تابع
( 4 )
مع انصرام العام الأول ، غادرتُ مع صديقتي المبنى (الثامن ) المخصص لدرعميات الفرقة الأولى .غادرنا وكلٌ منا ممسك بيد الآخر في اطمئنان يكفينا الثلاث سنوات المتبقية ، ويقينا عثرات الطريق نحو إتمام الدراسة ، التي تفرض علينا قسوة السكن الجماعي .
غادرنا ونحن اثنتان فلم أعد وحدي ، ولم تعد وحدها . وكانت هذه هى الحسنة الوحيدة التي خرجنا بها من عام عاركنا وعاركناه كي نخرج سالمتين . لم يحرمنا القلق والتوجس من شريكتنا الجديدة في الغرفة للعام المقبل انشراح الصدر وبهجة القلب ، فقد ضمنّا الغلبة على الأقل ، إذا ما ساء حظنا معها . فلن تكون صديقتي هذه المرة ضيفة ، تلقى ما كانت تلقى من الشريكة البحيرية حسب ما كان يمليه عليها سوء المزاج ، وتقلبات الحال . فكثيرًا ما كانت ترتكب من الحماقة ما يُغضب صديقتي ويردها إلى حجرتها الأصلية، إيثارًا للسلامة واحتفاظًا بعزة النفس . وكنت أذهب في كل مرة أسترضيها وأطيب خاطرها , وأردها إلى حجرتي معززة . فقد كنت لا أخلو من شدة بأس ومن قوة شخصية بقدر يسمح بذلك ، لكن كنت أعيدها بالتودد لا التجبر ، فلم يكن ليصلح أن أفرض صديقتي عليهما ، كنت أتحايل على الجوانب الإنسانية المختبئة داخلهما ، كي أجعل وجود صديقتي مرحبًا به بيننا.
لن تكون صديقتي - بداية من هذا العام - ضيفة ، لكن صاحبة حجرة ، الحجرة التي أسكن فيها ، ولصاحبة الحجرة حقوق ووضعية تختلف تمامًا عن الضيفة ، فلن يهدد بقاءها في الحجرة أحد . ومع ذلك كنا نشفق أنا وصديقتي على حالنا من هذه الثالثة ، التي يمكنها أن تصيبنا بشيء من التنغيص والتكدير حين تشاركنا معيشتنا وتفاصيلنا الشخصية ، إن كانت على شاكلة ونوعية الشريكة البحيرية والأخرى . وتوكلنا على الله .
قبيل بدء العام الدراسي الثاني ذهبنا لنسجل أسماءنا في واحدة من حجرات المبنى (الثاني) المخصص لدرعميات الفرقة الثانية ، وكانت المفاجأة السارة ، التي لم ترد مطلقًا في حيز التوقعات أو حتى الأمنيات؛ عرفنا أن المبنى المخصص لنا هذا العام حجراته ثنائية لا ثلاثية . فطرنا فرحًا ، وكأن السماء كانت تتسمع خطونا وتظلنا بحنوها ورحمتها ففتحت أبوابها لرجائنا . ولا غرو في ذلك ، نعم فالأمر يستحق هذا القدر من الاهتمام والقلق . فنحن في حياتنا ربما نستطيع التعامل مع سخافات الناس وتحمل غباء قلوبهم في المساحات الواسعة خارج أسوار البيت ، لكنه لا يمكن تقبل ذلك في الأمتار القليلة التي تضم راحتنا وتلقائيتنا وتفاصيل يومنا ، سكوننا وحركاتنا ، شرودنا وتأملاتنا ، ضحكنا وبكاءنا . يكفينا بيتنا - تلك البقعة الصغيرة من أرض الله – نتنسم فيه عبير الراحة .
وكذلك السكن الجامعي ، فكل ما كان يهمني وصديقتي الراحة والهدوء والسلام في حجرتنا الصغيرة ، التي لا يشغلنا معها ما يدور خارجها من سخافات و صراعات وسوء طباع في باقي أرجاء المدينة الجامعية . وتلك قاعدة نفسية منطقية ، تشبه إلى حد ما سيكولوجية المحبين ، والفلسفة التي تجمعهم في علاقة غير منطقية . فأنا كثيرًا ما أتأمل حال المحب ، أو الواقع في أسر الحب . كيف يشعر بالاستغناء عن الناس والعالم كله إذا ما كان حبيبه معه ؟! كيف يختزل الكون في شخص واحد ؟! شخص يتحكم في مفتاح سعادته أو شقائه ، حزنه أو فرحه . فإذا ما مضت بهما العلاقة في سعادة وهناء ، يشعر أنه يمتلك الدنيا فما فيها ، ويكسو وجهه البهاء والأمل والإقبال رغم مصاعب العيش ، بل لا يراها أصلًا . وإذا ما افترقا يشعر أنه قد فقد حياته وسعادته ، يغزو العبوس والظلام وجهه وقلبه ، وتنطفئ روحه وجذوة الأمل داخله ، يشعر أن الدنيا لا يوجد فيها ما يستحق البقاء ، ولا يشعر بأى نعمة موجودة حوله ، كيف لشخص واحد أن يكون له هذا التأثير الجهنمي ؟! علاقة عجيبة جدًا . هذا المعنى هو ما صاغه الشاعر السوداني ، الهادي آدم في جملته :
أنا لولا أنت ، لم أحفِل بمن راح وجاء .
و ما قاله - كذلك - الشاعر عبد الفتاح مصطفى :
هواك نسى الزمان طبعه
وخذ منه الأمان لينا
ودارى عننا دمعه
وخلاه ما دري بينا
التغيير هنا لم يصب الزمان حتى يغير من طبعه ، لكنها الحالة الشعورية والدائرة السحرية التي يدخل فيها المحبون ، فتجعلهم لا يشعرون إلا بالجمال والأمان ونعيم الدنيا وبهجتها ، وكأن الكون كله طوع يمينهم .
وفي الحقيقة ، لا الغدر اختفى ، ولا الدمع اكتفى ، لكنها أوهام المحبين .
وكذلك كنت أنا وصديقتي نكتفي بثنائيتنا في حجرتنا الصغيرة جدًا ، فلا نرى أى صعوبات أو مشاكل خارج حدود حجرتنا .
***
(5)
كانت حجرتنا الثنائية صغيرة جدًا ، تسع – بالكاد – السريرين ، فلم تسمح المساحة الضيقة بوضعهما - كما هو معتاد - على التوازي ، لذلك وضعا على شكل زاوية قائمة ، أما خزانة الملابس فكانت كما هو معروف في السكن الجماعي ، عبارة عن تجويف داخل الحائط ، فلا يشغل حيزًا ، ومنضدة تصلح أن تكون مكتبًا أو حاملًا لبعض الأغراض . وتبقى لنا متر طول ومتر عرض في الوسط . فلا نستطيع الخطو والتحرك داخل الحجرة بشكل مريح ، كان هذا القدر من المساحة هو المتاح للحجرات الثنائية . ومع ذلك كنا راضيتين بهذه المساحة المحدودة ؛لأنها هى ثمن الفوز بالثنائية ، فصدقت معنا الحكمة القائلة : لا تضيق عين الإبرة بمتحابين ، ولا تسع الدنيا متباغضين . وصدق من قال : اختر الرفيق قبل الطريق ، والجار قبل الدار .
إن هذه الحكمة التي تبدأ من جمال الجرس الصوتي الخارجي ، الذي يجمع
في تركيب قصير بين الرفيق والطريق ، وبين الجار والدار ، تحدد لنا في صميمها المسار الصحيح في مشوار عمرنا بطوله . وهى الحكمة التي أضاع إيماني بها سنوات طويلة من عمري عازفة عن الزواج ، ودفعتني إلى الانتظار الطويل للرفيق الذي يحسن صحبتي في رحلتي ، والجار الذي آنس بجواره . فرفضت أصحاب المال الوفير ، وأصحاب السكن الرفيع ، حين فتشت فيهم عن الرفيق فلم أجده . فماذا يحقق لي المال؟ّ! وكيف تسعدني القصور الصماء ؟! فلا قيمة عندي تعلو على قيمة الإنسان نفسه ، فهو الذي يمنح الأشياء قيمتها لا العكس . هو الرفيق والجار ، الأنيس والجليس .
هيأت لنا هذه المساحة الضيقة ما لم تهيئه الحجرة الواسعة التي ضاقت بنا وضقنا بها العام الماضي . ولم تكن الكلية إلا مكانًا للدراسة لا مساحة فيها للدردشة ، ندخلها في بداية المحاضرات صباحًا ونغادرها عند انتهائها مساءً، وكانت المحاضرات متتالية متصلة ، لا براح فيها إلا للمواقف والتعليقات الفكهة الضاحكة . فهيأت لنا الحجرة فرص التعارف والتقارب أكثر وأكثر ، فكنا نأخذ بأطراف الأحاديث بيننا ، وعرفنا عن بعضنا تفاصيل كانت مجملة ، ودقائق كانت مهملة .
كانت صديقتي مخطوبة قبل دخولها الكلية ، وكأنها أبت قبل أن تغادر إلى المدينة الواسعة إلا أن تحمل في إصبع كفها الأيمن شريان التواصل بينها وبين حبيبها ، ابن الجيران . نعم ابن الجيران ، لكن قصتهما في الحب ليست كالقصص التي نعرفها ، ولا تشبه قصص ابن الجيران ، التي تنتهي في الغالب قبل أن تبدأ . والتي ترتبط في نسجها بتطلع المراهقين إلى النضج ، وسرعان ما يختفي البريق والسحر مع اختفاء أثر مرحلة المراهقة . كانت صديقتي مجرد فرد في أسرة ربطتها علاقة حسن الجوار مع أسرة خطيبها ، الذي كان هو أيضًا مجرد واحد من أفراد أسرته . لم يذهبا إلى المشاعر الجميلة بل تسربت هى إلى قلبيهما دون قصد ، لا نستطيع أن نصفهما بالحبيبين ، فقد كانا كأخوين ، بينهما كل ما يجمع بين الأخوة من تراحم وود وحماية وسند وحب ، وظلا على هذه الحالة العجيبة التي يمكن أن ترى فيها كل المشاعر والمعاني الجميلة تحت مظلة مغايرة لقصص الحب الملتهبة .
لم أدرك طبيعة العلاقة بينهما مما كانت تسرده لي صديقتي من حكايات ، لكن مما أظهره لي التعامل بينهما عبر الأيام والسنين . فقد كان هو الموفد الرسمي من أهلها للقيام بكل ما يتعلق بها في غربتها ، فهو الوحيد الذي يقوم على شئونها ، ويأتي لزيارتها . لقد شاهدتُه أكثر من مرة بحكم علاقتي الحميمة بصديقتي ، فعرفته وعرفني بشكل خاطف . هو نسخة جيدة من الممثل رشدي أباظة ، في الوجه والرأس دون القامة ، فقد كانت قامته ملائمة لقامة صديقتي . لم أشعر مطلقًا طوال مدة إقامتنا في المدينة الجامعية أنهما حبيبان أو خطيبان ، بل كنت أراه أباها أو أخاها ؛ فالحبيبان أو الخطيبان لا يجمعهما إلا مسار واحد من العلاقة ، أما الأب أو الأخ فلهما مسارات عميقة لا مسار واحد . كانت علاقتهما حزمة متشابكة لا تستطيع رؤية جزء منها منفصلًا عن النسيج .
إنه الرفيق الذي يستقيم معه الطريق ، والجار الذي يحلو معه الجوار .
وللحديث بقية ...
***
المدينة الجامعية (6 )
هون علينا السكن والسكينة ، والأمان والطمأنينة الكثير من متاعب الغربة وقسوتها ، فلم نعد نشعر مطلقًا أنه ينقصنا شيئ مما يحتاجه المغترب . حالة من الاستقرار البدني والنفسي حجّمت سفرنا إلى مدينتنا ، وقلّصت الحنين والاشتياق إلى الدفء الأسري . فقد كانت كل منا للأخرى بديلًا جيدًا للأهل والبيت والبلد ، نعلم تمامًا أنه بديل مؤقت ، لكنه على كل حال كان مختلفًا عن حالنا في العام الأول ، حيث كنا نتحايل على الظروف والحجج لكي نأخذ تصريحًا بالسفر ، ونطير إلى السويس. فالاغتراب يطول بنا إلى عام دراسي كامل ممتد . الآن صنعنا من ثنائيتنا عائلة بكل ما تحمله الكلمة من معاني العزوة والأبهة والحماية والقوة والرسوخ والتجذر. ربما أسهم في ذلك استشعار طيب الصحبة ونقاء الشركة التي خلت من سخف العتب والمراجعة ، والخلاف والشجار والوقوف على سفاسف الأمور مما هو شائع بين الشركاء . وربما أسهم في ذلك أيضًا حالة الرضا والاستغناء التي تتملكني حين تقل حيلتي وتقصر يدي عن الوضع المثالي .
كنا نضحك ونضحك في اليسر ، أما في العسر فقد كنا نضحك ونضحك ونضحك . فأنا لا تسمح طبيعة شخصيتي بتسلل أو تسرب أى طاقة سلبية من اكتئاب أو قلق أو شكوى أو غم أو هم إلى المكان الذي أعيش فيه أو أتواجد فيه . فهذه الشعور تتكاثر بالعدوى . فإذا دخل عليك واحد منها اصطحب معه الآخر أو الآخرين ، وكبلوك بشبكة معتمة لا تفلتك ولا تفلتها .
كانت تربطنا بجيراننا علاقة طيبة ، بغير اختلاط أو تعامل ، ليس أكثر من تبادل التحايا وأمنيات الخير للصباحات . ومضت بنا الأيام صباحاتها ومساءاتها ، لطيفة هينة ، ضاحكة مستبشرة . حتى جاءنا من لا نرضى ، وزارنا من لا نحب . مرضت صديقتي ، شعرت بألم في ساقيها ، فلم تستطع النهوض ذات صباح وتستعد للذهاب إلى الكلية كالمعتاد ، لم تستطع النهوض ولا الوقوف على قدميها . ولم نكن نعرف السبب ، حتى ذهبنا بها إلى مستشفى الجامعة وقد كان ملاصقا لمجمع المدينة الجامعية ، وعرفنا أنها قد أصيبت بالروماتيد ، وهو التهاب شديد يصيب المفاصل .
فتغيرت أمورنا ويومياتنا وعاداتنا ، وتغير حالنا . فلم تستطع صديقتي مغادرة الفراش ، لنذهب معًا إلى الكلية سيرًا على الأقدام ، نطلع وننزل سلم الكلية ، تحركنا قاعات المحاضرات المتغيرة ، نذهب إلى مطعم المدينة الجامعية لتناول وجبة الغداء . كل هذا تغير . كان على أن أدير هذا الأمر الطارئ ، إدارة لا هدف لها ولا غرض إلا توفير كل سبل الراحة وتخفيف المعاناة عن صديقتي . فأما ما يتعلق بتوفير سبل الراحة ، فقد جعلني أخطط لتحريك كل شيء تجاه صديقتي إذا ما تعذر أن تتحرك هى نحوه . فهى لن تستطيع الذهاب – في هذه المرحلة - إلى شيء ، لكن باستطاعتي أن أحرك أنا نحوها كل شيء . كانت كل المحاضرات تأتيها إلى سريرها مع كل ملاحظات الأستاذ وتفاصيل اليوم . كانت وجبة الغداء هى التي تأتيها إلى الحجرة ، على الرغم من مخالفة هذا لقوانين المدينة أو قواعدها . فقد كانت وجبة الغداء تسلم فقط لصاحبة الوجبة ، التي لابد أن تكون حاملة لبون الغداء ، وهو دفتر نتسلمه كل شهر لهذا الغرض . ويمنع منعًا غليظًا خروج الوجبة خارج قاعة الطعام ، خلافًا لوجبة العشاء التي كنا نتسلمهما كل مساء - مع فطور صباح اليوم التالي - ونأخذها إلى حجراتنا . فماذا أفعل وهناك أكثر من عين ورقيب يمنع خروج الغداء ؟ كنت في كل مرة أذهب إلى المطعم لم أكن على ثقة من أنني سأفلح في الحصول على الوجبة لصديقتي . لكن في الحقيقة ، لم أرجع لها مرة دونها ، وأحيانًا مع وجبتي أنا ، حتى نأكل معًا في الحجرة . كنت أعتمد مرة على إنسانية البعض الذي يتفهم الأمر بعد أن أشرحه له ، ومرة بالحيلة والمخالفة إذا ما كان المشرف في هذا اليوم ليس من أهل التقدير والتعاطف . كان طبق الماء والصابون يقدم إليها لتغسل يديها وهى مكانها . وهكذا في كل شيء . أما ذهابها إلى الحمام وقد كان في نهاية الطرقة ، فقد استعصى أن أسندها في المشي حتى تبلغه ، فجسمها سيتكسر أو ينخلع ، وقدماها لا تسعفان تمامًا في المشي ، ففكرت في طريقة لتنقلاتها الضرورية دون إيذاء أو ألم لها . كنت أنقلها وهى جالسة على مقعد ، وأدعو جيراننا أن يحملنها بالمقعد معي . فكانت تذهب بذلك إلى الحمام بسرعة ويسر ودون مشقة عليها . وكنت أستخدم نفس الطريقة وهى ذاهبة إلى المستشفى ، كنت أجهزها ثم أترك لجيراننا تنزيلها من المبنى وانتظاري لحين العودة بسيارة أجرة إلى باب المبنى ، وفي هذا مخالفة أكبر تفوق كثيرًا مخالفة تسريب وجبة الغداء . أن تدخل سيارة أجرة أو ملاكي إلى داخل سكن البنات فهذه كارثة . لكنني كنت أطيل التفاوض والشرح مع حارس البوابة الرئيسة ، حتى أفلح في الدخول بالسيارة . وكنا نفعل نفس الشيء حين كنا نذهب إلى اختبارات الفصل الدراسي . وكانت هذه السنة هى الوحيدة التي كانت فيها اختبارات العام فصلية ( أى نهاية الفصل الدراسي ) . كانت تجربة لم تكررها الكلية حتى تخرجنا . وكانت السيارة الأجرة تقلنا إلى مبنى الكلية ، ثم أحملها بمساعدة أهل الخير إلى مكان لجنة اختبارها ، ثم أذهب أنا إلى لجنتي ، وكنا نعود بنفس الطريقة . وكانت الاختبارات هى السبب الذي منع صديقتي من السفر إلى أهلها مع بداية ظهور المرض . فقد كانت الاختبارات على الأبواب . وعندما انتهت الاختبارات جاء الموفد الرسمي (خطيبها) بسيارة وأخذها إلى السويس ، ولم تعد إلا بعد انصرام عدة أسابيع من الفصل الدراسي الثاني ، وقد وجدت كل ما فاتها من محاضرات بين يديها . هذا ما يتعلق بتوفير سبل الراحة لصديقتي . أما ما يتعلق بتخفيف المعاناة ، فلم يكن التعب أو المرض هو أكثر ما تعانيه صديقتي أو تتحمله . فقد كنت أدرك تمام الإدراك أن أهم ما يشغلها ويتعبها هو قناعتها بأنها تحملني ما تراه ثقيلًا . كانت تشفق علىّ ، تكشفها عيونها ودموعها قبل كلامها . فرأيت أن تخفيف هذه المعاناة يجب أن يكون هو الهدف الآخر في ذهني . ولم يكن تحقيق هذا الهدف أمرًا عسيرًا ؛ لأنني فعلًا لم أكن أشعر بأى تعب أو مشقة تجاه ما أقوم به معها ، كان أكثر ما يزعجني هو شعورها بأنها أصبحت حملًا وعبئًا على . لذلك وبرغم صدق مشاعري ، زودت جرعة الضحك ومساحة الأجواء المرحة ، فكانت تضحك حتى يوقف الضحك دموعها وهى تنهمر . كنت لا أثير قلقًا وتوترًا حين كنا نحملها مع البنات ، كنت أدفعهم إلى التهريج والمرح ، وكأننا نؤدي لعبة لطيفة ، فكانت صديقتي تستشعر هذه الأجواء المرحة الخفيفة فتوقن أنها ليست حملًا وليست عبئًا ، و أن ما هذا إلا أمر طارئً سيمر . وفعلًا عادت صديقتي بعد بداية الفصل الدراسي الثاني متعافية كثيرًا ، صحيح لم تشف تمامًا ، لكنها كانت قادرة على الحركة .
***
( 4 )
مع انصرام العام الأول ، غادرتُ مع صديقتي المبنى (الثامن ) المخصص لدرعميات الفرقة الأولى .غادرنا وكلٌ منا ممسك بيد الآخر في اطمئنان يكفينا الثلاث سنوات المتبقية ، ويقينا عثرات الطريق نحو إتمام الدراسة ، التي تفرض علينا قسوة السكن الجماعي .
غادرنا ونحن اثنتان فلم أعد وحدي ، ولم تعد وحدها . وكانت هذه هى الحسنة الوحيدة التي خرجنا بها من عام عاركنا وعاركناه كي نخرج سالمتين . لم يحرمنا القلق والتوجس من شريكتنا الجديدة في الغرفة للعام المقبل انشراح الصدر وبهجة القلب ، فقد ضمنّا الغلبة على الأقل ، إذا ما ساء حظنا معها . فلن تكون صديقتي هذه المرة ضيفة ، تلقى ما كانت تلقى من الشريكة البحيرية حسب ما كان يمليه عليها سوء المزاج ، وتقلبات الحال . فكثيرًا ما كانت ترتكب من الحماقة ما يُغضب صديقتي ويردها إلى حجرتها الأصلية، إيثارًا للسلامة واحتفاظًا بعزة النفس . وكنت أذهب في كل مرة أسترضيها وأطيب خاطرها , وأردها إلى حجرتي معززة . فقد كنت لا أخلو من شدة بأس ومن قوة شخصية بقدر يسمح بذلك ، لكن كنت أعيدها بالتودد لا التجبر ، فلم يكن ليصلح أن أفرض صديقتي عليهما ، كنت أتحايل على الجوانب الإنسانية المختبئة داخلهما ، كي أجعل وجود صديقتي مرحبًا به بيننا.
لن تكون صديقتي - بداية من هذا العام - ضيفة ، لكن صاحبة حجرة ، الحجرة التي أسكن فيها ، ولصاحبة الحجرة حقوق ووضعية تختلف تمامًا عن الضيفة ، فلن يهدد بقاءها في الحجرة أحد . ومع ذلك كنا نشفق أنا وصديقتي على حالنا من هذه الثالثة ، التي يمكنها أن تصيبنا بشيء من التنغيص والتكدير حين تشاركنا معيشتنا وتفاصيلنا الشخصية ، إن كانت على شاكلة ونوعية الشريكة البحيرية والأخرى . وتوكلنا على الله .
قبيل بدء العام الدراسي الثاني ذهبنا لنسجل أسماءنا في واحدة من حجرات المبنى (الثاني) المخصص لدرعميات الفرقة الثانية ، وكانت المفاجأة السارة ، التي لم ترد مطلقًا في حيز التوقعات أو حتى الأمنيات؛ عرفنا أن المبنى المخصص لنا هذا العام حجراته ثنائية لا ثلاثية . فطرنا فرحًا ، وكأن السماء كانت تتسمع خطونا وتظلنا بحنوها ورحمتها ففتحت أبوابها لرجائنا . ولا غرو في ذلك ، نعم فالأمر يستحق هذا القدر من الاهتمام والقلق . فنحن في حياتنا ربما نستطيع التعامل مع سخافات الناس وتحمل غباء قلوبهم في المساحات الواسعة خارج أسوار البيت ، لكنه لا يمكن تقبل ذلك في الأمتار القليلة التي تضم راحتنا وتلقائيتنا وتفاصيل يومنا ، سكوننا وحركاتنا ، شرودنا وتأملاتنا ، ضحكنا وبكاءنا . يكفينا بيتنا - تلك البقعة الصغيرة من أرض الله – نتنسم فيه عبير الراحة .
وكذلك السكن الجامعي ، فكل ما كان يهمني وصديقتي الراحة والهدوء والسلام في حجرتنا الصغيرة ، التي لا يشغلنا معها ما يدور خارجها من سخافات و صراعات وسوء طباع في باقي أرجاء المدينة الجامعية . وتلك قاعدة نفسية منطقية ، تشبه إلى حد ما سيكولوجية المحبين ، والفلسفة التي تجمعهم في علاقة غير منطقية . فأنا كثيرًا ما أتأمل حال المحب ، أو الواقع في أسر الحب . كيف يشعر بالاستغناء عن الناس والعالم كله إذا ما كان حبيبه معه ؟! كيف يختزل الكون في شخص واحد ؟! شخص يتحكم في مفتاح سعادته أو شقائه ، حزنه أو فرحه . فإذا ما مضت بهما العلاقة في سعادة وهناء ، يشعر أنه يمتلك الدنيا فما فيها ، ويكسو وجهه البهاء والأمل والإقبال رغم مصاعب العيش ، بل لا يراها أصلًا . وإذا ما افترقا يشعر أنه قد فقد حياته وسعادته ، يغزو العبوس والظلام وجهه وقلبه ، وتنطفئ روحه وجذوة الأمل داخله ، يشعر أن الدنيا لا يوجد فيها ما يستحق البقاء ، ولا يشعر بأى نعمة موجودة حوله ، كيف لشخص واحد أن يكون له هذا التأثير الجهنمي ؟! علاقة عجيبة جدًا . هذا المعنى هو ما صاغه الشاعر السوداني ، الهادي آدم في جملته :
أنا لولا أنت ، لم أحفِل بمن راح وجاء .
و ما قاله - كذلك - الشاعر عبد الفتاح مصطفى :
هواك نسى الزمان طبعه
وخذ منه الأمان لينا
ودارى عننا دمعه
وخلاه ما دري بينا
التغيير هنا لم يصب الزمان حتى يغير من طبعه ، لكنها الحالة الشعورية والدائرة السحرية التي يدخل فيها المحبون ، فتجعلهم لا يشعرون إلا بالجمال والأمان ونعيم الدنيا وبهجتها ، وكأن الكون كله طوع يمينهم .
وفي الحقيقة ، لا الغدر اختفى ، ولا الدمع اكتفى ، لكنها أوهام المحبين .
وكذلك كنت أنا وصديقتي نكتفي بثنائيتنا في حجرتنا الصغيرة جدًا ، فلا نرى أى صعوبات أو مشاكل خارج حدود حجرتنا .
***
(5)
كانت حجرتنا الثنائية صغيرة جدًا ، تسع – بالكاد – السريرين ، فلم تسمح المساحة الضيقة بوضعهما - كما هو معتاد - على التوازي ، لذلك وضعا على شكل زاوية قائمة ، أما خزانة الملابس فكانت كما هو معروف في السكن الجماعي ، عبارة عن تجويف داخل الحائط ، فلا يشغل حيزًا ، ومنضدة تصلح أن تكون مكتبًا أو حاملًا لبعض الأغراض . وتبقى لنا متر طول ومتر عرض في الوسط . فلا نستطيع الخطو والتحرك داخل الحجرة بشكل مريح ، كان هذا القدر من المساحة هو المتاح للحجرات الثنائية . ومع ذلك كنا راضيتين بهذه المساحة المحدودة ؛لأنها هى ثمن الفوز بالثنائية ، فصدقت معنا الحكمة القائلة : لا تضيق عين الإبرة بمتحابين ، ولا تسع الدنيا متباغضين . وصدق من قال : اختر الرفيق قبل الطريق ، والجار قبل الدار .
إن هذه الحكمة التي تبدأ من جمال الجرس الصوتي الخارجي ، الذي يجمع
في تركيب قصير بين الرفيق والطريق ، وبين الجار والدار ، تحدد لنا في صميمها المسار الصحيح في مشوار عمرنا بطوله . وهى الحكمة التي أضاع إيماني بها سنوات طويلة من عمري عازفة عن الزواج ، ودفعتني إلى الانتظار الطويل للرفيق الذي يحسن صحبتي في رحلتي ، والجار الذي آنس بجواره . فرفضت أصحاب المال الوفير ، وأصحاب السكن الرفيع ، حين فتشت فيهم عن الرفيق فلم أجده . فماذا يحقق لي المال؟ّ! وكيف تسعدني القصور الصماء ؟! فلا قيمة عندي تعلو على قيمة الإنسان نفسه ، فهو الذي يمنح الأشياء قيمتها لا العكس . هو الرفيق والجار ، الأنيس والجليس .
هيأت لنا هذه المساحة الضيقة ما لم تهيئه الحجرة الواسعة التي ضاقت بنا وضقنا بها العام الماضي . ولم تكن الكلية إلا مكانًا للدراسة لا مساحة فيها للدردشة ، ندخلها في بداية المحاضرات صباحًا ونغادرها عند انتهائها مساءً، وكانت المحاضرات متتالية متصلة ، لا براح فيها إلا للمواقف والتعليقات الفكهة الضاحكة . فهيأت لنا الحجرة فرص التعارف والتقارب أكثر وأكثر ، فكنا نأخذ بأطراف الأحاديث بيننا ، وعرفنا عن بعضنا تفاصيل كانت مجملة ، ودقائق كانت مهملة .
كانت صديقتي مخطوبة قبل دخولها الكلية ، وكأنها أبت قبل أن تغادر إلى المدينة الواسعة إلا أن تحمل في إصبع كفها الأيمن شريان التواصل بينها وبين حبيبها ، ابن الجيران . نعم ابن الجيران ، لكن قصتهما في الحب ليست كالقصص التي نعرفها ، ولا تشبه قصص ابن الجيران ، التي تنتهي في الغالب قبل أن تبدأ . والتي ترتبط في نسجها بتطلع المراهقين إلى النضج ، وسرعان ما يختفي البريق والسحر مع اختفاء أثر مرحلة المراهقة . كانت صديقتي مجرد فرد في أسرة ربطتها علاقة حسن الجوار مع أسرة خطيبها ، الذي كان هو أيضًا مجرد واحد من أفراد أسرته . لم يذهبا إلى المشاعر الجميلة بل تسربت هى إلى قلبيهما دون قصد ، لا نستطيع أن نصفهما بالحبيبين ، فقد كانا كأخوين ، بينهما كل ما يجمع بين الأخوة من تراحم وود وحماية وسند وحب ، وظلا على هذه الحالة العجيبة التي يمكن أن ترى فيها كل المشاعر والمعاني الجميلة تحت مظلة مغايرة لقصص الحب الملتهبة .
لم أدرك طبيعة العلاقة بينهما مما كانت تسرده لي صديقتي من حكايات ، لكن مما أظهره لي التعامل بينهما عبر الأيام والسنين . فقد كان هو الموفد الرسمي من أهلها للقيام بكل ما يتعلق بها في غربتها ، فهو الوحيد الذي يقوم على شئونها ، ويأتي لزيارتها . لقد شاهدتُه أكثر من مرة بحكم علاقتي الحميمة بصديقتي ، فعرفته وعرفني بشكل خاطف . هو نسخة جيدة من الممثل رشدي أباظة ، في الوجه والرأس دون القامة ، فقد كانت قامته ملائمة لقامة صديقتي . لم أشعر مطلقًا طوال مدة إقامتنا في المدينة الجامعية أنهما حبيبان أو خطيبان ، بل كنت أراه أباها أو أخاها ؛ فالحبيبان أو الخطيبان لا يجمعهما إلا مسار واحد من العلاقة ، أما الأب أو الأخ فلهما مسارات عميقة لا مسار واحد . كانت علاقتهما حزمة متشابكة لا تستطيع رؤية جزء منها منفصلًا عن النسيج .
إنه الرفيق الذي يستقيم معه الطريق ، والجار الذي يحلو معه الجوار .
وللحديث بقية ...
***
المدينة الجامعية (6 )
هون علينا السكن والسكينة ، والأمان والطمأنينة الكثير من متاعب الغربة وقسوتها ، فلم نعد نشعر مطلقًا أنه ينقصنا شيئ مما يحتاجه المغترب . حالة من الاستقرار البدني والنفسي حجّمت سفرنا إلى مدينتنا ، وقلّصت الحنين والاشتياق إلى الدفء الأسري . فقد كانت كل منا للأخرى بديلًا جيدًا للأهل والبيت والبلد ، نعلم تمامًا أنه بديل مؤقت ، لكنه على كل حال كان مختلفًا عن حالنا في العام الأول ، حيث كنا نتحايل على الظروف والحجج لكي نأخذ تصريحًا بالسفر ، ونطير إلى السويس. فالاغتراب يطول بنا إلى عام دراسي كامل ممتد . الآن صنعنا من ثنائيتنا عائلة بكل ما تحمله الكلمة من معاني العزوة والأبهة والحماية والقوة والرسوخ والتجذر. ربما أسهم في ذلك استشعار طيب الصحبة ونقاء الشركة التي خلت من سخف العتب والمراجعة ، والخلاف والشجار والوقوف على سفاسف الأمور مما هو شائع بين الشركاء . وربما أسهم في ذلك أيضًا حالة الرضا والاستغناء التي تتملكني حين تقل حيلتي وتقصر يدي عن الوضع المثالي .
كنا نضحك ونضحك في اليسر ، أما في العسر فقد كنا نضحك ونضحك ونضحك . فأنا لا تسمح طبيعة شخصيتي بتسلل أو تسرب أى طاقة سلبية من اكتئاب أو قلق أو شكوى أو غم أو هم إلى المكان الذي أعيش فيه أو أتواجد فيه . فهذه الشعور تتكاثر بالعدوى . فإذا دخل عليك واحد منها اصطحب معه الآخر أو الآخرين ، وكبلوك بشبكة معتمة لا تفلتك ولا تفلتها .
كانت تربطنا بجيراننا علاقة طيبة ، بغير اختلاط أو تعامل ، ليس أكثر من تبادل التحايا وأمنيات الخير للصباحات . ومضت بنا الأيام صباحاتها ومساءاتها ، لطيفة هينة ، ضاحكة مستبشرة . حتى جاءنا من لا نرضى ، وزارنا من لا نحب . مرضت صديقتي ، شعرت بألم في ساقيها ، فلم تستطع النهوض ذات صباح وتستعد للذهاب إلى الكلية كالمعتاد ، لم تستطع النهوض ولا الوقوف على قدميها . ولم نكن نعرف السبب ، حتى ذهبنا بها إلى مستشفى الجامعة وقد كان ملاصقا لمجمع المدينة الجامعية ، وعرفنا أنها قد أصيبت بالروماتيد ، وهو التهاب شديد يصيب المفاصل .
فتغيرت أمورنا ويومياتنا وعاداتنا ، وتغير حالنا . فلم تستطع صديقتي مغادرة الفراش ، لنذهب معًا إلى الكلية سيرًا على الأقدام ، نطلع وننزل سلم الكلية ، تحركنا قاعات المحاضرات المتغيرة ، نذهب إلى مطعم المدينة الجامعية لتناول وجبة الغداء . كل هذا تغير . كان على أن أدير هذا الأمر الطارئ ، إدارة لا هدف لها ولا غرض إلا توفير كل سبل الراحة وتخفيف المعاناة عن صديقتي . فأما ما يتعلق بتوفير سبل الراحة ، فقد جعلني أخطط لتحريك كل شيء تجاه صديقتي إذا ما تعذر أن تتحرك هى نحوه . فهى لن تستطيع الذهاب – في هذه المرحلة - إلى شيء ، لكن باستطاعتي أن أحرك أنا نحوها كل شيء . كانت كل المحاضرات تأتيها إلى سريرها مع كل ملاحظات الأستاذ وتفاصيل اليوم . كانت وجبة الغداء هى التي تأتيها إلى الحجرة ، على الرغم من مخالفة هذا لقوانين المدينة أو قواعدها . فقد كانت وجبة الغداء تسلم فقط لصاحبة الوجبة ، التي لابد أن تكون حاملة لبون الغداء ، وهو دفتر نتسلمه كل شهر لهذا الغرض . ويمنع منعًا غليظًا خروج الوجبة خارج قاعة الطعام ، خلافًا لوجبة العشاء التي كنا نتسلمهما كل مساء - مع فطور صباح اليوم التالي - ونأخذها إلى حجراتنا . فماذا أفعل وهناك أكثر من عين ورقيب يمنع خروج الغداء ؟ كنت في كل مرة أذهب إلى المطعم لم أكن على ثقة من أنني سأفلح في الحصول على الوجبة لصديقتي . لكن في الحقيقة ، لم أرجع لها مرة دونها ، وأحيانًا مع وجبتي أنا ، حتى نأكل معًا في الحجرة . كنت أعتمد مرة على إنسانية البعض الذي يتفهم الأمر بعد أن أشرحه له ، ومرة بالحيلة والمخالفة إذا ما كان المشرف في هذا اليوم ليس من أهل التقدير والتعاطف . كان طبق الماء والصابون يقدم إليها لتغسل يديها وهى مكانها . وهكذا في كل شيء . أما ذهابها إلى الحمام وقد كان في نهاية الطرقة ، فقد استعصى أن أسندها في المشي حتى تبلغه ، فجسمها سيتكسر أو ينخلع ، وقدماها لا تسعفان تمامًا في المشي ، ففكرت في طريقة لتنقلاتها الضرورية دون إيذاء أو ألم لها . كنت أنقلها وهى جالسة على مقعد ، وأدعو جيراننا أن يحملنها بالمقعد معي . فكانت تذهب بذلك إلى الحمام بسرعة ويسر ودون مشقة عليها . وكنت أستخدم نفس الطريقة وهى ذاهبة إلى المستشفى ، كنت أجهزها ثم أترك لجيراننا تنزيلها من المبنى وانتظاري لحين العودة بسيارة أجرة إلى باب المبنى ، وفي هذا مخالفة أكبر تفوق كثيرًا مخالفة تسريب وجبة الغداء . أن تدخل سيارة أجرة أو ملاكي إلى داخل سكن البنات فهذه كارثة . لكنني كنت أطيل التفاوض والشرح مع حارس البوابة الرئيسة ، حتى أفلح في الدخول بالسيارة . وكنا نفعل نفس الشيء حين كنا نذهب إلى اختبارات الفصل الدراسي . وكانت هذه السنة هى الوحيدة التي كانت فيها اختبارات العام فصلية ( أى نهاية الفصل الدراسي ) . كانت تجربة لم تكررها الكلية حتى تخرجنا . وكانت السيارة الأجرة تقلنا إلى مبنى الكلية ، ثم أحملها بمساعدة أهل الخير إلى مكان لجنة اختبارها ، ثم أذهب أنا إلى لجنتي ، وكنا نعود بنفس الطريقة . وكانت الاختبارات هى السبب الذي منع صديقتي من السفر إلى أهلها مع بداية ظهور المرض . فقد كانت الاختبارات على الأبواب . وعندما انتهت الاختبارات جاء الموفد الرسمي (خطيبها) بسيارة وأخذها إلى السويس ، ولم تعد إلا بعد انصرام عدة أسابيع من الفصل الدراسي الثاني ، وقد وجدت كل ما فاتها من محاضرات بين يديها . هذا ما يتعلق بتوفير سبل الراحة لصديقتي . أما ما يتعلق بتخفيف المعاناة ، فلم يكن التعب أو المرض هو أكثر ما تعانيه صديقتي أو تتحمله . فقد كنت أدرك تمام الإدراك أن أهم ما يشغلها ويتعبها هو قناعتها بأنها تحملني ما تراه ثقيلًا . كانت تشفق علىّ ، تكشفها عيونها ودموعها قبل كلامها . فرأيت أن تخفيف هذه المعاناة يجب أن يكون هو الهدف الآخر في ذهني . ولم يكن تحقيق هذا الهدف أمرًا عسيرًا ؛ لأنني فعلًا لم أكن أشعر بأى تعب أو مشقة تجاه ما أقوم به معها ، كان أكثر ما يزعجني هو شعورها بأنها أصبحت حملًا وعبئًا على . لذلك وبرغم صدق مشاعري ، زودت جرعة الضحك ومساحة الأجواء المرحة ، فكانت تضحك حتى يوقف الضحك دموعها وهى تنهمر . كنت لا أثير قلقًا وتوترًا حين كنا نحملها مع البنات ، كنت أدفعهم إلى التهريج والمرح ، وكأننا نؤدي لعبة لطيفة ، فكانت صديقتي تستشعر هذه الأجواء المرحة الخفيفة فتوقن أنها ليست حملًا وليست عبئًا ، و أن ما هذا إلا أمر طارئً سيمر . وفعلًا عادت صديقتي بعد بداية الفصل الدراسي الثاني متعافية كثيرًا ، صحيح لم تشف تمامًا ، لكنها كانت قادرة على الحركة .
***
أدب السيرة الذاتية - أ. د. ثناء محمود قاسم - المدينة الجامعية... (1...3)
(١) المدينة الجامعية هى أسوأ مكان ممكن أن تقضي فيه أربع سنوات -أو أكثر - من عمرك ، وأسوأ تجربة ممكن أن تمر على ولد أو بنت في هذه المرحلة الباكرة. وتفسير هذا الحكم معروف وواضح ، وهو أن المدينة الجامعية تقوم على استيعاب أعداد هائلة من الطلاب أو...
alantologia.com