل أو الأدخنة أو الأشعة، و كلها مواد ستصبح في العنوان معان تستنبط ونحن نطرح السؤال بصيغة سريالية تضفي عليه التفرد التعبيري في خلق تركيبة من عنصرين في الواقع (الشقوق/الماء) هي عنصر مستحيل (تشقق الماء).
وهنا ندرك ما للكلمة عند الشاعر من قدرة على خلق الدهشة و بث الاطمئنان إلى صورة تجد لها مرتعا في تخيلك، الذي بفضل دينامية التأثر، يرسم للماء شقوقا في لوحة لن تتكرر عند اثنين، لأنها إبداع المتلقي وحده.
نعم إنه الوصال المحظور حقيقة، المباح في الخيال، و هذا ما سيترجم لنا بمتعة، تلقي فظائع الواقع الخاص و العام للشاعر مصطفى الحاج حسين (الشقوق) في الماضي و الحاضر في كل مناحي الحياة: سياسيا(دول التحالف، ضمائر، من يحاكم الحاكم؟)
اجتماعيا(كفى، عقوق، خصام، حشرجة)
فكريا(كلاب الثقافة)
دينيا (يا سيدي الموت، أحب موتي، لست بيوسف)
وبصيغة تمكن من تحقيق مباشر للتعاطف و الشجب و المؤازرة باتخاذ موقف جديد، أو تصحيح موقف بدا خطأه، مع العلم أننا نتقاسم هذا الواقع مع الشاعر و نعيش معه فيه بظروف خاصة غالبا ما يكون فيها الهم واحد، و المطلب واحد، و المسالك متعددة.
وسيرتفع منسوب الانتشاء بهذا الغوص في كل العناوين ذات التركيب الإضافي مثلا:
(مطر الذاكرة، زوابع الشتات، شهقة المدى، طاووس الغبار، رمق العبور، شهيق الخراب)
وكلها تحمل من الصور الإبداعية معنى و مبنى ما سيشهد للشاعر مصطفى الحاج حسين على براعته الأدبية في النفاذ إلى أعماق نفس المتلقي لرجها و خلخلة عقله بما يتوفرعليه من قوة و صمود و وفاء للوطن و للأحبة و للقيم الإنسانية الفضلى و للتاريخ.
شكرا شاعرنا الكبير على هذه التحفة(شقوق الماء) والتي لامست حسي و ذوقي بما لامسته دواوين الشعراء الكبار الذين بصموا ذاكرتنا بروائعهم الخالدة.
الناقدة : سميرة شرف
المغرب
****
*****
******
* شقوقُ الماء..
في شقوقِ الماءِ
تندسُّ حرائقُ عطشي
أشربُ من رمادِ خطايَ
وأنادي على سقوطي
ليحملني إلى ضفّةِ التّبعثرِ
هناكَ سأشتلُ ظلّي
في أحراشِ هروبي
عبثاً أحملُ الدَّربَ معي
وأسافرُ في شهقةِ الرّيحِ
يا موجَ اللظى القادمِ
هذهِ أضرحةُ أحلامي
خذها مراكبَ محملةً بخرابي
أرتكزُ على دمعتي
يتنفّسني الاختناقُ
ويبصرُ في غصّتي موتي
أكادُ ألمسُ نبضَ العراءِ
وأمسكُ أيدي ذنوبي
خذني يا وجعي لحضنِ آهتي
وعرِّج على المدى المنخورِ
والمحفورِ في وريدي
سيشربُ من صمتي الزَّمانُ
وتأكلُ الغيومُ من لحمي
ما تشتهي البيداءُ
وأفاعي العدمِ
أنا الشّاهدُ على انتحارِ
البياضِ
والمحكومُ بالفواجعِ
وطني بلا أسوارٍ
داهمهُ العصفُ
وطني قيثارةُ الأمطارِ
طالَها القصفُ
أشربُ من لبنِ الرّيحِ
أشواكَ الكلامِ
ويقطرُني النّزفُ
عندَ بوّابةِ السّلام.*
إسطنبول
* أمنياتٌ محالة..
آهٍ لو يَنامُ دمي
ويستريحُ قلبي من عناءِ الضّجيجِ
وترحلُ عنّي أنفاسي
تغادرُني روحي
تتنزّهُ خارجَ حطامي
وأبقى وحيداً بلا أوجاعٍ
لا يحرقُني شوقٌ
ولا يُبكيني اغترابٌ
وحدي
لا تكابدُني عذاباتُ البلادِ
ولا أعرف أخبارَ الخرابِ
بفمي لا تتخشّبُ اللقمةُ
وبحنجرتي لا يتحجّرُ الماءُ
أنامُ ملءَ جوارحي
وأضحكُ بدونِ دمعٍ
أكتبُ قصيدتي
بمفرداتٍ من ورقِ الوردِ
أنادي من دونِ خوفٍ
وأجلسُ في ظلِّ الأمانِ
أتحسّسُ النّدى بأصابعِ لهفتي
وأحتضنُ عرائشَ الضّحى
دونَ أن ترجمَني الأقاويلُ
ليتني أقلّبُ أوراقَ ذاكرتي
وأضحكُ ملياً مع أصدقائي
من دونِ أيِّ غدرٍ
أو خيانةٍ
ليتني أمشي في دروبٍ
غيرِ ملغّمةٍ
وأحلّقُ في سماءٍ
ممنوعٌ فيها القنصُ
وأدخلُ غرفتي
من دونِ أن تعترضَني الحواجزُ
وليتَ ظلّي يحافظُ على أسراري
ولا يبيعُ رأسي لمن يشتري
بثمنٍ بخسٍ.*
إسطنبول
* عقوق..
تمضي عنّي
وكَأنَّ عُرُوقَكَ
ضاقت من دمي!
وتَنتَزِعُ روحي
من نبضِ وجودِكَ!
ما عادت أنفاسُكَ
تحتاجُ أغصانَ ربيعي!
ويباسُ دمعتِكَ
وجفافُ بسمتِكَ
وترابُ أصابِعِكَ
تقاطعُ ندى حناني!
اذهب
أينما شاءَ هجرُكَ
ابتعد
قدرَ ما أرادت قسوتُكَ
لا تكترث لانكساري
ولا لدمعي وأعاصيرِ ناري
لا تسل عنّي
ولا تَذكُرْني أمامَ الليالي
سأحضنُ موتي في غيابِكَ
وأقولُ لجرحي:
تجمّل وتجلّد
لا بدَّ أن يدركَ
كم سبّبَ لي من المواجعِ
حينَ تنبذُهُ الطّرقاتُ
ويسرقُهُ
من ظنَّهم بدلاً عنّي
وحيداً ستواجهُ الشّتاتَ
تُقرِّعُكَ الذّكرياتُ
ويعضُّكَ البردُ المسعورُ
تتمسّكُ بأذيالِ النّدمِ
وتصرخُ:
- يا أمّي
يا ضوءَ روحي
شبعتُ ذلَّاً في غربتي
وأكلَني نزيفُ القهرِ
سامحيني
واغفري ليَ انتحاري.*
إسطنبول
* أوّل الأسماء..
وتصرخُ تجاعيدُ روحي النّاحبةِ
في وجهِ الدّروبِ الهاربةِ
أطلّي على بكاءِ خطايَ النّاحلةِ
وسافري في لهاثِ دمي
اسكني فضاءَ اشتياقي المتّقدِ
ونامي على بساطِ التّشرّدِ
يتعكّزُ الموتُ على أسوارِ نبضي
تنمو الجِراحُ في حقولِ لغتي
يشهقُ السّؤالُ في آهتي الجَرداءِ
يا حلب تركتُ عندَ أعتابِ أمواجِكِ
نشيدَ أجنحتي العاثرةِ
وقيثارةَ الرؤى النّاهدةِ
ضمّيني إلى أعشابِ همسِكِ
حجراً يتعبَّدُ ظلالَ اسمِكِ
من ترابِكِ يتوضّأُ الضّوءُ
والسّماءُ تغفو على جنانِ صدرِكِ
لتركعَ النّجومُ في محرابِ عطرِكِ
أنتِ مَن تباهى بها اللهُ
وقالَ لملائكتِهِ عنكِ
هذهِ معجزتي
وهذه درّةُ آياتي
فاسجدوا
أوّلُ الأسماءِ قالَها آدمُ:
حلب..
أوّلُ أبوابِ الجَنّةِ
بوابةُ حلب
وأوّلُ الشّعراءِ تغنّى
بعشقِهِ لكِ يا حلب
يا وجهَ الأرضِ أنتِ
ظلُّكِ ماءُ اليابسةِ
أعيديني إليكِ متعبّداً يا حلب
خذي خلايا عمري وقوداً لنورِكِ
أعيديني ليتفتّحَ وردُ قصيدتي
وتبزغَ من أنداءِ ضحكتي
أسرابُ النّدى
وعلى أسطحةِ البهاءِ
ترسمُ أصابعي
قوافلَ الخلودِ الأشمِّ
أعيديني يا حلب
ليبدأَ فيكِ موتي
سامقاً كأمجادِ قلعتِكِ
الرّافلةِ بالمَدى المسحور.*
إسطنبول
* افتحي الباب..
افتحي الباب
تهدَّمَ شوقي
وتقوَّضَ حنيني
وتهالكت نبضات قلبي
وأنتِ لا تسمعينَ
خبطاتِ روحي المحترقة
تآكلت جدرانُ غيابكِ
تورّمَ زجاج نافذتكِ
واهترأ صدى الانتظار
أطلّي من شرفةِ الصّمتِ
انظري لتوقّدِ لهفتي
تأمّلي انكسارَ عمري
فقد جنّت ابتسامتي
وبكى عليَّ مزلاج هجرانكِ
الصّدئ
وأوشكَ مفتاح بابكِ
أن يثورَ بوجهِ.*
إسطنبول
* بـزوغ..
بِكَمْ تبيعُ النَّسمةُ صدرَهـا الطَّريَّ
للمعتقلِ؟!
بكَمْ تبيعُ جرعةَ المـاءِ الباردةَ
حقولَـها الواسعـةَ لهذا المُعتقلِ؟!
بكَمْ يبيعُ الفضاءُ أجنحتَهُ البيضاءَ
أيضاً لهذا المعتقلِ؟!
وهذهِ الشمسُ، كمْ ستطلُبُ ثمناً
لأنوثةِ ضفائرِهـا؟!
وماذا إنْ كانَ المُعتقَلُ
لا يملُكُ ثمنَ رائحةِ المطـرِ؟!
لا تـدِرْ وجهَكَ، يا أملُ
عنْ مهجَعِ المعتقَلِينَ
يبقى في قلبِ الذّبيحِ أملٌ
يبقى في صوتِ المخنوقِ
بقايا حشرجةٍ
وستظلُّ الأصابعُ النازفةُ
تتوجّسُ الجدرانَ
إلى أنْ يبزُغَ الثُّقبُ الأبيضُ.*
إسطنبول
* مطر الذّاكرة..
مطرُ الذّاكرةِ
يغسلُ أعشابَ الشّوقِ
ورياحٌ هوجاءُ
تسرقُ منّي أوراقَ البوحِ
ومساءٌ موحشٌ
ينادي دفءَ حضورِكِ
وأرى ابتسامتَكِ
تزهو في قطرةِ المطرِ
وتبلّلُ جنوني
أحبُّكِ يا اختناقي
ويا موتيَ الشّاهقَ
مسكنَ انتحاري
وموئلَ سقوطي
يناديكِ ارتعاشي
ودمعُ حروفي
أحبُّكِ والمطرُ يهمي في بكائي
تعالَي نرتّبُ فوضى ماضينا
ونضفي على صمتِنا المهجورِ
بعضَ الأغاني الهاربةِ
ودعيني أفضي إليكِ
بشموسِ قلبيَ الآثمةِ
سأعترفُ
بما اقترفت أصابعي
من كتابةِ القصائدِ عنكِ
وبما قالَهُ فؤادي
بحقِّ عينيكِ الغائمتينِ
حماقاتٍ جمّةً ارتكبَتْها أحلامي
حينَ خصَّصت أجنحتي
لمطاردتِكِ
كانَ عليَّ أن أنسحبَ
من بلاطِ حبِّكِ المقدّسِ
ليسَ من حقّيَ أن أحبَّ النّدى
ليسَ من حقّيَ أن أجهرَ باسمِكِ
ممنوعٌ عليَّ أن أطرقَ بابَكِ
أن أجلسَ على طاولةٍ
أنتِ موجودةٌ عليها
أن أعبرَ شارعاً قد تمرّينَ منه
أن أحيا بمدينةٍ أنتِ تسكنِينَها
أن أنتسبَ لزمنٍ أنتِ تملكينَهُ.*
إسطنبول
* دولُ التحالف..
يخونُني المجدافُ
حينَ أُبحرُ في لغتي
أصارعُ رياحَ القهرِ
أتصدّى لأمواجِ الخيانةِ
أعاركُ حيتانَ الغربةِ
وأشقُّ دربي
داخلَ لججِ الموتِ
أنا قبطانُ الهزيمةِ
أجرجرُ جرحي بصمتٍ وألهثُ
يلاحقُني سخطُ الفناءِ
الأرضُ تخلَّت عن ترابِها
السّماءُ تنكَّرت لسحابِها
والأشجارُ اغتالت ثمارَها
حتَّى أنَّ الشّمسَ
عضَّت فتيلَها
ولاذت في الظّلمةِ
والقمرَ فجّروه
بتهمةِ الإرهابِ
أبحثُ عن رقعةٍ تتّسعُ
لنزيفِنا
لآهاتِنا
لصرختِنا المعفَّرةِ بالاختناقِ
لا مكانَ لجثّةِ السّوريِّ
سقطت أقدامُنا من خطاوينا
وترامت عن إرادتِنا سواعدُنا
تدحرجت أسماؤنا في المدى
مَن يضمّدُ اندثارَنا؟!
مَن يحنو على ذلِّنا؟!
ومَن يطعمُ أرواحَنا
رغيفَ الكرامةِ؟!
لا مكانَ لرأسيَ المقطوعِ
ولا للسانيَ المبتورِ
ولا لأشجارِ أحلاميَ المثمرةِ
كلُّ الكائناتِ شاركت في ذبحِنا
حتّى الدُّودُ والزّواحفُ
العروبةُ في دمِنا
مزجُوها بالوباءِ
الإسلامُ في قلوبِنا
أحرقوا شفتيهِ
الإنسانُ في قاماتِنا
أتاحوا له النّباحَ
باسمِ دولِ التّحالفِ!!*
إسطنبول
* لسوءِ حظّي..
لم تأبهي بحبِّي
صَدَدتِ بابَكِ بوجهِ قصائدي
وكانَ عذابي
يسعدُ فيكِ الغرورَ والتّجبّرَ
تتكبرينَ..تبتعدينَ عنّي
تجرحينني
تتمتعينَ باحتراقي
وكانت دموعي رخيصةً
لأنَّ حبّيَ كانَ كبيراً
وشِعري عنكِ غزيراً.. قويّاً
رجوتُكِ أن تسمعيني
وأنتِ عنّي راحلةٌ
كم صرخةً من قلبي
هتفتُ خلفَكِ؟!!
وقلبُكِ يسخرُ من تتبّعي لخطواتِكِ
صرتُ أضحوكةَ أصدقائي..
والليلُ رفيقٌ ثقيلُ الظّلِّ
وسادتي تضيقُ بأحلامي
أحلامي تشكو من خيبتي
غرفتي سئمت ذكرَ اسمِكِ
قهوتي وسجائري وحدَهما
يشاركاني احتراقي
ضجَّت من رسمِكِ دفاتري
وأقلامي اعتراها النّزقُ
وقلبي لا يفهمُ
فاسمُكِ..صوتُكِ.. صورتُكِ
لا يبرحونَ النبضَ منّي
وروحي متعلّقةٌ بكِ
بدأتُ أكرهني
فأنتِ لاتستحقينني
اذهبي.. لا.. لا ترجعي
يا فتاتي
فأنتِ معقَّدةٌ.*
إسطنبول
* أيادي الانكسار..
تَراكَضَ بيَ الغيابُ
أخذني من حضنِ النّشوةِ
ورماني في غيهبِ العدمِ
التفّتِ الدّروبُ حولَ عنقي
وتهالكتِ السّماءُ فوقَ أنفاسي
يحاصرُني صريرُ المدى
وتمسكُني أيادي الانكسارِ
أنادي..
لكنَّ صوتيَ مقفلٌ
وأجنحتي تلهو بها النارُ
يا بلدَ النّدى
مشتاقٌ لضفائرِ النَّسماتِ
وهمساتِ القمرِ
كانت أمّي تمشِّطُ ضوءَ الصّباحِ
وتطعمُ قصيدتي من خبزِها
تحنو على وجعي فيزهرُ
وتسقي ظلمةَ قلبي
من حليبِ لمساتِها
فترفرفُ في داخلي الآفاقُ
ومن كلِّ صوبٍ
تباركُني الجِهات.*
إسطنبول
* بوصلةُ العماء..
أَرتمي على دمعِ خطايَ
أبلّلُ دربي باشتياقي
يعضُّ السّرابُ لهفتي
ويسرقُ منّي الغبارُ قامتي
تزحفُ غصّتي فوقَ اليأسِ
وتكبرُ بداخلي أنيابُ المسافاتِ
ينمو الجرحُ في رؤايَ
تهبُّ في وجهي الهزيمةُ
وأنا أتوغّلُ في آهتي
يا أمّي كيفَ المجيءُ؟!
والبحرُ يقضمُ أجنحتي!
يشتعلُ قنديلُ الاختناقِ
وتَرجُمني شواطئُ الغيابِ
يَعلَقُ الانكسارُ بأشرعتي
وتلوكُ النّارُ أوردتي
منعوا عنّيَ السّماءَ
سرقوا من لغتي الأرضَ
وصادروا لي الجِهاتَ
يفتّشونَ الليلَ عن حلمي
ويسلبونَ جيوبَ النّهارِ
مخافةَ أن يهرّبَ قصائدي
الماءُ يابسٌ
وأنا بلا شفتينِ
والهواءُ متفحّمٌ
وأنا بلا رئتينِ
والخبز مرٌّ
وأنا بلا شهيّةٍ
من يدلّني على ضحكتي
لأرتديها؟!
ومن يحفظَ ليَ اسمي
حتّى أعرفَني؟!
ومن ظنَّ دمعتي
أقحوانةَ ضياء؟!*
إسطنبول
* يا ناري..
يا ناري
لو تحرقينَ أشعاري
قبل أن تشي بأخباري
وتفضح أسراري
احرقيني
وانتشري في كتبي وداري
وأبعدي عنّي الحبَّ
الذي شبَّ بداخلي كالإعصارِ
ساعديني
قبل أن يتمكّنَ من دماري
لا.. لن أسلّم قلبي لامرأة
بعدَ اليومَ.. وهذا قراري
الحبُّ الحَقَ بي الأذى
عذّبني.. وأبكاني
وهدّمَ قلاعي وأسواري
اشتعلي في نبضي بجنونٍ
والتهمي مروجي وأشجاري
ولا تتوقفي حينَ أبكي
سرعانَ ماينتهي مشواري
أنتِ في دمي مأجّجةٌ
تأكلينَ ليلي ونهاري
لا ترحمينَ
ولا تتقبلينَ أعذاري
انهمري فوقَ يباسي
ولا تخشينَ الملامةَ
سأقولُ للجميعِ
كان هذا انتحاري.*
إسطنبول
* المصير..
على رقعةِ الغبارِ
سيكتبُ التّاريخُ حكايتنا
ويحفظها في فمِ اللهبِ
سيذكرُ تفاصيلَ مأساتنا
مزوّدةً بالحقائقِ الدَّامغةِ
على أنَّ قتلنا كانَ
مجرَّدَ اختبارٍ للعربِ
كم فيهم من طاقةٍ
على اللامبالاةِ
والتّفرجِ على ذبحنا
وتهجيرنا من صحنِ دارنا
دونَ أن يرفّ لهم جفن؟!
هم أوّلُ من أغلقَ الحدودَ
في وجهِ دمعتنا!
هم آخرُ من استنكروا
وراودتهم فكرةُ عقدِ
اجتماعٍ طارئٍ!
قالوا:
أنَّ طقسَ بلادهم
لا يناسبَ ما اعتادت عليهِ أجسادنا
من طقسٍ معتدلٍ
صحراؤهم ستكون شديدةً علينا!
طعامهم قد لا تستسيغهُ معداتنا الخاوية
وقد نخطئُ في معرفةِ قيمةِ نقودِهم
أمامَ الدّولار.. واليورو
وَمِنَ المحتملِ أن نقعَ في الإرباكِ
مابينَ أن نهمسَ بذلٍ كلمةَ سيّدي
بدلَ أن نهتفَ بفرحةٍِ - مولايَ -
وهنا تكونُ الطّامةُ الكبرى
ولهذا..
ولأجلِ أن ننعمَ بالرّاحةِ الأبديةِ
حرّضوا علينا الموتَ
من كلِّ الجهاتِ
وكانَ الموتُ مطواعاً لرغباتِهم
تفنَّنَ وأبدعَ وتألَّقَ
في طريقةِ حصادِنا
على عَجَلةٍ نموتُ
من غيرِ أيّةِ محاولةٍ للتصدّي
نموتُ ودمنا يبتسمُ
أمامَ عدسةِ التّصويرِ
للذكرى الخالدة
وفي مجلسِ الأمنِ المراوغِ
تُتلى أسماء القتلى بتأثّرٍ واضحٍ
لمنحِها بطاقة اشتراكٍ
للإقامةِ في مقابرٍ جماعيّةٍ
في هذهِ المرّة لا أحدَ يستخدمَ
حقّ الفيتو اللعين
كلّ الأممُ المتحضّرةِ
منحتنا حقّ الموتِ المباغتِ والجّماعي
وعلى كلِّ مهاجرٍ مشرّدٍ
أن يلحقَ بركابِ القتلى
إنقاذاً لكرامتهِ وسمعةِ بلدهِ
من دونِ اعتراضٍ أو تذمّرٍ
هذا قرارٌ دولي.. أتّخذَ بالإجماعِ
على كلّ مواطنٍ سوريّ بريءٍ
أن يموتَ وبأسرعِ ممّا ينبغي
حتّى تنعمَ إسرائيل بالطمأنينة
ويمضي عرسانهم إجازاتهم
لشهر العسلِ البهيجِ
في مرتفعاتِ الجّولانِ المغتصب
بهدوءٍ وسرورٍ
قالوا:
السّوريّ عاشَ أكثرَ مما يجب
ألم يكن أوّل من اخترعَ الأبجديّة؟
فمنَ الحكمةِ أن يزولَ
هذا الكائن القديم
ليتيح الفرصةَ لوجودِ الآخرينَ
وفي هذا
ترشيدٌ للتفجّرِ السّكاني.*
إسطنبول
* أناديك..
حينَ يهدأُ ندائي عليكَ
قلبي لا ينامُ
يتنصّتُ على قدومِ رائحتِكَ
وروحي تتلمَّسُ حنينَكَ
تعالَ..
اِجعلْ طريقَكَ من تحتِ شرفتي
على الأقل
مُر من طريقٍ زرعتُ لهفتي عليهِ
دمي في عروقِكَ
ألم يسألْكَ عنّي؟!
وروحي في كيانِكَ
ألمْ تشتَقْ إليَّ؟!
ماذا أنتَ فاعلٌ بانتظاري؟!
وهل ستتركُ دمعتي
عطشى للقياكَ؟!
ألمْ تخلقْ من شمسي؟!
ألمْ أطعمْكَ من نبضي؟!
أليس أنتَ ابني؟!
فلماذا تسقيني يداكَ اختناقي؟!
تعالَ..
أعطيكَ ما تبقى عندي من حياةٍ
أقدّمُ إليكَ ماءَ حلمي
وأودِعُ فيكَ ذهابي
لا تذبحْ قلبيَ الذي يخشى عليكَ
لا تجرحْ بسمتي التي تتلقّفُ أخبارَكَ
ولا تتركْني فريسةً لأشواقي
ليس لكَ سوى أبٍ واحدٍ
وحدَهُ يخشى عليكَ
ووحدَهُ يسألُ عنكَ
ويهتمُّ بأمرِكَ
فلا تقتلْهُ بعنادِكَ
ستندمُ
حينَ يتمكّن منّيَ الموتُ
حينها سيحيلُ بيننا قبري
ولن تتمكّنَ من الاعتذار.*
إسطنبول
* زوابعُ الشّتاتِ..
تتسرَّبُ منّي أشرعتي
وخطايَ محشوَّةٌ بالظّلام
أقفُ عندَ مشارفِ ضياعي
يلتهمُ السّرابُ أنظاري
ويتمسَّكُ بعريَّ البردُ
ليشربَ المطرُ دفءَ دموعي
أينَ تركتني دروبي؟!
تضحكُ الرِّيحُ بهزءٍ
من صراخي
ويعتمرُ الضّبابُ سقوطي
أينَ من كانوا رفقةَ هنائي؟!
من أكلوا من صحنِ حبّي
وناموا على سواعدِ ابتسامتي؟!
هل خطفتهم زوابعُ الشّتات؟!
يا ويلَ قلبي من هذا العراءِ الضّاري
.يرتديني صمتُ الحجرِ
ويقعدُ في حضنيَ النّزيفُ
وينهمرُ فوقي ترابُ الأسئلةِ
يا ليتَ للضوءِ رائحةٌ
.كانَ نبضي يهتدي إليهِ
ويأخذني لأعتابِ بلادي
وهناكَ..
سأمشّطُ للقلعةِ شَعرَها
وأمسحُ عن تاجِها
غبارَ الحروب
وأطوفُ على أحياءِ حلبَ الشّهباء
أكسو جدرانَها بقبلاتي.*
إسطنبول
* آهِ لو تعرف..
لو تعرف كيفَ يغرزُ الوقتُ
خناجرهُ في جذوعِ روحي
لو تعرف كم للّيلِ مخالبَ
تنقضُّ على حنجرتي
لو تعرف كم في الهواءِ
طعم اختناقي
وكم لجدرانِ غرفتي
عيوناً ترمقني بشذرٍ
وكم لسجائري من لغةٍ قاسيةٍ
توخذني بجمرِ لعناتها
وفنجانُ قهوتي يكادُ
يتكسّر على شفاهِ قلقي
لو تعرف كم للصباحِ
من ظلمةٍ تداهم انتظاري
لو تعرف كم مرّةً يتحشرجُ الماءُ
في ظمئي
وكم للصمتِ وجوهاً مرعبةً
حروفي تنهالُ عليَّ ضرباً
أقلامي تكتِّفُ آهتي
ودفاتري تسرقُ منّي
استغاثات حنيني
آهٍ لو أنّكَ تعرف
لماكنتَ أوقدتَ خوفي
أخشى عليكَ من نسمةٍ
تعترضُ طريقكَ
من لقمةٍ لا تستسيغها
من وسادةٍ تكونَ قاسيةً
تحتَ رأسكَ
وأخافُ عليكَ من فرحةٍ
تخيّب ظنّكَ
ومن صديقٍ يغدرُ
ببراءتِكَ
لا أثقُ بالأيامِ
لأتقبّلَ ابتعادكَ
مازلتَ صغيري
وعليّ الاطمئنانَ عليكَ
في كلِّ لحظةٍ.*
إسطنبول
*قارعات الموت..
على قارعاتِ موتي السّحيقِ
تتلفَّتُ جثّتي صوبَ الهربِ
وتبحثُ أشلاءُ صرختي
عن سماءٍ تتّسعُ لخيبتي الزّرقاء
حدودُ الفضاء مكسّرةُ الأصابعِ
لا تلتقطَ هزيمتي وتمضي!
لتمنحني نسائمَ طريّةً
الشّمسُ معفّرةٌ بالدّمِ
والأفقُ مثقلٌ بالخوفِ
شابت الجّهاتُ
وتجعَّدَ مسارُ الدّروب
أركضُ خلفَ ضحكتي
المتورمةِ بالفزعِ
أشدُّ حبالَ الحزنِ
وأعضُّ على دمعتي
لأمنعها من الانفحار
أنا في أزمنةِ التّلاشي
يفترشني التّرابُ
ويشتلُ في جمجمتي النّار
يشيّدني صدى تكسّري
يأكلني خواءُ الظّلام
ويكتبُ السّدى أشعارَهُ
على جدرانِ غصّتي
موتٌ ينمو في بلادي
على اتّساعِ الطّفولةِ!
على رمادِ الأمومةِ!
على إذلال الرّجولةِ!
وعلى أحداقِ النّدى!
فمن يرشُّ عطرَ الخلاصِ
على أنفاسِ سوريا؟!
من يوقفُ زحفَ العدم؟!*
إسطنبول
* نسغ التّكوينِ..
يجفّفني دمعُ موتي
بمناديلِ الرّماد
يحضنني انكساري
ومواجعي تحنو عليَّ
يحملني صمتي اليابسُ
على أكتافِ جراحي المتفجّرةِ
ويطوفُ بي على لهبِ آهتي
أجنحتي نشيج رؤايَ
وتمتدُّ المسافات
مابينَ اختناقي وبوحي
تتشابكُ هزائمي بسقوطي
ومن جحرِ عطشي
تطلُّ سماءٌ من تهدّمٍ
وغيوم من لظى القهرِ
أنا انهيارُ الأزمنةِ
وركامُ الهواء المتفسِّخِ
أنا صليلُ الجِّهاتِ
ونزيفُ المدى المنكمش
أتهجّى براكينَ التّلاشي
لاشيءَ يسندُ فتاتَ قامتي
غيرُ جدارِ العدم
وتسرقُ الظّلالُ مني خطواتي
تؤرجحني رغباتُ الغبارِ
تفترسني أنيابُ الحكمةِ
ويغتصبني بردُ الزّمهرير
تعبت منّي المقابر
وأنا في كلِّ موتٍ
أحطّمُ أبوابَ الرّغبةِ
وأشتهي دروباً ناهدةً
لأمتشقَ هامةَ الضّوء
وأرحلُ لمدينةٍ أنجبت أحرفي
وشيّدت الشّطآنَ لقصيدتي
وعلى تيجانِ قلاعها العصيّة
كَتَبَت..
حلب رحمُ الحياة.*
إسطنبول
* أحبُّ موتي..
رأيتُ بكائي يشحذُ لي
بسمةً
فبكيتُ من شدَّةِ فرحي
وأقبلتُ عليهِ
أبلِّلُ خدَّيهِ برطبِ شكري
يا دمعَ كلماتي
قصيدتي تدثِّرُ روحي
بفضاءٍ يتفتّحُ على الأمنياتِ
وتطيِّرُ في سماءِ آهتي
فراشاتِ الحنينِ
أحبُّ حزني
فهو مَن لا زمني
حينَ تخلّى عنِّيَ الهناءُ
ظلَّ يساهرُني
ويغفو في حضنِ شهقتي
ويطعِمُني بأصابعِهِ
فتاتَ الذّكرياتِ
وكانَ يناغي هواجسي
ويداعبُ احتراقي
ويزوّدُ اختناقي بنوافذِ السّرابِ
يا روعةَ آلامي الثّقيلةَ
حينَ تعصفُ فيها الليالي
كم كانت تضيءُ طريقَ انهزامي!
وتأخذني إلى قبرٍ رؤومٍ
يحتملُ جنونَ جثَّتي الرّعناءِ
وعبثَ أفكاري الشّريدةَ
بعيداً عن أعينِ الشّياطينِ
أنا لن أفارقَ
انكساري
ولن أتخلّى عن تبعثري
سأمسكُ بشعاعِ لهفتي الرّقطاءِ
وأتشبَّثُ بانتحاري
أحبُّ موتي
لا داعيَ أن أودّعَ الأمواتَ
ولا مَن هربَ من دفاعِهِ عنّي
كلُّهم شاركوا
باغتيالِ ابتسامتي المتفتّحةِ
وبقيتُ
أتعكّزُ على حلمٍ
مقوَّضِ الضّوءِ.*
إسطنبول
* الدّربُ المرصد..
قالت ليَ الدّروبُ:
- لا اسمَ لكَ في الوطن
ولا في قوائمِ القتلى
فارجع.. ولا تقترب
قبلَ أن أقضمَ قدميكَ
مرصودةٌ أنا
باسمِ الحاكمِ العسكريِّ
الذي يبيدُ الآثمينَ
لا تكن ملحاحاً فتقتل
لقد نفرت منكَ البلادُ
من يومِ أن تجرأتَ
ورفعتَ رأسَكَ عن الأرضِ
وتطلّعتَ صوبَ السّماء
وأنتَ لم تخلق إلاّ للترابِ
مع الزّواحفِ وجدتَ لتنمو
وتحصدَ الغلالَ لحضرةِ الوالي
لا تدنُ من ترابٍ يمقتُ ظلَّكَ
ولا من سماءٍ تتأفّفُ من قامتِك
أو بحرٍ متعطّشٍّ لخنقِك
اذهب..
حيثُ ما هربَ البقيّةُ
الوطنُ ليس لمن نادى للحرّية
لا حرّيّةَ هنا إلاّ للسادةِ الكبارِ
أنتم حثالةُ الضعفِ
رعاعُ الحاشيةِ
تعملونَ بلا أجرٍ
تأكلونَ لحمَ بطونِكم
تنامونَ فوقَ حصى العراءِ
ليس من حقِّكمُ الكلامُ
ولا كرامةً لكلِّ مَن يتأبّى
طوبى لحاكمٍ يدفنُ شعبَهُ
في رمالِ الخنوعِ
طوبى لأرضٍ تطردُ أصحابَها
وتستقدمُ إليها الغرباء.*
إسطنبول
* عرائشُ النّدى..
ستغفو الجّنازةُ على ظهرِ حنيني
وأنا أحاولُ إرسالَ موتي
لمسقط قصيدتي
وتشاركُ أحرفي في تشييعِ غربتي
وتقيمُ العزاء لدروبي
سيموتُ السّؤالُ على شفتيَّ
دمعتي..
الطّاعنةِ بالاشتياق
وتتهاوى رغبتي في المسيرِ
تنحدرُ منّي ماأحملُ من مسافاتٍ
فوقَ آهةِ عمري الغائرة
في اضمحلالِ الذّاكرةِ
ياموتَ الدّهشةِ
على أغصانِ جنوني
كنتُ أحبُّ أصابعَ احتراقي
وأكتبُ بحبرِ احتضاري
قصائد الأدغال السّامقة
وكانت السّماء
تتأرجحُ في ركامِ لهاثي
أنا من أضاعَ المدى
من شقوقِ قبرهِ
وأحرقَ بحرَ صوتهِ
وأفلتُّ من حضنِ أشرعتي
أثقالَ صمتي
سأبني لجثّتي
عرائشَ النّدى
وأتركُ في الأرضِ
أحصنةَ دفاتري
ليقرأني الماء.*
إسطنبول
* طاووس الغبار..
من شقوقِ الدّهشةِ
أتسلّلُ إلى نزيفي
أتنصّتُ على صمتي
وأسترقُ النظرَ إلى أحلامي
مخبّأةٌ في سراديبِ النّبضِ
لا تجهرُ بنارِها
أراها تفعمُ بالشروقِ
يتكَوَّنُ الفجرَ في دمي
وتنمو فضاءاتُ الصّهيلِ
ستولدُ في داخلي الصّرخةُ
وتدكُّ الأرضَ بالرّعدِ
سيهطلُ الضّوءُ من ظلمتي
ويثورُ ركامُ الخوفِ
إعصارُ جنونٍ حارقٍ
يحطِّمُ سدودَ الجَفافِ
ويرتطمُ بأحجارِ الموتِ
وتحبو على لغتي
أوجاعُ السّؤالِ
تنسابُ من أحرفي
جمراتُ الدّمعِ
أتلمَّسُ ما ضاعَ منّي
من وميضِ الخطواتِ
وفضاءٌ متعرّجُ الاشتعالِ
تتحسَّسُني شهقةُ الكلماتِ
وصوتي المترهّلُ النّبراتِ
المكبّلُ بعثراتِ العمرِ
تتوجَّسُني ملامحُ وحدتي
تخطفُ من وجعي احتمالاتِ الرّيحِ
وأشرعتي يمزّقُها صدى هروبي
ألاحقُ فيضَ التٌصحرِ
ألازمُ انهمارَ الرّجاءِ
أنا بكاءُ الأزمنةِ
وانتحارُ الهواءِ الكفيفِ
تركتُ خلفي بلاداً
مهدّمةَ الأضواءِ
ترزحُُ تحتََ وطأةِ الكارثةِ
يحكمُها طاووسُ الغبارِ
تلتهمُ ساكنيها
بلا أدنى ترددٍ
يزمجرُ العدمُ على أبوابِها
يحيطُها الانهيارُ
تحيقُ بها زلازلُ
البغضاءِ
القادمةُ من سحيقِ
الكفر.*
إسطنبول
* معراج الحنين..
صمتي في مهبِّ الكلامِ
وصوتي تسكنهُ الرِّيحُ
وأراني
أحتطبُ يباسَ أمنياتي
وأوزِّعُ فاكهةَ لغتي
على عماءِ الماءِ
ليبصرني ظلّي
ويجرّ آهتي لأعالي الطريق
تتأجَّجُ رمالُ الدّمعِ
في سماءِ وحشتي
وتنكرني جدرانُ رحيلي
أبحثُ عن كسرةِ أرضٍ
لأحطَ عليها أثقالَ روحي
تداهمني أوجاعُ حروفي
تأكلُ ماتبقى لي من فضاءٍ
والموتُ يتسلَّقُ عزيمتي
كلُّ الجهاتِ تفضي إلى نحيبي
وجثَّتي تعدو
في حقولِ الخوفِ
الهواءُ يتصبَّبُ عرقاً
وينصبُ لي شباكَهُ الرّقطاء
لأعلقَ في براثنِ الهاويةِ
ويقتحمني العراءُ الأسودُ
يمتطيني الهلاكُ المتوثِّبُ
إلى شواطئِ قامتي المتهالكةِ
جرحي يسكنهُ المدى اللائبُ
الجّبالُ تتظلّلُ بدهشتي
والليلُ يتعلَّقُ بركابِ انهياري
فإلى أينَ تتّجهُ مساراتُ شتاتي؟!
تعبتُ من دروبٍ تطرقُ بابي
وكلّما سلَّمتها خطايَ
تآمرت على حلمي
وغدرتني.*
إسطنبول
* لستَ بيوسف..
لستَ بيوسفَ
ولم يأكلكَ الذئبُ
ولا باعكَ أخوتكَ
أو رموكَ في بئرٍ عميقٍ
ولكنّني عميتُ
ما عادت تُبصرني كلماتي
ولا عادت تحمِلُني خطواتي
وغرقتُ بدمعِ أيّامي
نارٌ تنتشرُ بحنجرتي
وسكاكينَ تمزّقُ آهاتي
ليتكَ..
تركتَ عندي ذكرى تواسيني
أو كلاماً حلواً يلازمني
في غيابِكَ الملعونِ
كنتُ أكفكفُ بهِ
نزيفَ أوقاتي النّاحبة
لكنّكَ باغٍ شقيُّ
تُعذِّبَ شيخوختي
بجحودِكَ الفظِّ
في الصّبحِ والمساءِ
تنهرُ حبّي وحناني
وتتأفَّفُ
من حرصي عليكَ
تضيقُ ذرعاً من أبوّتي
وتظنُّ لهفتي
لا معنى لها
ولا قيمة.*
إسطنبول
* كلابُ الثّقافة..
أقولُ للكلماتِ
لا تَتبَعِيني
فما نفعُكِ
وقد أحرقتُ أصابعي؟!
ابتعدي
عن تسلِّقِ دمي
لن أُودِعَكِ في دفاتري
ما جدوى
أن أنزِفَكِ؟!
والقراءُ أداروا ظهورَهُم
وتوجّهوا نحوَ الظّلام!
وحدَهُمُ المخبِرونَ
يتربَّصونَ لكِ عندَ المُنعَطفاتِ
يعبِّئونَكِ في كيسٍ أسودَ
يحملونَكِ عندَ أقدامِ الوالي
لينالوا عطاياهُ
ثمَّ ينتشرونَ للبحثِ عنّي
في كلِّ الأماكنِ والزّوايا
وتأبى الأرضُ أن تحملَني
والأشجارُ تطردُني إنِ اقتربتُ
الهواءُ يفرُّ منّي
القمرُ مخبرٌ سرّيٌّ
والليلُ خائِنٌ لا يتستَّرُ
تطاردُني كلابُ الثَّقافةِ
تَتّبعُ أثري
تشمُّ حبري
وتدلُّ عليَّ تقاريرُ
الحرِّيةِ الكاذبةِ
تقدّمُ رأسي هديةً للمقصلة.*
إسطنبول
* ليتَ للكلماتِ أيادٍ..
ليتَ للكلماتِ أيادٍ
لتحملكَ إليَّ رغماً عنكَ
فأنتَ لا تجيبُ نداءَ قلبي
وقد أضناهُ الانتظار
واحترقت ينابيعُ نبضهِ
ليتكَ تدخلُ أحراشَ كلماتي
وتبصرُ نارَ الدّموعِ
وتحسُّ بأغصانِ أحرفي
التي تقصَّفت
من كثرةِ موتي
الذي لا يرتوي منّي
تعالَ..
يا من أدمنتَ تعذيبي
وتعوَّدَ قلبكَ على قهري
ولأنّي أسامِحُ
ظننتَ أنَّ فؤادي
بلا ذاكرةٍ
ألا يكفيكَ موتي
في كلِّ ليلةِ غيابٍ؟!
سل الليلَ عن أوجاعِ
روحي
سل القندِيلَ
عن ظلمةِ صوتي
تعالَ اسأل سجائري
كم أحرقني انتظارك
وأنا أطفئُ صمتي
بوابلٍ من قلقٍ وحيرةٍ
لكنَّكَ يابنيَّ
تملكُ قلباً أصمَّاً
بلا نبضٍ يلهو بأوجاعي
وينامُ بلا حنينٍ
لينهضَ صباحاً على نسياني
وكأنَّكَ لستَ منّي!!
وكأنَّ حليبَ أمُّكَ
كانَ ماءً مالحاً
تنفرُ من طعمِهِ
وطهرِهِ.*
إسطنبول
*شّهِيقُ الخراب..
أمسكُ بِبَصَري
وأنا أسقُطُ من علياءِ دمعتي
الذَّاهلةِ
عن إشراقةِ صمتي
ويتهاوى فوقي سَدِيمُ الهَواجِسِ
تنهارُ ذاكرتي
بما تحملُ من جثَثِ الولاداتِ
التَّائقةِ لضُحكَةِ الشَّغَفِ
الطَّالعِ من خلجاتِ النَّدى
أرتطِمُ بصدى الظُّلمةِ
ويتفجَّرُ نزيفُ السُّؤالِ
علامَ الأرضُ تركبُ أمواجَ
حَيرَتِي؟!
عَلامَ السَّماءُ تجثو على آهتي؟!
وعَلامَ الضَّوءُ يتيبَّسُ على أغصانِ
حروفي؟!
إنِّي أبتعِدُ عَنِّي
أغادِرُ فضاءَ صَوتي
تجتازني المدنُ المتهدِّمَةُ
يبتلِعُنِي ركامُ المدى
وخُطُواتي ظلَّتْ بلا دُرُوبٍ
تَمُوءُ أمامَ الجِهاتِ
والجِهَات ُ أسدَلَتْ صحاريها
تمشي من فوقي الزَّواحفُ
ألتقطُ سحابةً ضلَّتْ عنِ السَّمـاءِ
أريدُ قطرةً من شُعـاعٍ
إن كُنتِ تذكُرِينَ أشرعتي
يبكي السَّرابُ
يَنُوحُ التُّرابُ
يَشْهَقُ الخَرَابُ
وَيَصرُخُ الضَّبَابُ
قَدْ كُنتُ في غيرِ هذا الزَّمنِ
الآنَ ما عادَ للشمسِ غيرُ ظلمَتِهَا
وما عادَ للبحرِ سوى جَفَافِهِ
الأزرقُ صَارَ دَماً
الأبيضُ ارتدى عمامةً سوداءَ
والأحمرُ لوَّنَ كُلَّ الخرائطِ
أَهزُّ جِذعَ قصيدتي
تَسَّاقَطُ عليَّ المقابِرُ
وتهرُبُ منِّي أصابعي
خلفَ احتراقِهَا
فأصرخُ ملءَ عروبتي
يا أمَّتِي!!! قَدْ حانَ أنْ تُورقي
فيهاجمني التَّاريخُ
ويَطرُدُنِي الأجدَادُ
فأرتمي بقُشُوري.*
إسطنبول
* ياسيّدَ الخراب أنتَ..
منذُ زمنٍ سحيقٍ
وأنا أسكنُ دمعتي
لا أغادرُها أبداً
وهي لم تتخلَّ عنّي
حتّى في أشدِّ حالاتِ
الفرحةِ العابرةِ
عنوانيَ الدَّائمُ
الذي لم أغيّرهُ قط
دمعتي المتدفّقةُ
بالنارِ والحسرةِ
كتبتُ على بوّابةِ أيّامي
من هنا مفارقُ الغربةِ
تبتدئُ وتمتدُّ
إلى أقاصي الاختناقِ
حجرٌ يتكسَّرُ في دمي
ماءٌ يتصلَّبُ في حنجرتي
وصحارى قاتمةٌ تعصفُ
في صوتي
وأكداسٌ منَ الانتظاراتِ
ترقدُ في قلبي
أَفرد ْ لي ذراعيكَ يا حزنُ
يا أبتي
الذي تربَّيتُ في كنفِهِ
ليسَ لي غيرُكَ
لا أَئْتَمنُهُ على دمعتي المُتَجَدِّدةِ
وحدَكَ مَن يتقنُ رعايتَها
ويسهرُ على تفتُّحِها
فلا تهجرني يا أبتيَ الصَّلبُ
وقد بدأتُ أولى خطواتي
وأنا أمسكُ أصابعَكَ
لا أعرفُ سوى الظُّلماتِ
لا أثقُ إلاّ بالأوجاعِ
أنا ربيبُ الانهزاماتِ
نشأتُ في زمنِ الانهياراتِ
وحدَهُ الحاكمُ العربيُّ
مَن يستحقُ هتافاتي
تحيا يا أميرَ الموتِ
يا سيّدَ الخرابِ أنتَ
يا قاتلَ الأحلامِ البيضِ
اغسل قدميكَ بدموعِ الأوطان
ليرتفعَ علمُ البلادِ
فوقَ الجماجمِ.*
إسطنبول
* رمقُ العبور..
أسترقُ الكلامَ من غيابكِ
معاجمُ أضواءٍ تنبثقُ
من رائحةِ ظلالكِ البعيدةِ
تتنهَّدُ الأرضُ اشتياقاً لحضوركِ
وتتحسَّرُ السّماءُ شغفاً لضحكتكِ
قلبي يرسمكِ في كلِّ خفقةٍ
روحي تلوّحُ لكِ بمنديلِ التّعطّشِ
تتلفَّتُ الجِّهاتُ لقدومكِ
ويضجُّ الهواءُ من انتظارهِ
وأراكِ دونَ أن تأتينَ
تنشقُّ المسافاتُ عن وجهكِ
الرّمال تضيءُ الطّريقَ إليكِ
السّرابُ يتكمّشُ بضفائرِ همسكِ
والماءُ يتدفَّقُ من لثغةِ الحنين
أحبُّكِ...
والحلمُ يعاندُ صحراءَ أوجاعي
ألقاكِ...
في حضنِ النّسمةِ
في شبقِ الصّمتِ
نركضُ على جسرِ اللهفةِ
وأنا...
أمدُّ إليكِ رمقَ العبورِ.*
إسطنبول
* ثقوب الغاشية..
يتأبَّطني الغمامُ
يطوّقُ خاصرةَ حقولي
ويسقي من عصارةِ أحرفِهِ
أصابعَ لغتي السّاجيةِ
لتنهضَ قصيدتي بثقلِ ثمارها
تتّجهُ لعراءِ القلوبِ
تحفرُ في الدّمِ ظلالها
وتسكنُ شبابيكَ الرّيحِ
هناكَ تشعلُ فتيلَ النّضوبِ
لتمطرَ ذاكرةُ الأرضِ
أحصنةَ المدى النّابتِ
في سعفِ الأصيلِ
ويمتدُّ جوعُ النّهايةِ
يقطرُ منهُ خواءُ الأمدِ
الجَّانحِ نحو الانطفاءِ
كلُّ هذهِ الأمواجِ
من جراحِ السّراب
تتحطّمُ نشوةُ آفاقِ العطشِ
والموتٌ يرفرفُ بجناحيهِ
فوقَ شهقةِ الملحِ الجّليلِ
وأنا أتفقّدُ أضلعَ النّسمةِ
هل تكسّرت بُحَّةُأوتارها؟!
أم تعلَّقت بأعطافِ النّدى؟!
لتسرقَ المسافاتُ بكاءَ اللحاءِ
من خطواتِ الحُلمِ السّامقِ بحرقتِهِ
كأنّهُ عندليبُ البسمةِ الضّاويةِ
أهزُّ عرشَ السّرمَدِ العاتي
أصرخُ ملءَ انهياري
ياوهجَ التّفتُّحِ الأصمِّ أجِرني
يالثغةَ الأنداءِ الرّؤومَةِ
خذيني إلى ركنِ اليقينِ
إنّي أفتِّشُ عن نهوضي القاتمِ
مبعثرٌ أنا كأشلاءِ القصيدةِ
أقرأُ زغبَ البدايةِ الخرساء
على أوراقِ العتمةِ المالحة
في صحارى عمري القشيبِ
وثقوبِ روحي الغاشيةِ.*
مصطفى الحاج حسين.
إسطنبول
الفهرس:
=======================
01 - تقديم الأستاذة: سميرة شرف
02 - شقوقِ الماء
03 - أمنيات محالة
04 - عقوق
05 - أوّل الأسماء
06 - افتحي الباب
07 - بزوغ
08 - مطر الذّاكرة
09 - دول التحالف
10 - لسوء حظّي
11 - أيادي الإنكسار
12 - بوصلة العماء
13 - يا ناري
14 - المصير
15 - أناديك
16 - آهٍ لو تعرف
17 - زوابع الشتات
18 - قارعات الموت
19 - نسغ التّكوين
20 - أحبُّ موتي
21 - الدرب المرصود
22 - عرائش النّدى
23 - طاووس الغبار
24 - معراج الحنين
25 - لستَ بيوسف
26 - ليت للكلمات أيادٍ
27 - كلاب الثقافة
28 - يا سيد الخراب أنتَ
29 - شهيق الخراب
30 - رمق العبور
31 - ثقوب الغاشية
======================
مصطفى الحاج حسين.