أمل الكردفاني- ممشى الولد والكلب، تجريب إبداعي أم مقاومة؟

القصص والحكايات تاريخية، البداية والوسط ثم النهاية، هكذا تحدد تقاليد قديمة منذ ما قبل أرسطو معايير الأدب. لكن العالم تغير، الحكايات ملأت الدنيا، ومع ذلك فالقصص تكرار مستمر لعالم تجاوزها عبر التكنولوجيا السحرية منذ ظهور الحاسب الآلي وحتى الذكاء الاصطناعي، ولكن لا زال التقييم الأدبي كلاسيكي المعايير، رافض للتجريب، دفاعي وأصولي.
على ضوء ما سبق، فإن الأدب متأخر جداً، وسيتأخر أكثر كلما ازداد نصب حراسات للمعابد ومشانق ومقاصل للمقاومين، وكلما ظلت معايير المسابقات هي السائدة بدلاً عن مقاييس الإبداع. ومقاييس الإبداع شخصية في كل الأحوال، وهذا ما يجعلها مضطربة ومعتمدة على التسويق الذكي أكثر من النقد العميق. وهذا ما يعاني منه المبدعون الحقيقيون، حيث ينتهي بهم الأمر إلى الانحطاط ليجاروا قانون السوق الثقافي والأدبي، بدلاً عن المغامرة. نعم، هذا ما أعانيه ويعانيه كل من يحاولون تقديم جديد في الكتابة، والعمل داخل النص بشقه الشعوري متوازياً مع أواليات التلقي. والغريب أن هذا التوجه سبق الأدب في الفلسفة، ليس منذ نيتشة بل أرى أن انطلاقه الفلسفي بدأ مع هايدجر تحديداً في الكينونة والزمان وغيرها من مؤلفاته العميقة التي لا يمكن قراءتها بالوضع التقليدي للقراءة، بل قراءتها شعورياً ومنطقياً على حد سواء.
خلال مائة وخمسين عاماً منذ نيتشة وحتى الآن قفز الخطاب الفلسفي، وتراجع الأدب بشكل ملحوظ سواء على مستوى القصة أو الرواية أو المسرح، والسبب غير واضح بالنسبة لي لكن أعتقد أن التوجهات التجارية لعبت دوراً كبيراً في ذلك، وبدون مواربة؛ لأن الرأسمالية ترغب في ذلك.
ستعاني كتاباتنا من سكاكين الهيمنة السياسية على الأدب، كما هيمنت السياسة الحديثة على كل شيء، حيث لم تعد السياسة مجرد فعل ورد فعل، بل سيطرة شاملة على العقل بمساعدة كل العلوم والمعارف بما في ذلك المعارف التي تعتبر زائفة. فالعالم -بالنسبة لمنظري النظام العالمي الجديد- لن يتحمل المغامرين خارج المنظومة. هكذا اطلقوا علينا وصف المغامرين. وهكذا يتم سحقنا كحشرات حتى نكون عظة وعبرة للآخرين.
لكن السؤال الذي يجب أن نطرحه ونجيب عليه أمام أنفسنا فقط: ماذا نريد نحن؟ وهو سؤال يمس كبرياءنا مساساً مباشراً، إذ أن طلب الاعتراف من المنظومة هو في حد ذاته انحطاط يجب أن نبرأ منه، ولكن في نفس الوقت فإن القول بغير ذلك سيعد نوعاً من المثالية المزيفة. إننا كبشر لن نستطيع أن نحيا منفردين، فحياتنا كلها من أجل الآخر، على الأقل في الثقافة المدنية التي تجعلنا نبحث عن إثبات الذات عبر عيون الآخرين: الوظيفة المرموقة، والسيارة الفارهة، والقصور ذات الأبراج، والتحدث بأكثر من لغة، والملابس والعطور الغالية، وحتى تحسين أجسادنا بالحمية الغذائية، فلا شيء لنا نحن على وجه محض، اللهم إلا عندما نحيا بعيداً في الريف، بعيداً عن المدنية، وعندما نريد أن نعيش كأشخاص عاديين كالراعي الطيب. ولكننا لسنا هكذا. إن مشكلتنا كخارجين عن التناصات الثقافية ليست فقط في المنظومة بل فينا نحن أيضاً في روحنا المتململة وغير المستقرة والمتمردة، الساخطة على المعادلات الخطية البسيطة. فهل نحاول أن نعالج كبرياءنا المجروح ونهبط إلى مستوى البشر أم نواصل المقاومة لأننا نعتقد بأننا آلهة فوق الأرض؟

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى