ألف ليلة و ليلة إيهاب الملاح - كيف قرأ نجيب محفوظ «ألف ليلة وليلة»؟

ــ 1 ــ
لم يكن من الممكن أبدًا أن يكتب نجيب محفوظ درته الروائية «ليالى ألف ليلة» بهذا الجمال والسحر من دون أن يكون متمثلًا تمامًا لأعجوبة الأدب العربى والعالمى «ألف ليلة وليلة».
والحقيقة لقد لفتنى بشدة وأنا أراجع ما ذكره محفوظ فى مناسبات مختلفة عن «الليالى» هذا الوعى الفائق بقيمتها، وأهميتها ليس فى أدبنا العربى فقط (الذى ظل نص الليالى مهمشا فيه ومستبعدا من دائرته تماما إلى أن تغيرت هذه النظرة مع روادنا وأساتذتنا فى الجامعة وخارجها) إنما أيضا فيما اكتشفته آداب العالم وثقافاته فى هذا الكنز الأدبى فى تراث الإنسانية..
وإذا كان محفوظ قد تشرب حب التراث العربى والأدب العربى من أستاذه الشيخ عجاج الذى يقول عنه محفوظ فى حواراته مع سلماوى «علمنى الأدب والوطنية»، فإن نهم محفوظ وفضوله المعرفى الذى لا يحد قد قاده إلى قراءة «الليالى» و«السير الشعبية» فى سن مبكرة، وكان لذلك تأثيره الواضح على إبداعاته وخاصة فى مرحلة تقاعده ونضجه وبحثه عن أشكال جديدة أو خصوصية عربية فى إطار الأشكال المعروفة فى كتابة الرواية.
ستظهر هذه المحاولات أول ما تظهر فى «أولاد حارتنا»، لكن الضجيج والصخب اللذين أثارهما المحافظون ضد الرواية قد حالا دون اكتشاف تلك المحاولة بشكل جيد.. ومع «حكايات حارتنا» ثم «ملحمة الحرافيش» و«ليالى ألف ليلة» ووصولا إلى «رحلة ابن فطومة» وأخيرا «حديث الصباح والمساء»، ستتخذ تلك المحاولات حضورا واضحا وإسهاما فنيا وجماليا عاليا.

ــ 2 ــ
ومن المهم فيما أظن فى هذا السياق استكشاف هذا الرافد التراثى الشعبى فى تكوين محفوظ ومطالعاته، ولحسن الحظ فلدينا حصيلة جيدة جدا من الحوارات المنشورة معه (المكتوبة أو المسموعة أو المرئية) تكشف عن هذا الجانب بوضوح ودون لبس.
وإذا جاز لى الادعاء بأن محفوظ قد تأثر غاية التأثر بطريقة وصياغة بعض النصوص فى أدبنا العربية، وترسبت فى وجدانه، وألهمته توظيفا جماليا من نوع خاص فى كتابة أعماله الروائية والقصصية على السواء، فإننى أزعم أنه توقف بشكل خاص جدا عند «كليلة ودمنة»، و«ألف ليلة وليلة» بالطبع، و«السير الشعبية».
وتوقف وقفات مطولة بالتأكيد أمام كتب التاريخ والحوليات والتراجم والطبقات. ربما نعود فى مقالات تالية لتفصيل بعد جوانب هذا التأثر والاستلهام وتحليل وعى محفوظ الرفيع بفكرة «الأليجورى» أو «التمثيل الكنائى» أو الرمزى كما تجلت فى أعماله الروائية والقصصية على السواء.

ــ 3 ــ
فيما يتعلق بموقف محفوظ من «ألف ليلة وليلة»، فلدينا إشارات لا بأس بها فى حوارات محفوظ كما سبقت الإشارة لكن ينفرد حوار واحد منها بأهمية خاصة أجراه مع محفوظ الناقد والأكاديمى القدير الدكتور حسين حمودة، ونشره فى واحد من الأعداد الثلاثة الممتازة التى خصصتها مجلة فصول فى تسعينيات القرن الماضى للاحتفاء بالليالى ودراسات الليالى فى الأدب العربى والآداب العالمية.
ولقد أكد الدكتور حسين حمودة على أهمية هذا الحوار فى صدارة تقديمه له بقوله «إن لهذا الحوار مع نجيب محفوظ، فى سياق هذا العدد من «فصول» عن (ألف ليلة وليلة)، أهمية خاصة، ليس لأنه حوار مع محفوظ صاحب «نوبل» (فقد كان قبل نوبل بعقود الكاتب الذى استطاع أن ينتقل بفن الرواية، فى العربية، انتقالاته الأساسية الكبرى)..
وليس لأنه أول حـوار تجريه «فصول» مع محفوظ، وإنما أساسًا لأنه حوار مع الروائى العربى الكبير الذى يشيد رواية كاملة، واحدة على الأقل «ليالى ألف ليلة»، على (ألف ليلة وليلة) تشييدًا مباشرًا، فاستلهم وأحيا وخلق من جديد شخصياتها، وأجواءها وعناصرها الفنية، فضلا عن أنه تمثل عالم (ألف ليلة)، على مستويات متنوعة، فى روايات أخرى عدة له».

ــ 4 ــ
من يقرأ هذا الحوار القيم جيدا سيمكنه بوضوح استخلاص موقف محدد لمحفوظ من «الليالى» وكيف كانت قراءته له وتطور وعيه بها على مدار رحلته العامرة.
وإذا كان البحث عن أصل الليالى وتشكلها وتكونها قد دار حول تحديد روافد (ألف ليلة) بين ليال هندية، وفـارسـيـة، وعـربيـة، مع ميل كبير لترجيح أن هذه «الليالى» قد وجدت مونتاجها الأخير وصورتها الكاملة المتكاملة فى مصر خاصة، فى القرن الرابع عشر؛ فإن محفوظ كان يرى أن الليالى أو (ألف ليلة) قد استطاعت أن تعبر عن عالم بأكمله؛ بعقليته وبعقائده، وبخيالاته وأحلامه، لقد اكتشف أنها عمل فريد بحق، تقف فى مصاف الأعمال الإنسانية الكبيرة.
ويمثل التصور الذى طرحه محفوظ للملامح الأساسية التى جعلت من «ألف ليلة وليلة» عملًا يتمتع بكل هذه القدرة على مقاومة الفناء، واحدًا من أنضج وأذكى التصورات لليالى فهو كان يرى أن هذا البقاء مرتبط، أولًا، بصدقها؛ صدقها الكامل فى التعبير عن زمانها، لأنها استطاعت أن تعكس ما يسميه «رؤية حضارة»، سواء مستوى الحياة اليومية البسيطة أو على مستوى الحياة الفكرية.
وكان يرى كذلك أن (ألف ليلة) قد أحاطت بالحضارة الشرقية كلها، وعبرت عن هذه الحضارة الشرقية كلها. وهو يعنى بها حضارة أوسع حتى من «الحضارة الإسلامية» نفسها.

ــ 5 ــ
و(الليالي) عند نجيب محفوظ ليست محض أساطير وخرافات وحكايات، ابتكرها الخيال الشرقى؛ فهى عنده مثل السير الشعبية وقصص الأسمار، والأغانى، خيال خصب تفجر من واقع أغرب من الخيال! مواقف وأحداثا وشخوصا، فى أرض لا يزال أهلها يعيشون فى العصر الوسيط، برغم كل التقدم والتطور الذى شهدته البشرية وثورات العلم والتكنولوجيا والاتصالات، كتفسيراتٍ غيبية وفنية «إبداعية» لما يعجز الناس عن فهمه، وأحلام وآمال لما يرغبون فى تحققه، وتجسيد فنى لمشاعر فردية وجمعية محبطة، تعانى من الشعور بالحصار والعجز والقهر، والإحساس بالسخرة، وانفصال من بيدهم الأمور عن الناس، وغربة الأنظمة والأجهزة عن شعوبها، والأقدار الاجتماعية المصلتة كالسيوف، فتظن قدرا من الغيب، أو قدرا من أقدار الطبيعة..

(وللحديث بقية)


إيهاب الملاح

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى