محمد بشكار - الشَّر في اليوم العالمي للشِّعْر !

مع كل هذا الشَّر الذي يَرِين حِداداً على العالم، لا أعرف هل ما زال ثمة جدوى من الشِّعْر، أكاد أجزم مع سِيادة التعسُّف والطغيان الماحق كل يوم للإنسان، أن الشِّعر فشل في لعب ذلك الدور المتعلِّق بالمشاعر الآدمية، هل حقا نعيش على هذا الكوكب مع بشر من بني جلدتنا أو عظمتنا، كيف وثمة آلة قتل تودي دون هوادة، بعشرات الآلاف من الأبرياء، أين الشِّعْر في هذا السلوك الهمجي، يُخيَّلُ إليَّ أنه انكفأ يُضمِّدُ في الذوات المريضة جراح النرجس، فنسي دوره في الأرض واهماً أنه وحيٌ من السماء !
ما جدوى اليوم العالمي للشعر، إذا لم يُعِد ترتيب الزمن بروزنامة خارج مدار الشر، كالتي وأدت تحت الأنقاض كل أيام ضحايا الحروب، ومع ذلك لا نملك كما في ليلٍ طويلٍ، إلا أن توقظنا أمهات الأفكار الراقدة بدورها في بطون الكتب، لنذهب مُبكِّراً و لو في أرذل التخلف، إلى المدرسة من جديد كي نُعيد استظهار بأعين مُغمضةٍ وعن ظهر قلب لا أعتقده ما زال حيّاً يُرزق في جوفنا، بعض دروس الحُرِّية التي تلقّاها مناضلو هذا البلد بمنطق الرصاص عُراة الصُّدور، حتى تحوَّل الجمر الذي احترقوا بعذاباته من السجون إلى المنون في أيادينا نحن جيل اليوم، زهراً يانعاً بالمكتسبات الديمقراطية و الحقوقية لبُرهةٍ من الربيع أدركه الخريف سريعاً، لنعود إلى رجْعيتنا في التفكير بالضَّرب المُوجع حديداً لحرية الكلمة بكل مُشتقّاتها التي تعوَّدنا أن نرضعها من ثدي أمنا الوطن قبل أن يمتزج السُّم في الحليب، و كأننا لا نعرف أن نعيش كل غدٍ إلا في كابوس أمسنا، فماذا تُجدي الشِّعْرَ أو الإعلام أو أي كتابةٍ ننزفها حبراً من أوردة ضمائرنا، أقلامٌ مغلولةٌ إلى الأعناق ولا تكتبُ سطراً إلا بعد أن تمحو الذي سبقهُ خوف أن تشي الكلمةُ بالكلمة!
ما جدوى الشعر في عالم يبدع أقصر الأسطر للشر، ألم تَرَ كيف تُشيَّعُ الكلمة الحُرَّة في العالم العربي في أبشع الجنائز، وما زال القبر طويلا في مُحاكماتٍ الإعلاميين الأشراف وجَلْدِ وإعدام الشعراء الذين لا ذنْبَ اقترفوا قصيدتهُ، سوى أنهم كانوا إنسانيين بأرواحٍ مُضاعفةٍ أكثر من بعض الإنسان، ومع ذلك لن أنسى وأنا أعيشُ حاضري حُلُماً في القصيدة، تاريخاً صنعهُ رجالاتٌ أفذاذٌ على هذه الأرض التي نتوقُ أن لا تُخطىء في دوْرتها حول نفسها كل الفصول، عسى يُدركُ شِعْرَنَا بعضُ الربيع، سنقول مع الأمل شِعْراً جميلاً، وأعلم أن بعض الأمل يستدعي أن نردِّد مع الشاعر الجاهلي "تميم بن مقبل": لو أن الفتى حجر!
تُرى هل بقي في أنفسنا مع كل هذا القبح بعضُ الشعر الجميل، بل أنَّى له أن يبقى، ألم تَرَ حين ننادي للحياة عبر سِياقٍ أو ساق في القصيدة، ينبري من يُشْهِرُ معولا ليقتفي في حَفْرهِ الوادي، ليس الذي يسقي الحقول، إنما ذلك الوادي في لوح اجتماعي أشبه بشطرنج، يا للهول حتى الشاعر انخرط في الصراع على مربع ضيق، فماذا يفيد أن تصيب الربح في الجيب وتخسر القلب !
ألم أقل ما جدوى الشِّعر في عالم يسوده الشر، كيف لا وما ذلك المربع سوى مجتمع ضاق بعد أن انحصرت منابع خيراته في جيوب قِلَّةٍ من الإحتكاريين، أما كان أجدر لتَجْري المياه بصفاء، أن يرشُّوا ببعض البياض السواد الأعتم، و مازال الوادي الذي في رقعة الشطرنج ساريا بحَفْره في عروق الناس، يجتثَّ كل كلمة تريد هامشاً صغيراً من الحُرية كي تقول كلمتها، لكن عبثا والبيادق ما فتئت تنمو أسواراً عالية، وهاهي استفحلت في الفساد الذي يليه تقاعد مريح، وأصبحت تتصدَّرُ في تخندُقها النَّفْعي الصفوف الأولى وتنفخنا جميعاً للريح!

1711026561751.png

لن أنتهي كما بدأت، فقط أحتاج إلى أن أرفع عاليا هذا النداء: فيا أيها الشُّعراء لقد توقّف الأنبياء عن النزول من السماء، فكونوا كلمة العدل والمساواة والجمال، عسى بالشِّعر يتبدَّدُ بعض الشّر!


...............................................
افتتاحية ملحق"العلم الثقافي" ليوم الخميس 21 مارس 2024

محمد بشكار - وأْدٌ ضيَّع الورْد !

لا تُؤاخذوني إذا لَمْ أُشاطر جَوْق العُمْيان الطَّرب، إذا نَشَزْتُ في الكتابة عن النَّغْمة ذاتِ الرّنين الذي يُفرِّجُ الغُمّة، تلك التي لا يَحْتدُّ وطيسُها إلا كُلّما شارف الحفل على الإنتهاء، فيا لمفعول الوليمة في الأنفُس قبل البطون، ألم تر كيف تكون سبباً في التّصْعيد حتى على مستوى الطّبْلة والمزمار، ألَمْ تَرَ كيف بعد الشَّبع، تعْمى البصائر قبل الأبصار وينفَضُّ الجمْع، فلا تؤاخذوني إذا لَمْ أشاطر جوق العميان حرارة النّغْمة، إيذاناً بنزول الأطْباق الشهيّة من أكتاف طاقم مُموِّل الحفلات، مروراً بمسالك مَعويّة ابتلعتِ البشر قبل البقر حَدَّ التُّخْمة !

أعْلَم أنَّ الخِطاب بصِيغة المُتكلِّم قد يجُرُّ على كاتبه النّدم، لذا وجب التَّنْبيه قبل أن ينْسَاق القارئ الكريم وراء هذه الأسْطُر، إلى ما لا يُحْمد معْناه، أنِّي لا أعْني بهذا المقال نفسي التي أعْتبرها جُزءاً من الكُل، إنّما يَشْمل هذا التّشريح جميع الفاعلين في واقعنا الثقافي غير المُريح، فليْس ثمّة أبْغَض لنفْسي مِنْ أن أزاحم فَرَاش اللَّيل وَهَوامّه على الأضواء، أو أُزاحم مواد التَّنْظيف على وصلة إشْهارية تُلمِّعُني في التلفزيون، فلا تؤاخذوني إذا تسلَّلتُ تحْت عتْمة الحبر، أتربَّصُ بالعصابة التي أفْسَدتِ مصْداقية الثقافة والأدب في البلد، لا لشيء إلا لتحْتكِر كل المواقع في دواليب مؤسسات الدولة إلى الأبد، وتقف سَدّاً منيعاً يَحُول دون بروز المواهب، وها بعض هؤلاء العناكب ما زالوا منذ سبعينيات القرن الماضي، يقفزون بأكثر من خيط لاعقين أيادي أوْلياء النِّعَم، في لِجنٍ تُجْزي لهم العطاء ليُضيِّعوا بتحكيم مُتواطِئ، جيلا كاملا من نوابغ المثقفين، فمنهم من استمرّ قابضاً على جمر الكتابة رغم المِحن، ومنهم من اخْتار الصّمت احتجاجاً صارخا يتردَّدُ صداه في ردهات التاريخ، أمّا لسان حال العِصابة المكْشوفة كقائمة الأثمان فوق السِّلَع، فيقول ساخراً بجشع: ها واحدٌ من المنْكوبين قد نقص، ليلتحق بكل الأقلام الذين دفنّاهم أحياءً دون أكفان !

لا تُؤاخِذوني إذا بدوتُ فاضحاً كما تقرأونني اليوم، ولكن يعِزُّ عليَّ أن أرى أكثر من امرئ قيْس في زمني، يُعيد نفس العبارة وهو يقْتُل الأب مرّة ثانية حين أتاه النَّعي بما جعل شرابهُ دماءً، وها هو يصيح في ذات السيّاق المحفوف بالإحتراق؛ أوَ لمْ تروا إلى العصابة ويَقْصدُ أباه المُحْبِط للإبداع والكتابة، كيف ضيّعتني صغيراً منذ نُعومة أظافر كلماتي، وحالت دون أنْ أكْبر بالحجم الطّبيعي الذي يصنع لبلدي أديبا كبيرا، حرمتني من أهم الجوائز الأدبية، فكانت وما زالت على عادتها السيّئة، تُدوِّرها حكْرا بين أعضائها المُعْتاشين، ولا بأس أن تتكرّر عمليّة (التويزة) ما دام في حرثها خيرٌ عميم ويأس كارثي لآخرين، حرمتْني العِصابة وهي تنصب الفخاخ في كل الحدود من حيث تفِدُ الدعوات، من تمثيل بلدي في أكبر المهرجانات بالوجه الأصيل المُشرِّف، وليس بالقناع المُشوَّهِ المُكرّرِ والمُقْرِف، ألا يا امرؤ القيس خُذِ الآن حصّتك الكافية من السُّكْر العلني وزِدْ، ولا تثأر لا اليوم ولا غدا لِحبْرٍ تفصَّد كالدم الفاسد !

لا تؤاخذوني ولكن مع هؤلاء... الذين لا يستحِقون كل أحرف النداء وأسماء الإشارة، لم تعُد للكتابة رائحة أو مذاق، معهم أصبحنا ندفع بحزمة الكلمات إلى حفرة في خاطرنا، كما لو نُهيِّء الحطب في موقد للاحتراق، مع هؤلاء لا وقت للتعبير عن مواقف إنسانية في الموت الهمجيِّ أو الإملاق، لا بيانات تضامن في زمن التّغابُن،لا وقت حتّى للوقت ما دامت كل عقارب السّاعة مسمومة، هم مع الجميع ضد الجميع لصالح أنفسهم لعلَّك ترْضى، هم خارج الظّرفية العصِيبة التي يمر من رُزْنامتها الدّموية التاريخ، أو تعبر من فجاجها الجغرافيا، ويا لها من ظرفية أصبحت تُمْلي صنْفاً من الكتابة غير التي تُمْليها الأهواء، مع هؤلاء الذين باعوا كلّ القيَم جرياً وراء الدِّرْهم، أصبح الكاتب أحْوج كي يكْتسِب مناعةً تقاوم الإغْراء، إلى قُوة خفيّة تمسك بالقلم كما يُمْسك أحدهم بعكاز أعمى، فإما أنْ تُغيِّر اتجاه الوعْي والكلمة استِجابةً للشَّرْط التاريخي، أو تسْتدرجكَ الظُّلْمة، إلى خرائطَ جديدة تتشكَّل بقوة النار والحديد وتُفْضي إلى الفُقْدان، ألَمْ أسألكم أن لا تؤاخذوني في كل شيء، لا تؤاخذوني أيُّها الرفاق، أيها الإخوة وأنتم كذلك أيُّها العُشّاق، لا تُؤاخذوني فِي ما قُلْتُهُ وَما لمْ أقُلْهُ سيأتي موْعدهُ بالصّوْت والصُّورة والأسْماء، فليْس هذا وقْت النِّفاق !
.................................................
افتتاحية ملحق"العلم الثقافي' ليوم الخميس 10 أكتوبر 2024.

تعليقات

لا توجد تعليقات.

هذا النص

ملف
في اليوم العالمي للشعر
المشاهدات
283
آخر تحديث
أعلى