خالد جهاد - حفلة بلا مدعوين

لفتني بين مجموعةٍ كبيرة من الأخبار التي كنت أتصفحها خبر جديد قد يبدو للوهلة الأولى أقل من عادي، عن بيع لوحةٍ لأحد أهم الفنانين التشكيليين بمبلغٍ ضخم بعد أن قضى معظم فصول حياته بين فقر وحزنٍ ومرض، لكن بعض العوامل أكسبته بعداً مختلفاً لدي مثل موضوع اللوحة الذي يجسد معاناة الفقراء والفلاحين بالإضافة إلى توقيت بيعها الذي يتزامن من ناحية مع كارثتين انسانيتين على الأقل في فلسطين والسودان عدا عن وضعٍ معيشي صعب في أغلب بلادنا مع بداية شهر رمضان المبارك واقتراب مواسم الأعياد الدينية للمسلمين والمسيحيين، ومرت ببالي سريعاً مجموعة من الأعمال الفنية والأدبية الخالدة التي كان الفقراء والمهمشون وأبناء الطبقة الوسطى هم عمودها الفقري، وتذكرت تعليقاً قرأته ذات مرة ولم أنسه من أحد القراء عن عملٍ سينمائي عربي (بتمويل فرنسي) يعود إلى عام ٢٠٠٩ مفاده أن (معظم) الأسماء المعروفة في (زمننا الحالي) يبنون نجاحهم من خلال تجسيد قصص البسطاء في أعمالهم الفنية أياً كان نوعها ثم يتنكرون إليهم بمجرد تحقيقهم للشهرة والنجاح..

وراودني حينها شعورٌ مزدوج بين تفهمي لفكرته كونها لم تأتي من العدم وبين ذلك الضيق النابع من خيبة أملنا في أسماء اعتبرناها ذات يوم تمثلنا وتمثل جزءًا من حاضرنا الموحش، ولم أفكر طويلاً فقد كان التنقل بين القنوات الفضائية العربية مرهقاً تماماً مثل زحامٍ مروري خانق بسبب الكمية الهائلة التي يتم ضخها من الإعلانات التجارية بميزانيات مكلفة جداً إن كان ذلك على صعيد الكاميرات وتقنيات التصوير وأجور المشاركين في هذه الحملات من وجوه معروفة ووجدت تقريباً أن أغلبهم شارك في هذه (الحفلة) ورقص فيها ككل عام مع بضعة فوارق..

ففي هذا العام وبسبب الأحداث الحالية في غزة والسودان حدث ولأول مرة منذ عقود تقدم في وعي الجماهير (برغم كل شيء) نسف معه كذبة النخبوية فلم يعد ينظر إلى هذه الوجوه بمحبة أو احترام كالسابق، وأدرك أن أغلبها يهتم فقط بمصلحته الشخصية من خلال تحقيق المزيد من المال والشهرة مهما حاول تبرير ذلك خوفاً من ردة فعل المتلقي، حيث لم يعد هناك من مصداقية لأي تصريح أو موقف أو ردة فعل لأن البسمة والدمعة مؤقتة ومحسوبة سلفاً بقدر ما ستدره على أغلبهم من أرباح، فهذه الإعلانات ككل عام مليئة بالبهرجة وما يروج له بشكل قميء ومصطنع على أنه فرحة وسعادة وطاقة إيجابية وبأسلوب مبالغ فيه يعكس مدى اتساع الفجوة بين تفكير هذه الوجوه وبين الناس وإن التقى في العديد من النواحي إحقاقاً للحق، فمن بنوا شهرتهم من الأدوار الإنسانية يقومون بحملات إعلانية عن حياة وردية في توقيت كارثي لجمهور غير موجود وغير قادر حتى على تأمين الأساسيات إلا بشق الأنفس، فتضافرت هذه العوامل معاً وطنياً واجتماعياً واقتصادياً وأخلاقياً لتكون بمثابة خط فاصل بينهم وبين عامة الناس وكأنها جاءت لتؤكد ما كانوا يعتقدونه لسنوات، وما فاقم من سوء هذه الظاهرة هو ظهور وجوه قدمت تاريخاً رصيناً (نوعاً ما) بصحبة وجوه أخرى لم تقدم سوى أعمالٍ هابطة بعد أن كانت تنتقدها بشدة، وكأن القيمة والقدوة والفكرة والمعنى والإحساس وهم لا قيمة له أمام الأموال الطائلة التي تقدمها هذه الإعلانات التي باتت أهم لمن يظهرون على الشاشة من أي عمل يحمل مضموناً في وقتٍ عصيب كالذي نعيشه الآن..

وليس هناك ما هو أشد سوءاً من كل ما ذكر سوى انشغال البعض من (الكتاب) بالخلاف أو الإشادة بهذه الظاهرة بشكل سطحي أجوف وترديد ما يقوله العامة بدلاً من القيام بدورهم في تشريحها وتحليلها وربطها بالإنسان والمجتمع وما نعيشه من أزمات، خاصةً في ظل غياب أو تغييب جميع الأسماء المحترمة والراقية والرصينة عن المشهد.. إما عن طريق طلبها للمشاركة في أعمال بلا قيمة أو عرض أجر مجحف بحقهم وبحق مكانتهم مقابل مبالغ ضخمة لمن لا يمتلكون الحد الأدنى من الموهبة وهو ما يقابل بالرفض من قبلهم ويساهم في إحلال هذا النمط الإستهلاكي مكانها والقائم على الإهتمام بالمظاهر في وقت يعاني فيه الجميع، دون أن ننسى أن كثيراً من أفكار هذه الإعلانات فضلاً عن المسلسلات مستنسخ بشكل أو بآخر من ناحية جزئية أو شبه كلية من أعمال ومحطات غربية..

وهو ما يجعل الإنسان البسيط يشعر أنه جزء من مادة للتسلية في حفلةٍ ليس مدعواً إليها، تقام على شرفه وتقدم قصته للمشاهد بينما يتناول الطعام أو يتصفح هاتفه أو يشاهد التلفاز وهو نصف نائم، فتباع مقابل نسب مشاهدة عالية تجني منها فئة بعينها المال والشهرة ثم تخرج لسانها له.. ولا يتبقى من حكايته سوى وجع يرافقه.. يطفأه وينطفأ معه ويغدو في طي النسيان..

خالد جهاد..

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى