(1)-
" بين القدم والرأس تجري حدود الثقافة، فالنعلُّ واقع والرأس سلطة ما... ويصحُ العكس كذلك "
" إن أدنى أهل النار عذاباً، ينتعل بنعلين من نارٍ، يغلي دماغه من حرارة نعليه ".. حديث نبوي
" وإذا أصبح المفكر بُوقاً، يستوي الفكر عندها والحذاءُ "... نزار قباني
النِعال رمز للهندام والمكانة الجارية بين الناس، تُلبس عادةً للزينة وبث الخيال لا مجرد أحذية متعلقة بالزي. وليس معقولاً أنْ يهتريء نعلٌّ دون تغييره بأفضل من سواه. كما أنَّ النعال ترتبط بالرأس ارتباطاً وثيقاً، فالشخصيات اللامعة تتغيَّ انتقاء الأحذية إلتصاقاً بأسلوب العيش. وهو ما يعكسُ نظامَ التصورات ورؤى العالم وصور العلاقات بين البشر. تبدو النعال قويةً للمشي ولامعة للغواية وتاركة للأثر رمزياً ومادياً، إنّها العلامة المجسّدة لوجودنا بشكل مختلفٍ إلى حدٍ ما. عندما يقف داخلها القدم، يشعر الإنسان بالثبات والفاعلية، وقد يشعر في المقابل بالضعف أو التأرجح أو الضعة حين لا يمتلئ ثقةً بوجودها الرمزي.
من هذا الباب، يطرح كيان" النعل" تناقضاً مع فكرة " الهامة " فوق أكتاف البشر. هذه الرأس التي تدور في الذروة لدى القوى النافذة داخل المجتمعات. أي تومئ فكرة الهامة إلى" صاحب المعالي" من البشر، صاحب ( المنصب- السلطة – المكانة – الثروة- الأيديولوجيا )، فهو شخصٌ يُمارس استعلاءً ورفعةً وهيمنةً وسلطةً إزاء الأخرين. يعبر القرآن عن ذلك المستوى في كلمة "هامان" على خلفية التحدث عن فرعون وجنوده.
وتتضح الرأسُ قصداً لدى" هامان" وتتضح تباعاً المكانة التي أخذها في ظل الفرعون، وبخاصة عندما حرص القرآن على ذكر هامان مع سياق الفرعون. وليس ثمة "صاحب معال" لا يستدعي حد الأدنى تجاه الأعلى ضمنياً. إذْ تظل العلاقة كـ" أوتار ثقافيةٍ " مشدودةٍ بين الطرفين، وقد استحضرت تراث المجتمعات وتحولاتها.
هي إذن ثنائية ( الرأس والقدم/ الهامة والحذاء ) المتغلغلة في تاريخ مجتمعاتنا الإنسانية، حيث يعبر النعل عن تدني الشأن، انحدار المكانة، الانحطاط، بينما الرأس هي الرأس المدبر، الرأس المفكر، الرأس المؤدلج، الرأس المقدس. الرأس كمركز لشخص متعال ينظر إلى الناس شذراً وبلا مسافة ممكنة. والصلة بينهما عملية إشكالية تجر معاني وقضايا طريفة حول الإنسان والواقع والتاريخ. والنعل والرأس( ارشيفان) ضمن متون الذاكرة الثقافية التي لا تنسى.
أرشيف النعال عادةً هو الصندوق الأسود لثقافة لجارية بعمق التاريخ محتفظاً بكافة ممارسات الحياة وأشكالها. حتى في اللهجة الدراجة، يقول الإنسان خلال بعض المواقف: لا أعرفُ راسي من رجلي، وذلك عندما يعيش حالة من الفوضى والاضطراب. وتجاه درجة التشبع من أوضاع معينة، يُقال بالمثل: لقد انغمس فلانٌ في كذا وكذا من راسه إلى ساسه. أو بصيغةٍ أخرى، تشبع – في هكذا مرحلة - من رأسّه إلى أخمُص قدميه!!
أشار القرآن إلى النعال كرمز للتدنيس( عدم الاستحباب) ( فاخلعْ نعليك إنك بالوداي المقدس طوى) " طه "12. والقرآن يخاطب النبي موسى في مقام التبجيل والامتثال، أي في مقام الحضور والمعيَّة لا الانفراد بالذات عبر مكانٍ ما، وأنَّه لا ينبغي أنْ يكون هناك رمز مُدنّس. وبهذا يشجب القرآن الثقافة التي درجت على جعل النعل ملبُوساً لأغراض أقل مما ترتفع بالهامةِ إلى أعلى. فلئن كانت السماءُ هي رمز الطهرانية والنقاء والخلوص والعلو، فالأرض تعكسُ ظلالاً قاتمةً يجب أنْ تكون آثارها كذلك. والنعل حين يرتبط بهكذا معنى، سيُقلل من التعالي المفترض.
خلع النعال هو الاجراء العملي السريع دون تفكير طالما صادر من مصدر أعلى، حيث كان موسى بالوادي المقدس، أرض سيناء. ويحتمل الخلع الإلقاء جانباً لكل نعل من شأنه ألّا يليق بالإنسان هاهنا. فلا تجتمع ( القداسة والنجاسة ) في مكان واحد، وبخاصة أنها حالة واضحة تحت عين الإله. وتظهر هذه الفكرة في الضمير العائد على موسى ( إنك )، وهو معبر عن الاشارة إلى احتمال عدم المعرفة. أي عدم معرفة موسى بالمكان المقدس الذي يوجد فيه. ولكن عدم معرفة موسى وضعف إدراكه لهكذا معنى، لا يعني ترك الأمر للمصادفة. ومن ثمَّ كان حرص القرآن على التعبير بخلع النعال عن دلالة التقديس. وهو معنى خفيف الوقْع بدلاً من استعمال ألفاظ نقيضة تخص النجاسة أو المغايرة. وسبق القرآن أمر خلع النعلين بأن ذكر الذات الإلهية: " إنّي أنا ربك فاخلع نعليك إنك بالوادي المقدس طوى". وقيل إن الرب أمره بذلك، لأن نعليه كانا مصنوعين من جلد حمار ميت. وهو تقليل آخر من شأن النعلين.
أولاً: دلالة النعال مدنّسة في وضعٍ خاصٍ عليه أنْ يكون وضعاً مقدّساً. وخلع النعلين إشارة إلى تعالٍّ من نوع إلهي ما. فالنعلان يرمزان إلى تدني خارج السياق، فلا يليق دخول موقع له سمات نوعية بهذا الشكل، وأنهما لا يستقيمان مع ميتافيزيقا المكان. والأديان التوحيدية لها توقيف متعال للأماكن والأشخاص والأفكار والأشياء عن طريق المواقع المقدسة التي يحظر فيها لبس النعال.
ثانياً: لا تُخلع النعال إلاّ لأمر جلل يستحقُ التوقف عنده. والتوقف هو قدرتنا نحن البشر على الإستثناء. فليس نخلع - في كل الأحوال العادية- نعالاً غير مقدسةٍ. وهذا فحواه أنَّ الاستثناء يجب أنْ يقابلة استثناءٌ بالمثل. وجاء نص القرآن بصيغة الأمر بلا نقاش ( اخلع نعليك ). لأن المقدس ليس مصدره الفعل بل مصدره صاحب الأمر وبالتالي قد تخفى معانيه وتبعاته غير المباشرة على الإنسان.
ثالثاً: ربما تُخلع النعال من أجل رأس تستحق ضرباً مبرحاً بها. وهذه ظاهرة مرتبطة بتحولات ثقافية متأخرة من جهة ( الانتعال مصادفة ) إلى ( خلع الانتعال عن قصد) انتظاراً لمواقف يتم استعمال النعال فيها. فالنعل غدا ( وسيلةً ما بعد حداثية post modern instrument ) للحط من قدر المضروب به. كما أنه خضع لتسييسٍ ما، عندما يُستعمل فعلياً في استهداف هامة أحدهم ضمن مواقع مرموقة.
رابعاً: هناك مماثلة طريفة بين النعل وصاحب المعالي، فصاحب المعالي يستعمل المنصب الذي ينزرع فيه كالنعل الذي يرتديه الإنسان. فالمنصب يقي الشخص من هجير المجتمعات المتخلفة، ويحمي صاحبه من غوائل الأحوال ويكون شوكه في حلق الخصوم. تماماً مثل النعال التي تصبح رمزاً لضرب الآخرين والتقليل من شأنهم.
خامساً: ارتداد معنى المنصب إلى وحدة دلالة المعالي مع درجة التصرفات والسلوكيات العامة. فلئن كان أصحاب المعالي يحتذون السلطة تجاه الجماهير، فلا يليق بهم إلا الأحذية. فالحذاء يقابل الحذاء لا أقل من ذلك. ولعلَّ هذا ما جعل الأحذية الطائرة في وجوه بعض الساسة أمراً مفسراً في دلالة الضرب بالحذاء لكل صاحب سلطةٍ غير قادر أنْ يكون إنساناً بملء الكلمة.
وبالرجوع إلى التاريخ، تعكس المشائية دلالة الانتعال فلسفياً منذ قدماء اليونان. وصحيح كانت هناك شخصيات تنتعل أحذية وتلبس واقياً للارجل عند الفراعنة، حيث ظهرت النعال بأشكال مختلفة ومزركشة ولاقت مشاهد رائعة لدى الملوك والكهنة والشخصيات المهمة وكانت تُحفظ بأشكالها القشيبة ضمن متعلقات المومياء - أثناء الدفن والتحنيط - ايذانا بالحياة بعد الموت، ولكنها لم تكن نعالاً قادرة على التواجد فكرياً على صعيد نسقي. فالنعال قشيبة في حضرة الملوك الفراعنة وكانت أحذية الملك توضع في مقدمة رؤوس الأعداء الذين ينال منهم الفرعون صاحب القداسة.
وطالما كانت هناك خيوط من الصراع والحروب، فسرعان ما تراجعت طرافة المعاني وباتت تحتاج إلى حفر آخر حول وجودها التاريخي. فالنعال الفرعونية كانت تنقل تراتب أصحاب السلطة وتحدد مواقع الملوك، وهو شأن دال على ( فرز لاهوتي سياسي) مازال معمولاً به حتى اللحظة. لقد جاءت النعال الفرعونية وثائق قديمة بقيت سارية طوال التاريخ وبإمكانها أن تفسر كثيراً من الأحداث والظواهر الاجتماعية. ومن الطرافة بمكان الالتفات إلى وجودها الثقافي داخل هذه العصور السحيقة من وعينا البشري.
أما فلسفة المشائية، فهي كلمة آتية من اللغة اليونانية Peripatetikos، إذ اشارت إلى اجتماع مجموعة من التلاميذ مع المعلم أرسطو للمشي والتعلم واستعراض المعارف العقلية والعلمية. والانتعال – كموضوع للتحليل- كان جزءاً من هذا الطقس الفلسفي. ثمة مشاهد كثيرة تصور هؤلاء الفلاسفة هم يسيرون منتعلين نعالاً مناسبة لتلك العملية. من هنا، ظهر مفهوم الفيلسوف المشّاءperipatetic ، هذا الرجل الذي يتخذ من رجليه وسيلة لفتح آفاق الفكر. وهو من يمشي مع اصدقاء الحكمة، أي يمشي مع الحياة مستعرضاً المعارف والمعلومات والحوارات والأسئلة. وذلك بدلاً من التأمل المنعزل في مكان مغلق خارج التاريخ.
إنَّ النعال في الفكر الفلسفي كانت مفاتيج لجغرافيا الأفكار. فالشعوب التي تجيد فنون المشي شعوبٌ تستطيع تجديد النظر إلى العالم والأشياء. إن المشي يفهمنا ضمنيا وظيفة النعال، وكم كانت هي ذات أهمية بالنسبة للإنسان المفكر على نحو من الأنحاء. وكأنَّ النعال، إذ تغطي الأرجل إنما تعطينا مستوى آخر من الوجود.
وفي حساسية اللغة العربية ما يكشف دلالة النعل: انتعل الإنسان نعلاً، أي مارس فعلاً عكس تعرية القدم، لقد لبس حذاءً للمشي والحركة. وانتعل الملابس (ارتدى ملابسه) التي كانت فارغة منه. انتعلت الأرض الأشياء، أي لبست تضاريس الأشياء ظلالها. فكما هو معروف عند منتصف النهار، ترتدي الأشياء الظلال التي توجد تحتها. وهنا تمثل اللغة مستوى من أعمق الدلالة الفورية فالارتداء هو فعل الهوية. عندما تتماثل الأشياء مع ظلالها فهذا عمل الهوية على الأصالة. فالشيء يساوي نفسه. واللغة تقف عند الدرجة الصفر للنعل باعتباره قدماً لصيقاً بالأرض. وتستقطب مفرداته كماً من السخرية والحط من شأن الناس عن طريقه. وبخاصة عندما يفرغ من قدرته على الإعلاء بنا كحذاء.
لعلنا نلاحظ أنَّ الثقافة العربية تعطي الانتعال وجوداً فورياً. فهي تربطه بالأفعال التي يراها ويمارسها الإنسان ضمن الزمان والمكان. وهناك بالطبع مستويات أخرى توضحها النعال من استخدام الإستعارات المعبرة عنها. وهنا كم من الأنماط الثقافية لفكرة النعل وكذلك الاسقاطات التي تعود إلى أعماق التاريخ والحياة. والنعال بذلك تضعنا فكرياً على حواف التطورات التي تستغرق المجتمعات وتندمج في حركة الأفكار الفلسفية من عصر إلى آخر. فإذا كانت النعال للأقدام، فهي كذلك لتغليف الصور العقلية والإعتراض ولسياسات التمرد والاختلاف ولفتح طرق جديدة للعقل وفهم التراث.
***
(2)
تحاول أغلب الثقافات- من مجتمع إلى آخر- صناعة معاني الأحذية (غطاء الأرجل) على نحوٍ أعمق، لكونها الوسيط الذي يخفف الوطء والتعثُر، وتحُول دون شعور( لحم القدم ) بعثرات الطُرق والتراب. تماماً حينما يُعبر الحذاءَ عن دلالة الرفعة والمباهاة والغلبة، فهو يقِي من وعثاء المجتمعات، ويُعطي انطباعاً معيّناً أمام الناس. والحُفاة العُراة يذهبون ثقافياً لتغطية التعري الاجتماعي بأية حمايةٍ من ظلال السلطة. ولا يجدون واقياً بجانب الاقتصاد والسياسة إلاَّ بالغرور والعلو الأجوف.
تبقى الأحذية خطاباً ضمنياً عندما توجد لمساتٌ لأقدام على رقعة المجتمع الحساسة لوقْع الناس والظواهر. فالأحذية شفافةٌ لما يرتسم على مظهرها والمسارات التي تأخذها. وليست كل النعال متساوية في إطار كهذا، طالما أنَّ الآثار التي تتركها وراءها ليست واحدةً ولا متطابقة. وهناك في أسواق النعّالين (الصُرماتية)- بلغة أهل مصر العثمانية والمملوكية- أمورٌ دالة على افتراق الطوائف والطبقات والفئات المختلفة. ففي لحظة صناعة وحياكة وترقيع النعال ما يُظهِر الخيوط الاجتماعية التي تحرك الأنامل والأقدام معاً. وبالتأكيد يعرف الصُرماتية ظروف وأحوال أهل صناعة النعال، وكذلك يعرفون نوعيات النعال تفاصيلياً، ولمن تكون والخلفيات الاجتماعية التي اتت منها.
بالتأكيد، فإنَّ النعال عبارة عن " توقيع ثقافي signature cultural " يحتاج دوماً إلى فك شفراته الملتوية. والعرب كان لديهم مواهب فذة في تتبع الأثر والفِراسة بحيث كانوا يعرفون: ما إذا كانت آثار الأقدام لرجل أم لإمرأة أم لطفل. وليس هذا فقط، بل كانوا يتفرّسون في معرفة نوعية الأقدام. فأقدام الأطفال مختلفةٌ عن أقدام الرجال في مقتبل العمر أو الرجال في وسط الكهولة أو خلال الشيخوخة الطاعنة. وكان العرب يعرفون كذلك: ما إذا كانت آثار اقدام المرأة آثاراً لإمرأة حامل أم لإمرأة عجوز أم لفتاة في مقتبل العمر وبأي فحوى كانت تسير. هذه الفراسة تقتضيها الأحذية على نطاقٍ فلسفي وثقافي عام. وعوضاً عن أنْ تكون رمال البادية هي ( الرقاع الوجودية ) التي تضم آثار الأقدام، تأتي رقاع المجتمع لتظهر آثار النعال.
هكذا تبقى النعال ( وسيطاً حركياً ) يرتهن بذهنية الناس وأنساق الفكر. فالنعال لديها القدرة على التواجد كمفردةٍ ضمن معجم عام مغروس في أضابير التراث ولحم الواقع. كما أنها كرداء للأقدام ترينا: كيف يتعامل الناس مع قواهم والحقائق الجارية بين البشر؟ فالإنسان قادر على جعل الأشياء تتكلم، تُفضي، ويعود إلى الوراء قليلاً دافعاً إياها في المقدمة. " وفي خاصف النعال البيان وعبرة... لمعتبر إذْ قال والنعل ترقع".. ذلك ما يقوله الشاعر السيد الحميرى عن فحوى النعال كسيرة أكبر من كيانها المحدود. فالمعنى طريف حين يكون خصف النعال هو بلاغة وجودها الذي يمثل وجودنا بامتداد جوانبه. لأن الخصف هو خرز الأحذية وإصلاحها نتيجة التغيرات التي تلحق بها. وهي عملية تبدو مهمة عند كثرة الاستعمال وانهاك الأحذية. والخصف لُب المسألة الاجتماعية المعبرة عن العمل والفعل والانتقال من مكان لآخر.
وعلى وجود هذه الفكرة وراء معنى النعال، هناك النعال التي تحرك مستويات أخرى من المضامين. ولاسيما مضمون التقليل من شأن الآخرين. المضمون المركب الذي تكون ثقافياً عبر ممارسات سحيقةٍ لدى البشر، ولا ندري كيف تكونت العلاقة الخفية بين الأحذية والاحتقار تحديداً. والميل إلى تفسير ذلك فيما يبدو أنه أمر مرتبط بتعاليم الأديان وما ترتب عليها من طقوس وتبعات ثقافية. وصادف ذلك تاريخياً انقسام الإنسان على نفسه ما بين الأعلى والأدنى واستعمال هذا الانقسام في إدارة دفة الصراع وعلاقات القوى في المجتمعات.
يقول أحد قصاصي الأثر في الثقافة العربية ابو الطيب المتنبي: " وإغتفارٌ لو غيّر السخطُ منه ... جُعلت هامهم نعال النعال". وهنا نلاحظ بصمة الثقافة العربية واضحة في زحزحة المتنبي ( لدلالة الهامة ) من العلو والرفعة والفخر إلى مرتبة نعال النعال. فإي مكانة محقّرة - تحت عين التاريخ - هذه التي سيصل إليها الأعداء؟! فلو كف الناسُ (المخاطبون) عن طلب الغفران من الخصوم في واقع قبلي متغلغل، لجعلوا هامات خصومهم بمثابة النعال. وهو معنى يرتكن إلى الاستنفار لا إلى القبول، إلى الغلبة لا إلى الوسْع. لأنَّ السخط اعلان للنفرة والافصاح عن الغضب.
والمتنبي يُلقي كلمة" هاماتهم " تعبيراً عن رؤوس الخصوم، كأنّه يلقي أحجاراً مهملة. لقد نزع منها التميُز ليعطيها لقمة ثقافيةً سائغة للنعال المنتظرة. وليست النعال هنا ككل النعال، فالأخيرة تحتاج إلى أقوام مميزين. والمتنبي يعد الرؤوس المهملة إلى أن تصبح تابعة لمن يحركم السخط. وليس هؤلاء الساخطون أقل من الاندفاع وراء سخطهم إلى منتهاه. ولعلَّ النعال تأتي في هذا السياق لمخاطبة غرائز القبيلة. وهي ما تترجم الخلفيات المتعلقة بالقبيلة في مظاهر الزي التي لها مردود اجتماعي وتاريخي. وسيدرك الخصوم بالقطع: ماذا يعني انتعال رؤوسهم؟ وسيدرك المجتمع: إلى أي حد سيكون العار ممتداً عندما ينتعل أحدهم رأس الآخر؟ وفوق هذا وذلك، فإن فعل اللغة الشعرية باق رغم دورات الزمان وذر التراب فوق الآثار!!
إنَّ ثنائية " النعل والهامة " تخضع لشد وجذب ثقافيين في مجتمعاتنا العربية منذ أزمنة بعيدة، وهي الثنائية التي ترسخت لدينا نحن العرب بفضل التقاليد مرةً، وبفضل القوى الاجتماعية مرة أخرى. لأنَّ شداً وجذباً من هذا الصنف يرسمان الخطوط الوهمية التي يتحرك عليها الأفراد. بحيث يمشون حفاةً دون نعال، على أنْ تكون نعالُهم المأمولة هي البُعد الحاضر الغائب في المواقف التواصلية. فلو كان أحدُهم يرتدى حذاءً ثميناً، فالأنظار تتجه إليه قصداً. وقد تكون الصور هي الحل الأمثل للتصالح مع الواقع. وتبدو الهامة يحركُها الفخر إستناداً إلى رمزية الصور تحت عناية الأنظار.
يؤكد عماد الدين الأصبهاني: " إذا حفيّت منها النعال تنعلت ... بهام عدي رضت بها أيما رض". والشاعر يعبر عن دلالةٍ تتسق مع الفخر الذي يصيب هامات قبيلة ترى في رؤوس الآخرين مجرد نعال. وكأنَّ الأقدام إذا حفيت منها لا بد ألّا تلجأ إلى النعال المعروفة لديها، ولكنه تلعب لعبة الثنائية مرة بعد مرة. أي تنتعل هامات قبيلة عدي (التعالي أمام الاحتقار)، وفوق ذلك تبدو المسألة طبيعية أو تلقائية تماماً من وجهة نظره. فالشعر يؤسطر الإحساس بإلقاءه إيقاعه السري إلى العالم والحياة. ويبدو انتعال الرؤس أمراً مفروغاً منه، إنه لعبة الاحتقار المضاعف من قبل الشاعر مع سلب الآخر جميع قواه.
لعلَّ الشعر العربي يحاول طوال تاريخه أنْ يرشق الكلمات في متن الوجود. حتى لو كانت الكلمات ذات ظلال ثقافية محض. وهي عملية تختصر العالم والحياة والإنسان فيما يوجد من أشياء ومعطيات. يشير ابن الرومي في مواقف أخرى: "جُعلتْ تلكم الخدود نعالاً ... لكُم الدهر إنْ صلحن نعالاً". فالشاعر يترك إطلالة الثقافة فاعلة إلى منتهاها، فلا فرق بين المتنبي ولا ابن الرومي ولا اختلاف بين المتقدمين ولا المتأخرين بصدد المسألة. إنه لمن دواعي التعبير عن الحب أن ينزل المتكلم إلى مستوى جعل الخدود نعالاً. وليس هذا فقط، بل سيكون الدهر هو النعل الذي يليق بالمنتعل. والإشارة السالفة ( قنطرة لغوية – ثقافية ) بين الحب والكراهية، بين الفخر والعاطفة، بين القريب والبعيد.
ذلك من واقع وجود قطبي ( الرأس والقدم ) وبدائلهما في تربة الثقافة العربية. حيث تأخذ الأطراف دلالات معلومة وواضحة للأطراف الأخرى، وتواصل المعاني لعب دور البدائل وتغطية المناطق العارية من وجودنا الرمزي. فالأفراد كي يعيشوا اتساقاً مع التاريخ، يلجأون إلى الانخراط في آثار هذه الثنائية المعمول بها. ووظيفتها هنا تقليل التصادم بين عناصر الثقافة وإشعار الأفراد بأن الأمور تسير على ما يرام من غير شيء طارئ.
والفاعل مجهول مؤقتا حتى ولو أشار إليه الشاعر، لأنَّ الجعل ستقوم به أيدي الزمن، بحكم أنه شاهد على إعطاء المكانة لأصحابها. وكما يريد الشاعر سشيترك الأمر في الأفق المطلق لا المحدود. وذلك أيضاً من واقع النزوع الأنطولوجي وراء الشعر واللغة العربية أنْ يضغم المعاني في حركة الوجود والحياة كما قلت.
يحرك الشاعر أحمد محرم مخزون تلك الذاكرة الثقافية: " وحَلَّ بحيث ينتعل الثريا ... وكان محلُه تحت النعال". فهذا الإنسان الذي كان شيئاً محقرّاً بات ينتعل النجوم من المكانة والمرتبة. وهو ما يستدعي العجب والدهشة في مقام رفعة المآل بعد تدنى الأحوال. وحدها بعض الثقافات قد تتقلب كالعواصف بين ليلةٍ وضُحاها رافعة هذا الشخص دون ذاك أو قد تنال من هذا الشخص بخلاف سواه في دورات التاريخ. وكلام الشاعر يفتح المجال لتأويل النعال ما بين المكانة التي لم تكن، ثم كيف أخذ الإنسان المكانة التي ستكون بين الناس. ولم يُشر الشاعر إلاّ بطرفٍ خفي للمسألة، وقدم معنى حلول الشخص ذاهباً به إلى عنان السماء بعدما كانت مكانته تقع حذو النعال.
يوثق ابن الرومي تلك الفاصلة: " إذا النعل شَّمتْ في المجالس مرةً ... فإن له نعلاً تشمُ وتلثم ". والتوثيق يبدأ من تطهير دلالة النعل من بقاياها الإنسانية، فنعل هذا المتكلم عنه مصدر الفخار، الفخار الذي يجيىء من كيان الشخص. فلئن كانت النعال ذات شأن في المجالس، فنعل الإنسان صاحب المكانة أولى بالشم والتقبيل. والوحدة تبدو نوعاً من الاتصال بين الرأس والقدم. فإذا كان القدم أثراً على أديم الأرض، فالرأس هي أثر على أديم الثقافة. ويلتقي الأثران عند مكانة الإنسان التي تتوثق لدى المجتمع. فالأشخاص الملهمُون وأصحاب دلالة الإنسان بفحوى الكلمة هم من يستحقون تمازج الأثرين في بوتقةٍ واحدةٍ لا انفصام بينهما.
يوضح ابن الرومي جوهر ثقافة الفخر في التراث العريي، وكيف تطهر رمزاً معيناً وبأي منطق تستعمله؟ فالأساس كما نقول دائما هو نظرة الناس إلى هذه النعال. فلو كانت محل تقدير، فستكون كذلك فيما بينهم وستفقد رصيدها السلبي. وليس أقل من أن يتحول الرمز إلى شيء آخر. وهنا يكمن قانون المجتمعات الذي يعطي أشياء معينة دلالتها متجنباً دلالة أخرى. هي عملية تطهير ثقافي تخلي الدلالة السبلبية وتعيد إدماجها. وهذا ما يثبت كون معاني النعال متواضعاً عليها وبالامكان تغييرها إذا لزم الأمر.
دليل ذلك أنَّ البحترى قد غيّر نوعية النعال حين يتكلم عن الخيول: فمرةً باللُجين تنعُلها ... ومرةً بالدماء تنتعل". فهو يشير إلى الخيول التي يوضع اللجين كنعل لها، حيث يتميز بالبريق واللمعان مما يكفي للفت عيون الناظرين. والبحتري يتكلم عن المظهر الثقافي الذي يحدد مكانة الخيول نتيجة معاني الفروسية والشجاعة والإقدام. ولكن هذه المعاني لا تنفصل عن قوة خوض غمار الحروب واشتداد أوارها. إذ تقدر الخيول على انتعال الدماء نتيجة الايغال في ساحة الإعداء والخصوم. وبذلك يثير البحترى ( غبار ) مفردة النعل في تراثنا بين الزينة والحرب. أي أنها تلتمع بقوة لافتة عاكسةً رغد العيش واستعمالها لأغراض خاصة. وبجانب ذلك تحسم النعال المعارك، فالدماء ليست دماء ( فارسي الخيول) بالطبع، ولكنها دماء الأعداء. وتتأطر الصورة، إذا برز البيتان الشعريان اللذان يلاصقان البيت السلبق وهما:
لابد للخيل أن تجول بنا ... والخيل أرحامنا التي نصل
فمرة باللجين تنعلها ... ومرة بالدماء تنتعل
الموت تحت رايتنا ... تُطفأ نيرانه وتشتعل
يتضح من ذلك كون النعال، عملية التنعل كاشفة لاستعمال النعل بحسب المتاح ثقافياً، وبإمكان الألفاظ أن تفتح باباً لبنية الذهنية التي ترفل مرةً في الزينة ومظاهر الترف ومرة أخرى في مظاهر الصراع. والأهم أنَّ الجانبين ( الزينة – الصراع) لا ينفصلان، لأن انتعال الخيول يلبي غريزتين لدى نظام ثقافتنا الواحد (الرأس والقدم). هما شكلان لجوهر واحد ليس إلاّ. وهي المراوحة بين انطفاء النيران واشتعالها استناداً إلى الموت. والموت واحد بالأصالة مثلما يكون الانتعال متنوعاً في أشكاله المختلفة لمرجعيات الثقافة.
*****
(4)
شيءٌ من المُفارقة أنَّ بعض( الأحداث الجسام ) تليقُ بالنعال لا العكس، فالأخيرة عناصر أساسية لوجودنا لا مجرد أشياء هامشيةٍ. يقع النعل في المركز مما عساه أن يجري عبر الزمان والمكان. ومع حياتنا المشتركة بين البشر، يُوجد في الواقع صورة ونمط لحذاءٍ ما. إنه الدليل الذي يقودنا إلى الإنسان بإختلاف هوياته. لكن أمراً كهذا يدفعنا إلى التعرُف فلسفياً على النعل، على الحذاء بصورةٍ مختلفة. السؤال المنطقي عندئذ: أهو وسيط بين جسمنا وجسم الأرض؟ هل يعد النعل تكملة لوجودنا؟ هل يأخذ معانيه من استعمالات خاصة بنا؟ هل يمثل النعل أثراً آخر فيما هو جمعي عام؟
لن تجدى الإجابات الخاطفة على تلك الأسئلة. لكونها استفهامات تمس وجودنا الإنساني في الصميم. وكذلك لن تكون ثمة إجابات مُريحة للوهلة الأولى. فالحذاء كموضوع لا يتم تخليصة من أنياب متغيرات كثيرة ... مثل الاقتصاد والسياسة والأخلاق والمعرفة والتقاليد وصور الناس عن بعضهم البعض. كما أنه يفرض علينا( قراءة فلسفيةً مغايرةً ) ليست أقل. وهو ما يطرح فكرة طريفة أن الحذاء يضع وجودنا إزاء تاريخه الطويل. ويفتح مجالاً لقول الأشياء التي نتعامل معها بالأقدام بصورة واعيةٍ. لأنَّ تعاملاً بالأقدام يستدعى مفردةَ الحذاء ضمناً أو صراحة. فليس ممكناً المشي أو الركل أو الاحتكاك أو التعثر دون غطاء الأرجل. إن فهم عالم الإنسان يقتضي فهم الأشياء الدقيقة التي تنتمي إليه. ولا يوجد لدينا نحن البشر ما هو تافه على الإطلاق. التافه أكثر أهمية أحياناً من سواه!!
انفصال واتصال
من غير ارتداء الأحذية، سيشعر الإنسان بالعُري. احتكاك لحم الكائن الحي مع الأرض مباشرة. أي غرس أقدامنا عاريةً بالتراب، بالطين، بالحصى، بالرمال. وذلك التتابع بين مستويات الأرض توصله جلودُنا للعقول من خلال باطن الأقدام. فالاقدام ليست بعيدةً عن كيان الإنسان، لأنَّها حاملة للقوام والحركة وتمثل أداة التوازن للهامة. ويصعب أنْ تنفصل الأقدام عن جهازنا البيولوجي العام، لكونها جزءاً من جسمنا، وتجسد كافة السمات التي تميز الإنسان.
تعبر كلمات النعال عن البدائل لشيءٍ ما في وجودنا: فالحذاء هو الخُف، هو المركوب، هو السوقاء، هو البُلغة، هو المُوق، هو القبقاب، هو الجزمة، هو المداس، هو الهنكارة، هو الصندل، هو البُوت، هو الشبشب، هو السباط، هو السندرة، هو الصندل، هو الكندرة، هو الصرماية لدى المشارقة، هو الريحية، هو الشربيل الفاسي المشغول بخيوط الحرير المذهبة للنساء لدى المغاربة. والكلمة الفارسية ( سرموزة ) كلمة تحدد دلالة الحذاء في الجماعات الناطقة بالفارسية. ويبدو أنه قد أخذت منها لفظة شرموطة لتكرار وطء الحذاء، وكانت الكلمة بمثابة (وصمة اجتماعية ) لنوع من أفعال النساء. وتلك الكلمات معبرة عن الاستعارات التي تأخذها النعال ثقافياً. فالمعاني تتبادل المواقع بين وصفٍ وآخر لتقدم لنا ما يعجز التعبير عنه لأسباب خاصةٍ.
الحذاء - على سبيل المعنى- كلمة آتية من حذو الشيء للشيء، أي رداء يجعل أقدام الإنسان حذو الأشياء أو أنها ستسير بحذو الأرض دون تعثر. وكأن الإنسان سيكون لصيقاً بعالمه وأنه كائن من ضمن الكائنات المتواجدة معه. والمركوب إشارة إلى ما يلبس كأنَّه يقل الإنسان إلى حيث يريد. وينطبق المركوب على الأشياء الكبيرة كالسيارات والطائرات والحيوانات التي تقل البشر. فهي تقلُنا ركوباً داخلها وقد استطاع الشخص التنقل والترحال.
البُلغة هي ما تبلغ الإنسان نقطةً معينةً تجاه ما يذهب إليه. وهي مرتبطة بالابلاغ من.. إلى. فبلغ الشخص مكاناً معيناً، يعني أنّه قد ذهب إليه قصداً. والواقي الذي يغطي أقدامه يُسمى بُلغةً. ومازالت البُلغة ذات شكلٍّ خاص في بعض الأرياف المصرية. فهي حذاء بسيط وغير معقد ويشعر الشخص معه بالإرتياح، عندما يلبسه وعندما يسير بهدوء وسكينة. والبلغة سهلة الخلع واللبس مباشرة. وقد يشعر الإنسان بالأرض شعوراً هيناً حينما يضعها في قدميه. كما أنها في الثقافة رمز للضرب وأداة للتأديب والتقليل من شأن الآخرين عند استخدامها.
ورغم تنوع المفردات الدالة على الحذاء إلاَّ أن المعنى واحد: غطاء يختص بوقاية الأقدام. الحذاء بعض من وجودنا الحائل دون التلامس بما هو صلب أو هش. الحُفاة هم من لا يرون هناك وسيطاً بينهم والأرض. لدرجة أنَّ المُباشرة المادية بين جسمين لون من الإلتصاق بالأصل، بالعمق. جسم الأرض وجسم الإنسان، وليس هناك إحساس يعادل شعور الإنسان بالتراب. وكأن أقدام الإنسان ترسمُ آثاراً باقية في عقله بصورة فورية. لأن الأقدام مركز التوازن البيولوجي وتشكل علاقة حيوية مع المكان الذي نتواجد فيه.
عن طريق الحذاء، أراد الإنسان القول إنّ هناك ( اتصالاً وانفصالاً ) بينه والعالم في الوقت نفسه. أي علاقة منطقية قائمة على بناء الثقافة. لأنَّ الأحذبة صناعة ثقافية بالدرجة الأولى. لو أردنا أنْ نلخص تاريخ الحذاء، فلابد من اختصاره في تاريخ الثقافة. تراث الانفصال الإنساني عن عناصر العالم. الشكل والوظيفة والماهية والتغيرات والترقيع والاصلاح .. جميعها تخضع لأساليب الثقافة. ومنذ بدأ الإنسان انفصالاً عن جسم الطبيعية، استطاع أن يصنع شيئاً رمزياً آخر. وهذا هو سبب أنَّ الأحذية تكتسب أهميتها الحياتية والقيمية في كافة المجتمعات. الأقدام مواد متاحة ضمن خريطة الجسم الإنساني. فهي مصممة بيولوجياً كأنها واقفة أو ملتصقة بالأرض. لكن البشر أرادوا تاريخياً انتزاع انفسهم من الإلتصاق بالأشياء. حيث سادت فكرة أن الابتعاد عن مادة الطبيعة قدرة بشرية على الاستقلال وبناء هويةٍ خاصة بنا.
ما الذي يعنيه الإنفصال الذي تسببه النعال؟ يعنى أنَّ هناك وعياً بحركة الإنسان أيا كانت. الوعي يقول إن الأرض أرض والإنسان إنسان، وإنه ليوجد مسافة يترقب فيها البشر قدرتهم على الاختلاف. في المسافة الجلدية ( الحذاء ) بين الأقدام والتراب، تكمن تصورات التوازن والتعالي والأسبقية وصناعة الأدوات. وربما هذا الذي جعل المجتمعات تتفنن في تشكيل الأحذية بأشكال وأنماط غريبة وعجائبية. وكانت محطَّ عناية البشر بتباين الأماكن والأزمنة.
تكملةٌ وعُري
يكمل الحذاء جسم الإنسان. على الرغم من أنَّ الأصل في الإنسان شعوره بالإكتفاء والاستقلال. عدم وجود الحذاء يسبب نقصاً بطريقة أو أخرى. وليس ذلك أمراً جوهرياً في ذاته، لأنَّ الجوهر هو سير الإنسان حُراً من أية تكملة. وكانت بدايات البشر كونهم ( حفاةً عراةً ) إلاَّ من بعض ما يغطي عوراتهم. إنَّ الحفاء كان تعبيراً عن الاكتمال بالطبيعة أو أنَّ الانسان البدائي كان يجد اتصالاً مع مواد وأشياء العالم مباشرةً. أي التلامس الحسي الذي يجعل الإنسان كائنا حيّاً على الأصالة. ويدمج وجوده الآدمي مع الكائنات الأخرى دون مباعدةٍ. فالانطلاق هو الخلفية التي تعطي الإنسان وجوده، والحذاء في عصور غابرة كان عائقاً عن ذلك. وبلاريب فقد مر البشر بأزمنة طويلة حتى يعتادوا على لبس الأحذية.
وبخاصة أن الأساس لدينا نحن البشر هذا الإندماج، حتى ولو جاء متأخراً. فنحن على الشواطئ وعلى الصخور و وسط الغابات وفي عمق الحقول، نريد من حين لآخر خلع نعالنا كي نحس بوجود الأرض، وهو الإساس الأم الذي يستغرقنا طوال الحياة في ممارسات كثيرة. ولم يملك الفرد إلاَّ التشوف إليه. يا لهذا الاحساس المتفرد لنا نحن البشر وسط الطبيعة!! فهو ليس لمساً عادياً ولا مجاورةً ولا تسانداً خارجياً بين كائن حي اسمه الانسان والطبيعة الأم، لكنه الشعور الماهوي داخل حضنها الكبير بأنك كما أنت. إحساس يلتقي داخل أعماقنا وأعماق الحياة بالتوازي. هو احساس الحياة بنفسها من خلالنا. وهو التزامن الحي الحميم، على الرغم من كونّه يعود بنا إلى عصر ما قبل الحذاء.
الحذاء تنبيه دائم بهذه الطفرة التي حدثت للأقدام. هل يؤدي ذلك إلى إخفاء الجانب اللمسي للأقدام؟ بالطبع لا.. فالأقدام لا تقل أهمية عن الرأس مهما لاقت من دونية، كما أنها ترنو إلى التجوال عارية. وما التنوع المذهل في موديلات الأحذية إلاَّ اخفاء لهذا الحنين البيولوجي القابع في جوانج البشر. لأن الثقافة– مع امتدادها التاريخي- تمثل استجابة لحنين الإنسان وبدائل له بالوقت نفسه. وكلما كانت مشاعر الحنين غائرةً، كانت البدائل وافرة التجدد والتعقيد. فلو شعر الإنسان بأي حنين، ستقفز الثقافة لإحتوائه صانعة له ما يشغله طوال الوقت. من ثمَّ استطاع البشر بهذا المنطق بناء وجودهم الاجتماعي.
ومن يفهم لعبة المجتمعات البشرية إزاء بناء حياتها الخاصة، سيكتشف قدرتنا على الموازاة السحيقة بين الحذاء والمجتمع. الاثنان ممكنان في التاريخ من حيث أنهما من جنس المهارة الثقافية للبشرية. فالمجتمع يغطي الأفراد بكمٍ من الأغطية الإجتماعية والوجودية، ولا يترك لهم فرصة للتعري إزاء غوائل الآخرين أو غوائل الطبيعة. والحذاء يغطي الأقدام بشكل رمزي ويحُول دون العُري الذي يُدمي الأقدام. وبخاصة مع انهماك الأفراد في الأعمال الشاقة والرحلات الطويلة والذهاب والإياب بين الأماكن.
فلم يعد إنساننا المعاصر كائناً يذهبُ إلى الغابة لجلب الثمار وتسلق الأشجار وقنص الحيوانات للطعام. لكنه- من جانبٍ آخر- لم يكف عن الذهاب داخل أخيلة الآخرين، سواء أكان بواسطة عمل بارز أم إنجاز لافت. فجاءت الأحذية الراهنة بمثابة الغلالة التي تُغطي الأقدام، وكذلك تعطيه إشارة مرور وسط الغابات الثقافية والرمزية المتشابكة.
تلعب الثقافة الإنسانية لعبتها الإستعارية في تغذية المجتمع والحذاء برغباتٍ يتعلق بها الإنسان كتعلق الغريق بقشةٍ للنجاة. فيقال إن الحذاء هو المفتاح لشخصية الإنسان، بحكم كونه محطّاً للذوق الجمالي واتساق الشكل والألوان وطريقة المشي والحركة. تماماً مثلما يُقال إن المجتمع مُتقدم ويعطي مساحة لحرية الأفراد. الاستعارات واحدة ويتسلق الأفراد عليها بلوغاً إلى اهدافهم. ففي المناسباب المهمة- اجتماعياً بالأساس- يحرص الأفرادُ على ارتداء أفخم الأحذية واعطائها مساحة من الظهور الجذّاب.
*****
(5)-
مع ألوان وزركشات الأحذية يُمكننا قراءةَ الكثير والكثير من الخلفياتِ. الحذاءُ هو المادة الثقافية المتأخرة لعلاقات االقوى بين الناس. ويمكننا تصنيفه( أي الحذاء) داخل البنية التحتية لحركة الإنسان. لأنّه يندرج مع قدرات( الفعل والتأثير ) بحكم وجوده عبر الانشطة المختلفة. فلكي نبدأ في الحركة والانطلاق، يجب التأكد من إرتداء الحذاء كأحد متطلبات العمل.
كما أنَّ مظهراً معيناً لأي حذاء إنما ينمُ عن معانٍ خارج سياقه. كأنَّه يحمل بصمات وجودنا الإنساني في لحظةٍ مكثفةٍ من الحركة السائلة. ومن ثمَّ، عندما نريد أنْ نفهم المعنى البعيد للأشياء، ينبغي الانهماك في فهم المعنى القريب جداً. وليس ألصق بأقدامنا- على وتر حسّاس مع اعصابنا- من الأحذية. والوتر الحساس لأجسامنا يتشكل بكل الجلود المحيطة ثقافياً واجتماعياً.
جسم الإنسان مغلَّف بنوعين من الجلود:
خلال هذا السياق أو ذاك من حياة الإنسان، توازي دلالة النعل أية أشياء أخرى طالما لا يصح وجودها في مقام التقديس. فالشيء غير المقدس مرةً يساوى جميع الأشياء غير المقدسة في كل المرات. وليست المساواة حسابية بلغة الرياضيات، ولكنها أمرٌ وارد منطقياً بالنسبة لتجارب الإنسان مع التقديس والايمان. إذْ هي تجارب علو وتجاوز، بحكم كونّها ليست من جنس التجارب العادية. وبخاصة أنَّ مصدر التقديس( وهو الله ) قد ذَكرَ ذلك مباشرةً: ( اخْلع نعليك ). أي أنَّ نعلاً مُدنساً قد يُوازي بعض الملابس غير المقدسةِ، وقد يوازي مساحةَ أرض غير مقدسة، وقد يوازي غطاء رأس مدنس، وقد يوازي قدماً بوضعها التشريحي في الأسفل. ذلك لأنَّ المتعلقات( الأحوال ) التي تتضاد مع الحضور المتعال أشياءٌ هامشية، وتُلحق بصاحبها بعض الدلالات غير المقبولةِ.
إنَّ الطابع المشترك بين هذه المفردات السابقة والنعل هو الإحساس. لأن النعل أحد مظاهر الحس التكميلي supplementary sense، فهو ملحق بأقدامنا ومكمل لوجودنا، نتيجة تجارب المشي والسير والحركة التي نقوم بها. ولكن: لماذا لا تصح الأشياء السابقة في حال التقديس؟! لأنَّ النعل هو ما ينتعله الفرد، وهو ما يتخذه مطيةً لشيءٍ سواه. أي ليس النعل شيئاً أصيلاً لدى الإنسان ولن يكون. فهو بالنسبة إلينا شيءٌ عرضيُ( الإرتداء ) وعرضيُ ( الخلع ) بالوقت نفسه. وما ينطبق على النعل سينطبق على وضع اليد ( اللمس) أو القدم ( المشي) أو العين ( الرؤية) كآلة للإحساس. فعندما تكون الأشياء وسائل لا غايات، وعندما تكون الأشياء غيرَ جوهريةٍ، لن تنال قدراً كبيراً من الوجود في ذاته.
ربما وحدُها آلات الإحساس في تاريخ البشر كانت محل ارتياب تجاه المقدس. مثل أدوات اللمس والشم والتذوق والحركة والرؤية ... فهذه تقوم بعمليات بشرية ليست واردة ضمن دائرة التقديس. ولا تتم بالإيقاع الموضوعي ذاته الذي يجري في حياتنا تجاه الأشياء المألوفة. على الأقل تقف آلات الإحساس عند مرحلة معينةٍ لا تتعداها، ذلك من باب استغلاق دلالة المقدس بما يفيده من غموضٍ وخفاءٍ، وما ينطوي عليه من أسرارٍ وإلغاز. ونتيجة أنَّ المقدس قابع في المنطقة اللاواعية من وجودنا، فهو لا يدخل إحساسنا الغُفل ولا يقفز داخل معرفتنا الواضحة بسهولة.
على سبيل المثال لا يمكننا بلوغ حقيقة المقدّس بواسطة الإدراك الحسي. كما أن الأخير مصدر تشوش واضطرات تجاه امتناع الماوراء أمام عقولنا وعجز التطلع إليه مثلما نتطلع إلى الأشياء الأخرى. والإحساس في ذاته يُعلن قصور الإنسان، طالما لم يتمكن من تحقيق تصوراته القصوى ولا ماذا يريد. حتى أنَّ كل معرفة بإمكان الإحساس تحقيقها تحتاجُ إلى درجاتٍ أخرى من الإدراك. ودوماً الدرجات الأخرى من المعرفة خارج إمكانية الإحساس، حيث لا يتمكن من بلوغها بطبيعته غير المناسبة للتقديس.
المفارقة أنَّ المعرفة الناتجة عن الحس تبرهن على فشل الحس في بلوغ المعرفة الحقيقية. ولذلك كانت دلالة الآية السابقة دافعةً بمعنى النعال إلى درجة القابلية للتأويل. فالمقدس يحدد ما نمتلكه نحن البشر بصورة مجازية، لأن ما نقول عنه كمعرفة حيال وجوده المتعال سيكون مصيره في النهاية أشباحاً أو استعارات. بالفعل الإنسان يمتلك أشباحاً معرفية وإستعارات لبناء حياته حول المقدس.
ربما ذلك هو علة أن الله - في الآية- يعبر عن ذاته مباشرة بالضمير( إني )، في إشارةٍ إلى وجوده المتعال قصداً وحضوراً. والقصد هو العلاقة التي تدل على التواجد الفريد غير القابل للتكرار. وكل تواجُد لون من الحضور على خلفية الأصل الذي يجب العمل به. ولذلك ثنى الله (أني ) بضمير المتكلم ( أنا )، أي أنت في معية الرب ( ربُك ). وكأنَّ الكلام يغلقُ كل المنافذ وأربعة أركان: الوجود والتعالي والحضور والمعنى عن دلالة السياق. إذ طالما كان موسي في معية الرب، فلا مجال لغير المقدس.
وبناءً عليه سيكون النعل مفتاحاً لما هو خارج السياق بشكل مجازي. والمجازي يعني قدرتنا نحن البشر على عملية الاستحضار لكائنات العالم، سواء أكانت استعارة أم خيالاً أم فكراً. وهو ما يجعل النعل معنى غير مباشر يجوز تأويله وإدخاله في نصوص ووجود الناس غير المقدسين بالتبعية. وحرصت الآية بهذا التمايز على مخاطبة موسى بالضمير (أنت). أي أن هناك: ( إني أنا ) وهناك ( إنك أنت ). ومتى وجد الأنا والأنت في دلالة الحضور المقدس وغير المقدس، فهناك التواجد من قبيل التأويل معرفةً وفهماً.
ومن ثمَّ، فإن كلمة النعال- على خلفية المعنى- تمارس ( دور البديل ) الذي يقبل وجهي ( الأخذ والترك ) لمتعلقات الإنسان الأخرى. فالأشياء إذا كانت قابلة للتبديل، فهي تنتمي إلى دائرة من تلك الدوائر. إذن كل تقديس هو في الحقيقة ( موقع تبديل ) للأشياء دون حدود. نظراً لعدم قدرتنا نحن الكائنات البشرية على ملئه. فهو متعالٍّ بطبعه وهو غير قابل للتحديد، كما أننا لا نمتلك له كياناً واضحاً. وبالتالي لا يكف الإنسان عن محاولات مواكبته والتطلع نحوه، ولكنه يظل يجرب البدائل تلو الأخرى لهذا الغرض دون جدوى. وإخلع تعني اترك وإلقِ شيئاً دخيلاً على كيانك عند حضور المقدس رغم عدم محدوديته. ونظراً لأن الإنسان لا يفهم إلاَّ بهذا الشكل الوجودي في لغة الآدميين، فالآية كانت أمراً لنبي الله موسى في الحقيقة.
لكن فعل ( إخْلع ) بمثابة الفعل الذي يوازي مجازية الوجود. وهذا هو موطئ التأويل فيه. الخلع هو لون من صرف الأشياء بعيداً حتى تغيب، حتى تبتعد. ولكي تكون غير مرئية وملقاة جانباً، علينا الاحتفاظ بصورتها دون كيانها الفعلي. فالتأويل أحد أشكال الغياب الحقيقي مع الحضور المجازي. أي أنني كذات إنساني ليس حاضراً على نحو كلي. وحتى عند الاعتراف بوجودي، فإنني أيضاً كيان مؤول بالنسبة للإله. فمن أكون أنا مقارنة به على صعيد ميتافيزيقي؟! لأنَّ الغياب يعني اتساع الوجود بما لا يستطيع الإنسان الحضور فيه بصورة شاملة. والحضور المجازي للإنسان واضح لكونه موجوداً مقارنة بالإله والوجود المقدس. فالإنسان غائب بالنسبة للقداسة بوصفه كائناً غير مقدس، بدليل دخول موسى بنعليه وهو لا يعلم كون النعال مدنسة. وهو كإنسان حاضر أيضاً مجازياً في حضرة المقدس الإلهي، باعتباره ليس إلهاً ولا يصح مقارنته بالإله.
وحضور الإنسان في الأديان لابد أنْ يكون حضوراً مجازياً تجاه المقدس. إنه يجسد إشكالية التواجد بحسب المواقع التي يندرج فيها وليس مساراً للوجود على الأصالة. فالإنسان يأخذ ( جانبه المؤول interpreted side ) من المقدس طالما يحضر في ساحة الميتافيزيقا. وبالتالي سيكون على الإنسان أن يحذر من جميع متعلقاته الهامشية كذلك. لأنَّه ما لم يأخذ التقديس بعين الاعتبار والعناية، فلن يكون كيانه إلاَّ غياباً لا قيمة له. فالقيمة الوجودية بهذا الشكل تأتي من قدرتنا نحن البشر على التقديس. ولكن: ماذا لو كان ما ننتعله غير مناسبٍ لذلك الوضع؟ هل الكينونة التي نمتلكها تأتي خالصة دون شوائب؟ ماذا يعني أن النعال قابلة للتبديل (الخلع والارتداء)؟ هل كل قداسة تحتاج إلى خلع شيءٍ ما ؟!!
إن إيراد الآية القرآنية كاملة يضعنا أمام معان أخرى: " فلما أتاها نُودي يا موسى إني أنا ربك، فاخلع نعليك، إنك بالوادي المقدس طوى، وأنا اخترتك، فاستمع لما يُوحى، إنني أنا الله لا إله إلاَّ أنا فاعبدني، وأقم الصلاة لذكري. إنَّ الساعة آتية أكادُ أخفيها لتُجزى كل نفس بما تسعى، فلا يصدنك عنها من لا يؤمن بها واتبع هواه فتردى " (طه 11/ 14).
النعل مادة الأرض في الإنسان، أي يتعلق بالأديم الذي خُلق منه. والأرض رمز الشهوات، رمز الغرائز، رمز الفناء الذي يطلب البشر على حافة النهاية. وعندما يتم النداء إلى موسى، فهو نداء معبر عن العلو، نداء الله الذي جعل ارتداء النعال أمراً غير لائق. كان النداء سابقاً لما ترتبت عليه من حيثيات. وكانت أولى الحيثيات( اخلع نعليك )، فلا يجب أنْ تكون متعالياً وترتدي ما يقلل من ذلك إنسانياً وفي عرف الإله. المؤشران مرتبطان ببعضهما البعض. قد يقول قائل: إذا كانت النعال متدنية الدلالة لدى البشر، فما بال الإله يأخذ بذلك؟ الإجابة بسيطة أن تجربة التقديس موضعها الإنسان. وما يعتبره الأخير مدنساً، سيكون كذلك حتى من قبل الإله. ولذلك أشارت الآية إلى الوادي المقدس، لأنه أرض مستثناة، أرض خارج التدنيس.
لماذا النعال مُحقرة إلى هذا الحد؟ ربما لكونها تلامس الأشياء والمتعلقات غير المحببة. وأنها من ثمَّ رمز التدني، والمقدس يحيل الأشياء المحقرة إلى استعارات للنجاسة والشرور وعالم الأرواح الخبيثة. والأشياء التي يشتم منها المؤمنون نجاسة لا يحبب وجودها لديهم، بل سيكون وجودها موضع احتقار وإزدراء. هذه الفكرة قديمة قدم البشرية ومراراً أكدها الوحي في الديانات التوحيدية. لأن الأشياء النجسة مثل الدم وبعض الحيوانات كانت محل مهابة بالنسبة للناس ومحل خوف وبالوقت عينة تشعرهم بالنفور. النجاسة في غابر المعتقدات لم تكن بعيدةً عن القداسة، فالأمر بين الإثنين كان شديد التجاور بالمثل. فالمقدس قديماً كان يحمل معاني الخوف والتعالي، الرعب والقرب، المحرم والمحبوب.
في الثقافة الشعبية، كانت النعال مرتبطة بالحط من قدر الأشخاص. فرفع النعال دلالة على إزدراء وإهانة تجاه البعض. وذلك من بقايا المعتقدات القديمة التي تربط النعال بالأرض في مقابل السماء. والتدني في تضاد مع العلو.
وربما من بعض تأويل كلمة النعل في الآية أنها تساوي العقل. بمعنى أنَّ التقديس يقتضي خلع العقل كذلك، لكون الأخير لن يجدي ولن يفهم ما يجري في حضور المقدس. وأن الإنسان في حضرة الإله لن يجد العقل مسعفاً ولا قادراً على استيعاب الموقف. فالعقل لدى أغلب الناس بمثابة المطية التي يمتطيها الإنسان وصولاً إلى أهدافه، العقل بالمعنى الفردي والعقل بالمعنى الجمعي الذي يعني إقامة نظام عام لأجل تماسك المجتمع. بينما العقل في أمور التقديس لا يُجدى، وربما ينفُر منه أهل الايمان باعتباره غير قادر على التجاوز إلى أكثر مما يرى النظر أو يشتم الأنف أو يحس الجلد!!
هل يمكننا القول: اخلع عقلك إنك بالوادي المقدس طوى؟! لا ريب أن العقل لن يعرف كنه المقدس، رغم أنه مسكون بالمجهول والفضول الميتافيزيقي الأصيل. لأنَّه مصدر الأسئلة، غير أنَّ الإدراك ليس يتجاوز حدود ما يعرفه. بل قد يكرر العقل ما يستطيع عمله والوصول إليه في كل مرةٍ أخرى. إن الصوفية يرفعون شعاراً مؤداه إخلع عقلك أمام ما تعرف من فتوحات. لأن العقل حجاب كثيف في مثل تلك المعرفة. وبخاصة أن المعرفة التي قد يتوصل إليها العقل لا تنفك عنه، بل قد تشكل حوله قوقعه سميكة لا يصل إليها نور ولا هواء.
إن مقولة "اخلع عقلك " تفيد اتصالاً بذلك في مواقف الحرية والإنطلاق نحو المختلف. لأن مواطن العقل تجيد المجتمعات البشرية غلقها تماماً، تغلقها بالمنطق نفسه الذي يقبله العقل لا بعيد عنه. إن كل المجتمعات المتخلّفة تسعى إلى التشبث بالعقل لأنها تسعى جاهدة للتمسك بالواقع الذي تزعم التمسك به أيضاً. فالتخلي عن التخلف عندئذ هو تخلي عن العقل. إذن ماذا سيقول الإنسان غير (إخلع عقلك) من جذوره. ولكن الخلع في هذه الحالة ليس سهلاً، لأن من أصعب الأمور أن يدرك العقل أنه قيدٌ على ذاته، رغم أن ذلك القيد كامن في بنيته كبرت أم صغرت. فهل يمكننا أن نقول( اخلع عقلك القديم ) الذي كان سبباً في تكلُس الحياة والواقع.
***
" بين القدم والرأس تجري حدود الثقافة، فالنعلُّ واقع والرأس سلطة ما... ويصحُ العكس كذلك "
" إن أدنى أهل النار عذاباً، ينتعل بنعلين من نارٍ، يغلي دماغه من حرارة نعليه ".. حديث نبوي
" وإذا أصبح المفكر بُوقاً، يستوي الفكر عندها والحذاءُ "... نزار قباني
النِعال رمز للهندام والمكانة الجارية بين الناس، تُلبس عادةً للزينة وبث الخيال لا مجرد أحذية متعلقة بالزي. وليس معقولاً أنْ يهتريء نعلٌّ دون تغييره بأفضل من سواه. كما أنَّ النعال ترتبط بالرأس ارتباطاً وثيقاً، فالشخصيات اللامعة تتغيَّ انتقاء الأحذية إلتصاقاً بأسلوب العيش. وهو ما يعكسُ نظامَ التصورات ورؤى العالم وصور العلاقات بين البشر. تبدو النعال قويةً للمشي ولامعة للغواية وتاركة للأثر رمزياً ومادياً، إنّها العلامة المجسّدة لوجودنا بشكل مختلفٍ إلى حدٍ ما. عندما يقف داخلها القدم، يشعر الإنسان بالثبات والفاعلية، وقد يشعر في المقابل بالضعف أو التأرجح أو الضعة حين لا يمتلئ ثقةً بوجودها الرمزي.
من هذا الباب، يطرح كيان" النعل" تناقضاً مع فكرة " الهامة " فوق أكتاف البشر. هذه الرأس التي تدور في الذروة لدى القوى النافذة داخل المجتمعات. أي تومئ فكرة الهامة إلى" صاحب المعالي" من البشر، صاحب ( المنصب- السلطة – المكانة – الثروة- الأيديولوجيا )، فهو شخصٌ يُمارس استعلاءً ورفعةً وهيمنةً وسلطةً إزاء الأخرين. يعبر القرآن عن ذلك المستوى في كلمة "هامان" على خلفية التحدث عن فرعون وجنوده.
وتتضح الرأسُ قصداً لدى" هامان" وتتضح تباعاً المكانة التي أخذها في ظل الفرعون، وبخاصة عندما حرص القرآن على ذكر هامان مع سياق الفرعون. وليس ثمة "صاحب معال" لا يستدعي حد الأدنى تجاه الأعلى ضمنياً. إذْ تظل العلاقة كـ" أوتار ثقافيةٍ " مشدودةٍ بين الطرفين، وقد استحضرت تراث المجتمعات وتحولاتها.
هي إذن ثنائية ( الرأس والقدم/ الهامة والحذاء ) المتغلغلة في تاريخ مجتمعاتنا الإنسانية، حيث يعبر النعل عن تدني الشأن، انحدار المكانة، الانحطاط، بينما الرأس هي الرأس المدبر، الرأس المفكر، الرأس المؤدلج، الرأس المقدس. الرأس كمركز لشخص متعال ينظر إلى الناس شذراً وبلا مسافة ممكنة. والصلة بينهما عملية إشكالية تجر معاني وقضايا طريفة حول الإنسان والواقع والتاريخ. والنعل والرأس( ارشيفان) ضمن متون الذاكرة الثقافية التي لا تنسى.
أرشيف النعال عادةً هو الصندوق الأسود لثقافة لجارية بعمق التاريخ محتفظاً بكافة ممارسات الحياة وأشكالها. حتى في اللهجة الدراجة، يقول الإنسان خلال بعض المواقف: لا أعرفُ راسي من رجلي، وذلك عندما يعيش حالة من الفوضى والاضطراب. وتجاه درجة التشبع من أوضاع معينة، يُقال بالمثل: لقد انغمس فلانٌ في كذا وكذا من راسه إلى ساسه. أو بصيغةٍ أخرى، تشبع – في هكذا مرحلة - من رأسّه إلى أخمُص قدميه!!
أشار القرآن إلى النعال كرمز للتدنيس( عدم الاستحباب) ( فاخلعْ نعليك إنك بالوداي المقدس طوى) " طه "12. والقرآن يخاطب النبي موسى في مقام التبجيل والامتثال، أي في مقام الحضور والمعيَّة لا الانفراد بالذات عبر مكانٍ ما، وأنَّه لا ينبغي أنْ يكون هناك رمز مُدنّس. وبهذا يشجب القرآن الثقافة التي درجت على جعل النعل ملبُوساً لأغراض أقل مما ترتفع بالهامةِ إلى أعلى. فلئن كانت السماءُ هي رمز الطهرانية والنقاء والخلوص والعلو، فالأرض تعكسُ ظلالاً قاتمةً يجب أنْ تكون آثارها كذلك. والنعل حين يرتبط بهكذا معنى، سيُقلل من التعالي المفترض.
خلع النعال هو الاجراء العملي السريع دون تفكير طالما صادر من مصدر أعلى، حيث كان موسى بالوادي المقدس، أرض سيناء. ويحتمل الخلع الإلقاء جانباً لكل نعل من شأنه ألّا يليق بالإنسان هاهنا. فلا تجتمع ( القداسة والنجاسة ) في مكان واحد، وبخاصة أنها حالة واضحة تحت عين الإله. وتظهر هذه الفكرة في الضمير العائد على موسى ( إنك )، وهو معبر عن الاشارة إلى احتمال عدم المعرفة. أي عدم معرفة موسى بالمكان المقدس الذي يوجد فيه. ولكن عدم معرفة موسى وضعف إدراكه لهكذا معنى، لا يعني ترك الأمر للمصادفة. ومن ثمَّ كان حرص القرآن على التعبير بخلع النعال عن دلالة التقديس. وهو معنى خفيف الوقْع بدلاً من استعمال ألفاظ نقيضة تخص النجاسة أو المغايرة. وسبق القرآن أمر خلع النعلين بأن ذكر الذات الإلهية: " إنّي أنا ربك فاخلع نعليك إنك بالوادي المقدس طوى". وقيل إن الرب أمره بذلك، لأن نعليه كانا مصنوعين من جلد حمار ميت. وهو تقليل آخر من شأن النعلين.
أولاً: دلالة النعال مدنّسة في وضعٍ خاصٍ عليه أنْ يكون وضعاً مقدّساً. وخلع النعلين إشارة إلى تعالٍّ من نوع إلهي ما. فالنعلان يرمزان إلى تدني خارج السياق، فلا يليق دخول موقع له سمات نوعية بهذا الشكل، وأنهما لا يستقيمان مع ميتافيزيقا المكان. والأديان التوحيدية لها توقيف متعال للأماكن والأشخاص والأفكار والأشياء عن طريق المواقع المقدسة التي يحظر فيها لبس النعال.
ثانياً: لا تُخلع النعال إلاّ لأمر جلل يستحقُ التوقف عنده. والتوقف هو قدرتنا نحن البشر على الإستثناء. فليس نخلع - في كل الأحوال العادية- نعالاً غير مقدسةٍ. وهذا فحواه أنَّ الاستثناء يجب أنْ يقابلة استثناءٌ بالمثل. وجاء نص القرآن بصيغة الأمر بلا نقاش ( اخلع نعليك ). لأن المقدس ليس مصدره الفعل بل مصدره صاحب الأمر وبالتالي قد تخفى معانيه وتبعاته غير المباشرة على الإنسان.
ثالثاً: ربما تُخلع النعال من أجل رأس تستحق ضرباً مبرحاً بها. وهذه ظاهرة مرتبطة بتحولات ثقافية متأخرة من جهة ( الانتعال مصادفة ) إلى ( خلع الانتعال عن قصد) انتظاراً لمواقف يتم استعمال النعال فيها. فالنعل غدا ( وسيلةً ما بعد حداثية post modern instrument ) للحط من قدر المضروب به. كما أنه خضع لتسييسٍ ما، عندما يُستعمل فعلياً في استهداف هامة أحدهم ضمن مواقع مرموقة.
رابعاً: هناك مماثلة طريفة بين النعل وصاحب المعالي، فصاحب المعالي يستعمل المنصب الذي ينزرع فيه كالنعل الذي يرتديه الإنسان. فالمنصب يقي الشخص من هجير المجتمعات المتخلفة، ويحمي صاحبه من غوائل الأحوال ويكون شوكه في حلق الخصوم. تماماً مثل النعال التي تصبح رمزاً لضرب الآخرين والتقليل من شأنهم.
خامساً: ارتداد معنى المنصب إلى وحدة دلالة المعالي مع درجة التصرفات والسلوكيات العامة. فلئن كان أصحاب المعالي يحتذون السلطة تجاه الجماهير، فلا يليق بهم إلا الأحذية. فالحذاء يقابل الحذاء لا أقل من ذلك. ولعلَّ هذا ما جعل الأحذية الطائرة في وجوه بعض الساسة أمراً مفسراً في دلالة الضرب بالحذاء لكل صاحب سلطةٍ غير قادر أنْ يكون إنساناً بملء الكلمة.
وبالرجوع إلى التاريخ، تعكس المشائية دلالة الانتعال فلسفياً منذ قدماء اليونان. وصحيح كانت هناك شخصيات تنتعل أحذية وتلبس واقياً للارجل عند الفراعنة، حيث ظهرت النعال بأشكال مختلفة ومزركشة ولاقت مشاهد رائعة لدى الملوك والكهنة والشخصيات المهمة وكانت تُحفظ بأشكالها القشيبة ضمن متعلقات المومياء - أثناء الدفن والتحنيط - ايذانا بالحياة بعد الموت، ولكنها لم تكن نعالاً قادرة على التواجد فكرياً على صعيد نسقي. فالنعال قشيبة في حضرة الملوك الفراعنة وكانت أحذية الملك توضع في مقدمة رؤوس الأعداء الذين ينال منهم الفرعون صاحب القداسة.
وطالما كانت هناك خيوط من الصراع والحروب، فسرعان ما تراجعت طرافة المعاني وباتت تحتاج إلى حفر آخر حول وجودها التاريخي. فالنعال الفرعونية كانت تنقل تراتب أصحاب السلطة وتحدد مواقع الملوك، وهو شأن دال على ( فرز لاهوتي سياسي) مازال معمولاً به حتى اللحظة. لقد جاءت النعال الفرعونية وثائق قديمة بقيت سارية طوال التاريخ وبإمكانها أن تفسر كثيراً من الأحداث والظواهر الاجتماعية. ومن الطرافة بمكان الالتفات إلى وجودها الثقافي داخل هذه العصور السحيقة من وعينا البشري.
أما فلسفة المشائية، فهي كلمة آتية من اللغة اليونانية Peripatetikos، إذ اشارت إلى اجتماع مجموعة من التلاميذ مع المعلم أرسطو للمشي والتعلم واستعراض المعارف العقلية والعلمية. والانتعال – كموضوع للتحليل- كان جزءاً من هذا الطقس الفلسفي. ثمة مشاهد كثيرة تصور هؤلاء الفلاسفة هم يسيرون منتعلين نعالاً مناسبة لتلك العملية. من هنا، ظهر مفهوم الفيلسوف المشّاءperipatetic ، هذا الرجل الذي يتخذ من رجليه وسيلة لفتح آفاق الفكر. وهو من يمشي مع اصدقاء الحكمة، أي يمشي مع الحياة مستعرضاً المعارف والمعلومات والحوارات والأسئلة. وذلك بدلاً من التأمل المنعزل في مكان مغلق خارج التاريخ.
إنَّ النعال في الفكر الفلسفي كانت مفاتيج لجغرافيا الأفكار. فالشعوب التي تجيد فنون المشي شعوبٌ تستطيع تجديد النظر إلى العالم والأشياء. إن المشي يفهمنا ضمنيا وظيفة النعال، وكم كانت هي ذات أهمية بالنسبة للإنسان المفكر على نحو من الأنحاء. وكأنَّ النعال، إذ تغطي الأرجل إنما تعطينا مستوى آخر من الوجود.
وفي حساسية اللغة العربية ما يكشف دلالة النعل: انتعل الإنسان نعلاً، أي مارس فعلاً عكس تعرية القدم، لقد لبس حذاءً للمشي والحركة. وانتعل الملابس (ارتدى ملابسه) التي كانت فارغة منه. انتعلت الأرض الأشياء، أي لبست تضاريس الأشياء ظلالها. فكما هو معروف عند منتصف النهار، ترتدي الأشياء الظلال التي توجد تحتها. وهنا تمثل اللغة مستوى من أعمق الدلالة الفورية فالارتداء هو فعل الهوية. عندما تتماثل الأشياء مع ظلالها فهذا عمل الهوية على الأصالة. فالشيء يساوي نفسه. واللغة تقف عند الدرجة الصفر للنعل باعتباره قدماً لصيقاً بالأرض. وتستقطب مفرداته كماً من السخرية والحط من شأن الناس عن طريقه. وبخاصة عندما يفرغ من قدرته على الإعلاء بنا كحذاء.
لعلنا نلاحظ أنَّ الثقافة العربية تعطي الانتعال وجوداً فورياً. فهي تربطه بالأفعال التي يراها ويمارسها الإنسان ضمن الزمان والمكان. وهناك بالطبع مستويات أخرى توضحها النعال من استخدام الإستعارات المعبرة عنها. وهنا كم من الأنماط الثقافية لفكرة النعل وكذلك الاسقاطات التي تعود إلى أعماق التاريخ والحياة. والنعال بذلك تضعنا فكرياً على حواف التطورات التي تستغرق المجتمعات وتندمج في حركة الأفكار الفلسفية من عصر إلى آخر. فإذا كانت النعال للأقدام، فهي كذلك لتغليف الصور العقلية والإعتراض ولسياسات التمرد والاختلاف ولفتح طرق جديدة للعقل وفهم التراث.
***
(2)
تحاول أغلب الثقافات- من مجتمع إلى آخر- صناعة معاني الأحذية (غطاء الأرجل) على نحوٍ أعمق، لكونها الوسيط الذي يخفف الوطء والتعثُر، وتحُول دون شعور( لحم القدم ) بعثرات الطُرق والتراب. تماماً حينما يُعبر الحذاءَ عن دلالة الرفعة والمباهاة والغلبة، فهو يقِي من وعثاء المجتمعات، ويُعطي انطباعاً معيّناً أمام الناس. والحُفاة العُراة يذهبون ثقافياً لتغطية التعري الاجتماعي بأية حمايةٍ من ظلال السلطة. ولا يجدون واقياً بجانب الاقتصاد والسياسة إلاَّ بالغرور والعلو الأجوف.
تبقى الأحذية خطاباً ضمنياً عندما توجد لمساتٌ لأقدام على رقعة المجتمع الحساسة لوقْع الناس والظواهر. فالأحذية شفافةٌ لما يرتسم على مظهرها والمسارات التي تأخذها. وليست كل النعال متساوية في إطار كهذا، طالما أنَّ الآثار التي تتركها وراءها ليست واحدةً ولا متطابقة. وهناك في أسواق النعّالين (الصُرماتية)- بلغة أهل مصر العثمانية والمملوكية- أمورٌ دالة على افتراق الطوائف والطبقات والفئات المختلفة. ففي لحظة صناعة وحياكة وترقيع النعال ما يُظهِر الخيوط الاجتماعية التي تحرك الأنامل والأقدام معاً. وبالتأكيد يعرف الصُرماتية ظروف وأحوال أهل صناعة النعال، وكذلك يعرفون نوعيات النعال تفاصيلياً، ولمن تكون والخلفيات الاجتماعية التي اتت منها.
بالتأكيد، فإنَّ النعال عبارة عن " توقيع ثقافي signature cultural " يحتاج دوماً إلى فك شفراته الملتوية. والعرب كان لديهم مواهب فذة في تتبع الأثر والفِراسة بحيث كانوا يعرفون: ما إذا كانت آثار الأقدام لرجل أم لإمرأة أم لطفل. وليس هذا فقط، بل كانوا يتفرّسون في معرفة نوعية الأقدام. فأقدام الأطفال مختلفةٌ عن أقدام الرجال في مقتبل العمر أو الرجال في وسط الكهولة أو خلال الشيخوخة الطاعنة. وكان العرب يعرفون كذلك: ما إذا كانت آثار اقدام المرأة آثاراً لإمرأة حامل أم لإمرأة عجوز أم لفتاة في مقتبل العمر وبأي فحوى كانت تسير. هذه الفراسة تقتضيها الأحذية على نطاقٍ فلسفي وثقافي عام. وعوضاً عن أنْ تكون رمال البادية هي ( الرقاع الوجودية ) التي تضم آثار الأقدام، تأتي رقاع المجتمع لتظهر آثار النعال.
هكذا تبقى النعال ( وسيطاً حركياً ) يرتهن بذهنية الناس وأنساق الفكر. فالنعال لديها القدرة على التواجد كمفردةٍ ضمن معجم عام مغروس في أضابير التراث ولحم الواقع. كما أنها كرداء للأقدام ترينا: كيف يتعامل الناس مع قواهم والحقائق الجارية بين البشر؟ فالإنسان قادر على جعل الأشياء تتكلم، تُفضي، ويعود إلى الوراء قليلاً دافعاً إياها في المقدمة. " وفي خاصف النعال البيان وعبرة... لمعتبر إذْ قال والنعل ترقع".. ذلك ما يقوله الشاعر السيد الحميرى عن فحوى النعال كسيرة أكبر من كيانها المحدود. فالمعنى طريف حين يكون خصف النعال هو بلاغة وجودها الذي يمثل وجودنا بامتداد جوانبه. لأن الخصف هو خرز الأحذية وإصلاحها نتيجة التغيرات التي تلحق بها. وهي عملية تبدو مهمة عند كثرة الاستعمال وانهاك الأحذية. والخصف لُب المسألة الاجتماعية المعبرة عن العمل والفعل والانتقال من مكان لآخر.
وعلى وجود هذه الفكرة وراء معنى النعال، هناك النعال التي تحرك مستويات أخرى من المضامين. ولاسيما مضمون التقليل من شأن الآخرين. المضمون المركب الذي تكون ثقافياً عبر ممارسات سحيقةٍ لدى البشر، ولا ندري كيف تكونت العلاقة الخفية بين الأحذية والاحتقار تحديداً. والميل إلى تفسير ذلك فيما يبدو أنه أمر مرتبط بتعاليم الأديان وما ترتب عليها من طقوس وتبعات ثقافية. وصادف ذلك تاريخياً انقسام الإنسان على نفسه ما بين الأعلى والأدنى واستعمال هذا الانقسام في إدارة دفة الصراع وعلاقات القوى في المجتمعات.
يقول أحد قصاصي الأثر في الثقافة العربية ابو الطيب المتنبي: " وإغتفارٌ لو غيّر السخطُ منه ... جُعلت هامهم نعال النعال". وهنا نلاحظ بصمة الثقافة العربية واضحة في زحزحة المتنبي ( لدلالة الهامة ) من العلو والرفعة والفخر إلى مرتبة نعال النعال. فإي مكانة محقّرة - تحت عين التاريخ - هذه التي سيصل إليها الأعداء؟! فلو كف الناسُ (المخاطبون) عن طلب الغفران من الخصوم في واقع قبلي متغلغل، لجعلوا هامات خصومهم بمثابة النعال. وهو معنى يرتكن إلى الاستنفار لا إلى القبول، إلى الغلبة لا إلى الوسْع. لأنَّ السخط اعلان للنفرة والافصاح عن الغضب.
والمتنبي يُلقي كلمة" هاماتهم " تعبيراً عن رؤوس الخصوم، كأنّه يلقي أحجاراً مهملة. لقد نزع منها التميُز ليعطيها لقمة ثقافيةً سائغة للنعال المنتظرة. وليست النعال هنا ككل النعال، فالأخيرة تحتاج إلى أقوام مميزين. والمتنبي يعد الرؤوس المهملة إلى أن تصبح تابعة لمن يحركم السخط. وليس هؤلاء الساخطون أقل من الاندفاع وراء سخطهم إلى منتهاه. ولعلَّ النعال تأتي في هذا السياق لمخاطبة غرائز القبيلة. وهي ما تترجم الخلفيات المتعلقة بالقبيلة في مظاهر الزي التي لها مردود اجتماعي وتاريخي. وسيدرك الخصوم بالقطع: ماذا يعني انتعال رؤوسهم؟ وسيدرك المجتمع: إلى أي حد سيكون العار ممتداً عندما ينتعل أحدهم رأس الآخر؟ وفوق هذا وذلك، فإن فعل اللغة الشعرية باق رغم دورات الزمان وذر التراب فوق الآثار!!
إنَّ ثنائية " النعل والهامة " تخضع لشد وجذب ثقافيين في مجتمعاتنا العربية منذ أزمنة بعيدة، وهي الثنائية التي ترسخت لدينا نحن العرب بفضل التقاليد مرةً، وبفضل القوى الاجتماعية مرة أخرى. لأنَّ شداً وجذباً من هذا الصنف يرسمان الخطوط الوهمية التي يتحرك عليها الأفراد. بحيث يمشون حفاةً دون نعال، على أنْ تكون نعالُهم المأمولة هي البُعد الحاضر الغائب في المواقف التواصلية. فلو كان أحدُهم يرتدى حذاءً ثميناً، فالأنظار تتجه إليه قصداً. وقد تكون الصور هي الحل الأمثل للتصالح مع الواقع. وتبدو الهامة يحركُها الفخر إستناداً إلى رمزية الصور تحت عناية الأنظار.
يؤكد عماد الدين الأصبهاني: " إذا حفيّت منها النعال تنعلت ... بهام عدي رضت بها أيما رض". والشاعر يعبر عن دلالةٍ تتسق مع الفخر الذي يصيب هامات قبيلة ترى في رؤوس الآخرين مجرد نعال. وكأنَّ الأقدام إذا حفيت منها لا بد ألّا تلجأ إلى النعال المعروفة لديها، ولكنه تلعب لعبة الثنائية مرة بعد مرة. أي تنتعل هامات قبيلة عدي (التعالي أمام الاحتقار)، وفوق ذلك تبدو المسألة طبيعية أو تلقائية تماماً من وجهة نظره. فالشعر يؤسطر الإحساس بإلقاءه إيقاعه السري إلى العالم والحياة. ويبدو انتعال الرؤس أمراً مفروغاً منه، إنه لعبة الاحتقار المضاعف من قبل الشاعر مع سلب الآخر جميع قواه.
لعلَّ الشعر العربي يحاول طوال تاريخه أنْ يرشق الكلمات في متن الوجود. حتى لو كانت الكلمات ذات ظلال ثقافية محض. وهي عملية تختصر العالم والحياة والإنسان فيما يوجد من أشياء ومعطيات. يشير ابن الرومي في مواقف أخرى: "جُعلتْ تلكم الخدود نعالاً ... لكُم الدهر إنْ صلحن نعالاً". فالشاعر يترك إطلالة الثقافة فاعلة إلى منتهاها، فلا فرق بين المتنبي ولا ابن الرومي ولا اختلاف بين المتقدمين ولا المتأخرين بصدد المسألة. إنه لمن دواعي التعبير عن الحب أن ينزل المتكلم إلى مستوى جعل الخدود نعالاً. وليس هذا فقط، بل سيكون الدهر هو النعل الذي يليق بالمنتعل. والإشارة السالفة ( قنطرة لغوية – ثقافية ) بين الحب والكراهية، بين الفخر والعاطفة، بين القريب والبعيد.
ذلك من واقع وجود قطبي ( الرأس والقدم ) وبدائلهما في تربة الثقافة العربية. حيث تأخذ الأطراف دلالات معلومة وواضحة للأطراف الأخرى، وتواصل المعاني لعب دور البدائل وتغطية المناطق العارية من وجودنا الرمزي. فالأفراد كي يعيشوا اتساقاً مع التاريخ، يلجأون إلى الانخراط في آثار هذه الثنائية المعمول بها. ووظيفتها هنا تقليل التصادم بين عناصر الثقافة وإشعار الأفراد بأن الأمور تسير على ما يرام من غير شيء طارئ.
والفاعل مجهول مؤقتا حتى ولو أشار إليه الشاعر، لأنَّ الجعل ستقوم به أيدي الزمن، بحكم أنه شاهد على إعطاء المكانة لأصحابها. وكما يريد الشاعر سشيترك الأمر في الأفق المطلق لا المحدود. وذلك أيضاً من واقع النزوع الأنطولوجي وراء الشعر واللغة العربية أنْ يضغم المعاني في حركة الوجود والحياة كما قلت.
يحرك الشاعر أحمد محرم مخزون تلك الذاكرة الثقافية: " وحَلَّ بحيث ينتعل الثريا ... وكان محلُه تحت النعال". فهذا الإنسان الذي كان شيئاً محقرّاً بات ينتعل النجوم من المكانة والمرتبة. وهو ما يستدعي العجب والدهشة في مقام رفعة المآل بعد تدنى الأحوال. وحدها بعض الثقافات قد تتقلب كالعواصف بين ليلةٍ وضُحاها رافعة هذا الشخص دون ذاك أو قد تنال من هذا الشخص بخلاف سواه في دورات التاريخ. وكلام الشاعر يفتح المجال لتأويل النعال ما بين المكانة التي لم تكن، ثم كيف أخذ الإنسان المكانة التي ستكون بين الناس. ولم يُشر الشاعر إلاّ بطرفٍ خفي للمسألة، وقدم معنى حلول الشخص ذاهباً به إلى عنان السماء بعدما كانت مكانته تقع حذو النعال.
يوثق ابن الرومي تلك الفاصلة: " إذا النعل شَّمتْ في المجالس مرةً ... فإن له نعلاً تشمُ وتلثم ". والتوثيق يبدأ من تطهير دلالة النعل من بقاياها الإنسانية، فنعل هذا المتكلم عنه مصدر الفخار، الفخار الذي يجيىء من كيان الشخص. فلئن كانت النعال ذات شأن في المجالس، فنعل الإنسان صاحب المكانة أولى بالشم والتقبيل. والوحدة تبدو نوعاً من الاتصال بين الرأس والقدم. فإذا كان القدم أثراً على أديم الأرض، فالرأس هي أثر على أديم الثقافة. ويلتقي الأثران عند مكانة الإنسان التي تتوثق لدى المجتمع. فالأشخاص الملهمُون وأصحاب دلالة الإنسان بفحوى الكلمة هم من يستحقون تمازج الأثرين في بوتقةٍ واحدةٍ لا انفصام بينهما.
يوضح ابن الرومي جوهر ثقافة الفخر في التراث العريي، وكيف تطهر رمزاً معيناً وبأي منطق تستعمله؟ فالأساس كما نقول دائما هو نظرة الناس إلى هذه النعال. فلو كانت محل تقدير، فستكون كذلك فيما بينهم وستفقد رصيدها السلبي. وليس أقل من أن يتحول الرمز إلى شيء آخر. وهنا يكمن قانون المجتمعات الذي يعطي أشياء معينة دلالتها متجنباً دلالة أخرى. هي عملية تطهير ثقافي تخلي الدلالة السبلبية وتعيد إدماجها. وهذا ما يثبت كون معاني النعال متواضعاً عليها وبالامكان تغييرها إذا لزم الأمر.
دليل ذلك أنَّ البحترى قد غيّر نوعية النعال حين يتكلم عن الخيول: فمرةً باللُجين تنعُلها ... ومرةً بالدماء تنتعل". فهو يشير إلى الخيول التي يوضع اللجين كنعل لها، حيث يتميز بالبريق واللمعان مما يكفي للفت عيون الناظرين. والبحتري يتكلم عن المظهر الثقافي الذي يحدد مكانة الخيول نتيجة معاني الفروسية والشجاعة والإقدام. ولكن هذه المعاني لا تنفصل عن قوة خوض غمار الحروب واشتداد أوارها. إذ تقدر الخيول على انتعال الدماء نتيجة الايغال في ساحة الإعداء والخصوم. وبذلك يثير البحترى ( غبار ) مفردة النعل في تراثنا بين الزينة والحرب. أي أنها تلتمع بقوة لافتة عاكسةً رغد العيش واستعمالها لأغراض خاصة. وبجانب ذلك تحسم النعال المعارك، فالدماء ليست دماء ( فارسي الخيول) بالطبع، ولكنها دماء الأعداء. وتتأطر الصورة، إذا برز البيتان الشعريان اللذان يلاصقان البيت السلبق وهما:
لابد للخيل أن تجول بنا ... والخيل أرحامنا التي نصل
فمرة باللجين تنعلها ... ومرة بالدماء تنتعل
الموت تحت رايتنا ... تُطفأ نيرانه وتشتعل
يتضح من ذلك كون النعال، عملية التنعل كاشفة لاستعمال النعل بحسب المتاح ثقافياً، وبإمكان الألفاظ أن تفتح باباً لبنية الذهنية التي ترفل مرةً في الزينة ومظاهر الترف ومرة أخرى في مظاهر الصراع. والأهم أنَّ الجانبين ( الزينة – الصراع) لا ينفصلان، لأن انتعال الخيول يلبي غريزتين لدى نظام ثقافتنا الواحد (الرأس والقدم). هما شكلان لجوهر واحد ليس إلاّ. وهي المراوحة بين انطفاء النيران واشتعالها استناداً إلى الموت. والموت واحد بالأصالة مثلما يكون الانتعال متنوعاً في أشكاله المختلفة لمرجعيات الثقافة.
*****
(3)
تقف أشكال النعال كعلامةٍ مميزةٍ للعصر الذي تُوجد فيه. وكل علامة بمثابة نطاق من( المعنى الأوسع )، حيث يربط الأحذية بصورة العالم وتحولات السياسة والاقتصاد وتاريخ الأفكار. إننا كبشرٍ حريصون جميعاً على التواجُد داخل هذا النطاق الجذّاب لنشعر بمعنى حياتنا الإنسانية. يبدو ذلك واضحاً مع المودات والبرندات التجارية brands الناتجة عن التفاعل بين الحاجة والجماليات وأنماط العيش. لا يذهب الإنسان لشراء حذاء بسهولةٍ، فهناك عددٌ ليس بالقليل من رغبات الآخرين التي حطّت وستحط عليه. وعادةً نحن نسعى إلى الشيء المرغوب من آخرين سوانا، وإن كانت تحركنا الاحتياجات الخاصة إليه.
تنتصب الأحذية في هذا الاتجاه دالةً على تطورنا بدرجة واضحةٍ مثل كافة الصناعات الأخرى كالأسلحة والسيارات والأدوات الطبية وتكنولوجيا البناء ووسائل الاتصال. ستخبرنا الأحذية تاريخياً عن كيفية تعامل البشرية مع دائرة الأقدام والعقول. وعلى خط متواز من ( الخريطة الجيو سياسية ) للعالم، تركت تيارات الاقتصاد بصماتها الخفية على جلود الأحذية. فأجيال الأحذية تتوقف على تطور صناعة الجلود وجماليات التصميم وإدهاش الخيال، فشراء حذاء يحتاج إلى كم لابأس به من الإغواء وإثارة الرغبات بين الناس. حتى نوعية الجلود ذاتها كانت حصيلة موجات استكشاف القارات والاستعمار والحروب وانتهاك قدرات الطبيعة الحيوانية.
بالإمكان وجود حيوانات أفريقية تمَّ استعمال جلودها في أحذية أثرياء أمريكان أو أوروبيين، وبالإمكان وجود حيوانات بأحراش الأمازون في انتظار دورها لتُصبح براندات لأحدث أحذية نساء العولمة. وبالطبع تمر العمليات السابقة بشبكة معقدة من الأعمال والتصاميم والتخطيط والتداخل مع سياسات الدول الكبرى والشركات العابرة للقارات وتحولات الاقتصاد. لأنها شبكة عاكسة لتعقد بنية النظام العالمي وفاعلية القوى الكبرى الحاملة لموروثات الهيمنة والاستعمار.
لا تزول تلك الموروثات بجرة قلمٍ ولا تُمحى مع الزمن، لكنها تتحول إلى أساليب أخرى أكثر تعقيداً. و ليس أدل على ذلك من كون أرباح صناعة الأحذية وتجارة جلود الحيوانات النادرة تصب في جيوب العملاء واثرياء الدول الغربية والشرقية. وبالوقت نفسه تبدو الأقدام في قارات العالم لامعة تحت أشعة الشمس اختيالاً بما يلبس الأفراد من جلود ثمينة جاذبة للأنظار إلى أقصى مدى.
لم يكن ذلك أمراً مُتاحاً ولا مفهوماً للأحذية إلاَّ مع بنية عصر الحداثة، أجل كان يجب المرور به حتى نفسر هذا التحول. فإنَّ تلميع الأحذية وكونها معبرةً عن شخصية أصحابها ظاهرة حداثية بامتياز. المجال العام وحرية الإرادة والتفاعل الجمعي والتنظيم الجسدي للأفراد هي إفرازات للفضاء العام في المجتمعات الحديثة. بل هي أمور تستوجب نعالاً عملية وحرة الحركة لتعبر عن الأفكار العملية.
ولاسيما أن انتشار الأعمال والتوزيع الاقتصادي يتطلبان أحذية من نوع خاص مناسب لهما. وهو ما جعل صناعة الأحذية صناعة ذات تداعيات مهمة اجتماعية وسياسية وتستعمل باختلاف المهمام المنوطة بالأشخاص في المجال العام. لأنَّ النعال جزء من هوية الأفراد الحركية، سواء أكانت أحذية ذكورية أم نسائية. وهي دالة في الحالين على الشخصيات الاعتبارية التي تستعمل كيانها الجسدي في الممارسات السياسية والاقتصاية.
وهذا هو الباب الكبير الذي حول الأحذية – كما أشرت منذ قليل- إلى مودلات عالمية تستغل الشركات العابرة بعض الخامات الحيوانية المتاحة في قارات العالم لصناعتها. فالأحذية تعلقت بموجات التمدد السياسي واجتياح الدول والمجتمعات المهمشة على أساس خدمة الرجل الأبيض، وكانت علامة على نمط حياته الباحثة عن الثروات ومطاردة المجهول في قارات العالم طوال الوقت. فالكاوبوي caw boy في أمريكا كان يرتدي حذاءً مناسباً لركوب الخيول واصطياد السكان الأصليين، كذلك عمال المناجم الذين يخدمون مركزية الصناعة الأوربية أُرسل لهم أحذية عملية لسرعة الإيقاع وتوريد المعادن إلى دول القارة العجوز. وأخذ الأثرياء - أصحاب الأعمال - يجوبون قارة أفريقيا عائدين بكنوز طبيعية وحيوانية ثمينة.
هي" مافيا الأحذية" إذن التي نشطّت حركة تجارة قوية من هنا وهناك لخدمة العولمة وتصنيع الخامات في بلاد أوروبا والغرب مستغلة ضعف البيئات والمجتمعات المحلية وعدم قدرتها على الانتاج. وفي الوقت نفسه، فإن نمط الحياة الغربية والمابعد حداثي يحتاج إلى وفرة المواد الخام التي تلبي مطالب أزياء ورغباب العصر. وليست الأحذية إلاَّ مفردة مجسدة لهذه الأذواق العالمية التي قد يكون جلدها من أمريكا اللاتينية والايدي العاملة فيها من جنوب شرق أسيا والتصميم من بقايا هيمنة المركزية الغربية والعقول المروجه لها من ألمانيا أو انجلترا أو فرنسا. الأطراف الثلاثة يشكلون حالة تلبس في علامة الحذاء، وكيف يؤدي دوراً ضمن مزيج العولمة الذي تضخم مع الأزمنة الراهنة.
ومن جنس المجال الذي يحمل فيه الحذاء حداثة الأفكار، كانت تدرج معانيه للإعتراض كذلك والتوظيف السياسي، فعباس محمود العقاد ذات مرة وضع حذاءه على إحدى منصات البرلمان مشيراً إلى أنه سيضرب بالحذاء كل من يعتدي أو ينتهك الدستور المصري 1923، هذا المولود الجديد من رحم ثورة 1919. كان يقول ذلك الكلام في استعمال صريح لمعنى الحذاء اعتراضاً واستعمالاً عبر مضمار السياسة. وكذلك يدافع بالحذاء عن مفردةِ الدستور، وهي مفردة حداثية وليدة تطورات العصر الحديث. وفي هذا السياق كان العقاد يقصد سحق رأس الملك نفسه، لو اعتدى على سيادة الدستور وإلغاء بعض الحريات كحقوق أصيلة للشعب المصري. حيث كان الملك يريد تقليص الحقوق والحريات وحل مجلس الشعب وتعطيل القوانين والتشريعات. وفي هذه الأزمة آنذاك، وقف عباس محمود العقاد قائلاً: " إنّ الأزمة ليست أزمة مجلس الوزراء، ولكنها أزمة مجلس النواب والدستور المصري .. وليعلم الجميع أننا مستعدون لسحق أكبر رأس في البلاد في سبيل صيانة الدستور وحمايته".
ظهر مشهد حذاء الصحفي العراقي منتظر الزيدي متسقاً مع عبارة العقاد السابقة. إذْ اطلق الزيدي( نعله ) كقذيفة عابرة للرؤوس في4 ديسمبر 2008، كي تضرب هامة الرئيس الأمريكي جورج بوش الإبن بجوار نوري المالكي رئيس وزراء العراق، نتيجة كونه – أي بوش الإبن- قد دمر العراق وأطلق أكاذيب السياسة التي دمرت المجتمع والدولة العراقية.
ورئاسة الابن بوش قصة مكتملة الأركان في سياسات الصهيونية المسيحية، وكانت هامته تستجلب شعبياً رشقات الأحذية العربية من كل حدب وصوب. لأنَّ الهامة التي لا تقبل رؤية الواقع ولا تحترم خصوصية المجتمعات الأخرى، تقترب من قطافها بأقرب حذاء ممكن. وكلما كانت السياسات الأمريكية متعسفة ومدمرة في المنطقة العربية، فالهامات التي ترتفع معبرة عنها تحتاج إلى أحذية مناسبة. ليس من باب الإهانة.. فلا توجد في السياسة إهانة بالمعنى المعروف، ولكن من باب أنه "لكل مقام مقال".
ومن ثمَّ كان مشهد حذاء الزيدي أكبر مشهد يصور انتقال النعال من جعبة الحداثة الغربية إلى أحد استعمالاته ما بعد الحداثية. لأن الصورة جرت كطقسٍ سياسي أثناء إلقاء جورج بوش لكلمته خلال المؤتمر الصحفي، وكذلك كان المشهد منقولاً عبر وسائط تقنية عالية الدقة والجودة وسط ترقب عالمي لما يجري. والحذاء جعل السيايسة مجالاً رمزياً مختلفاً ونقل التحليل السياسي من التراشق بالكلمات إلى نوع آخر من الردود. وربما كانت أحذية العرب قد وجدت في حذاء الزيدي حينئذ ضالتها التي لم تستطع الوصول إليها.
إن حذاءً طائراً يلخص ما جرى في العراق طوال عقود من التدهور السياسي وتدخل القوى الدولية في شؤونها حتى اللحظة. لقد جاء حذاء لائقاً بأكبر رأس عولمي(رأس الرئيس الأمريكي)، رأس البوارج والأسلحة العابرة للقارات وتجارة الدماء وغسيل الأدمغة وانتشار المرتزقة ونهب المجتمعات. رأس شارك في أغراق العالم العربي بفوضى الجماعات الإرهابية وتبنتها وضمنت تواجدها في المشاهد والصرارعات المسلحة حتى الرمق الأخير.
وعليه فقد جرت استعارة رأس الأفعي على ألسنة بعض الكتاب والمثقفين المؤدلجين للإشارة إلى كيان أمريكا. ورغم أن بوش الإبن كان رئيساً غير مرحب به في المجتمع الأمريكي وقالت والدته زوجة بوش الأب: " لقد تولى السلطة أغبى أولادي بعد فوزه بانتخابات الرئاسة"، إلاَّ أن المشهد أعطى بوش خلوداً من باب رجم الرأس الماكر. رأس محشوة بالأضاليل والأكاذيب السياسية التي مازالت الأدارات الأمريكية تعيد استعمالها في منطقة الشرق الأوسط.
كان حذاء الزيدي سارياً كالطائرات ما بعد الحداثية المسيّرة. ودخل بالمؤتمرات الصحفية إلى دائرة المحظور، وحبس الأنفاس على إيقاع التململ من النعال والحذر منها. حتى ود رجال السياسة إصدار أوامر للصحفيين ولكل الحضور بصدد المؤتمرات واللقاءات العامة " اخلعو نعالكم أنتم في اودية المدنس". والعبارة عكس الآية القرآنية وتشتغل على قلبها دلالياً لصالح تعرية مشاهد أهل الحكم على الحقيقة، وتشف قدرتنا نحن البشر على اعتبار الدنس، النجاسة، القذارة، جزءاً من وجودنا الثقافي.
وردت أشعار العراقي أحمد مطر في هذا الصدد ترياقاً سردياً كان هو عقدته الدرامية، حيث جعلت من النعال إعلانات سياسية إزاء كل هامات ماكرة. وليتها صيغت ككل الاعلانات المعروفة، بل غدت قطع من السخرية اللائقة بالرؤوس المترنحة سياسياً بين شرق وغرب.
" فوق نعلي كل أصحاب المعالي،
قيل لي عيبٌ، فكررت مقالي،
ثم لما قيل لي عيبٌ، تنبهت إلى سوء عباراتي،
وخففت انفعالي، ثم قدمت اعتذاري لنعالي" ..
عبارات الشاعر أحمد مطر قطعٌ من شظايا التاريخ مغموسةً بكم من الألم والجرأة والسخرية. إنها البلاغة الشعرية للوقاحة التي تناسب رؤوس أينعت بالفساد والتخلف فحان قطافها بالنعال على طريقة الحجاج بن يوسف الثقفي. وتقوم اللغة بدورتها الثقافية ناقلة لنظام الشفرات الذي تبثه السلطة. وعبارات مطر تفك تلك الشفرات في لمح البصر، لأنَّ كل مستبد وكل صاحب معال متغطرس يظن كونه ساكناً منطقة الخفاء من وعينا الجمعي. ولكن يخرجه الشاعر مطر فوق حذائه مباشرة. إن المباشرة في هذا القول أبرز رمزية يمكنها التعبير عن المواقف، وهي ما يستحقه أصحاب الرؤوس الفارغة.
إن العلاقة بين أصحاب المعالي ونعل الشاعر أو النعل إجمالاً لم تكن واضحة. وليس هناك من مبرر مبدئي بإمكانه أن يقول ذلك. ولكن عندما وضع الشاعر كل أصحاب المعالي فوق النعال بلا مقدمات، فقد ظهر في ذهنية المتلقي السبب. أي جعل المتلقي يخمن ويبحث عن أسباب ذلك، وبخاصة أنَّ كل متلق لديه حزمة معتبرة من أصحاب المعالي. وكانت الدهشة من العقل هي أصل المفاجأة والتي جعلت المباشرة قوة في متن الأبيات والواقع معاً. لأنه لا يوجد أحد يستطيع مادياً وضع أصحاب المعالي على الحذاء، ولكن شعرياً كان الأمر سهلاً لدرجة الفعل. وهو ما قزَّم الواقع ولم يحل دون إيقاع المعنى على أي نحو من الأنحاء.
والتكرار في قول القائل ( فكررت مقالي )، هو تكرار نتيجة الممانعة الصلبة التي يحيط بها المستبدون أنفسهم. لعلهم يحيطون أنفسهم بجدار من الصولجان والحماية دون النيل من ذواتهم. وهذا ما يجعل الشعوب تملأ الفراغ في الغالب بحشو من الأوهام والمخاوف تجاه السلطة، فالقوة التي يقفون عليها قوة مفتعلة ومصطنعة من ألسنة الناس ومن فائض خيال المجتمعات. وليس أدل على ذلك من اتيان كلمة"العيب" في متن الشعر، وهي رباط يشبه رباط الأحذية، العيب رباط توثق الثقافة به وعي الأفراد حائلة دون التمرد والرفض. وبه تحولت السياسة إلى أخلاقيات فارغة المضمون، ولكنها قوية التأثير نتيجة هذا المكر الذي تصطنعه الرؤوس.
ولذلك كانت النهاية مفاجأة بالمثل أن قدم الشاعر الاعتذار لحذائه على أساس وجود احتمالات عدة:
أولاً: أن يشجب المتلقي الفعل الذي حدث من صاحب النعل تجاه أصحاب المعالي.
ثانياً: أن يكون الحذاء رمزاً للنقد والاعتراض على أمرٍ ما، وليس على كلِّ ما يحدث من أصحاب المعالي.
ثالثاً: أنَّ الاعتذار للنعال كان قفزة خيالية مثل قفزات ما بعد الحداثة المهولة تجاه العالم والأشياء. فالنعل لا يليق به أن يتورط هذا التورط.
رابعاً: أن يغير الشاعر قناعات المتلقي في كون الأحذية أرقى من كل الأشياء، ولو كانت إشارة إلى أشخاص سقطوا إلى مرتبة أدنى منه.
صادف أنَّ الشاعر مطر مع القفزة الخيالية لمعنى النعال قد غيّر قناعات المتلقي إزاء ذاته. فالإبتسامة الحفيفة مع صورة التعبير الشعري ضمن البيت الأخير جاءت مغلفة بالسخرية والعلو وإطلاق سراح الحرية إلى الذروة. ولعل الحذاء قد وصل إلى غاية ما بعدها غاية. لم يعد مجرد وسيلة، ولكنه كتاب مفتوح يحتاج إلى التسطير المتواصل... إنه بات أرشيفاً شاهداً على أحداثٍ جسام.
***تقف أشكال النعال كعلامةٍ مميزةٍ للعصر الذي تُوجد فيه. وكل علامة بمثابة نطاق من( المعنى الأوسع )، حيث يربط الأحذية بصورة العالم وتحولات السياسة والاقتصاد وتاريخ الأفكار. إننا كبشرٍ حريصون جميعاً على التواجُد داخل هذا النطاق الجذّاب لنشعر بمعنى حياتنا الإنسانية. يبدو ذلك واضحاً مع المودات والبرندات التجارية brands الناتجة عن التفاعل بين الحاجة والجماليات وأنماط العيش. لا يذهب الإنسان لشراء حذاء بسهولةٍ، فهناك عددٌ ليس بالقليل من رغبات الآخرين التي حطّت وستحط عليه. وعادةً نحن نسعى إلى الشيء المرغوب من آخرين سوانا، وإن كانت تحركنا الاحتياجات الخاصة إليه.
تنتصب الأحذية في هذا الاتجاه دالةً على تطورنا بدرجة واضحةٍ مثل كافة الصناعات الأخرى كالأسلحة والسيارات والأدوات الطبية وتكنولوجيا البناء ووسائل الاتصال. ستخبرنا الأحذية تاريخياً عن كيفية تعامل البشرية مع دائرة الأقدام والعقول. وعلى خط متواز من ( الخريطة الجيو سياسية ) للعالم، تركت تيارات الاقتصاد بصماتها الخفية على جلود الأحذية. فأجيال الأحذية تتوقف على تطور صناعة الجلود وجماليات التصميم وإدهاش الخيال، فشراء حذاء يحتاج إلى كم لابأس به من الإغواء وإثارة الرغبات بين الناس. حتى نوعية الجلود ذاتها كانت حصيلة موجات استكشاف القارات والاستعمار والحروب وانتهاك قدرات الطبيعة الحيوانية.
بالإمكان وجود حيوانات أفريقية تمَّ استعمال جلودها في أحذية أثرياء أمريكان أو أوروبيين، وبالإمكان وجود حيوانات بأحراش الأمازون في انتظار دورها لتُصبح براندات لأحدث أحذية نساء العولمة. وبالطبع تمر العمليات السابقة بشبكة معقدة من الأعمال والتصاميم والتخطيط والتداخل مع سياسات الدول الكبرى والشركات العابرة للقارات وتحولات الاقتصاد. لأنها شبكة عاكسة لتعقد بنية النظام العالمي وفاعلية القوى الكبرى الحاملة لموروثات الهيمنة والاستعمار.
لا تزول تلك الموروثات بجرة قلمٍ ولا تُمحى مع الزمن، لكنها تتحول إلى أساليب أخرى أكثر تعقيداً. و ليس أدل على ذلك من كون أرباح صناعة الأحذية وتجارة جلود الحيوانات النادرة تصب في جيوب العملاء واثرياء الدول الغربية والشرقية. وبالوقت نفسه تبدو الأقدام في قارات العالم لامعة تحت أشعة الشمس اختيالاً بما يلبس الأفراد من جلود ثمينة جاذبة للأنظار إلى أقصى مدى.
لم يكن ذلك أمراً مُتاحاً ولا مفهوماً للأحذية إلاَّ مع بنية عصر الحداثة، أجل كان يجب المرور به حتى نفسر هذا التحول. فإنَّ تلميع الأحذية وكونها معبرةً عن شخصية أصحابها ظاهرة حداثية بامتياز. المجال العام وحرية الإرادة والتفاعل الجمعي والتنظيم الجسدي للأفراد هي إفرازات للفضاء العام في المجتمعات الحديثة. بل هي أمور تستوجب نعالاً عملية وحرة الحركة لتعبر عن الأفكار العملية.
ولاسيما أن انتشار الأعمال والتوزيع الاقتصادي يتطلبان أحذية من نوع خاص مناسب لهما. وهو ما جعل صناعة الأحذية صناعة ذات تداعيات مهمة اجتماعية وسياسية وتستعمل باختلاف المهمام المنوطة بالأشخاص في المجال العام. لأنَّ النعال جزء من هوية الأفراد الحركية، سواء أكانت أحذية ذكورية أم نسائية. وهي دالة في الحالين على الشخصيات الاعتبارية التي تستعمل كيانها الجسدي في الممارسات السياسية والاقتصاية.
وهذا هو الباب الكبير الذي حول الأحذية – كما أشرت منذ قليل- إلى مودلات عالمية تستغل الشركات العابرة بعض الخامات الحيوانية المتاحة في قارات العالم لصناعتها. فالأحذية تعلقت بموجات التمدد السياسي واجتياح الدول والمجتمعات المهمشة على أساس خدمة الرجل الأبيض، وكانت علامة على نمط حياته الباحثة عن الثروات ومطاردة المجهول في قارات العالم طوال الوقت. فالكاوبوي caw boy في أمريكا كان يرتدي حذاءً مناسباً لركوب الخيول واصطياد السكان الأصليين، كذلك عمال المناجم الذين يخدمون مركزية الصناعة الأوربية أُرسل لهم أحذية عملية لسرعة الإيقاع وتوريد المعادن إلى دول القارة العجوز. وأخذ الأثرياء - أصحاب الأعمال - يجوبون قارة أفريقيا عائدين بكنوز طبيعية وحيوانية ثمينة.
هي" مافيا الأحذية" إذن التي نشطّت حركة تجارة قوية من هنا وهناك لخدمة العولمة وتصنيع الخامات في بلاد أوروبا والغرب مستغلة ضعف البيئات والمجتمعات المحلية وعدم قدرتها على الانتاج. وفي الوقت نفسه، فإن نمط الحياة الغربية والمابعد حداثي يحتاج إلى وفرة المواد الخام التي تلبي مطالب أزياء ورغباب العصر. وليست الأحذية إلاَّ مفردة مجسدة لهذه الأذواق العالمية التي قد يكون جلدها من أمريكا اللاتينية والايدي العاملة فيها من جنوب شرق أسيا والتصميم من بقايا هيمنة المركزية الغربية والعقول المروجه لها من ألمانيا أو انجلترا أو فرنسا. الأطراف الثلاثة يشكلون حالة تلبس في علامة الحذاء، وكيف يؤدي دوراً ضمن مزيج العولمة الذي تضخم مع الأزمنة الراهنة.
ومن جنس المجال الذي يحمل فيه الحذاء حداثة الأفكار، كانت تدرج معانيه للإعتراض كذلك والتوظيف السياسي، فعباس محمود العقاد ذات مرة وضع حذاءه على إحدى منصات البرلمان مشيراً إلى أنه سيضرب بالحذاء كل من يعتدي أو ينتهك الدستور المصري 1923، هذا المولود الجديد من رحم ثورة 1919. كان يقول ذلك الكلام في استعمال صريح لمعنى الحذاء اعتراضاً واستعمالاً عبر مضمار السياسة. وكذلك يدافع بالحذاء عن مفردةِ الدستور، وهي مفردة حداثية وليدة تطورات العصر الحديث. وفي هذا السياق كان العقاد يقصد سحق رأس الملك نفسه، لو اعتدى على سيادة الدستور وإلغاء بعض الحريات كحقوق أصيلة للشعب المصري. حيث كان الملك يريد تقليص الحقوق والحريات وحل مجلس الشعب وتعطيل القوانين والتشريعات. وفي هذه الأزمة آنذاك، وقف عباس محمود العقاد قائلاً: " إنّ الأزمة ليست أزمة مجلس الوزراء، ولكنها أزمة مجلس النواب والدستور المصري .. وليعلم الجميع أننا مستعدون لسحق أكبر رأس في البلاد في سبيل صيانة الدستور وحمايته".
ظهر مشهد حذاء الصحفي العراقي منتظر الزيدي متسقاً مع عبارة العقاد السابقة. إذْ اطلق الزيدي( نعله ) كقذيفة عابرة للرؤوس في4 ديسمبر 2008، كي تضرب هامة الرئيس الأمريكي جورج بوش الإبن بجوار نوري المالكي رئيس وزراء العراق، نتيجة كونه – أي بوش الإبن- قد دمر العراق وأطلق أكاذيب السياسة التي دمرت المجتمع والدولة العراقية.
ورئاسة الابن بوش قصة مكتملة الأركان في سياسات الصهيونية المسيحية، وكانت هامته تستجلب شعبياً رشقات الأحذية العربية من كل حدب وصوب. لأنَّ الهامة التي لا تقبل رؤية الواقع ولا تحترم خصوصية المجتمعات الأخرى، تقترب من قطافها بأقرب حذاء ممكن. وكلما كانت السياسات الأمريكية متعسفة ومدمرة في المنطقة العربية، فالهامات التي ترتفع معبرة عنها تحتاج إلى أحذية مناسبة. ليس من باب الإهانة.. فلا توجد في السياسة إهانة بالمعنى المعروف، ولكن من باب أنه "لكل مقام مقال".
ومن ثمَّ كان مشهد حذاء الزيدي أكبر مشهد يصور انتقال النعال من جعبة الحداثة الغربية إلى أحد استعمالاته ما بعد الحداثية. لأن الصورة جرت كطقسٍ سياسي أثناء إلقاء جورج بوش لكلمته خلال المؤتمر الصحفي، وكذلك كان المشهد منقولاً عبر وسائط تقنية عالية الدقة والجودة وسط ترقب عالمي لما يجري. والحذاء جعل السيايسة مجالاً رمزياً مختلفاً ونقل التحليل السياسي من التراشق بالكلمات إلى نوع آخر من الردود. وربما كانت أحذية العرب قد وجدت في حذاء الزيدي حينئذ ضالتها التي لم تستطع الوصول إليها.
إن حذاءً طائراً يلخص ما جرى في العراق طوال عقود من التدهور السياسي وتدخل القوى الدولية في شؤونها حتى اللحظة. لقد جاء حذاء لائقاً بأكبر رأس عولمي(رأس الرئيس الأمريكي)، رأس البوارج والأسلحة العابرة للقارات وتجارة الدماء وغسيل الأدمغة وانتشار المرتزقة ونهب المجتمعات. رأس شارك في أغراق العالم العربي بفوضى الجماعات الإرهابية وتبنتها وضمنت تواجدها في المشاهد والصرارعات المسلحة حتى الرمق الأخير.
وعليه فقد جرت استعارة رأس الأفعي على ألسنة بعض الكتاب والمثقفين المؤدلجين للإشارة إلى كيان أمريكا. ورغم أن بوش الإبن كان رئيساً غير مرحب به في المجتمع الأمريكي وقالت والدته زوجة بوش الأب: " لقد تولى السلطة أغبى أولادي بعد فوزه بانتخابات الرئاسة"، إلاَّ أن المشهد أعطى بوش خلوداً من باب رجم الرأس الماكر. رأس محشوة بالأضاليل والأكاذيب السياسية التي مازالت الأدارات الأمريكية تعيد استعمالها في منطقة الشرق الأوسط.
كان حذاء الزيدي سارياً كالطائرات ما بعد الحداثية المسيّرة. ودخل بالمؤتمرات الصحفية إلى دائرة المحظور، وحبس الأنفاس على إيقاع التململ من النعال والحذر منها. حتى ود رجال السياسة إصدار أوامر للصحفيين ولكل الحضور بصدد المؤتمرات واللقاءات العامة " اخلعو نعالكم أنتم في اودية المدنس". والعبارة عكس الآية القرآنية وتشتغل على قلبها دلالياً لصالح تعرية مشاهد أهل الحكم على الحقيقة، وتشف قدرتنا نحن البشر على اعتبار الدنس، النجاسة، القذارة، جزءاً من وجودنا الثقافي.
وردت أشعار العراقي أحمد مطر في هذا الصدد ترياقاً سردياً كان هو عقدته الدرامية، حيث جعلت من النعال إعلانات سياسية إزاء كل هامات ماكرة. وليتها صيغت ككل الاعلانات المعروفة، بل غدت قطع من السخرية اللائقة بالرؤوس المترنحة سياسياً بين شرق وغرب.
" فوق نعلي كل أصحاب المعالي،
قيل لي عيبٌ، فكررت مقالي،
ثم لما قيل لي عيبٌ، تنبهت إلى سوء عباراتي،
وخففت انفعالي، ثم قدمت اعتذاري لنعالي" ..
عبارات الشاعر أحمد مطر قطعٌ من شظايا التاريخ مغموسةً بكم من الألم والجرأة والسخرية. إنها البلاغة الشعرية للوقاحة التي تناسب رؤوس أينعت بالفساد والتخلف فحان قطافها بالنعال على طريقة الحجاج بن يوسف الثقفي. وتقوم اللغة بدورتها الثقافية ناقلة لنظام الشفرات الذي تبثه السلطة. وعبارات مطر تفك تلك الشفرات في لمح البصر، لأنَّ كل مستبد وكل صاحب معال متغطرس يظن كونه ساكناً منطقة الخفاء من وعينا الجمعي. ولكن يخرجه الشاعر مطر فوق حذائه مباشرة. إن المباشرة في هذا القول أبرز رمزية يمكنها التعبير عن المواقف، وهي ما يستحقه أصحاب الرؤوس الفارغة.
إن العلاقة بين أصحاب المعالي ونعل الشاعر أو النعل إجمالاً لم تكن واضحة. وليس هناك من مبرر مبدئي بإمكانه أن يقول ذلك. ولكن عندما وضع الشاعر كل أصحاب المعالي فوق النعال بلا مقدمات، فقد ظهر في ذهنية المتلقي السبب. أي جعل المتلقي يخمن ويبحث عن أسباب ذلك، وبخاصة أنَّ كل متلق لديه حزمة معتبرة من أصحاب المعالي. وكانت الدهشة من العقل هي أصل المفاجأة والتي جعلت المباشرة قوة في متن الأبيات والواقع معاً. لأنه لا يوجد أحد يستطيع مادياً وضع أصحاب المعالي على الحذاء، ولكن شعرياً كان الأمر سهلاً لدرجة الفعل. وهو ما قزَّم الواقع ولم يحل دون إيقاع المعنى على أي نحو من الأنحاء.
والتكرار في قول القائل ( فكررت مقالي )، هو تكرار نتيجة الممانعة الصلبة التي يحيط بها المستبدون أنفسهم. لعلهم يحيطون أنفسهم بجدار من الصولجان والحماية دون النيل من ذواتهم. وهذا ما يجعل الشعوب تملأ الفراغ في الغالب بحشو من الأوهام والمخاوف تجاه السلطة، فالقوة التي يقفون عليها قوة مفتعلة ومصطنعة من ألسنة الناس ومن فائض خيال المجتمعات. وليس أدل على ذلك من اتيان كلمة"العيب" في متن الشعر، وهي رباط يشبه رباط الأحذية، العيب رباط توثق الثقافة به وعي الأفراد حائلة دون التمرد والرفض. وبه تحولت السياسة إلى أخلاقيات فارغة المضمون، ولكنها قوية التأثير نتيجة هذا المكر الذي تصطنعه الرؤوس.
ولذلك كانت النهاية مفاجأة بالمثل أن قدم الشاعر الاعتذار لحذائه على أساس وجود احتمالات عدة:
أولاً: أن يشجب المتلقي الفعل الذي حدث من صاحب النعل تجاه أصحاب المعالي.
ثانياً: أن يكون الحذاء رمزاً للنقد والاعتراض على أمرٍ ما، وليس على كلِّ ما يحدث من أصحاب المعالي.
ثالثاً: أنَّ الاعتذار للنعال كان قفزة خيالية مثل قفزات ما بعد الحداثة المهولة تجاه العالم والأشياء. فالنعل لا يليق به أن يتورط هذا التورط.
رابعاً: أن يغير الشاعر قناعات المتلقي في كون الأحذية أرقى من كل الأشياء، ولو كانت إشارة إلى أشخاص سقطوا إلى مرتبة أدنى منه.
صادف أنَّ الشاعر مطر مع القفزة الخيالية لمعنى النعال قد غيّر قناعات المتلقي إزاء ذاته. فالإبتسامة الحفيفة مع صورة التعبير الشعري ضمن البيت الأخير جاءت مغلفة بالسخرية والعلو وإطلاق سراح الحرية إلى الذروة. ولعل الحذاء قد وصل إلى غاية ما بعدها غاية. لم يعد مجرد وسيلة، ولكنه كتاب مفتوح يحتاج إلى التسطير المتواصل... إنه بات أرشيفاً شاهداً على أحداثٍ جسام.
(4)
شيءٌ من المُفارقة أنَّ بعض( الأحداث الجسام ) تليقُ بالنعال لا العكس، فالأخيرة عناصر أساسية لوجودنا لا مجرد أشياء هامشيةٍ. يقع النعل في المركز مما عساه أن يجري عبر الزمان والمكان. ومع حياتنا المشتركة بين البشر، يُوجد في الواقع صورة ونمط لحذاءٍ ما. إنه الدليل الذي يقودنا إلى الإنسان بإختلاف هوياته. لكن أمراً كهذا يدفعنا إلى التعرُف فلسفياً على النعل، على الحذاء بصورةٍ مختلفة. السؤال المنطقي عندئذ: أهو وسيط بين جسمنا وجسم الأرض؟ هل يعد النعل تكملة لوجودنا؟ هل يأخذ معانيه من استعمالات خاصة بنا؟ هل يمثل النعل أثراً آخر فيما هو جمعي عام؟
لن تجدى الإجابات الخاطفة على تلك الأسئلة. لكونها استفهامات تمس وجودنا الإنساني في الصميم. وكذلك لن تكون ثمة إجابات مُريحة للوهلة الأولى. فالحذاء كموضوع لا يتم تخليصة من أنياب متغيرات كثيرة ... مثل الاقتصاد والسياسة والأخلاق والمعرفة والتقاليد وصور الناس عن بعضهم البعض. كما أنه يفرض علينا( قراءة فلسفيةً مغايرةً ) ليست أقل. وهو ما يطرح فكرة طريفة أن الحذاء يضع وجودنا إزاء تاريخه الطويل. ويفتح مجالاً لقول الأشياء التي نتعامل معها بالأقدام بصورة واعيةٍ. لأنَّ تعاملاً بالأقدام يستدعى مفردةَ الحذاء ضمناً أو صراحة. فليس ممكناً المشي أو الركل أو الاحتكاك أو التعثر دون غطاء الأرجل. إن فهم عالم الإنسان يقتضي فهم الأشياء الدقيقة التي تنتمي إليه. ولا يوجد لدينا نحن البشر ما هو تافه على الإطلاق. التافه أكثر أهمية أحياناً من سواه!!
انفصال واتصال
من غير ارتداء الأحذية، سيشعر الإنسان بالعُري. احتكاك لحم الكائن الحي مع الأرض مباشرة. أي غرس أقدامنا عاريةً بالتراب، بالطين، بالحصى، بالرمال. وذلك التتابع بين مستويات الأرض توصله جلودُنا للعقول من خلال باطن الأقدام. فالاقدام ليست بعيدةً عن كيان الإنسان، لأنَّها حاملة للقوام والحركة وتمثل أداة التوازن للهامة. ويصعب أنْ تنفصل الأقدام عن جهازنا البيولوجي العام، لكونها جزءاً من جسمنا، وتجسد كافة السمات التي تميز الإنسان.
تعبر كلمات النعال عن البدائل لشيءٍ ما في وجودنا: فالحذاء هو الخُف، هو المركوب، هو السوقاء، هو البُلغة، هو المُوق، هو القبقاب، هو الجزمة، هو المداس، هو الهنكارة، هو الصندل، هو البُوت، هو الشبشب، هو السباط، هو السندرة، هو الصندل، هو الكندرة، هو الصرماية لدى المشارقة، هو الريحية، هو الشربيل الفاسي المشغول بخيوط الحرير المذهبة للنساء لدى المغاربة. والكلمة الفارسية ( سرموزة ) كلمة تحدد دلالة الحذاء في الجماعات الناطقة بالفارسية. ويبدو أنه قد أخذت منها لفظة شرموطة لتكرار وطء الحذاء، وكانت الكلمة بمثابة (وصمة اجتماعية ) لنوع من أفعال النساء. وتلك الكلمات معبرة عن الاستعارات التي تأخذها النعال ثقافياً. فالمعاني تتبادل المواقع بين وصفٍ وآخر لتقدم لنا ما يعجز التعبير عنه لأسباب خاصةٍ.
الحذاء - على سبيل المعنى- كلمة آتية من حذو الشيء للشيء، أي رداء يجعل أقدام الإنسان حذو الأشياء أو أنها ستسير بحذو الأرض دون تعثر. وكأن الإنسان سيكون لصيقاً بعالمه وأنه كائن من ضمن الكائنات المتواجدة معه. والمركوب إشارة إلى ما يلبس كأنَّه يقل الإنسان إلى حيث يريد. وينطبق المركوب على الأشياء الكبيرة كالسيارات والطائرات والحيوانات التي تقل البشر. فهي تقلُنا ركوباً داخلها وقد استطاع الشخص التنقل والترحال.
البُلغة هي ما تبلغ الإنسان نقطةً معينةً تجاه ما يذهب إليه. وهي مرتبطة بالابلاغ من.. إلى. فبلغ الشخص مكاناً معيناً، يعني أنّه قد ذهب إليه قصداً. والواقي الذي يغطي أقدامه يُسمى بُلغةً. ومازالت البُلغة ذات شكلٍّ خاص في بعض الأرياف المصرية. فهي حذاء بسيط وغير معقد ويشعر الشخص معه بالإرتياح، عندما يلبسه وعندما يسير بهدوء وسكينة. والبلغة سهلة الخلع واللبس مباشرة. وقد يشعر الإنسان بالأرض شعوراً هيناً حينما يضعها في قدميه. كما أنها في الثقافة رمز للضرب وأداة للتأديب والتقليل من شأن الآخرين عند استخدامها.
ورغم تنوع المفردات الدالة على الحذاء إلاَّ أن المعنى واحد: غطاء يختص بوقاية الأقدام. الحذاء بعض من وجودنا الحائل دون التلامس بما هو صلب أو هش. الحُفاة هم من لا يرون هناك وسيطاً بينهم والأرض. لدرجة أنَّ المُباشرة المادية بين جسمين لون من الإلتصاق بالأصل، بالعمق. جسم الأرض وجسم الإنسان، وليس هناك إحساس يعادل شعور الإنسان بالتراب. وكأن أقدام الإنسان ترسمُ آثاراً باقية في عقله بصورة فورية. لأن الأقدام مركز التوازن البيولوجي وتشكل علاقة حيوية مع المكان الذي نتواجد فيه.
عن طريق الحذاء، أراد الإنسان القول إنّ هناك ( اتصالاً وانفصالاً ) بينه والعالم في الوقت نفسه. أي علاقة منطقية قائمة على بناء الثقافة. لأنَّ الأحذبة صناعة ثقافية بالدرجة الأولى. لو أردنا أنْ نلخص تاريخ الحذاء، فلابد من اختصاره في تاريخ الثقافة. تراث الانفصال الإنساني عن عناصر العالم. الشكل والوظيفة والماهية والتغيرات والترقيع والاصلاح .. جميعها تخضع لأساليب الثقافة. ومنذ بدأ الإنسان انفصالاً عن جسم الطبيعية، استطاع أن يصنع شيئاً رمزياً آخر. وهذا هو سبب أنَّ الأحذية تكتسب أهميتها الحياتية والقيمية في كافة المجتمعات. الأقدام مواد متاحة ضمن خريطة الجسم الإنساني. فهي مصممة بيولوجياً كأنها واقفة أو ملتصقة بالأرض. لكن البشر أرادوا تاريخياً انتزاع انفسهم من الإلتصاق بالأشياء. حيث سادت فكرة أن الابتعاد عن مادة الطبيعة قدرة بشرية على الاستقلال وبناء هويةٍ خاصة بنا.
ما الذي يعنيه الإنفصال الذي تسببه النعال؟ يعنى أنَّ هناك وعياً بحركة الإنسان أيا كانت. الوعي يقول إن الأرض أرض والإنسان إنسان، وإنه ليوجد مسافة يترقب فيها البشر قدرتهم على الاختلاف. في المسافة الجلدية ( الحذاء ) بين الأقدام والتراب، تكمن تصورات التوازن والتعالي والأسبقية وصناعة الأدوات. وربما هذا الذي جعل المجتمعات تتفنن في تشكيل الأحذية بأشكال وأنماط غريبة وعجائبية. وكانت محطَّ عناية البشر بتباين الأماكن والأزمنة.
تكملةٌ وعُري
يكمل الحذاء جسم الإنسان. على الرغم من أنَّ الأصل في الإنسان شعوره بالإكتفاء والاستقلال. عدم وجود الحذاء يسبب نقصاً بطريقة أو أخرى. وليس ذلك أمراً جوهرياً في ذاته، لأنَّ الجوهر هو سير الإنسان حُراً من أية تكملة. وكانت بدايات البشر كونهم ( حفاةً عراةً ) إلاَّ من بعض ما يغطي عوراتهم. إنَّ الحفاء كان تعبيراً عن الاكتمال بالطبيعة أو أنَّ الانسان البدائي كان يجد اتصالاً مع مواد وأشياء العالم مباشرةً. أي التلامس الحسي الذي يجعل الإنسان كائنا حيّاً على الأصالة. ويدمج وجوده الآدمي مع الكائنات الأخرى دون مباعدةٍ. فالانطلاق هو الخلفية التي تعطي الإنسان وجوده، والحذاء في عصور غابرة كان عائقاً عن ذلك. وبلاريب فقد مر البشر بأزمنة طويلة حتى يعتادوا على لبس الأحذية.
وبخاصة أن الأساس لدينا نحن البشر هذا الإندماج، حتى ولو جاء متأخراً. فنحن على الشواطئ وعلى الصخور و وسط الغابات وفي عمق الحقول، نريد من حين لآخر خلع نعالنا كي نحس بوجود الأرض، وهو الإساس الأم الذي يستغرقنا طوال الحياة في ممارسات كثيرة. ولم يملك الفرد إلاَّ التشوف إليه. يا لهذا الاحساس المتفرد لنا نحن البشر وسط الطبيعة!! فهو ليس لمساً عادياً ولا مجاورةً ولا تسانداً خارجياً بين كائن حي اسمه الانسان والطبيعة الأم، لكنه الشعور الماهوي داخل حضنها الكبير بأنك كما أنت. إحساس يلتقي داخل أعماقنا وأعماق الحياة بالتوازي. هو احساس الحياة بنفسها من خلالنا. وهو التزامن الحي الحميم، على الرغم من كونّه يعود بنا إلى عصر ما قبل الحذاء.
الحذاء تنبيه دائم بهذه الطفرة التي حدثت للأقدام. هل يؤدي ذلك إلى إخفاء الجانب اللمسي للأقدام؟ بالطبع لا.. فالأقدام لا تقل أهمية عن الرأس مهما لاقت من دونية، كما أنها ترنو إلى التجوال عارية. وما التنوع المذهل في موديلات الأحذية إلاَّ اخفاء لهذا الحنين البيولوجي القابع في جوانج البشر. لأن الثقافة– مع امتدادها التاريخي- تمثل استجابة لحنين الإنسان وبدائل له بالوقت نفسه. وكلما كانت مشاعر الحنين غائرةً، كانت البدائل وافرة التجدد والتعقيد. فلو شعر الإنسان بأي حنين، ستقفز الثقافة لإحتوائه صانعة له ما يشغله طوال الوقت. من ثمَّ استطاع البشر بهذا المنطق بناء وجودهم الاجتماعي.
ومن يفهم لعبة المجتمعات البشرية إزاء بناء حياتها الخاصة، سيكتشف قدرتنا على الموازاة السحيقة بين الحذاء والمجتمع. الاثنان ممكنان في التاريخ من حيث أنهما من جنس المهارة الثقافية للبشرية. فالمجتمع يغطي الأفراد بكمٍ من الأغطية الإجتماعية والوجودية، ولا يترك لهم فرصة للتعري إزاء غوائل الآخرين أو غوائل الطبيعة. والحذاء يغطي الأقدام بشكل رمزي ويحُول دون العُري الذي يُدمي الأقدام. وبخاصة مع انهماك الأفراد في الأعمال الشاقة والرحلات الطويلة والذهاب والإياب بين الأماكن.
فلم يعد إنساننا المعاصر كائناً يذهبُ إلى الغابة لجلب الثمار وتسلق الأشجار وقنص الحيوانات للطعام. لكنه- من جانبٍ آخر- لم يكف عن الذهاب داخل أخيلة الآخرين، سواء أكان بواسطة عمل بارز أم إنجاز لافت. فجاءت الأحذية الراهنة بمثابة الغلالة التي تُغطي الأقدام، وكذلك تعطيه إشارة مرور وسط الغابات الثقافية والرمزية المتشابكة.
تلعب الثقافة الإنسانية لعبتها الإستعارية في تغذية المجتمع والحذاء برغباتٍ يتعلق بها الإنسان كتعلق الغريق بقشةٍ للنجاة. فيقال إن الحذاء هو المفتاح لشخصية الإنسان، بحكم كونه محطّاً للذوق الجمالي واتساق الشكل والألوان وطريقة المشي والحركة. تماماً مثلما يُقال إن المجتمع مُتقدم ويعطي مساحة لحرية الأفراد. الاستعارات واحدة ويتسلق الأفراد عليها بلوغاً إلى اهدافهم. ففي المناسباب المهمة- اجتماعياً بالأساس- يحرص الأفرادُ على ارتداء أفخم الأحذية واعطائها مساحة من الظهور الجذّاب.
*****
(5)-
مع ألوان وزركشات الأحذية يُمكننا قراءةَ الكثير والكثير من الخلفياتِ. الحذاءُ هو المادة الثقافية المتأخرة لعلاقات االقوى بين الناس. ويمكننا تصنيفه( أي الحذاء) داخل البنية التحتية لحركة الإنسان. لأنّه يندرج مع قدرات( الفعل والتأثير ) بحكم وجوده عبر الانشطة المختلفة. فلكي نبدأ في الحركة والانطلاق، يجب التأكد من إرتداء الحذاء كأحد متطلبات العمل.
كما أنَّ مظهراً معيناً لأي حذاء إنما ينمُ عن معانٍ خارج سياقه. كأنَّه يحمل بصمات وجودنا الإنساني في لحظةٍ مكثفةٍ من الحركة السائلة. ومن ثمَّ، عندما نريد أنْ نفهم المعنى البعيد للأشياء، ينبغي الانهماك في فهم المعنى القريب جداً. وليس ألصق بأقدامنا- على وتر حسّاس مع اعصابنا- من الأحذية. والوتر الحساس لأجسامنا يتشكل بكل الجلود المحيطة ثقافياً واجتماعياً.
جسم الإنسان مغلَّف بنوعين من الجلود:
- " الجلد الطبيعي" الذي يبدو وجوداً حيوياً يشعرنا بأحوال المناخ والأشياء والكائنات والعلاقات مع العالم، مثل البُرودة وارتفاع الحرارة والإحساس بالأسطح والأماكن. وهذا الجلد هو مادتنا البيولوجية التي تشركنا مع الكائنات الحية. ويظهر الجلد الطبيعي كأنه عالمنا الفورى الإحساس. إنه في وضع آن ٍدائماً، بمعنى أننا نشعر به آنياً وفورياً في كل لحظة وهو بمثابة إعلان عن الحضور في العالم.
- " الجلد الثقافي" وهو رمزية العالم الذي نصطّنع منه وجوداً ( معنوياً ومتخيلاً وقيمياً) لدينا نحن البشر. وهو نقش إنساني لما نود أنْ نكون عليه إزاء الآخرين. إنَّ القبائل البدائية التي كانت توشم جلودها بالرسومات والخطوط والألوان والروائح والصور المختلفة هي أبرز الأمثلة على ذلك. وتبدو النقوش حضوراً مضاعفاً لهويات الكائنات الاقوى التي يتطلع إليها الإنسان البدائي. وكذلك تحمل جلودنا الثقافية فنوناً من النوع المبدع إلى حدٍ بعيد. لكونها تمد عقولنا بكل ما هو خارج عن القيود، ولاسيما حين يترقب البشر حرية الوجود وإثارة الأخيلة بواسطة هذه النقوش.
إشكالية الحذاء هي الخلط بين الإثنين كممارسة تُعطي الفرد تجرية الوجود طبيعياً وثقافياً في الوقت نفسه. فهو نقش جلدي واستحضار لقوة ما. ومع وجود العلاقة التي تحضر عندها فكرة الإحساس بالطبيعة كما هي، فالإنسان دوماً صانع عتيد لهذا النوع الأخير( الجلد الثقافي)، حتى يتلقى إشارات الأشياء وعلاماتها بشكل مختلفٍ. إنه لا يريد أن يكون كائناً طبيعياً كباقي الكائنات ولا يقبل بالإلقاء على قارعة الوجود وبالتالي يصطنع شيئاً مغايراً. فالتمرد يجعله كائناً يعاند الطبيعة (الجلد الطبيعي) ويرتدي فوقه جلداً ثقافياً ملتوياً مموهاً. والخطورة عندما لا يميز بين الإثنين، وعندما يجد الجانب الثقافي عاجزاً عن خلق عالم مليء بما يريد، عالم دال بالمعاني المطلوبة للحياة.
وتلك كانت أزمة الإرهابيين عندما تعاملوا مع الأفكار كـ "جلد طبيعي" لا يتغير، كأنها أحذية من نوعٍ خاصٍ لا يجب الاقتراب منها ولا ينبغي التنازل عنها. والأدهى أنْ تحولت الأفكار إلى أسلحةٍ يُضرب بها الأعداء والأغيار. ولذلك لا تعد فكرة اللثام المنتشرة لدى التنظيمات الدينية فكرةً بريئةً بالمرة، حيث كان تنظيم الدواعش وبعض الجماعات الدينية يرتدون غطاءً للرأس كما لو كان حذاءً بالأعلى. وذلك حتى يشعرون بترديد الأصوات الخاصة بهم فقط غافلين عن الخارج. وحتى لا تكون هناك مبارحةٌ بين ما يتخيلونه وما يمارسونه في الواقع.
والأهم أنهم يفعلون ذلك، لكيلا يشعروُن بمن حولهم كوقايةٍ مضافةٍ إلى جلودهم الطبيعية. أي تحويل الجلد الثقافي إلى جلد طبيعي غير قالبل للإختراق. ولذلك كان هدف الجماعات الدينية دوماً الافلات من الثقافة ( المضللة من وجهة نظرهم) وصناعة جلد طبيعي منقوشة عليه تصوراتهم ومعتقداتهم.
أثر واكسسوار
إنَّ احساسنا بالثقافة وردود أفعالها يترك آثاره على أجسامنا بالمثل، فالفرد الذي يعيش تجربةً من القهر والعنف، لن يكون جسده سوى مرآة عاكسة للتفاصيل التي مر بها. وكذا تجارب الحب وتجارب الإيمان وتجارب الحرية، إذْ تمثل الثقافة جلداً رمزياً symbolic skin قابلاً للشد والجذب. ونشعر بالمواقف كما لو كانت تأتينا في صورة التجارب الحياتية. الحذاء يندمج في هذا المحيط، فيصبح جزءاً من إحساسنا العام بأنفسنا. إنَّ الإنسان الذي يرتدي حذاءً يصله إحساس عن كل ما يلامسه ويشعر به.
هذا هو ما يجعل الاحساس الاجتماعي وضعاً ممكناً بما يرتديه الشخص. أي نتيجة كون الحذاء مفردة إحساس وانعكاس خارج الأفراد ( بالنسبة للآخرين)، ستكون رؤيته في سياق تاريخ ما أمراً مُتاحاً. وتلك هي الوضعية الفلسفية التي تجعل منه موضوعاً للتفكير. كانت أحذية فان جوخ التي رسمها بأنامله الفنية مثالاً على ذلك، لكونها مثقلة بأزمنة وملامح تاريخية ودلالات عميقة باستمرار. وكلّ منا لديه فيما يخُصه نوعٌ من أحذية فان جوخ، يحتفظ به أو يستعمله بهذه الطريقة الفنية أو تلك. إن أحذيتنا محتفظة بالوقائع والمشاوير والرحلات والظواهر والأحداث وتمتص الصدمات الإنسانية التي تجدد نفسها من وقت لآخر.
من صميم تلك الخاصية الإنسانية، يندرج الحذاءُ كأثر وكعلامة تجارية طويلة التسييس في مجتمعاتنا الراهنة. أثر لثقافةٍ حرصت أنْ يكون الحذاء المعاصر بصمة تاريخية لها. وعلامة مارّة عبر مراحل مختلفة من القيمة والعرض والطلب والتسوق على نطاق واسع. وهذا الاتجاه مرتبط أيما ارتباط باستغلال القوى الكبرى للمجتمعات. ليس الحذاء إلاَّ هذا الاثر الممتد والعلامة التي لا تكف عن الاستعراض. وبطبيعة الحال تريد الدول القوية الهيمنة عبر الصناعات المختلفة. ومن ثمَّ، كان حضور الاكسسوار حضوراً حضارياً لا يخلو من سيطرة. وهو ما يلبي رغبة الأفراد، ولكنه يمثل قوةً ناعمةً لن يفلتوا منها.
لعلَّ ما جرى على كافة ( الأشياء ما بعد الحداثية ) قد جرى على الحذاء في الاتجاه ذاته. لأنّه تشكل بكل ما توافر في عصرنا من قدراتٍ. فلم يعد الحذاء مجرد غطاء للأقدام، ولكنه بات صورة متحولة ومتطورة. وتحمل توقيع الشركات الكبرى في العالم، وليس غريباً أنْ تبادر العولمة بتوفير هذه المنتجات وملحقاتها، بل الغريب أن تحظى المنتجات بشهرة جابت الآفاق. وأن يكون هناك إقبال على شرائها دون تردد. وتبدو الأحذية مفتاحاً لشبكة معقدة من المصالح التي تضرب أطرافها في السياسة والإقتصاد والرياضة والفنون والحروب.
بالإمكان أنْ تمسي شركات صناعة الأحذية متعددة الأنشطة بين المجالات السابقة. فالأحذية الرياضية تضخُ عوائد أرباحها في تجارة الممنوعات. والعكس تجارة الأسلحة تدعو أصحابها لفتح مجال للأحذية. أيهما أكثر أهمية عندئذ الأسلحة أم الأحذية؟ وأيهما يوفرُ غطاءً خادعاً للآخر؟! وكذلك تجارة الحروب والمرتزقة تتداخل مع تجارة الأحذية. فعقود الشركات والتمويل الضخم للأنشطة العسكرية يجري في عروق وجلود الأحذية بالقوة ذاتها التي يجري بها في السياسة. هذه هي السمة المميزة لمنتجات ما بعد الحداثة، كل سلعة تصب في مصلحة الأخرى وتدعو للتعددية الربحية على أكثر من مستوى. وذلك لكون الشركاء الأقوياء قلائل ويهيمنون على مشهد العالم وأحداثة في أغلب المجالات. ويديرون أوضاعاً عالمية بكافة الأيادي الخفية: اليمن واليسار ويمين اليمين ويسار اليسار.
إنه العمل الدؤوب لعولمة الأحذية وتسييس الموديلات التي تجتذب الرغبات من شتى بقاع العالم. أمريكا في متاجر البيع والشراء داخل دول الشرق والغرب على السواء. وتدل الأحذية عالية الجودة عن أصابعها اقتصاديا وسياسيا. وإذا وقعت جريمة حربية كما تحدث جريمة الإبداية في غزة ومن قبل جريمة الإبادة للشعب العراقي ولشعوب العرب بالموت البطيء، فسيكون دليل الإدانة في مواقع الجرائم هو الأحذية.
الحذاء والهوية
في جميع عصور التاريخ، تتكيف الأحذية مع نمط الحياة القائم. فالحياة البدوية تتميز بالصعوبة والحركة البطيئة على الرمال وبين الصخور والتلال والوديان. ومع وجود الترحال من موطن إلى آخر وسط الصحاري، وهو ما يتطلب نوعاً من الأحذية المناسبة لهذه النمط. والحياة الريفية تتطلب أحذية تواكب الزراعة والري والأرض الممهدة وتغيُر الفصول ونزول الانهار والمصارف المائية. وحياة المدينة تفرض أحذية خفيفة الوقع وسريعة الإرتداء وسهلة الخلع أيضاً. لأن الحياة سريعة الايقاع ومعقدة العلاقات وتهتم بالمظهر والجاذبية والقدرة على ملامسة الصور العامة بين الناس.
يبدو الحذاء موضوعاً للتكيف مع البيئة المحيطة ( الجلد الطبيعي). ولكن مع مرور الزمن يصبح لصيقاً بحضور الإنسان زماناً ومكاناً. حتى أنه يُلخص كلَّ السمات التي تجسدها الجماعات البشرية( الجلد الثقافي ). إنَّ البيئة هي السر الخفي الذي يتسلل إلى ثقافة البشر طارحة شروطاً يصعب مخالفتها. لأن البيئة إحدى المصادرات( المسلّمات) التي تعد طبيعية وثقافية في الآن نفسه. وهو ما يختزل وجود الإنسان في زيٍّ أو في قطعة حذاءٍ أو في أسلوب من أساليب العيش.
انطلاقاً من هذا، أخذ الحذاء يمسُ قضايا الهوية والانتماء والحرية، لأنَّ الهوية تنتمي لفصيل القضايا المزدوجة ثقافياً وطبيعياً. وهي تتقمص الأشياء التي تبدو مموهة عند الدرجة الغامضة لأشياء الإنسان. فالأدوات والأزياء والأشكال ترتبط بالهويات ارتباطاً قوياً طالما يعتبرها امتداداً لما يؤمن ويعتقد. وذلك لكونها تتحدد مع مظاهر البيئات المختلفة، وتأخذ دلالات رمزية بالثقافة. وعند معرفة جوانبها لا ندري: ما إذا كانت ظلالاً لهذه ( الطبيعة ) أم تلك(الثقافة)؟
لكن بالامكان – مع عدم التحديد- القول بأن متعلقات الإنسان ( الأزياء والأحذية والمنازل وسائل التكنولوجيا ) تمس شيئاً جوهرياً فينا. والشيء الجوهر يتجاوز التصنيف دوماً. ورغم كونه يدخل دائرة الأدوات إلاَّ أنه يمثل رابطة سرية مع مرجعية معينة. كما لو كان التعلق بالأشياء يجدد الإنتماء إليها ويعطيها بُعداً آخر من القوة. ومن ثمَّ، كانت الأحذية إحدى المتعلقات المهمة واللا متعلقات جنباً إلى جنب. تعكس قيم أصحابها وتبدو تجسيداً للأنشطة وصورة للحياة الخاصة. لأنَّ تلك المتعلقات تأخذ مكان التفضيل وترتبط بالأذواق والمشاعر الحميمية. وهو ما يجعل الرابطة معها ليست رابطةً عاديةً. إنها محط عناية واهتمام من جنس عناية الإنسان بذاته، وماذا يحب من أشياء؟ وأي شيء يكره؟
لو قلنا لأفراد أية جماعة بشرية: ماذا سترتدون من أحذيةٍ؟، سيكون الاختيار مناسباً لجوهر حياتهم ولما يعطيهم انطباعاً بعمق الانتماء. ولذلك سيكون ثمة اتساق بين ما يرتديه الفرد وما يؤمن به وما يتبناه من رؤى. الحذاء سيرسم لمن يتابع دائرةَ واسعة حول كل ذلك. معتبراً - على نحو ضمني- أنَّ الأدوات فنون، والفنون معرفة وقدرة ووسيلة. وعادة ليست كل الوسائل مجرد أشياء حيادية ملقاة في عالم الإنسان.
وإذا كانت الهوية استحواذاً وهيمنةً في بعض جوانبها، فالأحذية تظهر كموديلات تحمل هكذا معنى. وبخاصة مع زحف العولمة وإتيانها بأنماط جديدة من الأزياء والأحذية والأدوات. حيث انتشار الشركات العابرة للقارات والأسواق الممتدة رغم اختلاف الدول. ووجود الانتاج الذي يعبر عن قدرات اصحابه الذين يقفون في الأقاصي محركين كلّ ما يخدم مصالحهم. ليس بعيداً عن المشهد تعلق الأحذية بالتكنولوجيا ووسائل التواصل الاجتماعي. حيث تظهر موديلات الأحذية في صور براقة ولامعة وفي شكل أقرب إلى أجواء الاساطير.
***
6-
" إني أنا ربُك فاخْلع نعليك، إنّك بالوادي المُقدّس طُوى ... " ( طه/ 12)....وتلك كانت أزمة الإرهابيين عندما تعاملوا مع الأفكار كـ "جلد طبيعي" لا يتغير، كأنها أحذية من نوعٍ خاصٍ لا يجب الاقتراب منها ولا ينبغي التنازل عنها. والأدهى أنْ تحولت الأفكار إلى أسلحةٍ يُضرب بها الأعداء والأغيار. ولذلك لا تعد فكرة اللثام المنتشرة لدى التنظيمات الدينية فكرةً بريئةً بالمرة، حيث كان تنظيم الدواعش وبعض الجماعات الدينية يرتدون غطاءً للرأس كما لو كان حذاءً بالأعلى. وذلك حتى يشعرون بترديد الأصوات الخاصة بهم فقط غافلين عن الخارج. وحتى لا تكون هناك مبارحةٌ بين ما يتخيلونه وما يمارسونه في الواقع.
والأهم أنهم يفعلون ذلك، لكيلا يشعروُن بمن حولهم كوقايةٍ مضافةٍ إلى جلودهم الطبيعية. أي تحويل الجلد الثقافي إلى جلد طبيعي غير قالبل للإختراق. ولذلك كان هدف الجماعات الدينية دوماً الافلات من الثقافة ( المضللة من وجهة نظرهم) وصناعة جلد طبيعي منقوشة عليه تصوراتهم ومعتقداتهم.
أثر واكسسوار
إنَّ احساسنا بالثقافة وردود أفعالها يترك آثاره على أجسامنا بالمثل، فالفرد الذي يعيش تجربةً من القهر والعنف، لن يكون جسده سوى مرآة عاكسة للتفاصيل التي مر بها. وكذا تجارب الحب وتجارب الإيمان وتجارب الحرية، إذْ تمثل الثقافة جلداً رمزياً symbolic skin قابلاً للشد والجذب. ونشعر بالمواقف كما لو كانت تأتينا في صورة التجارب الحياتية. الحذاء يندمج في هذا المحيط، فيصبح جزءاً من إحساسنا العام بأنفسنا. إنَّ الإنسان الذي يرتدي حذاءً يصله إحساس عن كل ما يلامسه ويشعر به.
هذا هو ما يجعل الاحساس الاجتماعي وضعاً ممكناً بما يرتديه الشخص. أي نتيجة كون الحذاء مفردة إحساس وانعكاس خارج الأفراد ( بالنسبة للآخرين)، ستكون رؤيته في سياق تاريخ ما أمراً مُتاحاً. وتلك هي الوضعية الفلسفية التي تجعل منه موضوعاً للتفكير. كانت أحذية فان جوخ التي رسمها بأنامله الفنية مثالاً على ذلك، لكونها مثقلة بأزمنة وملامح تاريخية ودلالات عميقة باستمرار. وكلّ منا لديه فيما يخُصه نوعٌ من أحذية فان جوخ، يحتفظ به أو يستعمله بهذه الطريقة الفنية أو تلك. إن أحذيتنا محتفظة بالوقائع والمشاوير والرحلات والظواهر والأحداث وتمتص الصدمات الإنسانية التي تجدد نفسها من وقت لآخر.
من صميم تلك الخاصية الإنسانية، يندرج الحذاءُ كأثر وكعلامة تجارية طويلة التسييس في مجتمعاتنا الراهنة. أثر لثقافةٍ حرصت أنْ يكون الحذاء المعاصر بصمة تاريخية لها. وعلامة مارّة عبر مراحل مختلفة من القيمة والعرض والطلب والتسوق على نطاق واسع. وهذا الاتجاه مرتبط أيما ارتباط باستغلال القوى الكبرى للمجتمعات. ليس الحذاء إلاَّ هذا الاثر الممتد والعلامة التي لا تكف عن الاستعراض. وبطبيعة الحال تريد الدول القوية الهيمنة عبر الصناعات المختلفة. ومن ثمَّ، كان حضور الاكسسوار حضوراً حضارياً لا يخلو من سيطرة. وهو ما يلبي رغبة الأفراد، ولكنه يمثل قوةً ناعمةً لن يفلتوا منها.
لعلَّ ما جرى على كافة ( الأشياء ما بعد الحداثية ) قد جرى على الحذاء في الاتجاه ذاته. لأنّه تشكل بكل ما توافر في عصرنا من قدراتٍ. فلم يعد الحذاء مجرد غطاء للأقدام، ولكنه بات صورة متحولة ومتطورة. وتحمل توقيع الشركات الكبرى في العالم، وليس غريباً أنْ تبادر العولمة بتوفير هذه المنتجات وملحقاتها، بل الغريب أن تحظى المنتجات بشهرة جابت الآفاق. وأن يكون هناك إقبال على شرائها دون تردد. وتبدو الأحذية مفتاحاً لشبكة معقدة من المصالح التي تضرب أطرافها في السياسة والإقتصاد والرياضة والفنون والحروب.
بالإمكان أنْ تمسي شركات صناعة الأحذية متعددة الأنشطة بين المجالات السابقة. فالأحذية الرياضية تضخُ عوائد أرباحها في تجارة الممنوعات. والعكس تجارة الأسلحة تدعو أصحابها لفتح مجال للأحذية. أيهما أكثر أهمية عندئذ الأسلحة أم الأحذية؟ وأيهما يوفرُ غطاءً خادعاً للآخر؟! وكذلك تجارة الحروب والمرتزقة تتداخل مع تجارة الأحذية. فعقود الشركات والتمويل الضخم للأنشطة العسكرية يجري في عروق وجلود الأحذية بالقوة ذاتها التي يجري بها في السياسة. هذه هي السمة المميزة لمنتجات ما بعد الحداثة، كل سلعة تصب في مصلحة الأخرى وتدعو للتعددية الربحية على أكثر من مستوى. وذلك لكون الشركاء الأقوياء قلائل ويهيمنون على مشهد العالم وأحداثة في أغلب المجالات. ويديرون أوضاعاً عالمية بكافة الأيادي الخفية: اليمن واليسار ويمين اليمين ويسار اليسار.
إنه العمل الدؤوب لعولمة الأحذية وتسييس الموديلات التي تجتذب الرغبات من شتى بقاع العالم. أمريكا في متاجر البيع والشراء داخل دول الشرق والغرب على السواء. وتدل الأحذية عالية الجودة عن أصابعها اقتصاديا وسياسيا. وإذا وقعت جريمة حربية كما تحدث جريمة الإبداية في غزة ومن قبل جريمة الإبادة للشعب العراقي ولشعوب العرب بالموت البطيء، فسيكون دليل الإدانة في مواقع الجرائم هو الأحذية.
الحذاء والهوية
في جميع عصور التاريخ، تتكيف الأحذية مع نمط الحياة القائم. فالحياة البدوية تتميز بالصعوبة والحركة البطيئة على الرمال وبين الصخور والتلال والوديان. ومع وجود الترحال من موطن إلى آخر وسط الصحاري، وهو ما يتطلب نوعاً من الأحذية المناسبة لهذه النمط. والحياة الريفية تتطلب أحذية تواكب الزراعة والري والأرض الممهدة وتغيُر الفصول ونزول الانهار والمصارف المائية. وحياة المدينة تفرض أحذية خفيفة الوقع وسريعة الإرتداء وسهلة الخلع أيضاً. لأن الحياة سريعة الايقاع ومعقدة العلاقات وتهتم بالمظهر والجاذبية والقدرة على ملامسة الصور العامة بين الناس.
يبدو الحذاء موضوعاً للتكيف مع البيئة المحيطة ( الجلد الطبيعي). ولكن مع مرور الزمن يصبح لصيقاً بحضور الإنسان زماناً ومكاناً. حتى أنه يُلخص كلَّ السمات التي تجسدها الجماعات البشرية( الجلد الثقافي ). إنَّ البيئة هي السر الخفي الذي يتسلل إلى ثقافة البشر طارحة شروطاً يصعب مخالفتها. لأن البيئة إحدى المصادرات( المسلّمات) التي تعد طبيعية وثقافية في الآن نفسه. وهو ما يختزل وجود الإنسان في زيٍّ أو في قطعة حذاءٍ أو في أسلوب من أساليب العيش.
انطلاقاً من هذا، أخذ الحذاء يمسُ قضايا الهوية والانتماء والحرية، لأنَّ الهوية تنتمي لفصيل القضايا المزدوجة ثقافياً وطبيعياً. وهي تتقمص الأشياء التي تبدو مموهة عند الدرجة الغامضة لأشياء الإنسان. فالأدوات والأزياء والأشكال ترتبط بالهويات ارتباطاً قوياً طالما يعتبرها امتداداً لما يؤمن ويعتقد. وذلك لكونها تتحدد مع مظاهر البيئات المختلفة، وتأخذ دلالات رمزية بالثقافة. وعند معرفة جوانبها لا ندري: ما إذا كانت ظلالاً لهذه ( الطبيعة ) أم تلك(الثقافة)؟
لكن بالامكان – مع عدم التحديد- القول بأن متعلقات الإنسان ( الأزياء والأحذية والمنازل وسائل التكنولوجيا ) تمس شيئاً جوهرياً فينا. والشيء الجوهر يتجاوز التصنيف دوماً. ورغم كونه يدخل دائرة الأدوات إلاَّ أنه يمثل رابطة سرية مع مرجعية معينة. كما لو كان التعلق بالأشياء يجدد الإنتماء إليها ويعطيها بُعداً آخر من القوة. ومن ثمَّ، كانت الأحذية إحدى المتعلقات المهمة واللا متعلقات جنباً إلى جنب. تعكس قيم أصحابها وتبدو تجسيداً للأنشطة وصورة للحياة الخاصة. لأنَّ تلك المتعلقات تأخذ مكان التفضيل وترتبط بالأذواق والمشاعر الحميمية. وهو ما يجعل الرابطة معها ليست رابطةً عاديةً. إنها محط عناية واهتمام من جنس عناية الإنسان بذاته، وماذا يحب من أشياء؟ وأي شيء يكره؟
لو قلنا لأفراد أية جماعة بشرية: ماذا سترتدون من أحذيةٍ؟، سيكون الاختيار مناسباً لجوهر حياتهم ولما يعطيهم انطباعاً بعمق الانتماء. ولذلك سيكون ثمة اتساق بين ما يرتديه الفرد وما يؤمن به وما يتبناه من رؤى. الحذاء سيرسم لمن يتابع دائرةَ واسعة حول كل ذلك. معتبراً - على نحو ضمني- أنَّ الأدوات فنون، والفنون معرفة وقدرة ووسيلة. وعادة ليست كل الوسائل مجرد أشياء حيادية ملقاة في عالم الإنسان.
وإذا كانت الهوية استحواذاً وهيمنةً في بعض جوانبها، فالأحذية تظهر كموديلات تحمل هكذا معنى. وبخاصة مع زحف العولمة وإتيانها بأنماط جديدة من الأزياء والأحذية والأدوات. حيث انتشار الشركات العابرة للقارات والأسواق الممتدة رغم اختلاف الدول. ووجود الانتاج الذي يعبر عن قدرات اصحابه الذين يقفون في الأقاصي محركين كلّ ما يخدم مصالحهم. ليس بعيداً عن المشهد تعلق الأحذية بالتكنولوجيا ووسائل التواصل الاجتماعي. حيث تظهر موديلات الأحذية في صور براقة ولامعة وفي شكل أقرب إلى أجواء الاساطير.
***
6-
خلال هذا السياق أو ذاك من حياة الإنسان، توازي دلالة النعل أية أشياء أخرى طالما لا يصح وجودها في مقام التقديس. فالشيء غير المقدس مرةً يساوى جميع الأشياء غير المقدسة في كل المرات. وليست المساواة حسابية بلغة الرياضيات، ولكنها أمرٌ وارد منطقياً بالنسبة لتجارب الإنسان مع التقديس والايمان. إذْ هي تجارب علو وتجاوز، بحكم كونّها ليست من جنس التجارب العادية. وبخاصة أنَّ مصدر التقديس( وهو الله ) قد ذَكرَ ذلك مباشرةً: ( اخْلع نعليك ). أي أنَّ نعلاً مُدنساً قد يُوازي بعض الملابس غير المقدسةِ، وقد يوازي مساحةَ أرض غير مقدسة، وقد يوازي غطاء رأس مدنس، وقد يوازي قدماً بوضعها التشريحي في الأسفل. ذلك لأنَّ المتعلقات( الأحوال ) التي تتضاد مع الحضور المتعال أشياءٌ هامشية، وتُلحق بصاحبها بعض الدلالات غير المقبولةِ.
إنَّ الطابع المشترك بين هذه المفردات السابقة والنعل هو الإحساس. لأن النعل أحد مظاهر الحس التكميلي supplementary sense، فهو ملحق بأقدامنا ومكمل لوجودنا، نتيجة تجارب المشي والسير والحركة التي نقوم بها. ولكن: لماذا لا تصح الأشياء السابقة في حال التقديس؟! لأنَّ النعل هو ما ينتعله الفرد، وهو ما يتخذه مطيةً لشيءٍ سواه. أي ليس النعل شيئاً أصيلاً لدى الإنسان ولن يكون. فهو بالنسبة إلينا شيءٌ عرضيُ( الإرتداء ) وعرضيُ ( الخلع ) بالوقت نفسه. وما ينطبق على النعل سينطبق على وضع اليد ( اللمس) أو القدم ( المشي) أو العين ( الرؤية) كآلة للإحساس. فعندما تكون الأشياء وسائل لا غايات، وعندما تكون الأشياء غيرَ جوهريةٍ، لن تنال قدراً كبيراً من الوجود في ذاته.
ربما وحدُها آلات الإحساس في تاريخ البشر كانت محل ارتياب تجاه المقدس. مثل أدوات اللمس والشم والتذوق والحركة والرؤية ... فهذه تقوم بعمليات بشرية ليست واردة ضمن دائرة التقديس. ولا تتم بالإيقاع الموضوعي ذاته الذي يجري في حياتنا تجاه الأشياء المألوفة. على الأقل تقف آلات الإحساس عند مرحلة معينةٍ لا تتعداها، ذلك من باب استغلاق دلالة المقدس بما يفيده من غموضٍ وخفاءٍ، وما ينطوي عليه من أسرارٍ وإلغاز. ونتيجة أنَّ المقدس قابع في المنطقة اللاواعية من وجودنا، فهو لا يدخل إحساسنا الغُفل ولا يقفز داخل معرفتنا الواضحة بسهولة.
على سبيل المثال لا يمكننا بلوغ حقيقة المقدّس بواسطة الإدراك الحسي. كما أن الأخير مصدر تشوش واضطرات تجاه امتناع الماوراء أمام عقولنا وعجز التطلع إليه مثلما نتطلع إلى الأشياء الأخرى. والإحساس في ذاته يُعلن قصور الإنسان، طالما لم يتمكن من تحقيق تصوراته القصوى ولا ماذا يريد. حتى أنَّ كل معرفة بإمكان الإحساس تحقيقها تحتاجُ إلى درجاتٍ أخرى من الإدراك. ودوماً الدرجات الأخرى من المعرفة خارج إمكانية الإحساس، حيث لا يتمكن من بلوغها بطبيعته غير المناسبة للتقديس.
المفارقة أنَّ المعرفة الناتجة عن الحس تبرهن على فشل الحس في بلوغ المعرفة الحقيقية. ولذلك كانت دلالة الآية السابقة دافعةً بمعنى النعال إلى درجة القابلية للتأويل. فالمقدس يحدد ما نمتلكه نحن البشر بصورة مجازية، لأن ما نقول عنه كمعرفة حيال وجوده المتعال سيكون مصيره في النهاية أشباحاً أو استعارات. بالفعل الإنسان يمتلك أشباحاً معرفية وإستعارات لبناء حياته حول المقدس.
ربما ذلك هو علة أن الله - في الآية- يعبر عن ذاته مباشرة بالضمير( إني )، في إشارةٍ إلى وجوده المتعال قصداً وحضوراً. والقصد هو العلاقة التي تدل على التواجد الفريد غير القابل للتكرار. وكل تواجُد لون من الحضور على خلفية الأصل الذي يجب العمل به. ولذلك ثنى الله (أني ) بضمير المتكلم ( أنا )، أي أنت في معية الرب ( ربُك ). وكأنَّ الكلام يغلقُ كل المنافذ وأربعة أركان: الوجود والتعالي والحضور والمعنى عن دلالة السياق. إذ طالما كان موسي في معية الرب، فلا مجال لغير المقدس.
وبناءً عليه سيكون النعل مفتاحاً لما هو خارج السياق بشكل مجازي. والمجازي يعني قدرتنا نحن البشر على عملية الاستحضار لكائنات العالم، سواء أكانت استعارة أم خيالاً أم فكراً. وهو ما يجعل النعل معنى غير مباشر يجوز تأويله وإدخاله في نصوص ووجود الناس غير المقدسين بالتبعية. وحرصت الآية بهذا التمايز على مخاطبة موسى بالضمير (أنت). أي أن هناك: ( إني أنا ) وهناك ( إنك أنت ). ومتى وجد الأنا والأنت في دلالة الحضور المقدس وغير المقدس، فهناك التواجد من قبيل التأويل معرفةً وفهماً.
ومن ثمَّ، فإن كلمة النعال- على خلفية المعنى- تمارس ( دور البديل ) الذي يقبل وجهي ( الأخذ والترك ) لمتعلقات الإنسان الأخرى. فالأشياء إذا كانت قابلة للتبديل، فهي تنتمي إلى دائرة من تلك الدوائر. إذن كل تقديس هو في الحقيقة ( موقع تبديل ) للأشياء دون حدود. نظراً لعدم قدرتنا نحن الكائنات البشرية على ملئه. فهو متعالٍّ بطبعه وهو غير قابل للتحديد، كما أننا لا نمتلك له كياناً واضحاً. وبالتالي لا يكف الإنسان عن محاولات مواكبته والتطلع نحوه، ولكنه يظل يجرب البدائل تلو الأخرى لهذا الغرض دون جدوى. وإخلع تعني اترك وإلقِ شيئاً دخيلاً على كيانك عند حضور المقدس رغم عدم محدوديته. ونظراً لأن الإنسان لا يفهم إلاَّ بهذا الشكل الوجودي في لغة الآدميين، فالآية كانت أمراً لنبي الله موسى في الحقيقة.
لكن فعل ( إخْلع ) بمثابة الفعل الذي يوازي مجازية الوجود. وهذا هو موطئ التأويل فيه. الخلع هو لون من صرف الأشياء بعيداً حتى تغيب، حتى تبتعد. ولكي تكون غير مرئية وملقاة جانباً، علينا الاحتفاظ بصورتها دون كيانها الفعلي. فالتأويل أحد أشكال الغياب الحقيقي مع الحضور المجازي. أي أنني كذات إنساني ليس حاضراً على نحو كلي. وحتى عند الاعتراف بوجودي، فإنني أيضاً كيان مؤول بالنسبة للإله. فمن أكون أنا مقارنة به على صعيد ميتافيزيقي؟! لأنَّ الغياب يعني اتساع الوجود بما لا يستطيع الإنسان الحضور فيه بصورة شاملة. والحضور المجازي للإنسان واضح لكونه موجوداً مقارنة بالإله والوجود المقدس. فالإنسان غائب بالنسبة للقداسة بوصفه كائناً غير مقدس، بدليل دخول موسى بنعليه وهو لا يعلم كون النعال مدنسة. وهو كإنسان حاضر أيضاً مجازياً في حضرة المقدس الإلهي، باعتباره ليس إلهاً ولا يصح مقارنته بالإله.
وحضور الإنسان في الأديان لابد أنْ يكون حضوراً مجازياً تجاه المقدس. إنه يجسد إشكالية التواجد بحسب المواقع التي يندرج فيها وليس مساراً للوجود على الأصالة. فالإنسان يأخذ ( جانبه المؤول interpreted side ) من المقدس طالما يحضر في ساحة الميتافيزيقا. وبالتالي سيكون على الإنسان أن يحذر من جميع متعلقاته الهامشية كذلك. لأنَّه ما لم يأخذ التقديس بعين الاعتبار والعناية، فلن يكون كيانه إلاَّ غياباً لا قيمة له. فالقيمة الوجودية بهذا الشكل تأتي من قدرتنا نحن البشر على التقديس. ولكن: ماذا لو كان ما ننتعله غير مناسبٍ لذلك الوضع؟ هل الكينونة التي نمتلكها تأتي خالصة دون شوائب؟ ماذا يعني أن النعال قابلة للتبديل (الخلع والارتداء)؟ هل كل قداسة تحتاج إلى خلع شيءٍ ما ؟!!
إن إيراد الآية القرآنية كاملة يضعنا أمام معان أخرى: " فلما أتاها نُودي يا موسى إني أنا ربك، فاخلع نعليك، إنك بالوادي المقدس طوى، وأنا اخترتك، فاستمع لما يُوحى، إنني أنا الله لا إله إلاَّ أنا فاعبدني، وأقم الصلاة لذكري. إنَّ الساعة آتية أكادُ أخفيها لتُجزى كل نفس بما تسعى، فلا يصدنك عنها من لا يؤمن بها واتبع هواه فتردى " (طه 11/ 14).
النعل مادة الأرض في الإنسان، أي يتعلق بالأديم الذي خُلق منه. والأرض رمز الشهوات، رمز الغرائز، رمز الفناء الذي يطلب البشر على حافة النهاية. وعندما يتم النداء إلى موسى، فهو نداء معبر عن العلو، نداء الله الذي جعل ارتداء النعال أمراً غير لائق. كان النداء سابقاً لما ترتبت عليه من حيثيات. وكانت أولى الحيثيات( اخلع نعليك )، فلا يجب أنْ تكون متعالياً وترتدي ما يقلل من ذلك إنسانياً وفي عرف الإله. المؤشران مرتبطان ببعضهما البعض. قد يقول قائل: إذا كانت النعال متدنية الدلالة لدى البشر، فما بال الإله يأخذ بذلك؟ الإجابة بسيطة أن تجربة التقديس موضعها الإنسان. وما يعتبره الأخير مدنساً، سيكون كذلك حتى من قبل الإله. ولذلك أشارت الآية إلى الوادي المقدس، لأنه أرض مستثناة، أرض خارج التدنيس.
لماذا النعال مُحقرة إلى هذا الحد؟ ربما لكونها تلامس الأشياء والمتعلقات غير المحببة. وأنها من ثمَّ رمز التدني، والمقدس يحيل الأشياء المحقرة إلى استعارات للنجاسة والشرور وعالم الأرواح الخبيثة. والأشياء التي يشتم منها المؤمنون نجاسة لا يحبب وجودها لديهم، بل سيكون وجودها موضع احتقار وإزدراء. هذه الفكرة قديمة قدم البشرية ومراراً أكدها الوحي في الديانات التوحيدية. لأن الأشياء النجسة مثل الدم وبعض الحيوانات كانت محل مهابة بالنسبة للناس ومحل خوف وبالوقت عينة تشعرهم بالنفور. النجاسة في غابر المعتقدات لم تكن بعيدةً عن القداسة، فالأمر بين الإثنين كان شديد التجاور بالمثل. فالمقدس قديماً كان يحمل معاني الخوف والتعالي، الرعب والقرب، المحرم والمحبوب.
في الثقافة الشعبية، كانت النعال مرتبطة بالحط من قدر الأشخاص. فرفع النعال دلالة على إزدراء وإهانة تجاه البعض. وذلك من بقايا المعتقدات القديمة التي تربط النعال بالأرض في مقابل السماء. والتدني في تضاد مع العلو.
وربما من بعض تأويل كلمة النعل في الآية أنها تساوي العقل. بمعنى أنَّ التقديس يقتضي خلع العقل كذلك، لكون الأخير لن يجدي ولن يفهم ما يجري في حضور المقدس. وأن الإنسان في حضرة الإله لن يجد العقل مسعفاً ولا قادراً على استيعاب الموقف. فالعقل لدى أغلب الناس بمثابة المطية التي يمتطيها الإنسان وصولاً إلى أهدافه، العقل بالمعنى الفردي والعقل بالمعنى الجمعي الذي يعني إقامة نظام عام لأجل تماسك المجتمع. بينما العقل في أمور التقديس لا يُجدى، وربما ينفُر منه أهل الايمان باعتباره غير قادر على التجاوز إلى أكثر مما يرى النظر أو يشتم الأنف أو يحس الجلد!!
هل يمكننا القول: اخلع عقلك إنك بالوادي المقدس طوى؟! لا ريب أن العقل لن يعرف كنه المقدس، رغم أنه مسكون بالمجهول والفضول الميتافيزيقي الأصيل. لأنَّه مصدر الأسئلة، غير أنَّ الإدراك ليس يتجاوز حدود ما يعرفه. بل قد يكرر العقل ما يستطيع عمله والوصول إليه في كل مرةٍ أخرى. إن الصوفية يرفعون شعاراً مؤداه إخلع عقلك أمام ما تعرف من فتوحات. لأن العقل حجاب كثيف في مثل تلك المعرفة. وبخاصة أن المعرفة التي قد يتوصل إليها العقل لا تنفك عنه، بل قد تشكل حوله قوقعه سميكة لا يصل إليها نور ولا هواء.
إن مقولة "اخلع عقلك " تفيد اتصالاً بذلك في مواقف الحرية والإنطلاق نحو المختلف. لأن مواطن العقل تجيد المجتمعات البشرية غلقها تماماً، تغلقها بالمنطق نفسه الذي يقبله العقل لا بعيد عنه. إن كل المجتمعات المتخلّفة تسعى إلى التشبث بالعقل لأنها تسعى جاهدة للتمسك بالواقع الذي تزعم التمسك به أيضاً. فالتخلي عن التخلف عندئذ هو تخلي عن العقل. إذن ماذا سيقول الإنسان غير (إخلع عقلك) من جذوره. ولكن الخلع في هذه الحالة ليس سهلاً، لأن من أصعب الأمور أن يدرك العقل أنه قيدٌ على ذاته، رغم أن ذلك القيد كامن في بنيته كبرت أم صغرت. فهل يمكننا أن نقول( اخلع عقلك القديم ) الذي كان سبباً في تكلُس الحياة والواقع.
***