د. زياد العوف - الواقعيّة الإنسانيّة في قَصَص ميخائيل نعيمة*

كنتُ قد استعرضتُ في المقال السابق أهم المحطّات العملية والإبداعية في المسيرة الحافلة بالجهد والعَطاء للأديب والناقد والمفكّر الكبير ميخائيل نعيمة. وقد تمَّ التركيز حينها على أهم الملامح والسِمات الفلسفيّة ذات النزعة الصوفيّة والإنسانية التي ميّزتْ فِكر الكاتب كما تجلّتْ بصورة خاصّة في كتابه " زاد المَعاد".
أودّ في هذا المقال تسليط الأضواء على الأدب القصصيّ عند القاصّ المبدِع ميخائيل نعيمة،فقد أثرى أديبُنا الكبير المكتبة القصصية بعدد من المؤلّفات المهمّة، نذكر منها:
"كان ما كان" و" مذكّرات الأرقش"
و"أكابر" و" هوامش" و"أبو بطّة".**
هذا، وقد وقع اختياري على قصّة "أبو بطّة" التي عنوَن بها الكاتب مجموعته القصصيّة المُشار إليها.
ظهرت الطبعة الأولى لهذا الكتاب القصصي عام(١٩٥٨م) حيثُ وطِئ الكاتب بقدمه الواثقة عتبة عامهِ السبعين من عُمُره المديد الذي استكمل القرنَ إلّا عاماً واحداً.
هذا يعني، في جملة ما يعني، أنّ قصص هذا الكتاب تعكسُ النُّضج الأدبي والفنّي والفكري الذي بلغه الكاتب آنذاك. ويبدو لي أنّه من الممكن تصنيف أدب الكاتب القصصي في إطار ما يُمكن أنْ ندعوَه بالواقعيّة الإنسانية، مقارنة مع الاتجاهات القصصية الواقعية الأخرى كالواقعية التسجيلية والواقعية التحليليّة والواقعية الانتقادية والواقعية الاشتراكية والواقعية السحرية، وذلك نظراً للنزعة الإنسانية الأصيلة التي تسِم أدب أديبنا بوجه عام ؛ حيث تخيّم على الأجواء الواقعية للسرد القصصي القيمُ الإنسانية النبيلة كالمحبة والإخاء والمساواة والكرامة كما يستشعرها ويبشّر بها ميخائيل نعيمة، مع الاستفادة، طبعاً، من مزايا الواقعيات الأخرى.
تتناول قصة " أبو بطّة" المرحلة المِفصليّة، ومِن ثَمَّ النهاية المأساويّة لحياة بطلها العامل الكادِح " العتّال" المدعوّ بأبي بطّة.
يبدأ القاصّ بوضع الأساس المتين لبناء القصّة فيُحدّد الإطار المكانيّ لأحداث القصّة، وكذا أبطالها، مع إشارة سريعة ومجملَة للظلم المُحيق بهم، بما يُشير إلى المغزى والمعنى الكلّيّ لها، حيث نقرأ:
" في المدن الشرقية الكبيرة، وبالأخصّ في الموانئ البحريّة، طبقة لا يستهان بها من العمال تعيش على هامش الحياة، وهي في الواقع من متنها. فعلى أكتافها وسواعدها وظهورها يقوم جانب كبير من الحركة التجاريةفي تلك المدن."(ص.٧)
ثمّ ينتقل الراوي لبيان ما تتعرّض له هذه الفئة من العمّال من المهانة والاحتقار، فنقرأ:
" ولكنّها ممتهَنة من التّجار وغير التّجار بالسواء. حتى إنّك لا يندُر أن تسمع أحدهم يتكلّم عن عامل من أولئك العمال فيشفع كلامه بقوله "أجلّكَ الله" على حدّ ما يفعل إذا حدَّثكَ عن رِجله أو حذائه."(ص.٧)
وما يلبث الراوي أنْ يحلّل هذا السلوك المهين فيعود بأسبابه إلى مافي الشرق من عِلل مزمنة،فيقول:
" ولا عجبَ، فالشرق ما أدركَ حتى اليوم أنّ لرِجْله فضلاً على رأسه لا يقلّ عن فضل رأسه على رِجله.
فالرِّجل التي تحمل كلّ أثقال الجسد هي في الغالب أنبَلُ من رأس تحتلّه الخَساسة، وأطهرُ من قلب يعشّش فيه المَكر، وأصدق من لسان تحرّكه النجاسة، وأشرف من يد تهدم بيوت الغير لتبني بيتها من أنقاضها.
أولئك العمّال هم العتّالون، ومنهم صديقي أبو بطّة."(ص.٧)
ثمّ يشرعُ الراوي في رسم الملامح الخارجية للشخصية من خلال إشارته إلى العلامة الفارقة التي تميّزها، فيقول:
"دعُوه كذلك لتورّم مزمن في" بطّة" ساقه اليمنى جعل حجمها ضِعفَي حجم شقيقتها اليُسرى أو يزيد، وقد تشابكتْ فيها عروق ثخينة متعرّجة تبدو لزرقتها وكأنّها محقونة بمحلول من النِّيل. وأشدُّ ما تكون هذه العروق بروزاً وانتفاخاً في أيّام الحرّ، وعندما ينهض صاحبها بحمل من الأحمال الثقيلة التي تفرّد بحملها." ( ص.٨)
ويمضي السارد في بيان السِّمات التي تميّز بطل القصّة، فيقول:
"ولعلّني أُسيء الظّنّ إليك وإلى صديقي أبي بطّة إنْ أنا أوهمتك أنّ شهرته الواسعة في السوق، ومكانته السامقة بين العتّالين، ترتكزان أوّلاً وآخراً على ضخامة بطّته. والحقيقة هي أنّ تلك البطّة دِعامة واحدة من دِعامتين تقوم عليهما شهرته ومكانته. أمّا الثانية فهي القدرة البدنية العجيبة الكامنة في عضلاته المفتولة وعموده الفِقريّ، تدعمها ثقة بالنفس لا حدَّ لها." (ص.ص٨-٩)
ويؤكّد الراوي أنّ المظهر الخارجيّ لا يكفي وحده للحكم على الرَّجل؛ ذلك أنّكَ"..لو رأيتَ أبا بطّة لما رأيت غير عتّال كسائر العتّالين، بل قد تستخفّ به لأوّل نظرة تلقيها عليه.فهو دون الرَّبع من الرجال، والناظر إلى وجهه الشاحب وعينيه الصغيرتين الغائرتين، وإلى لحيته الكثَّة التي لا تدنو منها الموسى أكثر من مرّة في الشهر أو مرّتين، وفي رجليه القصيرتين الحافيتين، لا يكاد يحسبه يقوى على رفع حقيبة أثقل ما فيها ثياب حريرية وأدوات زينة لسيّدة من السّيدات الأنيقات. إلّا إذا أمعن النّظر في رقبته الغليظة اللاصقة بكتفيه، وفي يديه السمينتين بأصابعهما القصيرة الثخينة، وفي صدره الرَّحب ومنكبيه العريضين، فقد تلوح له في كلّ هذه أمارات القوّة. ولا عجبَ فَلَكَمْ خدعتْنا الظواهر عن البواطن!" (ص.ص٩-١٠)
على أنّ نسيج القصّة، أيّ قصّة، لا يكتمل بالسرد والوصف وحده، بل هو في حاجة إلى الحوار؛ ذلك أنّ الحوار يُنطِق الشخصية القصصية ويُضفي عليها الحيوية والمصداقيّة، ما يسمح لها بتقديم نفسها كما تُريد وبما تُريد.وهذا ما نلمسه في قصّتنا هذه؛ حيث نقف على السمات والملامح الاجتماعية والنفسية لأبي بطّة من خلال هذا الحوار:
" كان أوّل عهدي بسيّد العتّالين منذ عَقد ونِصف العقد من السنين، إذ كلّفته نقلَ حقيبة خفيفة مسافة لا تتجاوز المئة من الخطوات، ثمّ نقدتُه أجراً كان على ما بدا لي فوق ما توقّعه بكثير، فما كاد يصدّق عينيه، والتفتَ إليّ وقال:
" ممنون يا أستاذ. أنت تعرف قدر الأوادم"
فأحببتُ مداعبته وقلتُ:
" ومن أين عرفتَ أنّني أستاذ؟" فحدجني بعينيه الزرقاوين وابتسم ابتسامة الرضا والسخرية وقال:
" لا تستخفّ بي لأنني عتّال. فأنا أميِّز بين الأستاذ وغير الأستاذ"
فأجبته"
"ولكنني لست بالأستاذ. إنْ أنا غير آدميّ مثلك."
فحدجني ثانية وقال بدهشة:
" مثلي؟ معاذ الله. أيستوي العتّال والأفندي؟ ألستَ محامياً؟
قلتُ: لا
- ولا طبيباً؟
- لا
- ولا مهندساً؟
- كلّا
- ولا تاجراً " (ص.١٠)
ويستمرّ هذا الحوار الطريف على هذه الشاكلة إلى أن يقول العتّال:
" حيّرتني والنبي. ماذا تعمل لكسب معاشك؟".......... ...................
وأفهمته أنني أدوّنُ أحاسيسي وأفكاري، ثمّ أنشرها كتباً في الناس
.................وبعد فترة من الإطراق رفع بصره إلى فوق وتنهّدَ وقال:
" إذن لا تفعل شيئاً. ثمّ تكتب عمّا تفعل وتعيش ممّا تكتب؟!" وبعد هنيهة:" سبحان مقسّم الأرزاق! هنيئاً لك يا أستاذ"
فضحكتُ وافترقنا على ذلك لنعود فنلتقي غير مرّة.." (ص.ص١١-١٢)
وتمرُّ الأيام وتتكرّر اللقاءات بين الرجلين ليلحظَ الراوي تغيّراً واضحاً في ملامح وسلوك صديقه أبي بطّة في الفترة الأخيرة:
"بلى! لقد تغيّر صديقي أبو بطّة. ومنذ أيام حسبتُني أدركتُ، أو أوشكت أن أدركَ، سرَّ ذلك التغيّر. فقد خطر لصاحب المخزن أنْ يدعوَ عتّالاً غير أبي بطّة لنقل صندوق ثقيل ما ظنّهُ، وهو في الخامسة والثمانين، يقدر عل حمله." (ص.١٣)
إنّه، إذاً،التّقدم في السنّ، وهو أمر يقضّ مضجع البشر جميعاً؛ إذ إنّه المؤشِّر البليغ للضعف والانحلال، ومن ثَمّ الفناء المحتوم.فما بالُك بإنسان رصيده الوحيد الذي يقتاتُ منه ويحفظ عليه كرامته الإنسانية إنّما هو قدرتُه العضليّة؟
على أنّ المأساة تتعاظم، دون ريب، عندما يكون البديل من صُلب الرجل.
" واتّفق أنّ العتّال الغريب ما كان غير بِكر أبي بطّة من زوجه الثانية، واسمه حسين." (ص.١٤)
غير أنّ الراوي قد كفانا مؤونة تصوّر ردّ فعل الرجل حيال ذلك، حيث يقول:
"ما إنْ دخل حسين المخزن وألقى يده على الصندوق حتى وثب والده من مربضه على العتبة كأنّه الذئب الضاري أو النمر الغضبان. ومن غير أنْ يوجّه كلمة واحدة إلى ابنه صفعه صفعةً مدوّية وزمجرَ:" اغرب من هنا يا كلب. ما مات أبوك بعدُ! وانكبَّ على الصندوق الثقيل يعالجه حتى رفعه بيديه إلى حيث تمكّن من رفعه على ظهره. وخرج به متباطئاً، ولكنْ بركبتين ثابتتين. فالتفتُّ إلى بطّته المتورِّمة وإذا بها تكاد تنشقّ...." (ص.١٤)
لكنّ رَجُلاً له مثل هذا العنفوان ومثل هذه الكرامة لا بدّ وأن ينتهي نهاية مأساوية مدوّية. وهكذا كان، فقد صادف أنّ مرّ الراوي بالمخزن الذي يعمل فيه أبو بطّة فما كان من صاحبه إلّا أنْ طلب منه التوسّط لديه للسماح باستدعاء ابنه حسين لحمل برميل ثقيل من زيت النِّفط لا قِبَل له بحمله، لكنْ:
" ما كاد صاحب المخزن ينهي كلامه حتى وثبَ أبو بطّة من مربضِه وصاح، بل زمجر، واللقمة ما تزال في فمه يحاول بلعها فلا تنبلع:
- نادوه. نادوه. لا حسين ولا جدّ حسين يستطيع أنْ يحملَه ويخطو به خطوة واحدة.
وجاؤوا بحسين. فألقى نظرة على البرميل، ثمّ دحرجه قليلاً، ثمّ حاول رفعه من جانب واحد، ثمّ جمدَ مكانه بُرهة في تردّد وَوَجَل. وأخيراً تنحّى جانباً وقال بخجل وانكسار قلب:
- ولا أبي في ربيع مجده كان يستطيع أن يقوم به." (ص.١٥)
في هذه اللحظة الدراميةالحاسمة حيث يبلغ التشويق أقصى مداه، ويهيمن القلق والوجوم على الجميع :
" عندئذٍ تقدّم أبو بطّة من البرميل وبحركة عصبيّة من يده اليمنى دفع بابنه بضع خطوات إلى الوراء متمتماً:" كلب! اليوم أعرّفكَ قدر نفسك"، ثمّ بصوت عالٍ:" إيتوني بمن يرفعه إلى ظهري" فجاؤوه بعتّالين آخرين علاوة على حسين.
والثلاثة رفعوا البرميل وأوثقوه جيّداً بالحبل إلى ظهر أبي بطّة.......
............................................
ولكنّ أبا بطّة خطا بالبرميل خطوة، ثمّ أخرى، ثمّ أخرى، واجتاز العتبة إلى الرصيف فصاح به صاحب المخزن:" احترِس يا أبا بطّة. فما في البرميل يساوي ألف ليرة عدّاً ونقداً". أمّا الآخرون فما تمالكوا من الهتاف:" عاش أبو بطّة! عاش بطل العتّالين وقاهر الخمس والثمانين."
(ص.١٦)
على أنّ مرمى القصّة البعيد لا يتكشّف،ومعناها العميق لا يتوضّح دون أن نقفَ على الدلائل الاجتماعية والإنسانية التي تؤول إليها أحداث القصّة مع النهاية المُفجِعة لبطلها أبي بطّة:
"وبغتة رأيتُ أبا بطّة يجمد مكانه وسمعتُه يتفُل قائلاً:" تفو على الخمس والثمانين...." وأبصرتُ أنّ ما تفلهُ كان دماً أحمر .ثمّ أبصرتُه يهوي فينطح الأرض بجبينه."(ص.١٦)
لكنّ المفارقةَ الكبرى ما تلبثُ أن تطلّ برأسها الغريب الكريه، عندما نقرأ:
"وأبصرتُ البرميل يتدحرج عن ظهره فيمسّ طرف حذاء سيّدة كانت واقفة على الرصيف. وأبصرتُ السيّدة تنقبضُ سحنتُها فتنقضّ على أبي بطّة وتركله ركلتين قائلة عند كلّ ركلةٍ:" وحش!" ثمّ أبصرتُ صاحب المخزن يُهرْولُ صائحاً في العتّالين:" البرميل. البرميل.ألف ليرة".
وكان آخر ما أبصرتُ جثّة هامدة تجمّد النجيعُ على شفتيها وجبهتها، والتفَّ الحبل حول عنقها.
وكان آخر ما سمعتُ نداء المؤذّن:
" الله أكبر". "(ص.١٧).
وكأنّنا بهذا النّداء العلويّ ينعى على هذا المجتمع الجاهل الظالم المتخلّف انحطاط القِيم والمبادئ الإنسانية لديه، في الآن عينه الذي ينعى روح أبي بطّة الطاهرة الكريمة إلى الإنسانية جمعاء في أعلى علّيّين.


*- الدكتور زياد العوف، أعلام الأدب العربيّ الحديث-قراءة جديدة-مؤسسة يسطرون للطباعة والنشر والتوزيع، القاهرة، ٢٠٢٠م، ص.ص ٢٥٦-٢٦٥ .
**-ميخائيل نعيمة، أبو بطّة، مؤسّسة نوفل، بيروت،٢٠٠٠م.

دكتور زياد العوف

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى