خالد جهاد - من الوحدة إلى الوحدة

كان لدي منذ الطفولة طقوس سرية تعينني على التغلب على محدودية كل شيء من حولي، وكان خيالي أشبه بعكازٍ يستعين به مكفوف على قضاء حوائجه دون أن يسأل شيئاً من أحد، فأغلق عيني وأستمر في الدوران حتى أجد نفسي مستلقياً على الأرض من شدة التعب.. شاعراً بنشوةٍ لا مثيل لها تثير فيّ الرغبة في الكتابة بشراهة، آمنت بشدة أنها اللغة الوحيدة التي أستطيع التواصل بها مع البشر على اختلاف أطيافهم دون تصادم (قبل أن يقرروا المكوث أو الرحيل)..

كان التنوع الثقافي لهم واختلافهم مصدر إلهامٍ وفتنة بالنسبة لي خاصةً وأنني لم أعش في وطني، وكنت أعتقد أنني بمحاولة فهمهم أقترب أكثر فأكثر من سر الإنسان و(شيفرته)، فلم تقف الحواجز المعتادة كاللغة والمعتقدات عائقاً في طريقي لأنني أحببت أغلبها أو استفدت منه في رحلتي على هذه الأرض كما أكسبني رفض بعضها لي نضجاً لم يكن من الممكن الوصول إليه دون المرور بهذه المرحلة، وكنت أعتقد أنني أستطيع أن أكون أكثر حريةً وانطلاقاً من خلال استخدام هذا المخزون المتواضع من التجارب والمشاعر والقراءات والأفكار والآراء في استيعاب ثقافاتٍ وآفاقٍ إنسانية أخرى حتى وإن لم أكن أتفق معها.. إيماناً مني بأنني سأقترب عبرها خطوةً بخطوة من لحظةٍ فلسفية مجيدة قد لا تعني الكثيرين لكنها على الأقل تعني لي الكثير.. فتلاشي الحواجز والمسافات وانصهار الكيان الإنساني في بوتقة وجدانية واحدة تضم خلاصة حضارته وسر وجوده ومعنى رسالته في هذه الحياة (مع الحفاظ على تفرد كل تجربة واحترام خصوصيتها) كانت الفكرة الأشد اشباعاً لحواسي وأكثرها قدرةً على بعث الطمأنينة في نفسي، حيث يغدو هذا التنوع بمثابة احتفالٍ مستمر وعناقٍ للروح يهذبنا ويعيد كلاً منا إلى فطرته نازعاً عنه ثوب التقدم المتوحش الذي كان يزيغ الأبصار ببريقه الزائف ويتخفى خلف الكثير من الشعارات التي لا مكان لها على أرض الواقع..

وبما أن الحديث عن الواقع لا الأحلام وجدت أن أغلب البشر يميل إلى فكرة الشللية والتحزب والإنتماء إلى مجموعة أو جماعة أياً كان نوعها حتى وإن لم يدرك ذلك أو أنكره، فبرغم إيمانه الشكلي وحماسه لمختلف العناوين العريضة التي نحلم بها جميعاً إلا أنه بشكلٍ أو بآخر وحتى وإن آمن بفكرةٍ نبيلة وعظيمة فإنه لن يقبل أو يتقبل بشكلٍ فعلي إلا من ينتمي للمجموعة أو الدائرة التي ينتمي إليها وينفذها تبعاً للطريقة التي يؤمن بها مهما كان الأمر بسيطاً ومهما كانت الإختلافات طفيفة، ففي الوقت الذي نحاول الوقوف فيه على مسافة واحدة من مختلف وجهات النظر والمفاضلة بين الأفكار حسب قيمتها بشكل يعود بالفائدة على الجميع دون انحياز أو تنميط أو تقليل من شأن الغير نجد أن الأغلبية تبحث عن ظلٍ تتوارى خلفه أو تسعى لتكون ظلاً لحالةٍ ما تذوب فيها وتحتمي خلف حدودها، فنحن لم نستفد من ماضينا ولم نستطع قراءة حاضرنا ولا نملك القدرة على بناء الغد، ولم تغير الأزمات التي نعيشها اليوم فينا شيئاً رغم صعوبتها حيث ينحاز الجميع (كالعادة) في نهاية المطاف إلى وسطه بكل أسف، فيعتقد كل طرف أن التلاقي في بعض الآراء معه تعني موافقته على كل ما يأتي به وانكارك لمن سواه وانضمامك إلى (فريقه)، وكأننا مرغمون على اختيار الوحدة احتراماً لقناعاتنا بعد أن كانت الوحدة حلمنا لأجيال..

خالد جهاد..

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى