د. سامي عبدالعال - الناسُ... هكذا هي الحياة

ليس أدعى إلى الإشارةِ نحو الناسِ إلاَّ وجودهم المتنوع الثري. إذْ تعبر كلمة " الناس" عن عواطف ومعانٍ حدّ الإدهاش، الناس أزمنةٌ وأمكنةٌ وصورٌ وحالات من العيش. بالتحديد يتجلى وجودهم كما هم دون أشياءٍ أخرى. حيوات الناس تجسدُ واقعاً حياً، لا أفكار هنالك تسقط فوقهم من أعلى ولا تنبثق من أسفل. فأنت كما أنت على أصالتك من غير قشور ولا رتوش. ونحن سنذهب إلى عيشنا بلا وعي ونسكن إليه بكل أريحية وإطمئنان.

تماماً مثلما هي حياتنا الإنسانية كمقولةٍ معتبرةٍ فلسفياً داخل ذاتها. الحياة أكبر مُفسّر لما تفيض به من طاقاتٍ وأحوال ومستويات وجوانبٍ وظلال بين البشر. التعريف الأولي للحياة: أنَّها هي الحياة وكفى. تقريباً هذا التعريف هو ما يسمحُ لنا بالنظر إلى جوهرها. أي أنَّها حياة غير قابلة للتبرير، حياة هي صورتها الأصلية، حياة ليست قائمةً على هُوةٍ إزاء عالمنا ولا تمنياته الغامضةٍ.

هؤلاء الناس الأحياء في لوحات الفنان المصري محسن أبو العزم منحوتون من لحمٍ ودمٍ، معجونون من أسرار الأحداث والطقوس، مرقعون من أسمال الظروف والتحولات، منسوجون من شرائح وظلال المجتمعات الحية. اختصاراً هم ناسٌ داخل الحياة وضمن رواسب الواقع، ناس يجسدون أفراحه وأتراحه. شخصيات أبي العزم جاءوا من أحراش الحارات والمدن والقرى والنجوع المصرية وقطنوا اللوحات بكل امتلاءٍ. جاءوا وقد علقت بهم روائح الأماكن والإحتفالات الشعبية وصقلتهم العلاقات مع الآخرين. يكاد أحدُهم يقفز في وجهك بكامل طقوسه، بوافر وجوده الحياتي. كلُّ حالٍّ يجسده الناس إنما هو مرسوم بالملامح والمناسبات الاجتماعية الزاخرة بالمعاني. الوجوه والأجسام والملابس والأشكال والأنوف والعيون صيغ حياتية على الأصالة. لن يتجنب نظركُ أيا من التفاصيل، بل سيأخذك إلى حيث جوانب العيش.

كسر الحاجز

لم ترسم لوحات محسن أبو العزم التفاصيل بمعناها التقليدي. إنها شرائح من طقوس الحياة وممارساتها اليومية. هي لقطات كاملة المعنى، تشعر كأنها مخلوطة بزخم وروح الواقع إلى حد التماهي، التفاصيل ساحرة دون مسافة فنيةٍ مقصودة. الشخصيات جاءت إليك بكل محمولاتها الثقافية، ولن تكلفُك عناء الذهاب إليها، فهي مثقلةٌ بكل الأجواء الحميمية. في الفن التشكيلي، قد تشعر عادةً بأنَّ لوحةً ما تقول لك: ها أنا لوحة مرسومة بالألوان! وقد تقول لوحة أخرى: تأمل في جوانحي كي أعطيك ما أجسده.

ولكن لوحات أبي العزم ترفع هذا الحجاب فوراً، تهبك نفسها بكل بزخ وإشباع فني طافح. لوحات تندلق بكامل رصيدها الحي في مشاعر المتلقي وعواطفه ووجدانه وإحساسه. التلقي ليس عمليةً حياديةً ولا واقفة بالخارج، فجأة ستجد نفسك داخل اللوحة مباشرة، كأنك جزءٌ من تفاعلاتها، كأنَّك أحد شخوصها الحميمين. أنت كذلك بالفعل كشرطٍ للشعور مع شخوصها، أنت جزء من الوجود والعيش معها.

اللوحات باضة بالأفعال من أقرب المشاهد والزوايا، اللوحة عبارة عن ناصية حرة تترك شخوصها يمارسون وجودهم كما يشاءون. لن يأبهون برؤيتك لهم، ولا حتى بوجهة نظرك التي تلامس أطراف عالمهم. ذلك أنهم نماذج حية إلى درجة الإعجاز، يقولون ما يريدون ويمارسون أعمالهم بكل استمتاع وانهماك. الحب كما هو بكل التفاصيل الحية بين الناس، والتواصل يجري عفوياً من غير حواجر، والأعمال المنزلية كحال صانعة الجبن البلدى تتم على قارعة اللوحة كما هي بأعماق الحياة، والحلاق يمارس مهنتة منطلقاً من المشهد الأصلي إلى الصورة والعكس مباشرة.

ليس ثمة إعداد من الشخصيات كي تتهيأ إليك أيها المتلقي. لا تقول اللوحات هيئت لك، فالواقع مشبع بالإغواء حد التخمة، شخصيات أبي العزم لا تجيد فن التحضير للقاء فني مع مشاهدها من بعيد. فهي تأتي عبر تداعيات عالمها إلى صدارة اللوحة وتظل كذلك في الذاكرة، تخلق ذاكرتها النوعية. ولذلك تبدع تجاربها الفنية التي يمكن تسميتها ( فن العيش).

صحيح اللوحات تنثرُ مضامينها الحياتية بشكل دلالي مبهر، غير أنَّها تغرقنا عبر سحرها المنتظر في الخلفية. سحر لوحات أبي العزم فائض، وافر، مندلق بين التفاصل والمنمنمات الجمالية مع أعماله الفنية. إنها لون من الواقعية السحرية التي تتجاوز حد التعبير الفني، هي تكمل وجودها لدى مستويات أخرى من الإغراق في الخيال والتمثل اللاواعي. هي حالة من كسر الحواجز بين الواقعي والمتخيل، تفتح طاقات الممارسة البديلة دون استئذان.

وذلك نتيجة كون اللوحات حاملة رمزية بعيدة بحكم ذاكرة المجتمع المصري. ليست الطقوس الاجتماعية مثل الاحتفال بالمولود وهو في حضن أمه كما يبدو من تلك اللوحة طقوساً جافة، ولكنها طقوس احتفاء بالميلاد، بالحياة ، بالبهجة. لاتوجد شخصية تشذ عن القاعدة. كل مفردة فنية ترسم تقاليد المجتمع كما لو كانت مقدسات تستدعي الرغبة والرهبة، السعادة والاستغراق. كما لو كانت تلك التقاليد تتجلى لأول وهلة في عالمنا الحي. فالنساء رمز الحقائق والحافظات لها على طول التراث المصري. والاحتفال هو احتفال إيزيس بعودة |وزيريس في مواسم الحصاد والزراعة وجنى المحاصيل. كل طفل بين ذراعي أمه التي هي الثقافة في الوقت نفسه.

البوح

الناس الذين هم نسيج الحياة لا يضجون ولا يتأففون. تبدو المشاهد في حالة تراتيل فنية رغم مفرادتها البسيطة. إن قدرة الفن على ابداع وجود حقيقي قدرة أكبر من أي شيء آخر.

هذا فلسفيا-كما يوضح فيلهلم دلتاي- ذات رأي: أن الحياة تتجلى بكل وجودها الحيوي في التو كما لو كانت نحن. الفن يجعلك تبوح إلى نفسك، لأن حياتنا هي الوجود الذي يتاح معه وضع ذواتنا موضع الآخرين. أي أنْ ترى ما تراه كأنك تشعر بحياتك مكان الآخر، وأنْ تعيش بقدر ما تعيش كما لو كنت أنت الآخر. الناس يمثلون بوُحاً بما في الحياة من أصالةٍ وعراقةٍ طويلة الأمد. الحياة هي عملية الفهم المتواصل الذي يظهر في كافة المعاني. ومن ثمَّ، ستكون عمليات التأويل بمثابة فنون العيش معاً. تلك هي الشخصيات التي تسكن لوحات أبي العزم، لكونها بهذه المعالم الداخلية والخارجية في الواقع. إنها تسكن الحياة ممتلئة وزاخرة وطافرة بأعمق المعاني.

رُبَّ متسائل يطرح: ما الذي يجعل شخصيات أبي العزم سعيدة ومتميزة بحضورها القوي؟ إنها شخصيات مبهجة بهجة الحياة. هناك مساحات عميقة من الرضا والسكينة تنضح بها، يبدو شكلها هو العمق المنعكس بحرارة في الأشكال والمظاهر المتبدية. ولذلك تمارس الشخصيات كافة أفعالها عند الحد الأقصى للحياة، أي تجسد يقينا بما تفعل يفوق أية قدرات أخرى. تغلف الشخصيات غلالة من السخرية التي تطل من الاغراق في الملامح والإحوال البادية من الأجساد والأعمال.

ها هو أحدهم يجلس إلى المقهى واضعاً الإرجيلة بين شفتيه ناظراً إلى الآخرين، بل إلى العالم كله نظرة ساخرة. سلطان زمانه الذي لا يعبأ بشيء واقفاً على مملكته، وقد غلفت هيئته لمحة كاركاتورية بادية للعيان. هو يهزأ ضمنياً داخل المشهد وكأنه يمتلك الوجود بالفعل. وتصبح السخرية نبض اللقاء مع الأصدقاء والقرناء على المقهى. إنه يردع خواطرنا التي تحوم حوله بصدد شكله أو أحواله الاجتماعية. إنَّ السخرية هي فن احتمال العيش تحت حمأة الظروف على نحو باسم. فمن باستطاعته أن يتحمل ثقل الواقع إلا بسخرية هو نفسه موضوع لها؟

الشكل الكاريكاتوري بجانب الجدية حيلةٌ جمالية لتسهيل ابتلاع الواقع. فبعض السلبيات تبدو من وراء المظهر غير خافيةٍ. وجدية الملامح هي اليقين المباشر لدرجة تمرير المواقف والأحداث دون توقف. حيث قد يلاحظ المتلقي بعض الأشياء غير المقبولة، بيد أن الابتسامة الفنية تدفع المشاهد، وتلفت النظر إلى الخلفيات الباسمة. ويبدو تمسك الشخصيات بالواقع وفتح نوافذ الابتسامة خلاله أمر يدعو للدهشة. لأنه واقع منطوٍ على المفارقات التي تتلاعب بالإنسان وتثري عالمه.

مع أن البوح الفني يطرح نوعاً من الإفضاء بخشونة الحياة ونمط الثقافة السائدة. حيث مازالت لوحات أبي العزم تحتفظ بالزمن في أشكال من الوظائف الاجتماعية والعلاقات والظواهر مثل قراءة الصحف والاعمال اليدوية وبيع السلع والمواد الغذائية في الأزقة والشوارع. ويسرب إلى ذائعة المتلقي الطابع الإنساني من وراء صعوبات العيش.

رهان الفن

الابتسامات والمسحة الإنسانية في لوحات أبي العزم وثائق لا سمات شخصية فقط. بمعنى إن الإبتسامة هي التفاعل الأخير مع الوقائع وأحوال الحياة المتقلبة. وهي نتيجة وليست مقدمة، فالبسطاء والشعبيون وأناس الحياة اليومية يبذلون كل ما لديهم من بهجة لمراوضة الحياة، كنوع من التغلب على منعرجاتها المفاجئة. ولذلك يحضر في اللوحات ذهاب الناس إلى العرافين والدجالين ومطلقي البخور وضاربي الودع وكاشفي الطالع والمستقبل. لتسهيل الزواج وجلب الحبيب وعودة المفقودين وغيرها من أشياء.

وهذا أحد ألوان الجوانب التي يحملها المجتمع ويفك شفرتها هؤلاء الناس الشعبيون. فهذه الطبقة واسعة الانتشار هي حامل ثقافي بالمقام الأول. وهي التي تتنفس التاريخ وتشغل الجغرافيا وتملأ الشوارع والمقاهي. هم حافظو كنوز الأيام والوقائع التي تترك آثاراً غائرة في الذاكرة. ذاكرة المجتمعات العريقة ذاكرة حية لا ميتة.

يهتم فن محسن أبو العزم بتلك الشرائح التي تمثل لوحة اجتماعية – ثقافية أخرى داخل المجتمع. لأن الناس العاديين هم أصل الحقائق الإنسانية، إذ تتجلى عبرهم التغيرات البعيدة على نحو بارز. فالطبقات المرفهة تستطيع تغطية التحولات بكم من المساحيق الثقافية جسداً وفكراً. غير أن الناس هم وقود تلك التحولات، ولن يفلت منهم شخص واحد إزاء الاستغراق في قاع المجتمعات. وقد يسمى ذلك أصالة أو تراثاً، لكن في أغلب الوجوه لا طريق آخر سوى رصد الخربشات الزمنية وتضاريس الظروف.

ليست لوحات أبي العزم سياسية ولا هي إعلان أيديولوجي عما يجري، لأن الفن ليس مانيفستو. إنه- في جميع أعماله- يرسم ويوثق ويتطلع ويدقق في التفاصيل النفسية والثقافية للشخصيات. ذلك من أجل اكتشاف مواطن الجمال والإدهاش. فقد يكون المشهد مجموعةً من النساء اللائي يزغردن أثناء مناسبة اجتماعية، وقد يكون المشهد إمرأة عجوزاً تتنمر على جيرانها في إحدى الأحياء الشعبية، وقد يرسم مشهداً آخر أثناء عراك بأحد الدكاكين التجارية الشعبية. وعلى خلفية سياسية، يطرح ابو العزم مشهداً في إحدى المرافعات داخل المحكمة، حيث تؤكد الجلسة صورةً من رهانات الحياة الاجتماعية، وأن السياسة ليست فقط فن الممكن، بل هي فن ادارة العيش بقدر ما يُفهم من اللوحة. فالشخصيات حادة الوجوه والنظرات متبادلة عن كثب والتداخل بين الحوارات بات مسموعاً، ولا تُوجد خطوط توضح الفوارق بين الأشخاص. مع فوضى التواجد بين فئات المجتمع المختلفة نساء ورجال وأطفال.

ينتج محسن أبو العزم مشاهد فنيةً عالية الوصف لا يرسم فقط. هو يلتقط حواراً وحركة وأعمالاً بكل حمولاتها الثقافية. ولا يترك المشاهد تتداعى هكذ، بل يدفع بألوانه لاكتشاف معانيها بين الناس. لعله يجعلها تحكي وتطرح ما يفيض في جوفها، هو يعيد انتاجها مؤولة داخل اللوحة مع تربة الحياة في كل مكان. والتأويل قد يكون سخريةً أو ملامح شديدة الأغراق في التكوينات الشعبية وقد يكون صورة تشعرك بالامتلاء النفسي. والمعاني تتباين أحياناً وتأتلف أحياناً بقدر ما تعبر المشاهد ككل عن جوانب الحياة.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى