عبير سليمان - شهادة روتها آمال عدلي اليماني عن ذكرى نكسة يونيو ٦٧

لا أعلم من أين تأتي كل هذه الدموع كلما سمعت أغنية تحيي بقلبي ذكرى سنوات طفولتي التي قضيتها في حرب "نكسة 1967 وما تبعها من التهجير وويلاته ، وضاعت في الحرب أوراق هويتنا وأخذت معها بهجة ومرح أيام الطفولة التي سُرقت مني ومن أبناء جيلي ، الذي وُصف يوما ما بأنه جاء في موعده مع القدر !
تضحك ابنتي قائلة : سنذهب لحفل نستمع فيه إلى أغاني من الزمن الجميل ، اليوم سيتم إحياء مئوية الشيخ إمام في قصة الثقافة ، لازم ناخد مناديل معانا "
عند أغنية زين العابدين فؤاد " الفلاحين بيغيروا الكتان بالكاكي ويغيروا الكاكي بثوب الدم " تنهمر الدموع بغزارة ..لا أعرف إن كنت أبكي شهداء الأمس أو شهداء حوادث الأرهاب الحالية التي تحصد أرواح شباب في عمر الزهور .
تعود بي ذاكرتي إلى هناك ، المكان بئر العبد شمال سيناء لا أذكر اليوم ، ربما تسعة أو عشرة يونيو 1967
وكيف أتذكر ؟ لقد كنت طفلة لم تتخط السابعة ، ألعب في حوش بيت جدي لأبي العمدة محمود اليماني .. مع أطفال العائلة ، كأننا نتحدى الموت الذي بدأنا نسمع عنه ولم ندرك معناه ولا أسبابه ، فكأننا قررنا أن نخرج له ألسنتنا، وعندما بدأت الشمس تختفي تدريجيا من السماء معلنة عن غروب وشيك ، سمعنا صوتا ينادي من بعيد بالكاد يصل إلى آذاننا التي يدوي فيها صوت الطيران المحلق في السماء ، وصوت الصواريخ والدانات التي تتساقط لتصطاد أهدافا حية من الجنود - حسب ما أخبروني بعد ذلك -هرعت إلى خارج البيت ، بعدما تكرر النداء بإلحاح ، حتى كدت أتخيل في النداء الذي تكرر عدة مرات لم أحصها أن المنادي صوته يضعف ويصيبه الوهن ، كأنه أتى زحفا أو ركضا من مسافة بعيدة وأوشك أن يسقط أمام التل الذي يقع البيت أعلاه ، كما هي بيوت سيناء في ذلك الوقت ،ـ حتى البيوت لم تكن بيوتا بالمعنى ، كل ما أذكره عبارة عن عشش أو ما يطلق عليه خص ، كعادة أهل البلد كلما حل الصيف ، يجتمعون ليلا خارج الخصاص ليلتمسوا البرودة من الليل الذي يعوضهم عن سخونة وحرارة النهار .
سمعت أمي تردد :" لابد أنه أحد أبناء أخي المجندين ، فهم وحدهم من سيختارونك لينادوا باسمك، لم أنتظر حتى تكمل كلمتها وجريت مسرعة لأعرف من ينادي بإسمي بالخارج " يا آمال " بينما هناك بنات أخريات غيري في العائلة ، ربما لأني الوحيدة لأمي ولا يوجد آمال غيري .
وهنا فزعت مما رأيت ، عمي ومعه ثلاث رجال يرتدون جلابيب ممزقة ، يلفون حول وسطهم حزاما من قماش مبروم بقوة ، كأنهم يخبئون بداخله شيئا ما ، وعلى رؤوسهم عمم تغير لونها من الأبيض إلى الترابي الأقرب للبني الفاتح بفعل الرمال والعرق .
أليس عمي ضابطا بالجيش ، ما الذي حل به وبرفاقه حتى تتغير هيئتهم لتصبح رثة لهذه الدرجة حتى خلت قبل تعرف وجوههم أنهم مثل البوابين في الأفلام . لكن بوابين تعرضوا لضرب مبرح أو تعرضوا لهروب فاضطروا للدحرجة على الرمال ، وتلوثت ملابسهم فظهر عليها بقع من دماء .
توقف المشهد عندي هنا ، بدخول عمي ورفاقه إلى بيت جدي ، ليأويهم ويطعمهم ، ثم بدأت رحلة هروبهم إلى البر الثاني "حيث مدينة بورسعيد" ومنها إلى القاهرة .
وهذا ما عرفته فيما بعد ، كانوا هاربين من الجيش الإسرائيلي وطيرانه الذي كان قد سيطر سيطرة كاملة على سماء المنطقة ، وأخذ يحصد وبشكل عشوائي في كل من يشك أنه من الجيش المصري ، وحتى المدنيين لم يفلتوا ، فلا أنسى أيضا مشهدا عشته بتفاصيله المرعبة في اليوم التالي ، كان لامرأة تعيش في الخص الذي أوت إليه مع عائلتها بقرب محطة الكهرباء الذي استهدفته طيارة إسرئيلية أسقطت فوقها حسب ما رأيت كلوبا كبيرا يشع نورا ساطعا حول الليل إلى نهار ، ثم حدث الانفجار ورأيت السيدة قد فتحت ركبتها وظهرت العظام وسالت الدماء بغزارة ، وكل ما حدث أننا ركضنا نحوها أنا وأمي التي لا أعلم من أين أتت ببرطمان البن تحاول وقف نافورة الدم المنفجرة من ركبة تلك السيدة ، وربطتها لها بقطعة قماش ثم حملوها للإسعاف .
ولا أذكر بعد ذلك إلا أننا لم نجد بديلا عن الهرب ، بعدما نفذ كل الطعام ، ولا مفر أمامنا سوى ركوب ناقة يصحبها ابن عمي الذي لم يتجاوز عمره اثنى عشرة عاما ، لا أعلم كم يوما مشينا لنصل إلى الشط الذي سنركب منه اللنش الذي سيعبر بنا إلى مدينة بورسعيد ، كانت رحلة الصحراء في ذلك الوقت من الصيف هي هروب من موت إلى موت آخر ، والمحطة التي بعدها رحلة البحر أيضا كانت لا تقل رعبا ولا خطورة ، بشر كثيرون في مركب صغير ، يتمايل بنا في عرض البحر طيلة سبع ساعات ، لا أذكر كم مرة سمعت أمي تنطق الشهادتين وهي على يقين من أننا نواجه الموت !
ملحوظة : عمي الذي ورد اسمه هو اللواء محمد محمود اليماني ، جندته المخابرات الحربية فيما بعد لتنفيذ عمليات فدائية ضد أهداف حيوية لجيش العدو ، ولذكائه استطاع تجنيد الكثير من أبناء سيناء وقتها ، منهم من كان يقص الأثر فيختار الموقع الدي سيتم استهدافه ، ومنهم من يجمع المعلومات ، ومنهم من يشارك في التنفيذ .
وهذا ملخص ما كتب عنه في الصحف:
هو من أبناء سيناء عمل ضابطا للمخابرات وقام بالعديد من المأموريات لجمع المعلومات عن العدو بعد نكسة 1967 أو لقيادة مجموعات من الفدائيين من أبناء منظمة سيناء الذين حيروا المخابرات الإسرائيلية ، مما جعلهم يضعون إسمه على رأس المطلوبين ، فقد كبد اليماني ومعاونوه من البدو العدو خسائر جسيمة في المعدات والأفراد .

شهادة روتها آمال عدلي اليماني
عن ذكرى نكسة يونيو ٦٧


عبير سليمان


ملف أدب الحرب
صدى ذاكرة القصة المصرية

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى