أم الزين بن شيخة - فوكو والغليون.. أو طلاق للضرر بين الكلمات والأشياء

عنوان مثير للوحة ترسم غليونا، لكنّها لا ترسم الغليون تماما أوهي لا تقصده بالرسم ولا بالاسم.. لوحة لا يهمّها ان كان هذا الغليون هو الغليون- الأصل أم الغليون -النسخة، وان كانت هذه اللوحة طيفا لغليون آخر أو شبحه أو ظلّه أو انعكاسه أو دخانه.. غليون ماغريت تحت وقع كلمات فوكو هو غليون ينتحر فيه نرسيس ثانية على صدر اللوحة و تنتهي معه كل معارك المرآة.. هنا تقع خيانة الصورة لعنوانها في مكان تتمنّع فيه اللغة عن أشيائها.. ويقرع السؤال باب اللغة بوجه سافر : لماذا يرسم الرسّام غليونا و يسمّيه بضدّ اسمه؟ قصّة أخرى “لطلاق ضرر” بين الكلمات و الأشياء وبين الرسم و الاسم حينما يسقط فجأة كل ضامن أنطولوجي و معرفي بين العلامات اللسانية والتقنيات التشكيلية. .رسوم تخرج عن أسمائها خلسة لأنّ اللغة لم تعد في رحاب اللوحة سقفا لأحد. .
ماغريت رسّام فرنسي سرّيالي الأسلوب (1898 -1967)لا يعني الرسم عنده تمثيلا لشيء واقعي، انّه يرسم دوما رسومات “تثير العجب”و تبعثر الفواصل بين العلامات اللغوية واللغة التشكيلية. و قد اهتمّ الفيلسوف الفرنسي المعاصر ميشال فوكو بلوحة الغليون التي اعتبرها لوحة- حدثا لأنّها وقّعت نهاية براديغم التمثيل منكّلة بالعلاقات التقليدية بين النسخة و الأصل و الكلمات والأشياء والرسم وموضوعاته. هنا تغرينا لوحة الغليون بالتجوال في حقل من العلاقات المثيرة بين الحضور والغياب : من حضور اللوحة وغياب الرسّام الى حضور المتفرّج و غياب المعاني الى حضور العنوان وغياب المؤوّل. . الى حضور الرسم وغياب الاسم. . يصير السؤال حينئذ الى الأمر التالي : ما العلاقة بين النصّ الذي نكتبه و الصورة التي نكتب عنها، بين الرسوم و الكلمات و بين العناصر التشكيلية العلامات اللسانية وهل تدعونا هذه اللوحة التي تقف شاهرة صمتها في و جوه المتطفلين، في منطقة التخوم ما بين الحضور والغياب، الى كتابة صمتها ؟ كيف نكتب ذاك الصمت ؟بأي لون وبأي حبر ؟ بالحبر الأسود الذي هو لحم اللوحة و دمها ؟أم بألوان الطيف غير المرئية التي يدخّنها الغليون و ينفث غازاتها على عيون المتفرّجين الآتين الى اللوحات بلا سبب واضح غير التطفّل الأخرس و ضجيج المؤوّلين؟
و أيّ ارتباك أراد ماغريت أن يدخله على فضاء اللوحة و على كينونة الرسم ؟ يبدو أنّ في الحكاية -حسب قراءة فوكو-انهزاما لكاليغرام الرسم و انهيارا للمرسم نفسه. .ثمّة طلاق منذ البداية بين اللوحة و عنوانها. .بين اللوحة و اللوحة نفسها. .على صدر هذه اللوحة و في ضباب دخان الغليون يزعزع الفيلسوف فوكو نسق براديغم التمثّل برمّته، فيشوّش على اللوحة تناسقها مع ما ترسمه و مع ما تسمّيه و مع من يرسمها أومن يتفرّج عليها. .
و النتيجة : انهيار للمرسم و للاطار. .سقوط فظيع لبراديغم التمثيل. .لوح مكسّر. .شظايا من الأشكال و الحروف المنفصلة. .كل الركح سقط أرضا. .في حين تبقى اللوحة التي تقيم في الأعلى، ذاك الغليون الكبير بلا قيس و لا حدّ و لا احداثية. .يظلّ غليونا صامدا في سكونه غير القابل للمس..
و رغم كل هذه المسرحة للوحة و انهيارها يظلّ رسم ماغريت حسب فوكو “رسما بسيطا. .لا شيء غير غليون و نصّ يسمّيه. .كلّنا يعلم اسم الغليون. .لغتنا تعلم جيّدا اسم الغليون”. لكنّ وجه الغرابة في هذه اللوحة هو هذا “التناقض بين الصورة و الرسم”. و المشكلة التي تولد للتوّ هي اذن : “هل نحن مضطرّون دوما الى الربط بين الأشياء و أسماءها ؟” لقد صمّم ماغريت كاليغرام الرسم ثمّ هزمه بعناية فائقة. .لقد رسم ماغريت غليونا و قال “هذا ليس غليونا”، انّه بذلك يهزم أكثر تناقضات حضارتنا الأبجدية قدما : العلاقة بين النصّ و الصورة و بين الكلمات و الأشياء. .لقد هزم الدور الأبدي الذي أوكلتها الحضارة الانسانية للكلمات : أن تسمّي، أن تبيّن، أن تشكّل، أن تقول، أن تعيد انتاج المعنى، أن تبلّغ، أن تحاكي، أن تدلّل، أن تنظّر، أن تقرأ، أن تؤوّل... كلّ هذه الأدوار للكلمات قد انهزمت دفعة واحدة في لوحة ماغريت التي ترسم غليونا و تسمّيه بنفيه..“هذا ليس غليونا”..لقد زعزع ماغريت بذلك العلاقات التقليدية بين الصورة و الكلمة و حرّر الكلمة من الصورة و شوّش صفاء العلاقة الكلاسيكية بين الكلمات و الأشياء. هنا يدفع بنا ماغريت الى مضيق يصعب اختراقه حيث يبدو أنّنا انّما نعطي اسما للوحة من أجل استبعاد التسمية نفسها. .فالاسم ليس مقصودا لذاته. .ثمّة مغالطة و مناورة تعدّها لعبة التسمية في كل مرّة لكلّ من ينتظر من الاسم أن ينقذه من امتناع اللوحة عن الكلام. .و كأنّما يد مجهولة تأتي في كل مرّة كي تلقي بعنوان ما تحت صمت اللوحة. .و بذلك يغدو عنوان “هذا ليس غليونا” مكر من اللغة دُبّر خصّيصا من أجل الزجّ بنا نحو فضاء غامض من العلاقات الغريبة و الاجتياحات المفاجئة و المدمّرة معا. .رسوم تسّاقط في باحة الألفاظ اللعوب و كلمات متكبّرة تخترق اللوحات و تندسّ بينها و بين ألوانها و أشكالها فتتناثر الرسم شظايا ثائرة متمردة خارجة عن طور الصمت و عن طور اللون و عن طور الشكل..و يتحول الرسم الى فضاء تائه متعب من ثقل الأسماء و من تطفّل النقّاد و من كسل المتذوقين و من اعتباطية المعاني.
يتعلّق الأمر اذن باعتباطية عنوان اللوحة الى حدّ يهرب فيه الموضوع و تذهل اللوحة عمّ رسمت كاشفة بذلك عن هشاشة و رهافة الغطاء الرقيق الذي يلفّها. .ثمّة اذن ضرب من هشاشة الرسم و من قابليته للضرر من فرط العناوين التي تسكنها الرغبة في الاستحواذ على الرسم و اختزاله في العلامة اللسانية. .لكن الرسوم تثور على سلطة الكلمات و على استبدادها. .
  • Like
التفاعلات: فائد البكري

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى