عبد الرحيم جيران - الهوية والتجديل بين الإرادة والفعل

إذا كنّا قد عالجنا في المقال السابق الهوية من زاوية علاقتها بإرادة البقاء ووعي العزاء ومرض الزمان، فإننا نسعى في هذا المقال إلى فحص الكيفية التي تعمل بها، خاصة على مستوى إرادة البقاء.
أكيد أنّنا لسنا كبقية الكائنات في ضمان البقاء عن طريق الاعتماد على ما تزودها به الغريزة من إمكانات وتوجيهات فطريّة، ويكمن اختلافنا عنها- في هذا الصدد- في نزوعنا نحو معرفة إرادة البقاء؛ أي كيف نحسِّنه، ونتجاوز نقصنا الذي هو محفور في جسدنا (لا نطير مثل الطائر: ديكارت). وتُثار هنا مجموعة من الأسئلة الإشكاليّة: هل يُمْكِن تفكّر الهوية خارج التعالق بين الإرادة والعمل (الطاقة الداخليّة التي تدفعنا إلى الفعل) والفعل الذي هو تجسيد للإرادة؟ أتُعَدُّ الهوية مجرّد فعل أم تفاعل بين الصورة- القوقعة التي نحملها منذ انخراطنا في شبكة الأدوار التي يقترحها علينا المجتمع، لكي نضمن البقاء الجيِّد مقابل البقاء السيِّء؟ وإذا كان الأمر كذلك فما هي الصيرورة التي يخضع لها هذا التفاعل؟ كيف يُمْكِن تفكُّر هذا التفاعل في ضوء الاختيار والتمنّي (أرسطو)؟ وما المبدأ الأساس- من بين المبادئ الخمسة المكوِّنة للتصوّر التجديليّ التضافريّ (علبة السرد) الذي يمظهر هذا التفاعل؟
كلُّ هوية لابدّ لها من إنعاش وتنشيط مستمرَّين، وهي هذا الذي يُشعرنا بأنّنا منخرطين في انعكاس الذات على نفسها؛ أي إدراكها نفسها، في الوقت الذي تُدرك ما تُريده وتفعله. إنّ إدراك الذات لنفسها في ما تفعل ماثلٌ في حالتين: الحالة التي تسعى فيها الذات إلى بناء صورتها- القوقعة وتجسيدها في الواقع (أريد أن أكُون طيّارًا) أو الإصرار على الحفاظ عليها إذا ما كانت مُحقَّقة (أريد أن أبقى طيّارًا). وعلينا أن نُعيد النظر- هنا- في التصوّر الذي يجعل من الإرادة فردانيّة الطابع (بول ريكور) مقابل جعل العمل مشتركًا جماعيًّا؛ فهي في نظرنا تجديل بين الفرداني والجماعي، إذ يمدُّنا المجتمع بالصور- القواقع التي تُعَدُّ ضامنة للبقاء الجيِّد (لاعب كرة قدم – كاتب- طبيب- رجل أعمال..الخ)، التي تُحدِّد توجّه الإرادة منذ الصغر، ويبقى اختيارنا هذه الصورة- القوقعة أو تلك دالًّا على الفرادني الخاصّ، وكذلك شكل السعي إلى تحقيقها أو الحفاظ عليها. ويُعَدُّ التضافر- هنا- بين التمنّي الممْكِن (لا المستحيل) والاختيار (تحديد ما نريد) أساسَ كلّ بناء للهوية في إطار جدلية البقاء، مع التجديل بين الأمل واليأس. يسمح هذا التصوّر التجديليّ بين ما يسنّه المجتمع من مجارٍ لتحقيق الصور- القواقع والسعي الفرداني لتحقيقها انطلاقا من التضافر بين التمنّي والاختيار بتجاوز مفهوم الهوية بوصفها فعلًا فحسب؛ وتجاوز ربطها بالبعد الأحاديّ للإرادة. ما معنى هذا؟ إنّ كلّ هوية مريدة منشِّطة للبقاء الحيويّ قائمة على التوجّه نحو المستقبل (هدف: حنا أرندت)؛ لكن ينبغي تفكّر هذا التوجّه في إطار تجديلين: تجديل ببن الإثبات والنفي، وتجديل بين التصوّر (التطلّع) والتحقّق. ولا ينبغي النظر إلى التجديل الأوّل من زاوية الكائن الواقعيّ، بل من زاوية ما ينبغي أن يكُون، والذي يُمثِّل الإثبات، وما لا ينبغي أن يكُون الذي يُمثِّل النفي؛ فالذات تحاول- في سعيها نحو بناء الصورة- القوقعة الدالّة على الهوية- تأكيدها عبر السعي إلى تجسيد ما ينبغي أن تكُون عليه، وعلى نحو أمثل مميَّز، لكنّها تسعى- في الوقت ذاته- إلى تلافي ما لا ينبغي أن تكُون عليه الصورة ـ القوقعة؛ أي ما يضرّ بنموذجيتها التي هي نموذجية مهيَّأة في مجال السموت habitus الاجتماعيّة (بورديو). لكنّ الهوية قد تحدث بتغليب النفي على الإثبات (التمرّد على الصور- القواقع التي يُقدِّمها المجتمع). وينبغي النظر إلى التجديل الثاني (التصور والتحقُّق) من زاوية المقارنة بين ما حقَّقناه في الحياة والصورة القوقعة التي هي كامنة في تصوّرنا الأوليّ (الإمكانيّ) والتي هي مسوِّغ لوجودنا وشكل أوليّ لتنشيط البقاء الجّيد. وكلّ توتّر بين المتحقِّق والصورة- القوقعة المنطلق منها يفضي إلى نوع من الازدواج القيميّ الذي يُولِّد ازدواجًا نفسيًّا يتّخذ شكل تضافر بين تمجيد الصورة غير المتحقِّقة (والذي يظل في النفس في هيئة أثر) وهجائها الذي يتّخذ شكل تبرير. وتحضر- هنا- ثنائية المُمثِّل والمُمثَّل (نورثروب فراي: السنن الأكبر)؛ فالمُمثِّل يُجسِّد شكل الصورة- القوقعة، بينما يُجسِّد المُمثَّل محتواها؛ ومن ثمّة ليست الهوية إلّا هذا التطابق بين الاثنين (الشكل والمحتوى) أو تنافرهما؛ ففي منطلق بناء البقاء الجيّد يسبق الشكل (صورة ما نريد أن نكُون عليه) محتواها الذي هو في نهاية المطاف ما حقّقناه. لكن الأمور لا تحدث دومًا هكذا، وينبغي تذكّر أنّ الإنسان يعتمد في ضمان بقائه على معرفة إرادة البقاء؛ وهذا كافٍ لإدراك أنّ الفرد يستطيع- في سعيه إلى تحقيق الصورة- القوقعة (المُمثِّل: الشكل) في الواقع- مراجعة اختياراته وتعديلها بما يتناسب مع إدراك حدود قدرته (العمل action)، أو مع معطيات واقعية غير مُسعِفة. وهذه المراجعة هي التي تسمح للفرد بإدراك نفسه في ما يفعل.
تجعلنا فكرة المراجعة نتنبّه إلى المبدأ التجديلي التضافري الحاسم في بناء الهوية في ضوء السعي إلى الحفاظ على البقاء أو تحسينه بنقله من شكل سيّئ إلى شكل جيِّد. وما هذا المبدأ سوى تضافر ثنائية (الانتظام/ الاضطراب) التي هي مُحرِّكٌ لكلّ تكوُّن منظور إليه من زاوية التزمّن (الانتقال من حالة إلى حالة في الزمان). إنّ الهوية قائمة على الاستمرار والتعرّف، وهذان هما ما يضمنان انتظامها، لكنّهما لا يتحقّقان إلا بتماسك الذات؛ وهذا التماسك ناتج عن تطابق المُمثِّل (الشكل) مع المُمثَّل (المحتوى)، أو تطابق التصوّر مع التحقّق؛ أي تطابق ما نحصل عليه من نتائج على مستوى الفعل مع الصورة – القوقعة التي هي منطلق أساس في نشوء البقاء الملائم. لكن الانتظام يتمّ من خلال تضافره التجديليّ مع الاضطراب الذي هو ناتج عن عناد المادة أو الواقع؛ أي أنّ السعي إلى تحقيق الصورة- القوقعة لا يتمّ على نحو مُريح؛ فلا بدّ من أن يتعرّض إلى معوِّقات. وهذه الأخيرة تعمل إمّا على تطوير القدرات أو على خلق نوع من الإحباط. وتُعَدُّ مراجعة الاختيارات المنطلق منها باستبدالها بغيرها مظهرًا للتجديل بين الانتظام والاضطراب. وتُقدِّم رواية «شرق المتوسِّط» لعبد الرحمن منيف مثالًا جيِّدًا لهذا التجديل؛ حيث يُحدِث توقيع التعهّد من قِبَل رجب إسماعيل اضطرابًا في المنتظِم (صورة المناضل)، لكنّ هذا الاضطراب يخلق أزمة تتمثَّل في التوتّر والازدواج النفسيّ اللذين ينتجان عن استمرار الانتظام في هيئة صورة- قوقعة مستحوِذة؛ الشيء الذي يُفيد بأن الاضطراب الحادث في الصورة ليس نهائيًّا، بل شكلًا مُؤقَّتًا لمراجعة الاختيار (البقاء في السجن: النضال) يُفضي- في النهاية- إلى إعادة ترميم الذات وتقوية المُنتظِم (صورة المناضل).


أكاديمي وأديب مغربي

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى