كاهنة عباس - إشكاليات الحرية: لم سكتنا عن إثارتها أو حتى الحديث عنها ؟

متى نعترف بالانسان؟

من أكبر المفارقات، أن كلمة الحرية التى نادى بها التونسيون في ثورة الرابع عشر من جانفي ألفين إحدى عشر، كانت أكثر الكلمات تداولا واستعمالا في جميع الخطب، باختلافها إعلامية كانت أو ثقافية أو حقوقية أو سياسية، وأكثرها التباسا وغموضا .

أما الأغرب من ذلك كله، فهي الكلمة التي انقادت وراءها الناس، فتناقلها الصغير منهم والكبير النساء والرجال الفقراء والاغنياء، فهبت مثل العاصفة الهوجاء على جميع المنابر والملتقيات، دون أن تحاط بأي تعريف معين أو بحث أو نقاش أو حوار جدي، يرفع الغموض والتباس الحائمين حول معانيها.

إذ اكتفى كل فريق باستعمالها حسب اتجاهه الحزبي أو إيديولوجي أو انتمائه إلى طبقة إجتماعية أو فئة، حسب ما يقتضيه السياق أوالظرف أوحسب مصلحته....

ولعل أول إشكال طرحه مفهوم الحرية، انبثق عند بت فيلم " بلاد الفرس " بقناة نسمة على الشاشة التونسية قبل إجراء انتخابات المجلس التأسيسي، إذ اعتبره الشق الاسلامي اعتداء على" المقدسات الاسلامية" لتجسيده الذات الالهية في لقطة مقتضبة من الفيلم، بينما اعتبره الشق الحداثي حرية تعبير، وتواصلت أزمة تعريف الحرية مع أحداث العبدلية، عندما عرض أحد الرسامين لوحات، اعتبرت محظورة لنفس السبب، فأثارت نفس النقاش ونفس الخلاف تقريبا، ودخلت البلاد إثر ذلك في دوامة من العنف، ثم انطلقت بعد ذلك دعوات تكفيرية تدين كل من يبدي برأي أو موقف سياسي أو ثقافي يعيد النظر في بعض " المسائل الدينية "، فكان مفهوم الحرية تارة يعني حرية ممارسة الفرائض الدينية، وطورا حرية الافراد والجماعات في إبداء الرأي في مسألة، أيا كانت طبيعتها دون حصر أو تحديد حتى وإن كانت دينية ،مادمت مطروحة للاجتهاد.

وإزاء هذا الوضع، اكتفت النخب سواء من السياسيين أو المثقفين بمعالجة المسألة من وجهة نظر قانونية، دون الحسم في مسألة مرجعياتها: إن كانت منظومة حقوق الانسان أو المنظومة الفقهية الاسلامية؟ لتبانهما في نقطة أساسية وهي مصدر الحقوق وأسسها إن كان الانسان بوصفه كائنا حرا يتمتع بحرية الاختيار والفعل، أم الله عزوجل من خلال القرآن الكريم والسنة التي تفسره؟

وجاء الدستور ليكرس المرجعيتين : مرجعية حقوق الانسان والمرجعية الاسلامية ضمن التوطئة التي تحدد الاطار العام للتأويل ،فلم يحسم الامر في خصوص نقاط التلاقي ونقاط الاختلاف بينهما (1).

و بعد سن الدستور، بدا المشهد السياسي والثقافي وكأنه قد تجاوز الخلاف لمدة قصيرة كي يطفو من جديد، على الساحة السياسية والاعلامية والثقافية في مناسبات أخرى متعددة تعلقت تارة بارتكاب جرائم يعاقب عليها القانون الجنائي : مثل جرائم استهلاك المخدرات والمثلية الجنسية، وطورا بما يتعلق بحرية التفكير والبحث الاكاديمي ( في خصوص ما تعرضت إليه الاستاذة الجامعية السيدة آمال القرامي من تكفير ضمني واعتداء بالعنف )فأعيد طرح مسألة الحريات الفردية، بعد أن كانت موضوعا مغيبا هامشيا، ليثيرزوبعة عابرة وخلافات لم يتعد النقاش المتعلق بها مدى تطابق القانون الوضعي القديم مع دستورالبلاد الجديد ودون تناول مسألتي الحرية الفردية والتكفير.

فلم غيب الحوار الجدي حول مسألة تعتبر من أمهات المسائل، مثل الحرية، ألم تكن من أهم مطالب الثورة ؟

الرأي عندنا ،أن أسباب التغييب هي تاريخية، فلم يسبق للعالم العربي الاسلامي أن رفع شعار الحرية لمواجهة الدولة الوطنية، والبلاد التونسية متصلة به غير منفصلة عنه ثقافيا و تاريخيا، فكان لابد من تجنب نتائجه: ألا وهي إعادة النظر في جميع أشكال السلطة لا السياسية فحسب بل والاجتماعية والعقائدية أيضا، وهو ما يعني إعادة النظر في طبيعة العلاقة التي تجمع الافراد بعضهم ببعض ( علاقة الاب بالابن ،وعلاقة الزوج بالزوجة، وعلاقة الاستاذ بالتلميذ، وعلاقة العامل بمؤجره....الخ )مما سيفضي إلى إعادة تنظيم السلطة الاجتماعية بشتى أشكالها وفي سلم القيم الذي يحكمها ،أي في ما هو مباح وما هو محظور، لذلك تجنبنا الخوض فيها بجدية ،لأن قيمة الحرية في معناها الحديث مفقودة لدينا، لا على مستوى الفعل و الممارسة على مدى التاريخ فحسب، بل وحتى كمصطلح لغوي أيضا .

1 - في التعريف بمصطلح الحرية لغويا

ليس للحرية في مفهومها الحديث جذور في اللغة العربية، فبالرجوع إلى المعجم العربي (2)يتبين أن كلمة حر تعني في الاصل : الخالص من الشوائب ، عتيق الاصل ، الانتماء الى شرفاء العرب ،ما هو طيب وأصيل ،كما تعني أيضا وضعية الشخص الذي انعتق من نظام الرق القائم قديما عند العرب، بأن أصبح حرا بعد أن كان عبدا ، أو ذاك الذي لم يخضع لنظام العبودية بفضل إنتمائه ، لأنه ولد حرا لا عبدا.

وقد بين المفكر عبد الله العروي في كتابه " مفهوم الحرية"(3)، أن كلمة الحرية في اللغة العربية لا تؤدي إلى نفس المعاني في الكلمات مرادفة لها في اللغات الاروبية، فلم يكن المسلمون في القرن التاسع عشر، يدركون معاني مثل :" حرية الأقلية ، حرية التنقل ، حرية المعتقد،عندما كان السفراء الأجانب يطالبونهم بضمانها لمواطني بلدانهم، فكانوا تارة يعتبرونها منافية للرق وطورا خروجا عن الشرع، ولم تكتسب عبارة الحرية في العالم العربي معناها الليبيرالي إلا حديثا .

وتأكيدا لذلك ، تحمل كلمة الحرية في معجم اللغة الفرنسية لاروس(4 )معان أخرى مختلفة عن معنى الحرية في اللغة العربية فهي : وضعية شخص لا يخضع لسلطة غيره( سيده ) ،سيادة الشعب الذي يحكم نفسه بنفسه على الصعيد السياسي ، وضعية شخص قادر على تجاوز أي ضغط خارجي أو أحكام اجتماعية مسبقة ، إتيان فعل نابع من اختيارات فردية دون الرضوخ الى سلطة معينة، وضعية شخص لا يربطه أي التزام تعاقدي أو عاطفي بغيره ، وضعية شخص لم يسجن .

ويمكن القول أن مسألة الحرية قد طرحت في التراث العربي الاسلامي من زاوية أخرى مغايرة ،فقد أثار علماء الكلام مسألة الجبر والاختيار من خلال طرح السؤال المعروف : إن كان الانسان مخيرا أم مسيرا ؟فكان طرحهم متصلا اتصالا وثيقا بالقرآن الكريم وبالسنة وبالاتجهات الفقهية عموما، ومعنى ذلك أن الارادة والاختيار والقدرة لدى الانسان لم تعالج خارج الاطار الديني أي خارج إطار علاقة الانسان بالله عز وجل ،فلم يظهر مفهوم الحرية بمعناه الحديث إلا في عصر النهضة العربية (5).

2 -مفهوم الحرية في العالم الاسلامي

بالرجوع الى الفصل الأول من الاعلان العالمي لحقوق الانسان في القاهرة، الذي وقعت صياغته في 1990/08/5 من طرف منظمة التعاون الاسلامي(6)، يمكن أن نتبين خصائص معاني الحرية في الاسلام ،إذ ينص : البشر جميعا أسرة واحدة، جمعت بينهم العبودية لله وللنبوة وجميع الناس متساوون في أصل الكرامة الانسانية وفي أصل التكليف والمسؤولية دون تمييز بينهم بسبب العرق أو اللون أو اللغة أو الجنس أو المعتقد الديني أو الانتماء السياسي أو الواقع الاجتماعي أو غير ذلك من الاعتبارات، وأن العقيدة الصحيحة هي الضمان لنمو هذه الكرامة على طريق تكامل الانسان، وأن الخلق كلهم عيال الله وأن أحبهم إليه أنفعهم إلى عياله، وأنه لا فضل لاحد منهم على الآخر إلا بالتقوى و العمل الصالح.

ويستشف من هذا التعريف: أن أساس الحرية هوالعبودية لله الذي ميز الانسان على بقية المخلوقات، بأن كلفه باستخلافه على الأرض للاضطلاع بأمانة تعميرها وفق مبادئ الشرع الاسلامي، حتى لا يخضع لشهواته أو لضغوطات خاريجية ، فيكون قد تحرر، لانه لا يخضع لا للبشر ولا لشهواته وأهوائه الشخصية .

3-مفهوم الحرية في مفهومها الليبيرالي :

تنطلق الحرية من وعي الانسان بذاته وبتمتعه بملكة الارادة و القدرة على الاختيار،فهو إذا كائن قادرعلى إتيان أي فعل أو قول اختاره عن وعي وإدراك و يتحمل بالتالي مسؤولية نتائجه ، فالانسان سيد نفسه لا سلطان على اختياراته أو إرادته، لأنه لا يستمدها إلا من ذاته لامن سلطة خارجة عنه.

لذلك تشترط الحرية في هذا المنحى، الاعتراف بالفرد وبقدراته وإمكانياته الذاتية ويترتب عن ذلك من الناحيتين الاجتماعية والسياسية، الاقرار له بجملة من الحقوق والواجبات حتى يمارس تلك الحرية قولا وفعلا ، فيكون مصدر التشريع سيادة الشعب وقيام الدولة بمؤسساتها لضمان تلك الحقوق وحمايتها .

ولترسيخ هذا الاتجاه ،ينص الفصل الأول من الاعلان عن حقوق الانسان: يولد جميع الناس أحرارا متساوين في الكرامة والحقوق وقد وهبوا عقلا وضميرا ،وعليهم أن يعامل بعضهم البعض بإخاء (7).

لذلك ارتبطت مسألة الحريات بعلاقة الفرد بالسلطة سواء كانت اجتماعية أم سياسية، فهي لا تقتصرإذا على النقاش الفلسفي النظري التجريدي، بل تتجاوزه لتطرح علاقة الانسان بالانسان وعلاقة الانسان بالسلطة القائمة، وتحديدا بمفهوم الدولة وبالقيم السائدة وبالمجتمع .

4 -خصائص الثورة التونسية :

لم تنطلق الثورة التونسية في بدايتها للمطالبة بالحرية، بل لتحقيق مطالب اجتماعية واقتصادية وهي الشغل والكرامة والعدالة الاجتماعية، التي لم تحققها الدولة الوطنية .

إلا أنها سرعان ما، تحولت الى مطالب سياسية تطالب بالحرية ، لارتباط تلك الحقوق بالحقوق السياسية بعد أن تنكرت لها الدولة الوطنية على امتداد عقود .لكن بأية حرية كانت تطالب ،هل بالحرية الفردية التي تعترف بالفرد كذات متسلقة تتمتع بالقدرة على الاختيار والارادة والعقل ؟أم بالحرية السياسية؟ أي بتلك التي تتعلق بحق الفرد في المشاركة في الشأن العام وهي : حرية التظاهرالسلمي والتنظم في شكل أحزاب أو جمعيات وحرية التعبير والصحافة ؟

لقد شهدت تونس بعد الثورة، نشأة عدد هائل من الأحزاب والجمعيات، وعرفت أيضا بروز العديد من القنوات و الصحف والجرائد في فترة وجيزة جدا، لكن الحرية بقيت مقتصرة على علاقة الفرد بالسلطة الحاكمة وحقه في المشاركة في الشأن العام، وهو ما يستوجب منه ممارسة نشاط جماعي أي الانصهار في مجموعة ما ،ولم تطرح مسألة استقلاليته عن أية سلطة كانت والاعتراف له بالقدرة على الاختيار وبملكة العقل والضمير، كما جاء بالفصل الأول من الاعلان العالمي لحقوق الانسان.

لذلك أفلحت الثورة في إعادة تنظيم السلطة السياسية على أسس جديدة ، دون أن تعيد النظر في علاقة الدين بالمجتمع وعلاقته بالسياسة، إذ استغرقت تلك المسألة وقتا طويلا وجهدا وصراعات إيديولوجية حادة ، انتهت بالرجوع الى الهوية العربية الاسلامية أي الى مفهوم الجماعة والامة وما تقتضيه من وجوب الطاعة والانصياع للسلطة القائمة، رغم ما أقره الدستور التونسي من تأكيد على روح الانفتاح وما نص عليه من حقوق ضامنة للحريات.

5-غياب الانسان

ما هي نتائج الاعتراف بالحريات العامة دون الحريات الفردية ؟ ألا يؤدي ذاك الى تمكين أقلية من تلقد الحكم وإقامة نظام استبدادي ؟ أليس الهدف من سن الدستور ضمان الحريات الفردية والسياسية والاعتراف بالانسان في إطار عقد اجتماعي يضمن له الكرامة و الحرية بتحديد مهام الدولة في إطار قانوني يوفر التعايش السلمي للجميع؟ ألا يكون الفرد في نهاية الامرهو جوهر ومصدر كل الحريات ؟وبالتالي ألا يكون " مفهوم الفرد"أساس القانون الضامن للحريات ؟

كيف يمكن أن نؤسس لأية قيمة كانت روحية أو إنسانية أو أخلاقية، إذا ما تنكرنا للانسان كعقل مفكر ومبدع وحددنا هويته قبل الاعتراف له بأي حق؟ ألا تفقد جميع السنن والقواعد الاخلاقية والاجتماعية والعقائدية وكذلك القوانين الوضعية معناها، إذا ما اعتبرنا أن الفرد لا يتمتع بوجود حقيقي، لأنه مطالب بالاتباع والانصياع للجماعة ،لا بالمبادرة والخلق الابداع والتفكير؟ ألا يفسرذلك صعود الاحزاب اليمينية والمحافظة في تونس ؟

ومن وجهة نظر عقائدية ، كيف التعويل على إنسان يتبع الجماعة التي تحكمه بالانصياع لها، فمن ينزه الجماعة عن كل ظلم أواستبداد؟ وما هي مكانة المواطنة كمفهوم في المنظومة القانونية الحالية دون مفهوم الفرد ؟

لان الانسان غيب كوجود وذات ، فقد انحرفت جميع الحوارات تقريبا عن هدفها، لتتمحور حول مسألة واحدة : تحديد الفئة المؤهلة للحكم، وبالتالي غيب جوهر جميع القضايا نسبيا مهما كان طرحها حداثيا أو إسلاميا ، لانصهارالفرد سواء في الأسرة أو في المؤسسات ، كما نص على ذلك الدستور التونسي ، وغيب مفهوم " الانسان " أو "الفرد" أو "الشخص" من جل المجدلات المطروحة والمتعلقة بالحريات سواء العامة أو الخاصة .

في ظل هذا الوضع، يصبح من المؤكد القيام بمراجعات حثيثة وعميقة، لإعادة قراءة التراث العربي الاسلامي وتجاوز المنظومة التقليدية .


فلم تتوصل الثقافة الغربية الى اعتبارالانسان قيمة في حد ذاته إلا بعد أن صياغة نظريات فلسفية تناولت بالدرس الذات الانسانية بالتأسيس لعدة المفاهيم مثل : الوعي والارادة والعقل واللاوعي والخيال والذاكرة والادراك لدى الانسان .

أما في مجتمعاتنا، فيضطر الفرد الى إتباع رأي الاغلبية سواء على المستوى السياسي أو الاجتماعي ، لانه معرض للتهميش بل وحتى للاقصاء التام في بعض الحالات أي للفناء المعنوي والاجتماعي إذا ما خالفها أو عارضها ، مما يغلب قيم المحاباة و التملق والنفاق و المغالطة والخداع والانتهازية ، ويمنع المجتمع عن التقدم والتطور والابداع والانتاج لتنكره للفكر الخلاق أي للفكر المخالف ،وهي مسائل لم يقع إثارتها من قبل النخب عند التعرض الى مسألة الحريات الفردية.

لم نتناول في هذا المقال مسألة الحرية من زوايا أخرى عديدة :كتلك التي تتعلق بدور الفنون في الاعتراف بالانسان أو بدورالمجتمع المدني في منع عودة الاستبداد، وكذلك أهمية الجانب الاقتصادي في بروز مفهوم الفرد وعلاقته بالدولة ، وخلاصة القول، أن إشكال الحرية يتجاوز الاختلافات الثقافية والعقائدية والايديولوجية، ليكتسي طابعا إنسانيا يستوجب مقاربات عديدة تستند الى العلوم الانسانية على اختلافها .لذلك يبقى النقاش مفتوحا حول المفاهيم و القضايا المتعلقة بالحرية .

كاهنة عباس .



المراجع :

(1) الدستور التونسي للجمهورية الثانية لسنة 2014.

(2) قاموس عربي عربي .

(3) مفهوم الحرية عند عبد الله العروي الصادر عن المركز الثقافي العربي الطبعة الخامسة سنة1993 .

Larousse en ligne , définition de la liberté (4) .

(5) فلسفة الدين عند ابن رشد : إشكالية الحرية أنموذجا بقلم عبد المنعم شيحة ، قسم فلسفة وعلوم انسانية ، مؤمنون بلا حدود .

(6) الاعلان العالمي عن حقوق الانسان في الاسلام، القاهرة ،1990.

(7)الاعلان العالمي لحقوق الانسان .





كاهنة عباس

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى