د. محمد عبدالله القواسمة - النسيان المستحيل

ما جرى في الحرب على غزة، عندما قطعت إسرائيل الماء والغذاء والكهرباء والدواء والوقود عن سكان قطاع غزة، بعد حصار دام ثمانية عشر عامًا، ولم تكتف بذلك بل هاجمت طائراتها ومدرعاتها وسفنها الحربية كل مكان: المنازل، والمساجد والكنائس والمخابز، وأماكن الإيواء، والمستشفيات، ولم تسلم منها حتى المقابر. وهجّرت قواتها الناس الذين بقوا أحياء إلى أماكن ادّعت بأنها آمنة، فكانوا هدفًا سهلًا للقنص والقتل. لقد سقط كثيرون من النساء والأطفال في هذه الحرب، ولم يبق أحد في القطاع لم يفقد قريبًا، أو صديقًا أو حبيبًا أو جارًا عزيزًا. لقد كانت حربًا لم يعرف لها التاريخ مثيلًا بما خلفت من قتلى وجرحى ومعاقين. هل ينسى أهل فلسطين، وبخاصة أهل غزة ما شاهدوه بأم أعينهم وما خبروه على أرض الوقائع من جرائم؟

في الحقيقة، كما يرى علماء الدماغ والأعصاب أن الذكريات لا تختفي، بل يتم تخزينها في مجموعات من الخلايا العصبية، في الدماغ تسمى خلايا إنغرام يمكن استدعاؤها، أي الذكريات بتنشيط تلك الخلايا. في غزة لا يحتاج الإنسان إلى تنشيط خلايا إنغرام؛ فهي في حالة نشاط دائم بفعل شدة الانفعال، واضطرام العواطف التي توالدت من شدة الصدمات التي تعرض لها الإنسان. فمن ينسى من قتل ابنه أو أمه أمام عينيه؟ من ينسى صورة منزله المدمر؟ من ينسى أيام الجوع والبرد التي عاشها في خيام النزوح؟ من ينسى مشاهد الموت في المستشفيات وأماكن الإيواء؟ من ينسى إعدام الفتيان والشباب أمام أهاليهم؟ من ينسى تعريته في الساحة العامة؟ مشاهد وصور لن تنسى، وأحداث ستخلد في التاريخ والذاكرة، وتظل تروى من جيل إلى جيل.

في أهم روايات القرن الماضي، وهي رواية الفرنسي مارسيل بروست " البحث عن الزمن الضائع" يتذكر بروست طفولته من خلال تذوقه فتات كعْكَة المادلين، والمادلين نوع من الحلوى الفرنسية بالزبدة، على شكل صَدفة أو محارة، لها نكهة الليمون أو زهرة البرتقال. لقد اندفعت الذكريات إلى ذهن الكاتب ليكتشف من خلال انثيالها ما أسماه الذاكرة اللاإرادية، التي يسببها الذوق أو الرائحة أو الصوت. فغدت كعكة المادلين الرمز لأي شيء: صوت، أو صورة، أو رائحة، أو نغم، أو غير ذلك مما يثير أو ينشط ذكرى من ذكريات الطفولة التي لما تزل في ذهننا ولاوعينا، لا يمحوها الزمن.

في غزة لا يتذوق الناس كعك المادلين ولا غيره، فلا خبز ولا طعام حتى إن بعضهم أكل الحشائش والعلف؛ فلا يوجد وسط الحصار والقصف والنزوح غير الجوع والبرد والعذاب، ولا يرى الناس غير صور الدمار والقتلى والجرحى، ولا يسمع غير صوت القصف ودوي المدافع وهدير الطائرات. هذا ما يتذوقه أهل غزة، فهل تنسى ذاكرتهم اللاإرادية ما تذوقوه؟

لعل أقسى ذكريات الحرب في غزة تلك التي خُزّنت في ذاكرة الأطفال؛ فمن المستحيل على الأطفال الذين بقوا على قيد الحياة، وشاهدوا المآسي أو عايشوها، أن يقدروا عندما يكبرون على عزل تلك الذكريات، وجعلها تستقر في أغوار الذاكرة في محاولة لإخفائها أو نسيانها. ستظل تظهر من وقت لآخر في أذهانهم؛ فكل ما حولهم يفوح بنكهة غزة أو بنكهة المادلين حسب بروست.

من المؤكد أن تلك الذكريات لن تظل حبيسة الذهن تظهر وتختفي بل ستتبلور في سلوك يطالب بالقصاص من المعتدين، وربما تتحول إلى سلوك انتقامي وتبدأ معارك طوفان أخر لا تنتهي إلا بعودة الحق إلى نصابه. فالحروب التي يخوضها الفلسطينيون هي حروب تحركها الذكريات الأليمة، التي توالدت من الحروب السابقة ما قبل 1948م، مرورًا بالنكبة والنكسة والانتفاضة وانتهاء بمعركة طوفان الأقصى.

ووجه الغرابة أن ما يحرك الطرف الآخر في حروبه هي الذكريات، ولكنها ذكريات لا علاقة لها بواقع هذه المنطقة، إنها مستمدة من معاناة اليهود في أوروبا، وبخاصة ألمانيا النازية عندما تعرضوا للحرق والإبادة في معسكرات الاعتقال، بما يسمى الهولوكوست. إنهم أحرقوا في أوشفيتز وجاؤوا إلى فلسطين ليستولوا على الأرض، ويبيدوا أهل غزة، وكأن في خلق مآسي جديدة لأناس آخرين حلًا لمأساتهم الماضية.

ماذا ستجني عصابة الاحتلال من هذه المجازر في غزة؟ وماذا تحصد من تدمير الأرض والقضاء على من عليها بالحصار والقتل والتجويع؟ بالتأكيد من المستحيل أن ينسى الناس ما جرى لهم، وما عاينوه بأم أعينهم، وستنتقل مورثات ذلك إلى الأجيال القادمة، فلن تواجه تلك العصابات الصهيونية إلا بالمزيد من المقاومة والرفض، وسيستمر الصراع حتى يعود الحق إلى أصحابه. هذا ما أعلمنا به التاريخ وعلمتنا به الحياة.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى