د. محمد عبدالله القواسمة - ديوان العرب

من المعروف أن كلمة ديوان تحمل عدة معان، منها: السجل، والكتاب، والمكان الذي يجتمع فيه القوم. لكن أهمها أنها تعني كل ما يقال في المكان، ولعل أهم ما كان يقال في كل مكان في العصر الجاهلي هو الشعر، الذي كان يلائم تلك الحياة التي كان يحياها العرب في صحرائهم الواسعة، وجريهم وراء الماء والكلأ. إنها حياة لم تعرف الاستقرار، وبالتالي اعتمدت على الشفاهية لا على التدوين الذي هو وليد الاستقرار.

لقد كان الشعر في العصر الجاهلي يؤدي وظيفة مزدوجة، فهو من ناحية يحمل عواطف الشاعر الذاتية، حبه وكرهه، وهجاءه ومدحه، وسروره ورثاءه، ويتناول حياة قبيلته وتاريخها وأيامها وعاداتها وتقاليدها ومفاخرها ووصف أطلالها وعلومها.

ورأينا في العصر الإسلامي من يدرك أهمية الشعر في الحياة الجاهلية، وضرورة الاطلاع عليه وحفظه، وفهم القرآن الكريم واللغة العربية التي نزل بها، ولهذا رأينا ابن عباس يقول:" إذا قرأتم شيئًا من كتاب الله فلم تعرفوه فاطلبوه في أشعار العرب؛ فإن الشعر ديوان العرب". ثم يأتي عمر بن الخطاب ليقول: "عليكم بديوان العرب لا تضلوا، شعر الجاهلية ففيه تفسير كتابكم ومعاني كلامكم" ثم جاء بعدهما أبو فراس الحمداني الذي أنشد: (الشِـــعـــرُ ديــوانُ العَــرَب/ أَبَــــدًا وَعُـــنـــوانُ الأَدَب)

من الواضح أن مقولة "ديوان العرب" استخدمها العرب القدماء لتدل على الوظيفة المعرفية للشعر في العصر الجاهلي، فكان خير من يرافق تلك الحياة ويسجل ما فيها من حراك في حالات السلم والحرب، والحل والترحال، والخير والقحط، واستطاع أن يحفظها وينقلها إلى الأجيال اللاحقة؛ لما يتصف به من سهولة الحفظ، وسرعة التعلق بالوجدان.

من الغرابة أن ينظر إلى الشعر بأنه ديوان العرب في العصور التي تلت العصر الجاهلي؛ ففي العصر العباسي عصر التدوين بحق برز النثر في مؤلفات كثيرة في الأدب والطب والفلسفة والكيمياء وغيرها وزال الاعتماد على الشفاهية في جوانب الحياة المختلفة، وحلت محلها الكتابية، وبهت دور الشعر، دون أن يبهت القول بأنه ديوان العرب.

وإذا ما انتهينا إلى العصر الحديث حتى رأينا من يقول أن الرواية ديوان العرب؛ لأنها، أي الرواية تطورت تطورًا مذهلًا في عالمنا العربي، فمنذ ثمانينيات القرن الماضي كثر عدد الروائيين، وترك كثير من الشعراء الشعر، واتجهوا إلى كتابة الرواية بوصفها الفن القادر على التعبير عن هموم المجتمع ومشكلاته، وعلى تقبل كثير من الأجناس الأدبية والكتابية الأخرى. كما ساعد تخصيص كثير من الجوائز، وإقامة الندوات والمؤتمرات على الاندفاع في كتابة الرواية. ودفع التقدم الروائي العربي إلى اعتراف الغرب بالرواية العربية عندما منح نجيب محفوظ جائزة نوبل عام 1988م. هكذا أشاد النقاد العرب بهذا التقدم، وأطلقوا على الرواية ديوان العرب، ويقال إن أول من وصف الرواية بأنها ديوان العرب الناقد جابر عصفور، ومنهم من قال إنه الروائي نجيب محفوظ ، ووجد من قال إنه الروائي السوري حنا مينا.

وفي العقد الثاني من الألفية الثالثة بدأ الفن الروائي يخفت صيته، ورأينا من يقول بموت الشعر، وموت الرواية، وموت الأجناس الأدبية كلها بل وزاد بعضهم بالفول بموت كل شيء حتى الإنسان، وتمادى الإنسان في طغيانه بأن هدد بعضهم بموت الموت في تحد واضح لقوة الله تعالى. هذا ما فعلته التكنولوجيا الرقمية فأدخلت الفنون كلها إلى هذا العالم الافتراضي الذي جاء به العقل البشري، وتكونت لدينا المنصات الإلكترونية عبر الإنترنت التي يستطيع الأفراد من خلالها التفاعل، وتبادل الخدمات والمعلومات والصور والفيديوهات. مثل فيسبوك وواتس وإكس وإنستاجرام وغيرها من وسائل التواصل والاتصال بين الناس. واستوعبت هذه المنصات ثقافة العرب وآدابهم وعلومهم، وسجلت فيها عاداتهم وتقاليدهم وما تنتجه قرائحهم، وأظهرت أشكالًا عديدة من المحتوى مثل الموسيقى والأفلام والأدب والفن، والكتب وغيرها. وظهرت ما تسمى صناعة المحتوى مقابل صناعة الشعر وصناعة الرواية، واكتسب صانع المحتوى أهمية كبيرة تفوقت على أهمية الشاعر والروائي؛ فأقل صانع محتوى له متابعون أكثر من صاحب نوبل، وصار أي فرد يبحث أو يكتب في أي موضوع يريده، وتحولت المنصة (كما أرى) إلى ديوان العرب بالمفهوم الذي طرحه النقاد القدامى، ووافق عليه الباحثون والنقاد المحدثون. إنه عالم المنصة، العالم الافتراضي الذي أزال الأجناس الأدبية من خارطة المكتوب إلى خارطة وجمع الأجناس الشفاهية والكتابية في فن واحد هو فن المنصة الافتراضية. وهو فن له أدواته وشروطه وقوانينه وأخلاقه، وكلها قائمة على قيم السوق وقوانينه التي تخضع للعرض والطلب، ولا أهمية لشيء غيرها.

والخلاصة إن الشعر في العصر الجاهلي كان يصدق عليه الوصف بأنه ديوان العرب؛ لأنه ظهر في مجتمع ذي الثقافة شفاهية، فكان المصدر المعرفي الوحيد الذي اختزنته الذاكرة الجمعية العربية ليشكل ثقافتها، وجاء بعض المثقفين والنقاد ليعمموا هذا المفهوم عبر العصور الأدبية بأن الشعر ديوان العرب لعل هذا ينافي الصواب فبعد العصر الجاهلي تبوأ النثر مكانة مهمة مع استقرار المجتمعات العربية وظهور التدوين الكتابي. كما أن القول في العصر الحديث أن الرواية ديوان العرب فيه التجني الواضح على العقلية العربية والثقافة العربية؛ فالرواية وإن حملت جانبًا مهما من حياة العرب الاجتماعية والوجدانية لا تستطيع أن تعبر عن الحياة العربية والثقافة العربية، وتحمل ما أنتجه العقل من أدب وعلوم ومعارف.

واليوم ونحن نواجه في العصر الحديث تحديًا واضحًا مع ظهور التكنولوجيا الإلكترونية، فقد أصبحت المنصات التواصلية هي التي تحفظ كل ما أنتجته القريحة العربية من شعر ونثر، وفي ذاكرتها يمكن تخزين تراث العرب سواء التراث الشفوي أم الكتابي. وهذا لا يعني التقليل من أهمية الشعر والرواية ودورهما في الحياة والمجتمع.

هكذا يصح القول امتدادًا للقول بأن الشعر ديوان العرب أو الرواية ديوان العرب إن المنصة الإلكترونية اليوم هي ديوان العرب بل وديوان الإنسانية.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى