أ. د. محمد كريم الساعدي - الاحتفالات الكولونيالية وتأثير عروض الشارع في المخرجين الغربيين / رؤية نقدية في عروض مسرح الشارع / الجزء الخامس

دخلت عروض مسرح الشارع وأفكاره المتعددة وأساليبه المتغيرة مع كل ظاهرة فنية وتظاهرة جديدة قائمة على الاستعراضات بجانبيها المادي والثقافي للشعوب في ساحات عالمية لاستعراض هذا التراث العالمي ، لذا فقد عملت القوى الكولونيالية على إقامت الأحتفالات لتقديم هذا التراث العالمي في ساحاتها من خلال العمل على جلب هذه العروض كونها القوى المسيطرة على المشهد الثقافي العالمي والقادرة على إطلاق المجال في نقل التراث الثقافي للدول والشعوب التي وقعت تحت سيطرت الإستعمار ، إذ أقامت ما يعرف بالمعارض الكولونيالية وذلك عن طريق عرض تراث الشعوب على أرض المستعمر ، مثال على ذلك ما حدث في فرنسا ،إذ أقامت عدد من المعارض الاستعمارية في (مرسيليا) وغيرها من المدن الفرنسية ما بين (1889 – 1931) ، وكان يحضرها الرؤساء فرنسا الاستعمارية وكان المسؤول عن هذا المشروع المارشال (ليوتيه) . والهدف من هذه المعرض هو ترسيخ الواقع الاستعماري والتمجيد بالقوى الاستعمارية ومكانتها العالمية بين شعوب العالم . (1) إذ قدمت هذه العروض والرقصات من التراث الشرقي لفرق من آسيا ، تمثل البعد الطقسي للثقافات والمعتقدات الشرقية التي كان يحضرها عدد من المهتمين بالمجال المسرحي ومن بينهم المخرج المسرحي (أنتونان آرتو) والذي شاهد في تموز من عام 1922 فرقة من المؤدين الكمبوديين وهم يقدمون عملاً فنياً في مشهد مطابق لما يحدث في إحدى المعابد الكمبودية . كان ذلك العرض للفرقة الكمبودية مقدم في مدينة (مارسيليا ) .(2) ومن بين المخرجين (أنطونين آرتو) الذي كان شاهداً على هذه العروض وتأثر بها في استخلاص مسرح القسوة منه ، كون هذه العروض الكولونيالية كانت تقام في شوارع وساحات مدينة مرسيليا الفرنسية وهو ما أتاح للمخرج المسرحي والمفكر الفرنسي (آرتو) الإطلاع عليها ومعرفة ما تحتويه العروض الكولونيالية ، " فالعرض البالينيزي الذي شهده آرتو كان داخل إطار سياق ( الاستعراض الكولونيالي ) الذي كان يقدم في فرنسا . كذلك الحال بالنسبة للأقنعة النيجيرية أو المنقوشات البولينيزية والتي تتغير دلالتها تلقائياً حالما يتم عرضها كمعروضات فنية في أي دار عرض أو متحف غربي " (3) ، هذا التغير يقع في دلالتها والمكانة التي عليها في مكانها الأصيل والمتحولة في وعي المتلقي الغربي عن طبيعتها الأصيلة ، وهذا ما يجعل السياق الكولونيالي فعّال في إيجاد تفسير جديد يقدمه إلى جمهوره الغربي بما في ذلك المفكرين والفنانين من المسرحيين ، ومن بينهم (آرتو) ،إذ تعد نظرته "للدراما الراقصة البالينيزية نظرة كولونيالية بشكل ما وذلك في رؤيتها لهذه الدراما باعتبارها غريبة ومستطرفة ، بل وباعتبارها آخر مغاير ؛ فمثل هذا العرض يجسد قيم تختلف تمام الأختلاف عن قيم المجتمع الغربي " (4)وتدخل هذه القيم المختلفة في مجال التوظيف الفني المستلب من مجالها الحقيقي في داخل الشكل الجديد وفي الأفكار الفنية التي تستمد صيرورتها وتغيرها من خلال دخول أفكار هذه العروض الكولونيالية فيها ، أي في إنتاج الأعمال الفنية الجديدة ذات الثوب الغربي من جهة والفكر الشرقي من جهة أخرى ، وهو أشبه بنوع من الاستغلال الثقافي أتاحته القوى الغربية لمثقفيها ومبدعيها من أجل تطوير المنظومة الثقافية الغربية بعد سيطرة الجمود في الأطر الاشتغالية التي أنتجتها المدارس الغربية من الطبيعية والواقعية وغيرها ، ومن ثم جعلت المبدع الغربي يبحث في مثل هذه الاستعراضات عما يطوره من أفكاره وخياله وأعماله الفنية .

أما على مستوى الجمهور الغربي عامة والفرنسي خاصة فإن هذه العروض التي تقدم في الساحات العامة تعدّ فرصة مهمة للتفاعل مع التراث العالمي لكن على وفق النظرة المتعالية ، أي أن " العامل الفعّال بالنسبة لهذه الطقوس داخل سياقها الأصلي هي الألفة الشديدة معها ، وهي ألفة ترسخت منذ زمن بعيد ، أما بالنسبة الى جمهور باريس(...) فالقوة والفعالية التخيلية لهذه الطقوس ترتبط أكثر بغرابتها وعدم تقليديتها " (5) ، وهذا ما فرض متغيرات أخرى تدخل في تشكيل الوعي البصري على المشاهدين لهذه العروض التي تقدم أمامهم في الشوارع الفرنسية كاستعراضات تحمل في طياتها التباين المعرفي بين الأصل داخل السياق ذاته ، وبين غرابتها في واقعها الكولونيالي الجديد.

إنَّ هذه التجربة لم تقتصر على (آرتو) فقط في هذا السياق الكولونيالي والاستعراضات التي صاحب الشارع الغربي والمقدمة فيه من خلال بعدها الكولونيالي ، بل أن الأمر أستدعى بعض من المخرجين الغربيين أن يسافر إلى مسقط رأس هذه الطقوس الشرقية من أجل المقايضة ، وهذا ما قامت به فرقة (أودين) والمخرج المسرحي (يوجين باربا) التي أعتمدت على تقديم " عروض فرقة (أودين) تياتريت في مراحلها الأولى وفي رحلاتها الخارجية في تقديم الرقصات ؛ وقد تطورت هذه الرقصات فيما بعد لتأخذ شكل العروض الاحتفالية التي تضم أشكالاً فنية تم تجميعها من مناطق محلية مثل الأشكال والرسومات التي تعبر عن الموت في جزيرة بالي . لقد كان الهدف من وراء مسرح الشارع هذا من وراء تجميع متفرجين من كافة فئات الجماعة البشرية التي يعرض داخلها ( والذين سيقومون هم أيضاً بدورهم بأداء عرض ما ) "(6). عملت فرقة (أودين) ومخرجها (باربا) على استثمار ما تحصلوا عليه من خبرات في مجال عروض مسرح الشارع الشرقية وغيرها من الهوامش التي زاروها في رحلاتهم ، التي شاهدوها في أمكنتها الأصلية ، أي استلهام هذه الصور الطقسية المؤداة في موطنها الأصلي في عرض مسرحية المليون التي قدمت عام " 1978: مستقاة من الكاثاكالي والرقصات المكسيكية ورقصات أخرى واعتمدت المسرحية على بقية الثقافات وقدمت على مساحة مستطيلة يحيط بها الجمهور من جانبين واستخدمت الموسيقى بشكل كثير وكذلك الأقنعة التي تمثل شخصيات راقصي البالينييز" (7) ، هذا الخليط غير المتجانس حاول (باربا) تقديمه لإثارة الدهشة عند الجمهور الغربي على الرغم من أن بعض هذه الطقوس الموظفة في العرض لا تتلاءم مع بعضها الآخر ، لكن الجمهور الجديد لا يعي هذا ، وهو يركز فقط على غرابتها المتأتية من شكل الرقصات الطقسية المصاحبة للصورة الجديدة الموظفّة فيها ، وهذا النوع من العروض المسرحية هي من جعلت توظيف هذه الطقوس البعيدة عن دلالاتها عامل مؤثر في الجمهور الجديد .

إنَّ العروض المقدمة في بُعدها الكولونيالي شكلّت غايات معينة قدمت في عروض مسرح الشارع من قبل المخرجين الغربيين والتي تلقاها الجمهور الغربي بشكل مغاير عن العروض التقليدية في المسارح وصالات العرض الغربية ، وهذه الغايات هي :

  • العروض المقدمة في بُعدها الكولونيالي من خلال الاحتفالات الكولونيالية الغاية منها هو تجميع أكبر تراث ثقافي عالمي في الشوارع الغربية لإثبات السيطرة الثقافية على هذا التراث وجلبه في أي وقت ممكن من أجل المشاهدة والاستمتاع من قبل الجمهور الغربي .
  • إنّ هذه العروض المُقدّمة في سياق عروض الشارع على الرغم من أنها مأخوذة في سياق آخر غير سياقها الأصلي ، إلا أن تأثيرها كان له غايات مهمة وأدوار في إيجاد متغيرات فنية جديدة داخل المنظومة المسرحية الغربية .
  • إعادة تقديم هذه الطقوس في سياق مسرح شارع على وفق النظرة الغربية ومنظومتها من أجل أن يكون لحضورها دور محفز في خلق الغرابة لدى الجمهور الغربي المتابع لهذه الطقوس الموظفة في داخل الدراما الغربية ذاتها .
الهوامش

  • ينظر : باسكاله جوتشيل ، وايمانويل لواييه : تاريخ فرنسا الثقافي ، ترجمة : مصطفى ماهر ، القاهرة : المركز القومي للترجمة ، 2011، ص 169.
  • ينظر : مارتن أيسلن : انتونان أرتو ، الرجل وأعماله ، ترجمة : سعيد أحمد الحكيم ، بغداد : دار الشؤون الثقافية العامة ، 2001 ، ص 241، 247.
كريستوفر أينز : المسرح الطليعي ، ترجمة : سامح فكري ، القاهرة : مطابع المجلس الأعلى للآثار ، ب، ت . ص35.

المصدر نفسه ، ص34.

المصدر نفسه، ص 36.

المصدر نفسه ، ص 327.

د سامي عبد الحميد : قديم المسرح جديده وجديد المسرح قديمه ، بغداد : إصدارات مهرجان بغداد لمسرح الشباب / الدورة الأولى ، 2012، ص108.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى