رهبة الإمتحان

طبيعتنا كبشر تجعلنا في حالة من التساؤل الدائم، وعادةً ما ترتبط هذه التساؤلات ببعض المخاوف على اختلاف درجاتها، وكلما ازداد وعي الإنسان وإدراكه واستطاع توسيع ثقافته وتطويع تفكيره للمنطق والحقيقة مهما كانت شاسعة الأبعاد بعيداً عن تحكم العاطفة أو الأهواء الشخصية أو الإستسلام للأفكار النمطية السائدة في محيطه بات شعوره بالمسؤولية أكبر، فنراه أكثر حرصاً في انتقاء كلماته والتعبير عن أفكاره والحديث عن اختياراته حتى وإن لم يكن شخصية عامة وإن كان ذلك على صعيد شخصي، لإدراكه أن تأثير سلوكه كفرد لا يتوقف عند دائرة اجتماعية صغيرة بل يمتد ليشمل المجتمع ككل، ويضعه في امتحان لقيمه ومعتقداته ونضجه وقدرته على الإستفادة من التجارب التي خاضها الآخرون أو خاضها بنفسه ليكون أكثر استبصاراً في خطواته المقبلة..

ويبقى شعور الرهبة الذي يصاحبنا جميعاً منذ الطفولة خوفاً من (الإختبار) أياً كان نوعه مرافقاً لنا (وإن أنكره البعض) كونه جزءًا من الطبيعة البشرية، ربما خوفاً من النتيجة التي قد تكشف لنا عن جوانب لا نعرفها عن أنفسنا خاصةً في زمننا الحالي، حيث بات للإختبار أشكالٌ متعددة سواءً كان ذلك في تعاطينا مع مشكلاتنا الشخصية أو مع القضايا الإنسانية الكبرى، وتكون المشكلة أكثر تعقيداً عندما ندرك أن الإجابات كانت مسربةً لنا بشكل أو بآخر..

فعند تناول الأحداث الحالية في قطاع غزة المنكوب أو السودان أو أي بلد منهك آخر سواءاً كان عربياً أم لا سنلحظ أن الكثيرين لم يتوقعوا وصول الأمور إلى ما وصلت إليه ولم يتوقعوا كارثية الدمار وبشاعة صوره وغزارة عدد ضحاياه عدا عن مشاكلنا الإجتماعية منذ بداية الألفية الجديدة مع أن الكثير من الكتب والدراسات والبحوث والتحليلات وحتى الأعمال الفنية في الغرب سواءاً كانت سينمائية أو تليفزيونية أو موسيقية أو حتى كارتونية مهدت لحدوث ما نعيشه بل وقدم بعضها سيناريو مكتمل لما سيحدث بتفاصيله الدقيقة، وبرغم أنني ذكرت المثال الذي سأستشهد به في مقالات سابقة إلا أنني سأعيده كونه مادة متوفرة بسهولة لمن يريد المقارنة بينه وبين ما أكتبه وهنا أتحدث عن أغنية وفيديو كليب (American Life) للمغنية الأمريكية مادونا.. خاصةً بعد أخبار عن استخدامها لترنيمة السيدة فيروز (اليوم على خشبة) بشكل مهين وصف بالشيطاني في تزامن مع عيد القيامة في مختلف أنحاء العالم سواءاً كانت للطوائف الشرقية أو الغربية..

فهذا العمل ليس مجرد اغنية عادية فنحن أمام عمل محمل بالرسائل بدءاً من التوقيت الذي صدرت فيه هذه الأغنية بالتزامن مع الإحتلال الأمريكي للعراق مروراً بالكلمات وترجمتها ضمن (عرض) مبتكر ومحكم غني بالتفاصيل منذ البداية حتى النهاية وتم توظيف كل فرد فيه ليقوم بإيصال رسالة معينة حتى وإن كانت مدة ظهوره هي بضعة ثواني، ففكرة العمل التي اختارت منصة لعرض الأزياء كموقع للأحداث العالمية لم تكن عبثية بل كانت مقصودة إلى جانب الحضور الهام على الجانبين لإكتمال المشهد الذي رسمت شخصياته بعناية، عدا عن المشاهد الموازية لمادونا وفريقها في الخلفية قبل اعتلاء المنصة في الثواني الأخيرة، ومع بدء العرض يظهر على المنصة رجال ونساء شبه عراة لكنهم مدججون بالسلاح بأسلوب يحمل إيحاءات جنسية ومثلية هادئة، يتوالى من بعدها ظهور عارضات تمثل كل منهما الثقافتين الإسلامية والمسيحية بشكل قذر ومسيء للديانتين، فنرى راهبة مع صليب كبير بثوب فاضح وايحاءات جنسية مجدداً كما نرى بنفس الهيئة إمرأة ترتدي ثوباً يشابه ما كان يفرض على السيدات ارتدائه من حركة طالبان لكنه قصير جداً مع محاولة تقديم الجسد في رسالة مزدوجة تسيء للمسلمين وتضع الجنس في الصدارة..

تأتي الثواني المقبلة أشد فحشاً مع استخدام أطفال أبرياء بملامح عربية يصعدون على المسرح مدججين بالرصاص والذعر يبدو على ملامحهم، ثم تظهر طفلتان خائفتان ترتديان عباءة سوداء واسعة ليقوم بإخافتهما جنديان أمريكيان كنوع من التسلية (وسط ضحك الجمهور ودون استنكار لذلك وهو ما سيتكرر)، كما تظهر صور مؤلمة من العراق على شاشة ضخمة وسط القاعة، وتتوالى صور الطائرات الحربية والقصف العنيف ويظهر الممثلون مصابين على المنصة (وسط ضحك الجمهور)، يظهر أطباء وممرضون يتم استهدافهم على المنصة، تظهر إصابات دموية وأطراف مبتورة ووجوه تستغيث (وسط ضحك الجمهور).. تظهر (مادونا) والراقصون ببذلات عسكرية بعد سلسلة من المشاهد البذيئة في الخلفية التي تروج للإباحية وايذاء النفس وتعاطي المخدرات داخل دورات المياه، ثم تعتلي (المنصة) على ظهر دبابة وهي تؤدي رقصتها قبل أن يتم إعادة تجميع وعرض جميع الشخصيات التي ظهرت منذ البداية بشكل سريع ومكثف ومقصود (وسط ضحك الجمهور) يزاوج بين الخوف والقتل والدم واستهداف المدنيين والأطباء والأطراف المبتورة وتوسلات الجرحى وصور للأسرى وعمليات التعذيب وظهور امرأة محجبة تشتعل النيران في جسدها وثوبها مع عرض صور أرشيفية للحروب في المنطقة العربية والعالم لإبراز التفوق الأمريكي الذي يختتم بإلقائها لقنبلة يخاف منها الجميع بينما يلتقطها شبيه الرئيس الأمريكي الأسبق جورج دبليو بوش ليشعل بها سيجارته ويشير إليها معبراً عن رضاه وإعجابه..

واليوم بعد كل ماعشناه ونعيشه من أحداث (قد) تبدو الصورة واضحة لمن يريد أن يرى، لكن مما لا شك فيه أن التعامي لن يعفينا على الأقل أمام ضمائرنا وأنفسنا لأن أسئلة الإمتحان كانت تتضمن الإجابات..

خالد جهاد..

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى