إنَّ من الملاحظ أن بعض الملامح المسرحية في التاريخ العربي الإسلامي لم تولد في أماكن مغلقة ، بل هي وجدت منذ البداية في الأماكن المفتوحة ، وبما أن المرحلة الإسلامية التي كانت تحكم البلاد العربية وغير العربية لم تعط للمجال المسرحي استقراره وتطوره الملحوظ، فكانت أغلب هذه الممارسات تقام في الساحات العامة ،أو الأسواق ، أو أمام البيوت وغيرها من الأماكن المفتوحة التي تعرض فيها هذه الممارسات المسرحية .
وبغض النظر عن المجادلة في قضية هل أن العرب كان لديهم مسرح ؟، أو ممارسات وملامح مسرحية؟ ، فأننا سنركز في هذا الفصل الخاص بالمجال الإسلامي والعربي عن كل ما يدلل على التجربة المسرحية القريبة من مسرح الشارع ، والتي تعدّ من المرجعيات المهمة لنشوء هذا الفن في الساحة العربية ، والمقصود هنا هو الظاهرة الفنية التي كانت تقام في الساحات والأسواق والطرق العامة ، دون أن تتخذ لها أماكن وقاعات محددة كما هو معمول في المسرح التقليدي الغربي .
أنَّ من أهم المتقابلات الفنية ذات الملمح الديني بين المسيحية والإسلام هو الطقوس الدينية ذات النشاط الفني المسرحي الذي أقيم في الساحات العامة والطرقات على الرغم من الإختلاف بين الوعي بالظاهرة الفنية المسرحية في المسيحية عن غيرها في الإسلام . ومن ثم فإن الطقس المسيحي عمل على الأستفادة من المسرح بوعي كونه قد حارب هذه الظاهرة في البدء ومن ثم عمل على توظيفها في بعض المقاطع المسرحية في داخل الكنيسة ،ثم وسّع هذا النشاط ليقدم حلقات طقسية درامية لموضوعات من الكتاب المقدس خارج الكنسية ، وقد أصبحت هذه الظاهرة مكملة لتاريخ العروض المسرحية التي تنتمي لمفهوم مسرح الشارع . أما في الإسلام فقد نشأت هذه الظاهرة الطقسية ذات الملامح درامية من خلال بعد شعبي بحت دون التزام المؤسسات الدينية لها في بادئ الأمر ، وبعدها أصبحت جزءاً مهماً من مراسيم تقدم في أيامنا هذه في عدد من البلدان العربية والإسلامية ، ومن ثم توجد عدة أراء في ماهية الظاهرة الخاصة بالطقس الإسلامي المعروف بالتعازي المرتبطة بواقعة كربلاء ونشأتها في المنطقة العربية الإسلامية . في هذا السياق يرى "أدونيس :( ليس الحسين أول من قتل في تاريخنا بهذا الشكل المأساوي . إنَّ قتل الإنسان – كما يقتل أي حيوان – ظاهرة مألوفة ، عادية في تاريخنا كله ، قديماً وحديثاً ، لكن لقتل الحسين خصوصية تتمثل في صيرورته ذكرى ، أي في تحوله الى احتفال ، وهو احتفال – محاكاة تمثيلية قولاً وعملاً ، وألفاظاً وحركات ، للحدث الفاجع " (1). إذن ، فإن صيرورة هذه الذكرى هي التي جعلت من هذه الواقعة وهذه الشخصية الإسلامية الكبيرة تتحول ذكراها إلى احتفال عند محبيها ، ،أي لولا هذا الاحتفال لما أستمرت هذه الذكرى ، على الرغم من اختلاف هذا الرأي مع الرأي الديني الذي يعدّه من الشخصيات الدينية المهمة لما له من قرابة من الرسول محمد (ص) ، وكونه من الرموز الإنسانية والإسلامية المهمة التي ميزت الفترة الأولى من الإسلام . ومن ثم فإن هذا الاحتفال الذي أنطلق في بداياته الأولى في المناطق التي تكثر فيها الشيعة في المناطق الإسلامية وخاصة في الشرق الإسلامي . كما يرى المنظر لهذه التعازي الباحث (أندريه فيرث) في نشأتها بإن التعزية نشأت " كشكل مسرحي احتفالي ، من امتزاج نوعين من الطقوس الدينية والشعبية ، التي تصاحب إحياء ذكرى استشهاد الحسين في العاشر من المحرم عام (61ه ، 680م) :
في الشرق الإسلامي والعربي تتميز التعازي في كونها تمتلك ملامح مسرح الشارع من حيث الأمكنة المفتوحة والارتجال المرافق للفعل الدرامي المرافق لهذه الظاهرة ، كما أن هذه الظاهرة الدرامية تمتلك من العناصر الأخرى القريبة من عناصر العرض المسرحي من إكسسوارات وأزياء تعبر عن الفترة التي وقعت بها واقعة كربلاء للمجسدين وغيرها من العناصر التي يمكن أن تستخدم بشكل مطابق في أي عرض لمسرح الشارع ، مع أعتبار أن هذه التعازي تقدم الى يومنا هذا بشكل واسع وبأعداد كبيرة من المشاركين ، وتقدم في أكثر من مكان في المدينة الواحدة ، مع استمرار المظاهر الأخرى التي أشار لها (فيرث) ، أي تصبح ظاهرة التعزي تضم ثلاثة أنواع قريبة من مسرح الشارع تدخل فيها المظاهر الدرامية في الأماكن المفتوحة ، وهي:-
وفي الانتقال إلى شكل آخر من الدراما التي تقدم في الأماكن المفتوحة ، فكان للعربة التي يقودها الفنان في الطرقات والساحات العامة وما يقدم من خلال الصندوق الذي تحمله العربة من حكايات وقصص عن أماكن مختلفة يجتمع حولها من يريد أن يشاهدها ،إذ يرى عبد الكريم برشيد في هذا النوع من المظاهر الدرامية التي تعتمد على المشاهدة التي من الممكن أن يصاحبها التعليق من الفنان الذي يقود العربة ، أو يحمله على ظهره ، إذ يرى برشيد في هذه الممارسة أن صندوق الدنيا قريب "من خيال الظل ، عرف المجتمع العربي صندوق الدنيا أو صندوق العجب ، وفي هذا الصندوق يقول المخرج المسرحي خالد الطريفي : والكون يدور والحياة تسير كأننا أمام صندوق عجب ، وصندوق العجب ، هو صندوق الفناء ندخل ونخرج منه بالتعاقب " (6) . إنَّ هذه الظاهرة الفنية التي تحمل في طياتها الفعل الدرامي من خلال مجموعة الصور التي تختزل الدنيا هي ليست ظاهرة مسرح الشارع ، لكن فيها ما هو قريب لهذه الظاهرة الدرامية من حيث أن حدوثها واشتغال الأحداث فيها تتم من خلال صندوق الفرجة الذي يتجول فيه الفنان خارج البيوتات والأماكن المغلقة ، فمسرح العلبة هو المكان الذي يحوي بداخله المتفرج والعرض ،أما هذه العلبة الصغيرة فالمتفرج يكون خارجها ويرتبط بعلاقة معها من خلال الأماكن المحددة في داخل الصندوق لمشاهدة صور من العالم " تختبئ كل العوالم الممكنة ، والتي هي عوالم تَسَعُ كل الناس وتَسَعُ كل الأحداث ، وتسع كل الأشياء ، وتختزل كل الدنيا ، وتسع الحياة ، وذلك في رسومات فقط ، رسومات ورقية مقصوصة وملونة بألوان الوجود وبألوان الطبيعة وبألوان الحياة " (7) ، هذه العوالم والصور والألوان كلها تروي أحداثاً عن مواقع قد تكون حقيقة بالأسم لكنها مصوّرة بشكل مصوّر من قبل الفنان الذي رتبها وأعدّها في هذا الصندوق.
وفي غرب الوطن العربي ، أي في دول المغرب العربي تنوعت الظاهرة الدرامية التي تحوي صوراً من مسرح الشارع ، المسرح الذي يقدم في الساحات العامة والأسواق فيها ، فمن المواسم إلى الحلقات إلى البساط إلى بعض من مظاهر سلطان الطلبة ، وغيرها من الاحتفالات التي ركزت عليها الاحتفالية في اشتغالها الدرامي ، كلها تشير إلى أن عروض الشارع كانت وما تزال موجودة وتستمر بعض ملامحها إلى اليوم في هذه المنطقة من العالم . في مجال الموسم في المغرب يرى برشيد بإن "الموسم ،كما يعرف في المغرب ، هو احتفال شعبي اجتماعي ، ديني ، اقتصادي ، إبداعي ، ويقابله في مصر المولد . وهذا الموسم –المولد ، هو بالأساس فضاء احتفالي بأمتياز ، وهو لحظة للتلاقي الإنساني ، وهو أحتفاء بالحياة ، وبالزواج ، وبالولادة ، وهو درجة حيوية يلتقي عندها الطبيعي والثقافي ، ويتحاور فيها عطاء الأرض وعطاء الإنسان ، وتجسد مسرحية (عرس الأطلس) هذا الموسم الأطلسي ، وتجعله مسرحاً مفتوحاً على مستويين ؛ أفقياً ورأسياً وبهذا يلتقي – الديني والدنيوي " (8) . وهذا المزج بينهما هو ما يقوم عليه هذا الاحتفال ، على عكس ما يقام في الشرق الإسلامي في التعزية الذي يرتبط بما هو ديني بحت ، بينما في الغرب العربي يرتبط الاحتفال لديهم بما هو ديني ودنيوي يجعل من الظاهرة الدرامية التي تقام في الأماكن المفتوحة تمزج بين الفرح والإبتسامة بسبب المناسبات التي تقام بها هذه المظاهر الاحتفالية ذات الصبغة الدرامية ، وبين المجال الديني المرافق لهذه المراسيم الاحتفالية بجانبها المفرح ، وليس في جانب الحزن . ويقدم في مراكش العديد من صور الاحتفال في الفضاءات العامة ذات الارتباطات الدينية ، ويرى (د. علي الراعي ) في من يزور " سوق جامع الفناء بمراكش يجد هذه الصورة التي نتخيلها حقيقة واقعة . يجد مسرح الحلقة في أشكال متعددة ، ويجد مسرح الممثل الفرد الذي يقوم وحدة بجميع الأدوار ، ويجد تمثيلاً عادياً يتعدد فيه المؤدي ، ويشبه من قريب تمثيل المحبظين ،كما يجد ألعاباً مختلفة للحواة والمشعوذين يشركون فيها الجمهور ،ورقصاً شعبياً مخلوطاً بالأداء التمثيلي الفكاهي " (9). إنَّ ما يقام في داخل سوق جامع الفناء يشير إلى طبيعة العمل الدرامي في هذا المجال ، إذ تتميز أعمال السوق ببعدها الدرامي المنتمي لمسرح الشارع ، فبين مسرح الحلقة ، والممثل المنفرد الذي يشبه في طريقة تقديمه أداء المحبظين في مصر ، مع ما يقدم من أعمال مختلفة بين أعمال الحاوي والمشعوذ المصاحب للأداء الفكاهي الذي يجلب المشاهدين من مرتادي السوق ، وكل هذه الأعمال ذات البعد الدرامي فيها صور من مسرح الشارع تقدم في الأماكن العامة المفتوحة ,
إنَّ ما يميز التقديم الدرامي في أسواق المغرب العربي تعددية الأشكال المقدمة ، وهذه التعددية تتطابق من حيث التنوع مع ما يقدم في مصر ، لكنها تختلف عن الشرق العربي الذي ينقل أغلب الكتّاب عن ظاهرة واحدة فقط تقدم في الفضاءات المفتوحة وهي التعزية . إنَّ هذه التعددية الدرامية في المغرب العربي أتت وكما يرى الدكتور (علي الراعي) من تعدد فنون الحكاية والإيماءة والألعاب وغيرها مما ساعدت على التنوع في المجال الفني الدرامي ، ويرى الراعي أن " في المغرب توجد ثلاثة أشكال تقدم في الشارع وهي : (مسرح الحلقة ) و(مسرح البساط) و كرنفال (سلطان الطلبة) : وفي هذا المجال يرى الدكتور حسن المنيعي في (مسرح الحلقة) الذي يهمنا في هذا المجال ، والذي يضم فنون الحكاية والإيماءة والألعاب البهلوانية والتهريجية ، ويقدم هذا التمثيل في الأسواق والساحات العامة ، وهذه الحلقة تتكون من متابعين حول الفنانين من الممثلين والموسيقيين والبهلوانيين الذين يقدمون عروضاً يشركون في بعضها الجمهور الملتف حولهم في بعض فقرات العرض المقدم (10). إنَّ عرض مسرح الحلقة هو العرض الأبلغ في مضمونه لمسرح الشارع ، كون أن هذه الممارسة الدرامية تقع في بيئة خاصة بالطبيعة التي يحكي عنها اليوم مسرح الشارع من حيث العلاقة بين الجمهور والممثل ، والفضاء غير المغلق ، والمشاركة مع الحضور في رسم ملامح الحكاية ، أي أن "الحلقة هي تجمع دائري في أحدى الساحات العمومية ، يقف وسطه (الراوي) والمساعد ، اللذان يقصان بالتناوب قصص البطولات ، والأساطير ، والحكايات الخرافية ، بطريقة تمثيلية صرفة ، تجمع بين التشخيص والمباشرة والايماءة . ويوجد حتى الآن سوق كامل لهذا النوع من الاحتفال بمدينة مراكش " (11) . إذن هذه العروض التي تستمر لغاية الآن هي من المحفزات الحقيقية في داخل المجتمع في مراكش ، كونها تعد من الركائز المهمة في الثقافة في هذا البلد ، الذي لم يتجاوزها الناس ويجعلها من التراث ، بل هي حية في فعلها ونشاطها التوعوي والفني والثقافي .وهذه الاحتفالات في المغرب العربي عامة هي من جعلت (عبد الكريم برشيد) يتساءل عن مسرح الحلقة وغيرها من الصور الدرامية التي تقع خارج إطار المسرح الغربي التقليدي ، التي يرى بأنها أقرب ما تكون للمسرح عن غيره من الفنون الأخرى التي يلتقي فيها " اللعب والجد ، وتلتقي الحياة والفن ، ويمكن للباحث أن يتساءل إن من تعود على الاحتفال ، داخل السوق الأسبوعي ، أو في الموسم السنوي ، هل يمكن أن يكون غريباً عن روح وجوهر المسرح ؟ " (12) ، ومن هذا التساؤل يبدأ عبد الكريم برشيد وغيره من العاملين في البحث عن أشتغالات جدية توجد مسرح بديل للمسرح الغربي ، هذا المسرح البديل لا يتخلى عن كل هذه المظاهر العربية والإسلامية في تاريخ المغرب العربي التي يمكن توظيفها في ما سمي بالمسرح الاحتفالي ، هذا المسرح الذي هو بالضد من أشكال المسرح الغربي الذي يعد دخيلاً على الثقافة العربية بصورة عامة والمغاربية بصورة خاصة ، ويقول عبد الكريم برشيد " لقد غاب عن رواد الحركة المسرحية أن المسرح ليس بناية ، وليس أسواراً وخشبة ، وليس ستارات وكراسي من خشب ، أنه موعد بين جمع من الناس ، ثم يقول : المسرح حفل واحتفال ، وهكذا عرفناه من قبل ، إنه مهرجان يلتقي فيه الناس بالناس ، إنه عيد جماعي ، لذلك أرتبط بالساحات والأسواق والمواسم " (13) ، والارتباط بالساحات والأسواق والمواسم والفضاءات المفتوحة هو عينه مسرح الشارع الذي يبحث عن هذه الفضاءات وعن الارتجال وعن الذهاب إلى الجمهور ، والبحث في موضوعات تغادر سَلب الجمهور إرادته ، وتغادر سلب الجمهور بيئته الحقيقية في المشاهدة ، فمسرح الشارع يبحث عن البيئة الحقيقية للجمهور ، وليس عن البيئة المصطنعة التي بحث فيها من يشتغل في المسرح من أمثال المسرح الملحمي وغيره عن كسر الإيهام والإندماج والبحث عن علاقة جديدة مع المتفرج ،لهذا السبب بحث المسرح الاحتفالي في بناء علاقة جديدة مع الجمهور قائمة على ركن أساسي وهو البدء في البحث عن الجمهور على وفق العلاقة التي أوجدتها المظاهر الدرامية في التراث العربي والإسلامي ،قام المشتغلون في المسرح الاحتفالي بالبحث في هذه المظاهر التراثية على أعتبار أن في المغرب العربي " كانت الساحات العمومية والأسواق الكبرى مسارح للرواة المداحين الذين يجمعون حولهم حلقات جماهيرية ملتهبة لسماع نوادر جحا وملاحم عنترة وسيف بن ذي يزن ..الخ ، وكان الرواة والمدحون يستخدمون جميع الحيل الفنية من أثارة وتشويق لشد المشاهدين اليها وإحداث انسجام تام بين المؤدي وجمهوره ، وقد جاء استلهام ذلك في بناء النظرية الفنية والجمالية للمسرح الاحتفالي الذي (لا يحاكي ولا يحكي، أنه يحيي حدثاً – حفلاً ويقيم لقاء تظاهرة – هنا والآن - هذا اللقاء / الاحتفال هو جزء منا نحن المحتفلين ، أنه نحن وهو لا يمكن أن يكون الا كما نريده ونحياه " (14) . وهذه الرؤية في التفكير وفي تحديد مهمة المسرح هي بالبحث عن روح التلاقي بين المسرح وجمهوره ، وليس بين هذه الظاهرة وأفكار غريبة عنها .
إنَّ الاحتفالية قد ارتكزت على ركائز مهمة استلهمتها من التراث الفني تتلاقى مع الركائز الجمالية في مسرح الشارع ، فالاحتفالية ركزت على الذاتية النابعة من اللقاء ذاته بين المسرح والجمهور ، لذا " فالمسرح الاحتفالي لا يحيل على الماضي كما هو شأن الدرامية ، ولا يحيل على الآخر الغائب البعيد – كالمسرح الملحمي – وإنما يحيل على ذاته ، فهو وحده المرجع والمصدر ، لأنه لقائنا نحن – الآن – هنا ، فالاحتفال المسرحي إذن لا يحيى زمناً كان ثم مضى ، كما أنه لا يحكي عن زمن كان أو يكون ، ولكنه يخلق زمناً جديداً" (15) . هذا الزمن الجديد قائم على العلاقة الحية الرابطة بين العرض وتلقيه ، أي أن المسرح يحي هذا العرض في فضاء التلقي الآني من خلال اختراق هذا الفضاء وإقامة الصلة معه بشكل مباشر ودون أي واسطة يبحث عنها كما هو الحال في المسارح الغربية . وهذه أول المرتكزات الفنية التي تلتقي فيها الاحتفالية مع مسرح الشارع .
أما المرتكز الثاني الذي يلتقي فيه المسرح الاحتفالي مع مسرح الشارع هو الفضاء المفتوح من خلال الساحات العامة والأسواق ، وهذا ما وجده المخرج (الطيب الصديقي) الذي بحث في مجال تأسيس فكرة العرض المسرحي الاحتفالي ،إذ يختار " الأماكن المفتوحة والساحات العامة والشوارع لتقديم عروضه ، رافضاً معمار المسرح التقليدي ، لأنه يخنق فن التمثيل ، ولا يمكن من خلاله تحقيق نظام المشاركة العقلية والوجدانية بين المحتفلين" (16). من ثم فأن المعمار المسرحي التقليدي من حيث الأبنية الخاصة بالعرض المسرحي تحد من قيمة ومشروعية التلقي من خلال تحديد هذه الفضاء بالمعمار الذي من الممكن أن يؤثر بطبيعة التلقي من جهة ، ويحد من العدد كون أن العدد في المسارح التقليدية محدود ، على العكس من الأماكن المفتوحة التي من الممكن أن يكون فيها العدد أكبر مما هو في مسرح العلبة ، ومن جهة ثالثة جعل الفضاء المفتوح حرية أكثر من حيث المتابعة للعرض المقدم أو رفضه دون عوائق تؤثر على المتلقين الأخرين .
أما المرتكز الثالث الذي يشتغل عليه المسرح الاحتفالي ، هو الارتجال وهو من المرتكزات الثابتة في مسرح الشارع ، والارتجال في المسرح الاحتفالي يعمل عليه المشتغل في هذا المسرح كون أن صانعه لا يستند " إلى نص مكتوب أو دور جاهز ولا يقبل التغيير . بل إنَّ الفرجة تعتمد بالأساس على التأقلم مع متطلبات اللحظة وطبيعة المتلقي . ولهذا ، فهي تبقى قابلة للحذف أو الإضافة ، حسب تغير الظروف وحيثيات التواصل ، وعليه فالارتجال هو الصيغة المفضلة لدى صانع الفرجة ، لأنها تتيح له إمكانية هائلة للتعبير وتبتعد عن التصلب والجمود الفني " (17) . هذه هي طبيعة الارتجال في ما وجده الباحثون عن حقيقة الفرجة وتلقيها ، وطبيعة الأداء المقدم من قبل المؤدي في المظاهر الدرامية المختلفة في التراث العربي والإسلامي.
يعد الارتجال في الاحتفالية من الأسس التي يقوم عليها الاحتفال ذاته بين المؤدي والجمهور في كون أنه يتيح " قيام حوار مكشوف بين صانع الفرجة ومتلقيها الذي يبتعد عن الموقف السلبي ، ويتحقق هذا الحوار خاصة في لحظات تتوقف فيها الفرجة ليخاطب صانعها الناس مباشرة " (18) ، من أجل تحفيز هذا الفضاء المتداخل بين المؤدي والجمهور المتلقي لخطاباته القائمة على مبدأ العفوية والمشاركة الجامعة للموضوع المقدم في الاحتفالية .
الهوامش
وبغض النظر عن المجادلة في قضية هل أن العرب كان لديهم مسرح ؟، أو ممارسات وملامح مسرحية؟ ، فأننا سنركز في هذا الفصل الخاص بالمجال الإسلامي والعربي عن كل ما يدلل على التجربة المسرحية القريبة من مسرح الشارع ، والتي تعدّ من المرجعيات المهمة لنشوء هذا الفن في الساحة العربية ، والمقصود هنا هو الظاهرة الفنية التي كانت تقام في الساحات والأسواق والطرق العامة ، دون أن تتخذ لها أماكن وقاعات محددة كما هو معمول في المسرح التقليدي الغربي .
أنَّ من أهم المتقابلات الفنية ذات الملمح الديني بين المسيحية والإسلام هو الطقوس الدينية ذات النشاط الفني المسرحي الذي أقيم في الساحات العامة والطرقات على الرغم من الإختلاف بين الوعي بالظاهرة الفنية المسرحية في المسيحية عن غيرها في الإسلام . ومن ثم فإن الطقس المسيحي عمل على الأستفادة من المسرح بوعي كونه قد حارب هذه الظاهرة في البدء ومن ثم عمل على توظيفها في بعض المقاطع المسرحية في داخل الكنيسة ،ثم وسّع هذا النشاط ليقدم حلقات طقسية درامية لموضوعات من الكتاب المقدس خارج الكنسية ، وقد أصبحت هذه الظاهرة مكملة لتاريخ العروض المسرحية التي تنتمي لمفهوم مسرح الشارع . أما في الإسلام فقد نشأت هذه الظاهرة الطقسية ذات الملامح درامية من خلال بعد شعبي بحت دون التزام المؤسسات الدينية لها في بادئ الأمر ، وبعدها أصبحت جزءاً مهماً من مراسيم تقدم في أيامنا هذه في عدد من البلدان العربية والإسلامية ، ومن ثم توجد عدة أراء في ماهية الظاهرة الخاصة بالطقس الإسلامي المعروف بالتعازي المرتبطة بواقعة كربلاء ونشأتها في المنطقة العربية الإسلامية . في هذا السياق يرى "أدونيس :( ليس الحسين أول من قتل في تاريخنا بهذا الشكل المأساوي . إنَّ قتل الإنسان – كما يقتل أي حيوان – ظاهرة مألوفة ، عادية في تاريخنا كله ، قديماً وحديثاً ، لكن لقتل الحسين خصوصية تتمثل في صيرورته ذكرى ، أي في تحوله الى احتفال ، وهو احتفال – محاكاة تمثيلية قولاً وعملاً ، وألفاظاً وحركات ، للحدث الفاجع " (1). إذن ، فإن صيرورة هذه الذكرى هي التي جعلت من هذه الواقعة وهذه الشخصية الإسلامية الكبيرة تتحول ذكراها إلى احتفال عند محبيها ، ،أي لولا هذا الاحتفال لما أستمرت هذه الذكرى ، على الرغم من اختلاف هذا الرأي مع الرأي الديني الذي يعدّه من الشخصيات الدينية المهمة لما له من قرابة من الرسول محمد (ص) ، وكونه من الرموز الإنسانية والإسلامية المهمة التي ميزت الفترة الأولى من الإسلام . ومن ثم فإن هذا الاحتفال الذي أنطلق في بداياته الأولى في المناطق التي تكثر فيها الشيعة في المناطق الإسلامية وخاصة في الشرق الإسلامي . كما يرى المنظر لهذه التعازي الباحث (أندريه فيرث) في نشأتها بإن التعزية نشأت " كشكل مسرحي احتفالي ، من امتزاج نوعين من الطقوس الدينية والشعبية ، التي تصاحب إحياء ذكرى استشهاد الحسين في العاشر من المحرم عام (61ه ، 680م) :
- أما النوع الأول ، فهو المواكب ومسيرات الندب والرثاء ، التي كانت تجوب شوارع المدن والعواصم الشيعية ، والتي بدأت منذ القرن السابع الميلادي .
- وأما النوع الثاني من الاحتفالات ، فقد بدأ في القرن السادس عشر ويتمثل في رواية سيرة الحسين وأهله في محافل شعبية ، ويجلس فيها الراوي على منصة عالية ، ليقرأ على السامعين أجزاء من كتاب روضة الشهداء .
- الأمكنة التي تقام فيها هذه التعزية هي أمكنة مفتوحة وغير مغلقة .
- الاحتفال هو احتفال ارتجالي تشترك فيه أعداد كبيرة من المشاركين ، وأعداد أخرى من الجمهور ،
- العفوية في المشاركة من القائمين على هذه المظاهر الاحتفالية ، وكذلك من الجمهور في تكوين الصورة الطقسية الدرامية للتعزية .
في الشرق الإسلامي والعربي تتميز التعازي في كونها تمتلك ملامح مسرح الشارع من حيث الأمكنة المفتوحة والارتجال المرافق للفعل الدرامي المرافق لهذه الظاهرة ، كما أن هذه الظاهرة الدرامية تمتلك من العناصر الأخرى القريبة من عناصر العرض المسرحي من إكسسوارات وأزياء تعبر عن الفترة التي وقعت بها واقعة كربلاء للمجسدين وغيرها من العناصر التي يمكن أن تستخدم بشكل مطابق في أي عرض لمسرح الشارع ، مع أعتبار أن هذه التعازي تقدم الى يومنا هذا بشكل واسع وبأعداد كبيرة من المشاركين ، وتقدم في أكثر من مكان في المدينة الواحدة ، مع استمرار المظاهر الأخرى التي أشار لها (فيرث) ، أي تصبح ظاهرة التعزي تضم ثلاثة أنواع قريبة من مسرح الشارع تدخل فيها المظاهر الدرامية في الأماكن المفتوحة ، وهي:-
- ( التعازي ) أو ما يطلق عليها في المصطلح الشعبي (تشابيه) ، وهي تقوم على تمثيل قصة مقتل الحسين (ع) كاملة من صباح العاشر من محرم حتى لحظة مقتله وشهادته هو أهل بيته وأصحابه .
- المواكب ومسيرات الندب والرثاء ، وهي التي تقام من الأول من شهر محرم لغاية العاشر من الشهر نفسه .
- الراوي الذي يروي قصة الحسين (ع) واستشهاده ، وهذا الراوي ، أو ما يسمى بالمصطلح الشعبي (القارئ) الذي يستمر بسرد قصص مسير الحسين (ع) وأهل بيته وأصحابه لغاية استشهادهم جميعاً ، ويرويها لمدة عشرة أيام ، ولكل يوم قصة عن حدث في الواقعة ، بعض هذه المظاهر السردية تكون في الساحات العامة والأسواق ، وبعضها الآخر تتم في البيوت ، أو المراكز الدينية ، وما يهمنا المظاهر التي تقام في الأماكن المفتوحة .
- الغوازي أو ما يسمى بفن الغوازي هذا الفن المصاحب للموسيقى والغناء وكان يقدم أمام منازل الرحالّة الغربيين، أي في الشوارع المقابلة للبيوت .
- عرض الشارع الذي يقدمه الحاوي أمام جمهور من المصريين في الساحات العامة وهم يعتمدون على تقديم أعمال تخدع أعين المتفرجين ، وهم يستهدفون منها كسب المال الذي يعطى لهم طواعية من قبل الجمهور .
- عروض لبعض اللاعبين الذين يقدمون عروض يعتمدون بها على القردة وطريقة تقديم هذه العروض من خلال ارتداء القرد للملابس وهي عادة ما تكون ملابس غربية للسخرية من الغربيين في بلاد المسلمين .
- ينقل (نيبور) صورة درامية أخرى عن ممثل فرد يقدم نفسه للناس في شوارع القاهرة سائل الناس العطاء ، بعد أن يسرد لهم قصة أسر النصارى في مالطة مع أستخدام سلسلة من الحديد يجسد بها صور من هذه القصة .
- ينقل(نيبور) صورة خامسة عن مشاهدات عروض الشوارع عن مجموعة من الممثلين من مسلمين ومسيحيين ويهود وهم يقدمون بعض المسرحيات باللغة العربية تقدم في العراء – في فناء المنازل ويصبح آنذاك مسرحهم - وهي مشاهد كوميدية ومنها :عن قصة إمرأة تستدرج المسافرين لتسرق نقودهم وتطردهم ، وكان يؤدي هذا الدور النسائي رجل من الممثلين. (4)
وفي الانتقال إلى شكل آخر من الدراما التي تقدم في الأماكن المفتوحة ، فكان للعربة التي يقودها الفنان في الطرقات والساحات العامة وما يقدم من خلال الصندوق الذي تحمله العربة من حكايات وقصص عن أماكن مختلفة يجتمع حولها من يريد أن يشاهدها ،إذ يرى عبد الكريم برشيد في هذا النوع من المظاهر الدرامية التي تعتمد على المشاهدة التي من الممكن أن يصاحبها التعليق من الفنان الذي يقود العربة ، أو يحمله على ظهره ، إذ يرى برشيد في هذه الممارسة أن صندوق الدنيا قريب "من خيال الظل ، عرف المجتمع العربي صندوق الدنيا أو صندوق العجب ، وفي هذا الصندوق يقول المخرج المسرحي خالد الطريفي : والكون يدور والحياة تسير كأننا أمام صندوق عجب ، وصندوق العجب ، هو صندوق الفناء ندخل ونخرج منه بالتعاقب " (6) . إنَّ هذه الظاهرة الفنية التي تحمل في طياتها الفعل الدرامي من خلال مجموعة الصور التي تختزل الدنيا هي ليست ظاهرة مسرح الشارع ، لكن فيها ما هو قريب لهذه الظاهرة الدرامية من حيث أن حدوثها واشتغال الأحداث فيها تتم من خلال صندوق الفرجة الذي يتجول فيه الفنان خارج البيوتات والأماكن المغلقة ، فمسرح العلبة هو المكان الذي يحوي بداخله المتفرج والعرض ،أما هذه العلبة الصغيرة فالمتفرج يكون خارجها ويرتبط بعلاقة معها من خلال الأماكن المحددة في داخل الصندوق لمشاهدة صور من العالم " تختبئ كل العوالم الممكنة ، والتي هي عوالم تَسَعُ كل الناس وتَسَعُ كل الأحداث ، وتسع كل الأشياء ، وتختزل كل الدنيا ، وتسع الحياة ، وذلك في رسومات فقط ، رسومات ورقية مقصوصة وملونة بألوان الوجود وبألوان الطبيعة وبألوان الحياة " (7) ، هذه العوالم والصور والألوان كلها تروي أحداثاً عن مواقع قد تكون حقيقة بالأسم لكنها مصوّرة بشكل مصوّر من قبل الفنان الذي رتبها وأعدّها في هذا الصندوق.
وفي غرب الوطن العربي ، أي في دول المغرب العربي تنوعت الظاهرة الدرامية التي تحوي صوراً من مسرح الشارع ، المسرح الذي يقدم في الساحات العامة والأسواق فيها ، فمن المواسم إلى الحلقات إلى البساط إلى بعض من مظاهر سلطان الطلبة ، وغيرها من الاحتفالات التي ركزت عليها الاحتفالية في اشتغالها الدرامي ، كلها تشير إلى أن عروض الشارع كانت وما تزال موجودة وتستمر بعض ملامحها إلى اليوم في هذه المنطقة من العالم . في مجال الموسم في المغرب يرى برشيد بإن "الموسم ،كما يعرف في المغرب ، هو احتفال شعبي اجتماعي ، ديني ، اقتصادي ، إبداعي ، ويقابله في مصر المولد . وهذا الموسم –المولد ، هو بالأساس فضاء احتفالي بأمتياز ، وهو لحظة للتلاقي الإنساني ، وهو أحتفاء بالحياة ، وبالزواج ، وبالولادة ، وهو درجة حيوية يلتقي عندها الطبيعي والثقافي ، ويتحاور فيها عطاء الأرض وعطاء الإنسان ، وتجسد مسرحية (عرس الأطلس) هذا الموسم الأطلسي ، وتجعله مسرحاً مفتوحاً على مستويين ؛ أفقياً ورأسياً وبهذا يلتقي – الديني والدنيوي " (8) . وهذا المزج بينهما هو ما يقوم عليه هذا الاحتفال ، على عكس ما يقام في الشرق الإسلامي في التعزية الذي يرتبط بما هو ديني بحت ، بينما في الغرب العربي يرتبط الاحتفال لديهم بما هو ديني ودنيوي يجعل من الظاهرة الدرامية التي تقام في الأماكن المفتوحة تمزج بين الفرح والإبتسامة بسبب المناسبات التي تقام بها هذه المظاهر الاحتفالية ذات الصبغة الدرامية ، وبين المجال الديني المرافق لهذه المراسيم الاحتفالية بجانبها المفرح ، وليس في جانب الحزن . ويقدم في مراكش العديد من صور الاحتفال في الفضاءات العامة ذات الارتباطات الدينية ، ويرى (د. علي الراعي ) في من يزور " سوق جامع الفناء بمراكش يجد هذه الصورة التي نتخيلها حقيقة واقعة . يجد مسرح الحلقة في أشكال متعددة ، ويجد مسرح الممثل الفرد الذي يقوم وحدة بجميع الأدوار ، ويجد تمثيلاً عادياً يتعدد فيه المؤدي ، ويشبه من قريب تمثيل المحبظين ،كما يجد ألعاباً مختلفة للحواة والمشعوذين يشركون فيها الجمهور ،ورقصاً شعبياً مخلوطاً بالأداء التمثيلي الفكاهي " (9). إنَّ ما يقام في داخل سوق جامع الفناء يشير إلى طبيعة العمل الدرامي في هذا المجال ، إذ تتميز أعمال السوق ببعدها الدرامي المنتمي لمسرح الشارع ، فبين مسرح الحلقة ، والممثل المنفرد الذي يشبه في طريقة تقديمه أداء المحبظين في مصر ، مع ما يقدم من أعمال مختلفة بين أعمال الحاوي والمشعوذ المصاحب للأداء الفكاهي الذي يجلب المشاهدين من مرتادي السوق ، وكل هذه الأعمال ذات البعد الدرامي فيها صور من مسرح الشارع تقدم في الأماكن العامة المفتوحة ,
إنَّ ما يميز التقديم الدرامي في أسواق المغرب العربي تعددية الأشكال المقدمة ، وهذه التعددية تتطابق من حيث التنوع مع ما يقدم في مصر ، لكنها تختلف عن الشرق العربي الذي ينقل أغلب الكتّاب عن ظاهرة واحدة فقط تقدم في الفضاءات المفتوحة وهي التعزية . إنَّ هذه التعددية الدرامية في المغرب العربي أتت وكما يرى الدكتور (علي الراعي) من تعدد فنون الحكاية والإيماءة والألعاب وغيرها مما ساعدت على التنوع في المجال الفني الدرامي ، ويرى الراعي أن " في المغرب توجد ثلاثة أشكال تقدم في الشارع وهي : (مسرح الحلقة ) و(مسرح البساط) و كرنفال (سلطان الطلبة) : وفي هذا المجال يرى الدكتور حسن المنيعي في (مسرح الحلقة) الذي يهمنا في هذا المجال ، والذي يضم فنون الحكاية والإيماءة والألعاب البهلوانية والتهريجية ، ويقدم هذا التمثيل في الأسواق والساحات العامة ، وهذه الحلقة تتكون من متابعين حول الفنانين من الممثلين والموسيقيين والبهلوانيين الذين يقدمون عروضاً يشركون في بعضها الجمهور الملتف حولهم في بعض فقرات العرض المقدم (10). إنَّ عرض مسرح الحلقة هو العرض الأبلغ في مضمونه لمسرح الشارع ، كون أن هذه الممارسة الدرامية تقع في بيئة خاصة بالطبيعة التي يحكي عنها اليوم مسرح الشارع من حيث العلاقة بين الجمهور والممثل ، والفضاء غير المغلق ، والمشاركة مع الحضور في رسم ملامح الحكاية ، أي أن "الحلقة هي تجمع دائري في أحدى الساحات العمومية ، يقف وسطه (الراوي) والمساعد ، اللذان يقصان بالتناوب قصص البطولات ، والأساطير ، والحكايات الخرافية ، بطريقة تمثيلية صرفة ، تجمع بين التشخيص والمباشرة والايماءة . ويوجد حتى الآن سوق كامل لهذا النوع من الاحتفال بمدينة مراكش " (11) . إذن هذه العروض التي تستمر لغاية الآن هي من المحفزات الحقيقية في داخل المجتمع في مراكش ، كونها تعد من الركائز المهمة في الثقافة في هذا البلد ، الذي لم يتجاوزها الناس ويجعلها من التراث ، بل هي حية في فعلها ونشاطها التوعوي والفني والثقافي .وهذه الاحتفالات في المغرب العربي عامة هي من جعلت (عبد الكريم برشيد) يتساءل عن مسرح الحلقة وغيرها من الصور الدرامية التي تقع خارج إطار المسرح الغربي التقليدي ، التي يرى بأنها أقرب ما تكون للمسرح عن غيره من الفنون الأخرى التي يلتقي فيها " اللعب والجد ، وتلتقي الحياة والفن ، ويمكن للباحث أن يتساءل إن من تعود على الاحتفال ، داخل السوق الأسبوعي ، أو في الموسم السنوي ، هل يمكن أن يكون غريباً عن روح وجوهر المسرح ؟ " (12) ، ومن هذا التساؤل يبدأ عبد الكريم برشيد وغيره من العاملين في البحث عن أشتغالات جدية توجد مسرح بديل للمسرح الغربي ، هذا المسرح البديل لا يتخلى عن كل هذه المظاهر العربية والإسلامية في تاريخ المغرب العربي التي يمكن توظيفها في ما سمي بالمسرح الاحتفالي ، هذا المسرح الذي هو بالضد من أشكال المسرح الغربي الذي يعد دخيلاً على الثقافة العربية بصورة عامة والمغاربية بصورة خاصة ، ويقول عبد الكريم برشيد " لقد غاب عن رواد الحركة المسرحية أن المسرح ليس بناية ، وليس أسواراً وخشبة ، وليس ستارات وكراسي من خشب ، أنه موعد بين جمع من الناس ، ثم يقول : المسرح حفل واحتفال ، وهكذا عرفناه من قبل ، إنه مهرجان يلتقي فيه الناس بالناس ، إنه عيد جماعي ، لذلك أرتبط بالساحات والأسواق والمواسم " (13) ، والارتباط بالساحات والأسواق والمواسم والفضاءات المفتوحة هو عينه مسرح الشارع الذي يبحث عن هذه الفضاءات وعن الارتجال وعن الذهاب إلى الجمهور ، والبحث في موضوعات تغادر سَلب الجمهور إرادته ، وتغادر سلب الجمهور بيئته الحقيقية في المشاهدة ، فمسرح الشارع يبحث عن البيئة الحقيقية للجمهور ، وليس عن البيئة المصطنعة التي بحث فيها من يشتغل في المسرح من أمثال المسرح الملحمي وغيره عن كسر الإيهام والإندماج والبحث عن علاقة جديدة مع المتفرج ،لهذا السبب بحث المسرح الاحتفالي في بناء علاقة جديدة مع الجمهور قائمة على ركن أساسي وهو البدء في البحث عن الجمهور على وفق العلاقة التي أوجدتها المظاهر الدرامية في التراث العربي والإسلامي ،قام المشتغلون في المسرح الاحتفالي بالبحث في هذه المظاهر التراثية على أعتبار أن في المغرب العربي " كانت الساحات العمومية والأسواق الكبرى مسارح للرواة المداحين الذين يجمعون حولهم حلقات جماهيرية ملتهبة لسماع نوادر جحا وملاحم عنترة وسيف بن ذي يزن ..الخ ، وكان الرواة والمدحون يستخدمون جميع الحيل الفنية من أثارة وتشويق لشد المشاهدين اليها وإحداث انسجام تام بين المؤدي وجمهوره ، وقد جاء استلهام ذلك في بناء النظرية الفنية والجمالية للمسرح الاحتفالي الذي (لا يحاكي ولا يحكي، أنه يحيي حدثاً – حفلاً ويقيم لقاء تظاهرة – هنا والآن - هذا اللقاء / الاحتفال هو جزء منا نحن المحتفلين ، أنه نحن وهو لا يمكن أن يكون الا كما نريده ونحياه " (14) . وهذه الرؤية في التفكير وفي تحديد مهمة المسرح هي بالبحث عن روح التلاقي بين المسرح وجمهوره ، وليس بين هذه الظاهرة وأفكار غريبة عنها .
إنَّ الاحتفالية قد ارتكزت على ركائز مهمة استلهمتها من التراث الفني تتلاقى مع الركائز الجمالية في مسرح الشارع ، فالاحتفالية ركزت على الذاتية النابعة من اللقاء ذاته بين المسرح والجمهور ، لذا " فالمسرح الاحتفالي لا يحيل على الماضي كما هو شأن الدرامية ، ولا يحيل على الآخر الغائب البعيد – كالمسرح الملحمي – وإنما يحيل على ذاته ، فهو وحده المرجع والمصدر ، لأنه لقائنا نحن – الآن – هنا ، فالاحتفال المسرحي إذن لا يحيى زمناً كان ثم مضى ، كما أنه لا يحكي عن زمن كان أو يكون ، ولكنه يخلق زمناً جديداً" (15) . هذا الزمن الجديد قائم على العلاقة الحية الرابطة بين العرض وتلقيه ، أي أن المسرح يحي هذا العرض في فضاء التلقي الآني من خلال اختراق هذا الفضاء وإقامة الصلة معه بشكل مباشر ودون أي واسطة يبحث عنها كما هو الحال في المسارح الغربية . وهذه أول المرتكزات الفنية التي تلتقي فيها الاحتفالية مع مسرح الشارع .
أما المرتكز الثاني الذي يلتقي فيه المسرح الاحتفالي مع مسرح الشارع هو الفضاء المفتوح من خلال الساحات العامة والأسواق ، وهذا ما وجده المخرج (الطيب الصديقي) الذي بحث في مجال تأسيس فكرة العرض المسرحي الاحتفالي ،إذ يختار " الأماكن المفتوحة والساحات العامة والشوارع لتقديم عروضه ، رافضاً معمار المسرح التقليدي ، لأنه يخنق فن التمثيل ، ولا يمكن من خلاله تحقيق نظام المشاركة العقلية والوجدانية بين المحتفلين" (16). من ثم فأن المعمار المسرحي التقليدي من حيث الأبنية الخاصة بالعرض المسرحي تحد من قيمة ومشروعية التلقي من خلال تحديد هذه الفضاء بالمعمار الذي من الممكن أن يؤثر بطبيعة التلقي من جهة ، ويحد من العدد كون أن العدد في المسارح التقليدية محدود ، على العكس من الأماكن المفتوحة التي من الممكن أن يكون فيها العدد أكبر مما هو في مسرح العلبة ، ومن جهة ثالثة جعل الفضاء المفتوح حرية أكثر من حيث المتابعة للعرض المقدم أو رفضه دون عوائق تؤثر على المتلقين الأخرين .
أما المرتكز الثالث الذي يشتغل عليه المسرح الاحتفالي ، هو الارتجال وهو من المرتكزات الثابتة في مسرح الشارع ، والارتجال في المسرح الاحتفالي يعمل عليه المشتغل في هذا المسرح كون أن صانعه لا يستند " إلى نص مكتوب أو دور جاهز ولا يقبل التغيير . بل إنَّ الفرجة تعتمد بالأساس على التأقلم مع متطلبات اللحظة وطبيعة المتلقي . ولهذا ، فهي تبقى قابلة للحذف أو الإضافة ، حسب تغير الظروف وحيثيات التواصل ، وعليه فالارتجال هو الصيغة المفضلة لدى صانع الفرجة ، لأنها تتيح له إمكانية هائلة للتعبير وتبتعد عن التصلب والجمود الفني " (17) . هذه هي طبيعة الارتجال في ما وجده الباحثون عن حقيقة الفرجة وتلقيها ، وطبيعة الأداء المقدم من قبل المؤدي في المظاهر الدرامية المختلفة في التراث العربي والإسلامي.
يعد الارتجال في الاحتفالية من الأسس التي يقوم عليها الاحتفال ذاته بين المؤدي والجمهور في كون أنه يتيح " قيام حوار مكشوف بين صانع الفرجة ومتلقيها الذي يبتعد عن الموقف السلبي ، ويتحقق هذا الحوار خاصة في لحظات تتوقف فيها الفرجة ليخاطب صانعها الناس مباشرة " (18) ، من أجل تحفيز هذا الفضاء المتداخل بين المؤدي والجمهور المتلقي لخطاباته القائمة على مبدأ العفوية والمشاركة الجامعة للموضوع المقدم في الاحتفالية .
الهوامش
- عبد الكريم برشيد : الصدمة المزدوجة ، المسرح والحداثة ، الشارقة :إصدارات دائرة الثقافة والإعلام ، حكومة الشارقة ، 2014، ص149.
- بيتر يروك ، تيري إيجلتون ، سو. إلين وآخرون : التفسير والتفكيك والأيديولوجية ودراسات أخرى ، أختيار وتقديم : نهاد صليحة ، القاهرة : الهيئة المصرية العامة للكتاب ، 2000، ص 268،ص269.
- د. محمد سيف : المسرح والأفكار والتطبيقات التي تعارض التقاليد ، بغداد : من إصدارات مهرجان بغداد لمسرح الشباب العربي ، 2012 ، ص239.
- ينظر : د. علي الراعي : المسرح في الوطن العربي ، الكويت : سلسلة عالم المعرفة يصدرها المجلس الأعلى للثقافة والفنون والآداب ، 1999، ص50، ص52.
- المصدر نفسه ، ص53.
- عبد الكريم برشيد : المصدر نفسه ،ص140.
- المصدر نفسه ،ص140.
- المصدر نفسه ، ص152.
- د. علي الراعي : المصدر السابق، ص 57.
- ينظر : المصدر نفسه ، ص 58.
- محمد أديب السلاوي : الاحتفالية والبديل الممكن ، بغداد : منشورات دائرة الشؤون الثقافية والنشر ، 1983، ص52.
- عبد الكريم برشيد : المصدر السابق ، ص153.
- د. سعيد الناجي : البهلوان الأخير ، أي مسرح لعالم اليوم ؟ ، الشارقة : إصدارات دائرة الثقافة والإعلام ، حكومة الشارقة،2011، ص 107.
- د يحيى البشتاوي : توظيف التراث في المسرح العربي ، الشارقة : إصدارات دائرة الثقافة والإعلام ، حكومة الشارقة ، 2011، ص 203.
- المصدر نفسه ، ص 203.
- د يحيى البشتاوي : المصدر نفسه، ص211.
- سعيد الناجي : التجريب في المسرح ، الشارقة : إصدارات دائرة الثقافة والإعلام ، حكومة الشارقة ، 2009، ص123.
- سعيد الناجي : التجريب في المسرح، المصدر السابق ، ص123.