د. زياد العوف - فصلُ المقال في ما بين الدّين والسياسة من اتّصال...

لا بُدَّ من الاعتراف ابتداءً بأنّ التشابه بين عنوان هذه المقالة وكتاب الفيلسوف الأندلسي العظيم ابن رُشد ( ١١٢٦-١١٩٨م ) المسمّى " فصلُ المقال في ما بين الحِكمة والشريعة مِن اتّصال"
يقفُ عند حدود العنوان وحده؛ فإذا كان ابن رشد يتوق إلى نفي التعارض بين الفلسفة " الحِكمة" والدين، فإنّ مقالي المتواضع هذا يسعى جاهداً لبيان الأصول القديمة في تاريخنا الإسلاميّ للعلاقة الملتبسة بين الدين والسياسة.
ليس من أهداف صاحب هذا المقال، إذاً، إثارة النَّعَرَات الدينية أو السياسّية بحالٍ من الأحوال؛ بل العكس هو الصحيح، إذ يطمح كاتب هذه السطور إلى وضع الأمور في نِصابها بعيداً عن تزييف التاريخ واستغلال الدِّين، تأليفاً للقلوب، وتزكية للنفوس، بما يعود بالخير على الجميع .
ينصرف الاهتمام هنا إلى محاولة كشف النّقاب عن هذه العلاقة المُلْتَبِسة في تاريخنا الإسلامي، وما سبّبته من خسائرَ وأضرار، وما جرّته من عِلل وآفات، طالتْ، ولا تزال تطال، كلَّ جوانب الحياة في مجتمعاتنا العربية والإسلامية على اختلاف في الشدّة والدّرجات.
إنْ الاستعراض الدقيق والمنصِف والأمين لصفحات تاريخنا الإسلاميّ يُظهِر بما لا يدَع مجالاً للشكّ أنّ أصول هذا الالتباس بين ما هو دينيّ وسياسيّ إنّما تعود إلى مسألة خلافة الرسول؛ إذ إنّه، صلّى الله عليه وسلّم، قد توفّيَ ولم يعيّن خليفةً يخلفه من بعده، في أرجح المصادر والأقوال، كما أنّه لم يحدّد منهجاً أو طريقة لاختيار هذا الخليفة، والدليل على ذلك، كما يلاحظ أحمد أمين، صاحب كتاب ( ضحى الإسلام ) :
" ......أنّ المهاجرين والأنصار اختلفوا، فقالتْ الأنصار منّا أمير ومنكم أمير، وردّ عليهم المهاجرون."(١)
هنا في هذه اللحظة المفصليّة من تاريخ الإسلام بدأت تتشكلّ ملامح أهمّ " الفِرق الدينية " التي كانت تنتصرُ لهذا المرشّح أو ذاك، مغلّفةً دعواها بغلاف برّاق من آيات القرآن الكريم، أو الحديث الشريف، أو الوقائع والقصص والمواقف، أو كلّ ذلك معاً، بما يخدم موقفها ويعزّز حظوظ مرشّحها. فتمَّ تأويل آيات الكتاب المحكَم وتفسير آياته ذات الصلة بما يخدم مصلحة هذه الفِرقة أو تلك، وتمّ تفسير الأحاديث، بل واختلاق بعضها للغرض ذاته، وكذلك هو الشأن مع القصص والشواهد الأخرى، سواء الصحيحُ منها أم المزعوم.
واقع الحال، إذاً، أنّنا أمام أحزاب سياسية تتناسب مع طبيعة ذلك العصر، لا أكثرَ ولا أقلّ، وإن ارتدتْ لبوس الدين ورفعتْ شاراته ولوّحتْ بشعاراته.
أعود مجدّداً إلى الكاتب والمفكّر والمؤرّخ الموضوعيّ أحمد أمين مستدلّاً بهذه العبارات المنطقية الهادئة:
" ...ولو نظرنا إلى المسألة بعقلنا اليوم لقلنا إنّها مسألة سياسية بحتة، فالدين لم يقيّد المسلمين فيها بشكل خاص...وكلّ ما قيّدهم به أن ينظروا إلى الصالح العام، فأُولُو الرأي في الأمّة يضعون القوانين التي تكفل حسن الاختيار....ويختارون مَن يحقّق المصلحة العامّة، ويعزلون مَن لا يحقّقها، وينظرون في كلّ زمن ما يناسبه، ويتقدّمون في فهم ذلك بتقّدم الناس في فهم الحقوق والواجبات؛ فإذا حدث خلاف بين أُولي الرأي فيما يُتَّبع وفيمن يختار فالخلاف سياسي، كالذي يكون بين الأحزاب السياسيةاليوم..........ولكن لم يكن الأمر على ذلك النّحو في ذلك العصر الذي نؤرّخه، فلم تتّخذ الأحزاب هذا الشكل السياسي البحت، بل اصطبغت صبغة دينيّة قويّة، وصار كلّ حزب سياسيّ فرقة دينية، وصار الذين يقتتلون سياسياً يقتتلون دينياً وبدلَ أنْ يسمّى الحزبُ اسماً سياسياً يدلّ على المبدأ السياسيّ الذي يدعو إليه تسمّى اسماً يدلّ على المذهب الدينيّ : كشِيعة وخوارج ومُرْجِئة، وبدلَ أنْ يتحاجّوا بما ينتج عن أعمالهم من مصالحَ ومفاسد تحاجّوا بالكفر والإيمان والجنّة والنّار... " (٢)
أسوق هذا الكلام وفي النفس ما فيها مِن ألَمٍ وحَسرة، وفي الفِكر ما فيه من عجبٍ وحيرة؛ إذ كيف لنا بعد كلّ هذه القرون التي انصرمتْ أنْ نعود لنرتدي هذا الثوب البالي المنسوج من المغالطة والاستغلال؛ فَنُسيء إلى الدين والسياسة معاً، ونحمّل أنفسنا ومجتمعاتنا ما لا تُطيق؛ فنغرق في أوحال التاريخ ، ونتقمّص شخصيّاته، ونتبنّى إشكالاته وتناقضاته، بل نخوض معاركه وحروبه، بدل أن نستلهمَ عِبره ودروسه، فهلْ نحنُ بِدْعةٌ بين الأمم ؟!


١- أحمد أمين، ضُحى الإسلام، ج ٣،
دار الكتاب العربي، بيروت،د.ت ط ١٠ ص. ٤
٢- المرجع نفسه، ص.ص ٤-

د. زياد العوف

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى