د. أحمد الحطاب - مفهوم الوقت بين الطفولة والشيخوخة

بصفة عامة، الوقت le temps مفهومٌ تجريدي concept abstrait، من غير الممكن أن نلمسَه أو نُمسكه كما نفعل ذلك بالنسبة لشيءٍ مادي.

ورغم طبيعتِه التَّجريدية، فالوقتُ يتبع الإنسانَ، كظلِّه، أينما حلَّ وأينما ارتحل. إنه ينظِّم حياتَه ويُسيِّرها. وإنه، كذلك، يكون سببا في الإرهاق، في الضغط، في القلق، في وضعِ الإنسان أمام المجهول، في جعلِه سعيدا… إنه الماضي، الحاضر والمستقبل. يمكن أن يكونَ دقيقا (ساعة، دقيقة، ثانية، جزء من الثانية، سنة، قرن…). كما يمكن أن يكونَ غير دقيق عندما نقول مثلا : لحظة، بُرهة، عصر، فترة، مرحلة، عهد… لا أحد (علماء، مفكِّرون، مؤرِّخون…) استطاع أن يُعطيَ لهذه التقسيمات من الوقت قيمةً دقيقة ومطلقه. لكن الوقتَ، عندما يرتبط بالحياة اليومية للإنسان والفضاء الذي يعيش فيه، تصبح له بداية ونهاية.

في هذه الحالة، الوقت هو ذلك المِقدار من الزمان الذي يستغرقُه إنجازُ عملٍ ما أو فعلٍ ما أو نشاطٌ ما أو التَّفوُّه بقولٌ ما أو بأقوالٌ ما.

لكن، يجب أن لا ننسى أن مفهوم الوقت، كما هو الشأن لكل المفاهيم، تمَّ بناءُه فكريا واجتماعيا من طرف الإنسان. وكسائر المفاهيم التَّجريدية، مفهوم الوقت يُدرَك بالعقل. وكل ما يُدرَك بالعقل، مُرتبطٌ بالزمان والمكان. وكل ما هو مرتبطٌ بالزمان والمكان، فهو نسبي، أي قابلٌ للتغيير. فكيف لمفهوم الوقت الذي يُحسَب بدقَّة عالية بالساعة والدقيقة والثانية والجزء من الثانية والسنة والقرن… أن يكون نسبيا؟

الجواب على هذا السؤال هو التالي : العقل هو الذي يحوِّل الوقتَ من شيءٍ دقيق إلى شيء نسبي. لماذا؟

لأن الوقت، رغم أنه يُحسب بدقة، فهو مرتبط بالزمان والمكان اللذان يعيش فيها الإنسان. وهذا يعني أن الوقتَ مرتبطٌ بالظروف الزمانية والمكانية التي يوجدُ عليها الإنسانُ في حياته اليومية. وحالة الإنسان النفسية مرتبطة، هي الأخرى، بالظروف الزمانية والمكانية. ولهذا، فعقل الإنسان قد يبدو له الوقتُ قصيرا حينما يوجد هذا الإنسانُ في حالة نفسية تغمرها السعادة والسرور والفرح والمرح وراحة البال والطمأنينة… وقد يبدو له الوقتُ طويلا حينما يوجد الإنسان في حالة نفسية فيها أزمة أو فيها حزنٍ أو حينما تحلُّ به مصيبةٌ من المصائب…

ولهذا، فالإنسان، حينما يكون طفلا، لا شيءَ يفكِّر فيه ويشغل بالَه أكثر من اللعب. وهذا يعني أن الطفولةَ، إن لم تكن مقترِنةً باللعب، فهي ليست طفولة.

ما أريد أن أُلحَّ عليه هنا، هو أنه لا أحد يجادل في كون الطفولة هي أجمل مراحل حياة الإنسان إذ خلالها، يُحس الطفلُ أنه يملك العالمَ كله. عالمٌ يلعب ويمرح فيه كما يشاء و وقتَ ما يشاء. وتكاد تكون حريتُه وخيالُه، في عالمٍ يظن أنه يملِكُه، غير محدودين، زماناً ومكاناً.

وما يجعل مرحلةَ الطفولة من أجمل مراحل حياة الإنسان، هو أن كاهلَ الطفل خالٍ من كل مسئولية ومن عدم الانشغال بها كما هو الشأنُ عند الكِبار. قد أقول إن فترةَ الطفولة هي فترة اللامبالاة إذ أن الطفلَ لا يهمُّه ما يقوله أو ما يفكِّرُ فيه الآخرون. ما يهمُّه هو تحقيق ذاتِه، من خلال اللعب، أو بعبارة أخرى، ما يريد هذا الطفلُ أن يحقِّقَه من رغباتٍ آنية، من خلال اللعب.

وكل طفلٍ سليم البنية والعقل يتمنى أن يدومَ اللعبُ ليل نهار، أي أن الوقتَ الذي يقضيه الطفلُ في اللعب يبدو له دائما قصيرا. والدليل على ذلك، إن لم يتم وضعُ حدٍّ للعب، فالطفل يستمر في هذا اللعب إلى ساعة متأخِّرة من الليل. ولهذا، فالطفلُ لا يهمُّه أن يُحسبَ الوقتُ بالساعة والدقيقة والثانية والجزء من الثانية… ما يهمُّه هو أن الوقتَ الذي يقضيه في اللعبِ يبدو له دائما قصيرا. وقد يُهمِل أكلَه وشربَه، وأحيانا دروسَه، للظفر بفرصةٍ من فُرَص اللعب.

أما الكِبار (كهول وشيوخ)، فإدراكهم للوقت يتغيَّر حسب الوضع النفسي الذي عاشوه في الماضي ويعيشون في الحاضر. فإذا كانوا في حالة يُسرٍ وسعادة، فالوقت يبدو لهم قصيرا. وإذا كانوا في حالة عُسرٍ وحزنٍ، فالوقت يبدو لهم طويلا.

لكن العاقلين منهم يكون شِعارُهم في الحياة : "الوقتُ من ذهب لا يجب ضياعُه". ويُدركون تمامَ الإدراك أن الوقت إذا ضاع، لا يمكن أن يعودَ. بل لا يمكن استرجاعُه أو تعويضُه.

ولهذا، فالعاقلون من الناس يتعاملون مع الوقتِ بما يكفي من العقلانية la rationalité والتَّدبُّر réflexion. فتراهم يُخضِعون ما لديهم من وقتٍ لتدبير محكمٍ une gestion maîtrisée. أما العاقلون المؤمنون، فينظرون للوقت كنِعمة من الله يجب تصريفُه فيما ينفعهم وينفع الناسَ في الدنيا والآخرة.

في الحقيقة، إذا نظرنا للوقت من زاوية اجتماعية محضة، فتدبيرُه يُحتِّم علينا أو يتطلَّب منا حسنَ التَّخطيط والتَّنظيم والتَّرتيب. التخطيط والتنظيم هما العاملان اللذان، من خلالِهما، يُخصَّص لكل عملٍ أو نشاطٍ وقتا معيَّنا. أما الترتيب، فهو العامل الذي يرتِّب الأعمالَ أو الأنشطةَ حسب الأولويات والأهداف. وكلُّ عملٍ أو نشاطٍ مُخطَّطٌ له ومُنظَّمٌ ومُرتَّب، إن لم يكن فيه نفعٌ لصاحبه وللناس الآخرين، فهو باطلٌ وسوءٌ وشرٌّ… إن كانت فيه مضرةٌ للغير. فما هو العمل النافع؟

العمل النافع يتمثَّل في أن يقضيَ الإنسان وقتَه في أداء واجباتِه على أحسن ما يُرام والاستفادة من حقوقه كاملة، مصداقا لقوله، سبحانه وتعالى : "إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَىٰ وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ" (البقرة، 62). ما يثيرُ الانتباهَ في هذه الآية، هو أن اللهَ، عزَّ. جلَّ، يُساوي بين المسلمين (الَّذِينَ آمَنُوا) وأهلِ الكتاب (وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَىٰ) والصابئين (الذين يعترفون بوحدانية الله ويعبدونه) شريطةَ أن يقوموا بعملٍ صالحٍ. والعملُ الصالحُ هو كلُّ عملٍ فيه نفعٌ للناس وليس فيه مضرةٌ لهم.

ولهذا، فعندما يقضي الإنسانُ وقتَه، واضِعاً أمامَ أعيُنه أداء الواجبات، على أحسن ما يُرام، والاستفادة من الحقوق، فكل أعمالِه تكون نافعةٌ له ولمجتمعِه ولبلاده. السؤال الذي يفرض نفسَه علينا هنا، هو : "هل كل الناس يتعاملون مع الوقت، واضعين أمام أعينهم أداءَ الواجبات والتَّمتُّع بالحقوق"؟

الإجابة على هذا السؤال توجد كليا وحصريا في استقراء أحوال المجتمعات. لكن، ما هو مؤكَّدٌ، هو أن الحنينَ للوقت الجميل لا يفارق الناسَ طول حياتِهم. الطفل يريد أن يبقى طفلا والشاب يريد أن يبقى شابا والكهل يريد أن يبقى كهلا، والشيخ يقول : "ليت الشباب يعود يوما، فأُخبره بما صنع المشيب (من شغر أبو العتاهية).

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى