عبدالله البقالي - ابجدية الموت

نص مهدى لكل للذين يكابدون ويكافحون ضد مرض السرطان.


أكان قدرها سينحو بشكل مختلف لو أنها كتبت جملتها الاخيرة بضمون مغاير؟ و هل كان الغلاف الاخضر لدفترها والمكسر لإيقاع اللون الوردي الذي اختاره كل الاطفال لونا لدفاترهم تميزا اعتمده الموت كإشارة للتعرف عليها؟
ثم من أين لهذا الإبهام المتمرد على التفسيرات كل هذه القدرة على العبث بالصروح الحياتية و الثوابت و معاني الجمل والكلمات؟
افتح الدفتر. اقرأ الجملة الاخيرة. ينجذب تركيزي لينصب على البياض. هذه الاوراق المتبقية لن تكتب. والانامل التي عكرت الصفحات السابقة لن تتحرك ثانية على مساحات الركض المتبقية. لقد ماتت هجر.
على مقعد الطاولة الاولى من الصف الاوسط كانت تجلس. لم تكن بصدد بدايتها الاولى. عند بداية كل موسم كانت تظهر. وبعد شهور قليلة كانت تختفي. ولا أحد تطوع مرة لتعليل اختفائها. لكن بالرغم من ذلك، فحضورها كان يظل متواصلا.
لم تكن الوحيدة صاحبة الحضور المتميز. لكن حضورها كان شبيها بعبور نيزك او جسم سماوي ضخم في سماء شتوية، لا تستطيع النجوم مهما تلألأ ضوؤها من أن يشوش عليه ويغمره بضيائها، ولا أن تعطل احتفاء المسافات بموكبه المبهر وهو يقطع رحاب اللامنتهى. غير ان هذا الجرم بدا اخيرا وكانه اصطدم بكوكب ضخم افقده رشاقته. ولاح على ملامحه تعب السنين، او كانه مل من مواصلة رحلة لا نهاية لها.
في حضورها الاخير لم اسأل احدا عما كانت تعاني منه. لقد كان الاهم في منتهى الوضوح. طفلة تعيش لحظاتها الاخيرة. صار الامر مشكلتي. هل اتصرف وكاني لا اعلم شيئا عنها، ام اصطف مع بقية المشيعين، وأحاول منحها ما يكفي من تذكارات وصور قد تؤنسها في رحلتها الطويلة؟ هل اقحمها في صلب ما اعتبره واجبا محاولا بذلك ان اطرد عنها كل الافكار المؤرقة، والدفع بها كي تشعر أنها ككل الآخرين الذين يعدون انفسهم للقادم من الزمان، أم امتثل لصرامة الحقيقة في كوني لست اكثر من شخص في حافلة تجاوره مسافرة ستغادر الرحلة بعد حين؟
كان وضعا في منتهى القسوة، لكنه كان أقل بكثير مما كان بحدث في كبدها وفي كل انحاء جسدها. كانت تعاني. والالم سلطة لا تقوى على فك شفرته لا اللغة ولا الرسم او التصوير او التمثيل. يجنح يمن يسكنه الى مرتبة أقسى من الموت، وأبشع من الحياة حين تتنكر لكائناتها.
انظر لذلك الجسم الصغير الذي قدر له أن يحاور الموت وهو لم يتشكل كليا بعد. كنت افكر في فعل شئ ما. احاول ان افهمها انها هنا. وأن عليها ان تتمسك بالحياة. لكني اعود لاتساءل ما ان كانت لغتي تلك افصح من ابجدية الموت. وما ان كان تحريضي لها اقوى من طاقتها المخزونة فيها.
اكلفها بإنجاز. تغادر مقعدها. تكتب على السبورة، ثم تستدير راسمة ابتسامة سرعان ما تنفرج اكثر بعد ان تقرا ملامح وجهي. و بعدها تلقي نظرة على وجوه الاخرين منتشية بربح التحدي. ثم تمد خطوات فقدت الكثير من الرشاقة، وبعد أن تصل مقعدها، تكون قد ولجت عالما، وتركت اخر خلفها.
أعود و اتساءل: هل كانت جملتها الاخيرة هي كلمة السر التي فتحت بوابة عبورها الى العالم الاخر؟
اقرا ثم اقرا: ركبت إنصاف فرسا.
انقل بصري الى البياض ثم البياض، وكاني ابحث عن اثار لذلك الركوب الذي قد يكون ابتدا من هناك. انتبه فجاة الى قساوة البياض. اتامل دلالاته المرعبة التي لم ادركها من قبل. اعود للجملة واتساءل: الى اين كان يمضي ذلك الركوب؟ وما هذا الفرس؟ هل يتحرك مستعملا قوائمه ام انه مثل ذلك الذي له جناحان تؤهله لاختراق اجواء توجد خلف سلطة رصد الحواس و الادراك؟ وهذا الانصاف، من اي نوع هو وفي اي قضية؟ من ينصف من؟ وعلى اي اساس؟
غامت الاجواء حولي. اختفى كل شئ، ولم يظل ماثلا امامي سوى انه كانت هنا طفلة في عمر الزهور. اغتصبتها يد المنون وهي بصدد لعق اول قطرة من الندى.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى