جعفر الديري - الناقد البحريني د.إبراهيم غلوم: الهشَاشة الدقيقة معضلة مثقّفي اليوم

متابعة – جعفر الديري:


قال الناقد والأكاديمي البحريني الدكتور إبراهيم عبد الله غلوم: إن معضلة المثقف اليوم الهشاشة الدقيقة في شخصيته، فهناك مشكلات مستعصية راسخة في وعي المثقف، ونصوصه متناقضة ظاهرها ولغتها تتناقض مع النسقية الصلبة التي لا يمكن التخلص منها، لذلك فالمثقف هو نفسه من يقوم بهدم ما يبنيه.

جاء ذلك خلال فعالية نظمتها أسرة الأدباء والكتاب مساء الاثنين 1 ديسمبر2003، ضمن فعالياتها الثقافية للموسم الجاري، تناولت قراءة نقدية في آخر إصدارات إبراهيم غلوم «الثقافة وإنتاج الديمقراطية»، قدمها الناقد عبدالله جناحي، وأدارها الناقد الدكتور عبدالقادر فيدوح.

تحدّت د. غلوم عن أهم الأفكار والخطوط التي حملها هذا المؤلف، إضافة لبعض الأفكار التي تنصب في إطار محاور الكتاب الرئيسية، مبرزا لفكرة تحولات المثقف المستمرة، وحالات اليأس التي تتلبسه، مسلطا الضوء على أطراف من تجربته الشخصية وتحولاته ويأسه ومحاولات خروجه إلى فضاءات الثقافة العامة بما يمس مشكلات المجتمع.

يدخل في حلم ويخرج منه

وقال د.غلوم: ان معضلة المثقف أنه يدخل في حلم ويخرج منه، لكنه سرعان ما يدخل في حلم آخر، هذه - على حد تعبيره - صيرورة المثقف منذ البداية، وهي إشكاليته التي لم تحل ولن تحل، لأن حرية المثقف تكون في أفق برزخي، والأمر نفسه ينطبق على قضية الثقافة والديمقراطية.

وألمح د. غلوم إلى مسألة التحولات السياسية والاجتماعية والثقافية، ما أسهم في ترسيخ حال من الالتباس لدى المثقف، هذه الحال - كما يقول - لم يسلم هو نفسه منها، لذلك فالكتاب تنطوي فصوله التي كتبت في فترات متباعدة على محاولة تقديم تصور مضاد لحال الالتباس هذه، ولإعادة جردة الحساب تجاه قضايا كثيرة، ومن هنا كان تأكيد الكتاب على أن الثقافة هي المحرك، وهي المنتجة للأفكار والمفاهيم الكبرى.

تبنّي المؤلف للمنهج الهيجلي

من جانبه قال الناقد عبدالله جناحي: إن تبني المؤلف للمنهج الهيجلي ومراهنته على أن إحدى مكونات البنية الفوقية للمجتمع «الثقافة» هي خالقة ومنتجة المكونات الأخرى من هذه البنية كالمفاهيم والتشريعات والدساتير والأفكار، وكذلك منتجة للبنية التحتية من المجتمع كالاقتصاد والمفاهيم المتصلة بالسوق، والقيم الكبرى كالحق والعدالة والمساواة والحرية... - هذا التبني - لم يصمد أمام الوقائع المادية، فواقع مجتمعاتنا الشرقية ذات البنية الريعية الواضحة، واعتمادها الكلي على سلوكيات وممارسات ومن ثم قيم الاقتصاد الريعي بكل تشوهاته، كل ذلك يضعف من هذه الفرضية التي انطلق منها المؤلف في كتابه، فضلا عن تشوُّه التطور الاجتماعي والاقتصادي لهذه المجتمعات الشرقية، والذي عكس نفسه على تشوه مقارن لتطورها السياسي والفكري والثقافي.

وتساءل جناحي في مداخلته: هل وظيفة الثقافة الجوهرية كما تدعي مقدمة الكتاب إنتاج الأفكار والمفاهيم الكبرى في مثل هذه المجتمعات؟ وهل هي التي أنتجت الديمقراطية والأيديولوجيا بكل تنوعاتها من قومية إلى ماركسية إلى إسلامية إلى ليبرالية؟ وهل اقتصاد الدولة نتاج ثقافة اقتصادية ورؤية استراتيجية معتمدة على نظرية أو نظريات اقتصادية وفلسفية كما هو حاصل في الغرب الرأسمالي أو دول المنظومة الاشتراكية فيما مضى؟

وأضاف: لم يتعمق الكتاب في معنى المثقف الذي يقود هذه الوظيفة التاريخية الجوهرية في إنتاج كل مجتمع، فمن هو هذا المثقف القادر على إنتاج مثل هذه المفاهيم والأفكار وحتى الاقتصاد والسوق؟ هل هو المثقف العضوي المؤثر جماهيريا وشعبيا، وأي هو هذا الصنف من المثقفين في مرحلة الستينات والسبعينات من القرن الماضي؟ أم هو المثقف العضوي المتمثل في رجال الدين؟ أم هو المثقف المرتبط بالسلطة والمنظر لمشروعاتها السياسية والاجتماعية والاقتصادية... أو هو المثقف المستقل؟

هيمنة نسق الاستبداد في الثقافة العربية

وتابع جناحي: يثير المؤلف إشكالية طرحت على الساحة العربية منذ نهاية السبعينات من القرن الماضي من قبل عديد من المفكرين العرب «الجابري، أركون، أدونيس» وهو يتبنى هذه الرؤية المتمثلة في هيمنة نسق الاستبداد في الثقافة العربية، ويضع قلمه على بؤرة هذه الإشكالية حينما يؤكد أن جميع القوى المهيمنة في الثقافة العربية هي التراث، وخصوصا الدين كأعتقاد وكأنثروبولوجيا، وكأيديولوجيا وكطوائف ومذاهب وفرق غير أنه يقحم عوامل أخرى... منها اللغة، السلطة، الدولة، الشعر، العلوم. وأعتقد أن وضع هذه المحددات كافة في سلة واحدة قد أضعف الطرح وشتت التركيز على بؤرة الإشكالية، وعلى سبيل المثال، فإن اللغة والشعر وإن كانا مؤثرين كمحددين جوهريين في تأسيس الحضارة العربية الإسلامية وتم تأصيلهما في عصر التدوين، إلا أنهما لم يكن لهما ذلك التأثير في عصرنا الراهن أمام تأثيرات العوامل الأخرى.

قضية المثقف ذي التكوين الديني

وفي معرض القراءة لفصول الكتاب تحدث جناحي عن الفصل الذي تناول فيه المؤلف قضية المثقف والسلطة والمثقف ذي التكوين الديني قائلا: لقد استعرض المؤلف عند تقديمه لهذا الفصل مرجعية نظرية لا يختلف بشأنها كثيرا معظم المثقفين والنقاد، من حيث إبرازه للتحديات بمعانيها المتعددة المفتوحة أو المغلقة، وعلاقة الثقافة بالإعلام الرسمي، والثقافة في الإعلام في ظل الطفرة الاقتصادية في دول الخليج العربية ونتائجه الاستهلاكية من جهة، وهيمنة أولوية الاقتصاد والأمن على حساب الثقافة وغيابها تماما من الاستراتيجيات الرسمية... غير أن ما لفت انتباهي في هذا الفصل، إضاءة كنت أتمنى من المؤلف لو أنه توسع في تشخيصها وتحليلها وطرح نماذج منها، وأقصد بها علاقة المثقف الخليجي بالسلطات الحاكمة. وحسبي لو أن المؤلف استمر في تشخيص هذه الحال وتفكيك خطاب هؤلاء المثقفين وأسباب التحولات وآثارها ونتائجها الفكرية والسياسية، الإيجابية منها والسلبية لأضاف للأطروحة النظرية المتعلقة بإشكالية العلاقة بين المثقف والسلطة إضاءات جديدة واقعية ومقارنة بين الخطاب المعارض لهذا المثقف وتحولاته بعد انتقاله ومشاركته في صوغ سياسات السلطات الحالية على الصعد التربوية أو الإعلامية أو السياسية أو غيرها.

وتابع جناحي: ولكن الإضاءة التي لم يكملها في هذا الفصل والأخطر من سابقتها، إذ لمسها المؤلف من دون التعمق فيها تتمثل في إشكالية ثقافية تتداول بين الكتاب والمثقفين من دون أن يتجرأ أحد التنظير بشأنها وتبيان رموزها المشخصة في الواقع الخليجي، ونقصد بهذا النموذج هو ذلك المثقف الذي وصفه المؤلف بالخارج من عقود الكوارث والتحولات والثورات الإسلامية. ويعتقد المؤلف أن هذا النموذج من المثقفين غير مأمون الجانب، إنه لا يجرؤ على خوض معارك عملية مع الواقع، وليست له إنجازات ثقافية ملموسة ويكاد يكون كمن يمارس وظيفته حسب الطلب، لكن هذه الأحكام المطلقة بحاجة إلى دراسة موضوعية معمقة سوسيولوجية ومعرفية، وكذلك نفسية... وعليه فإن مرور المؤلف سريعا على هذه الظاهرة مع إعطاء هذه الأحكام من دون إعمال التحليل والتفكيك والنقد يعتبر إضعافا لمثل هذه الأحكام وتفويتا لفرصة أخرى نادرة لكشف الأبعاد الخفية والمسكوت عنها في خطاب المثقف الأصولي المغلف بقشرة الحداثة.

المصدر: صحيفة الوسط البحرينية: العدد 454 - الأربعاء 03 ديسمبر 2003م الموافق 08 شوال 1424هـ.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى