السباعي بيومي - أولى الكلمتين

إلى الدكتور زكي مبارك

وعدت حضرات القراء في عدد الرسالة الأخير أني سأنشر في عدديها المقبلين كلمتين اثنتين، أتوجه فيهما بالحديث إلى صديقي الدكتور زكي مبارك. وهذي أولى الكلمتين، وهي كما رسمت حين وعدت، ترمي إلى تقرير الموضوع الأصيل الذي من أجله كتب الدكتور.

ألقيت محاضرة بمدرج على مبارك باشا في دار العلوم عن (أسلوب المبرد في كامله) وعقب انتهائي منها طلب أحد مستمعيها من طلاب كلية اللغة العربية السماح له بكلمة، فأجبته إلى ما طلب، وكانت كلمته أربعة أسئلة ألقاها، رمي المبرد في رابعها بالغرور والادعاء، وأنه كان لا يتحرى إذا أجاب. فرأيت الموقف يقضي عليّ أن أرد عليه، وفعلاً رددت، وكانت إجابتي عن السؤال الأخير تتلخص في نفي تلك الصفات الذميمة عن المبرد نفياً قاطعاً، استدللت عليه بامور، منها أن من شأن من لا يتحرز في إجابته إلا يمسك إذا لم يتثبت، وإنما يرمي بالقول جزافاً، ويخترع الإجابات اختراعاً، وعهدنا بالمبرد انه غير ذلك، فقد رأيناه في كامله إذا عرض له ما لا يعرفه اعترف بذلك، خضوعاً لتلك الكلمة الجامعة التي لا ينزل على حكمها إلا الثقات الأعلام، وهي (من قال لا أدري فقد أجاب) ثم أخرجت من الكامل شاهداً على ذلك أسمعته الحاضرين، ومنها أن من خالط قلبه الغرور وتملكه الادعاء لم يك في مقدوره أن يخفي ذلك في مصنفاته، بل لا بد أن يفضحه أسلوبه.

ومهما تكن عند امرئ من خليقة ... وإن خالها تخفي على الناس تعلم

وليس في كامل المبرد على كثرة كسبه فيه ونسجه حول أصوله، ما ينفي عنه صفة التواضع العلمي، أو يلقي على أبحاثه ولو ظلاً صغيراً من الكبرياء والادعاء.

ودعماً لهذا الاستدلال الأخير في أن أسلوب الكاتب يشف عن خلائقه، قلت للسائل - وقد ذكر أنه استقى ذلك من شرح الشيخ المرصفي على الكامل - إن مؤلفات المرصفي هي التي تنم عن خلق الغرور والادعاء فيه، كما يعلم ذلك من أطلع على هذا الشرح ومقدمته؛ وكذلك من أطلع مثلهما فيما عمله بديوان الحماسة. وقلت: وإنه لتأصل هذا الخلق فيه كان شديد التحامل على المبرد والتشهير به فيما يظن أن المبرد أخطأ فيه؛ ثم قلت: وكم كنا نتمنى للشيخ المرصفي أن يجرد علمه من غروره، ويسبل على تأليفه ثوباً ضافياً من التواضع والاعتدال، حتى يكون ذلك أبين لفضله وأدل على نبله.

وأخيراً قلت: ولا يبعد أن تكون البيئة العلمية التي عاش فيها المبرد قد تقولت عليه ما تقولت حسداً وبغياً، فإن علماء عهده ما كانوا يعهدون من علمائهم إمامة في اللغة إلا في ناحية واحدة منها، كناحية قواعدها، أو ناحية مفرداتها، أو ناحية آدابها، ولكن المبرد كان إماماً ذا آراء في هذه النواحي الثلاث جميعاً، فهم بما كانوا يتقولون عليه إنما يريدون انتقاصه شفاء لما دب في صدورهم عليه من حقد وحسد.

ولقد خفت أن يهجس في نفوس السامعين تنزيه قلوب هؤلاء العلماء من رذيلة الحسد فأتبعت ما سبق بقولي لحضراتهم: ولا تستبعدون الحسد على العلماء، فإن من طبيعته أن تكون أقرب إلى الأدنين منه إلى الأباعد، وأسرع إلى قلوب العلماء منه إلى قلوب الجهال، وإذا ما شئتم مزيداً في معرفة هذه الطبيعة - طبيعة الحسد - فاقرءوا رسالة الجاحظ فيه، وهي اكثر من اثنتي عشرة صفحة.

ذلك ما قررته في إجابتي عن السؤال الأخير، بعد الذي قررته في الإجابة عن الثلاثة قبله. وما كان أشده عجباً وأبعده غرابة أن تطوى صحيفة الإجابات الثلاث وقد سلخت فيها نحو الساعة، تم تشوه هذه الإجابة الأخيرة تشويهاً يمسخها مسخاً، وإذا أنا أمام الواصل إلى منها كالذي يستمع إلى الآية (يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة) دون ذكر هذه الجملة الحالية بعدها (وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون) فقد كان هذا الواصل أنني وصفت الشيخ المرصفي (بكثير من الأخلاق الذميمة كالغل والحقد والحسد والسطحية البحث والتطاول الذميم) وأنني تعديت ذلك إلى (تجريح طوائف العلماء على اختلاف مهنهم وحكمت بأن طباع الحسد والحقد لا تجد لها مراحاً خصيباً كالذي تجد من قلوب العلماء)

وا رحمتا للأخبار من رواتها! فما كان مني عن الشيخ المرصفي علم الله إلا أسفي على ما خالط مؤلفاته من غرور وادعاء وتطاول على المبرد في أسلوب غير حميد؛ وما زلت معتقداً هذا رضى الدكتور أم سخط، وواثقاً أن كثيراً من أهل العصر يعلمونه علمي، ويعرفون كيف يستدلون عليه استدلالي. وكم كنت كما قلت في إجابتي أتمنى خلوّ مؤلفات المرصفي من غروره، حتى لا يذهب هذا الغرور بفضله، وما كان مني عن العلماء شهد الله إلا أنهم في بيئة المبرد حسدوه تنوع ثقافته وتعدد إمامته، وأن هذا الحسد لم يك من شأن علمهم أن يبعده عنهم، لأن الحسد كما يقولون مُوكَل بالأدنى، وهو كما ذكر الجاحظ في رسالة الحسد: (قد صار العلماء أكثر منه في الجهال، ودب في الصالحين أكثر منه في الفاسقين). وأنا بهذا الرأي لا زلت ولن أزال أدين، وافق الدكتور أم خالف.

هذا يا صديقي الدكتور هو الأمر الأصيل على جليته، قد بسطته موضوعاً في نصابه مقرراً على وجهه، لا كما تطايرت به الإشاعات بل الإشاعات المغرضة، وأنت بما تدخله روايات السوء على الأخبار جد خبير. وقديماً قالوا: وما آفة الأخبار إلا رواتها. ولعلك يا صديقي عتبت عليّ أني لم أجبك أول ما سئلت، وما كان لك أن تعتب، فتلك عادة الناس فيك وموقفهم منك. على أني أخالف تلك العادة وأجيبك عسى أن تستريح.

تعلمْ يا صديقي أن إغفال إجابتك ما كان إلا استبعاداً عليك أن تفهم ما فهمت، وإلا أملاً أن يردك هذا الاستبعاد إلى الحقيقة تستقيها بعيداً عني، من غير كاذب فيها أو مشوه لها، وشهود المحاضرة كانوا بحمد الله كثيرين. ولا أكتمك سبباً آخر قوى هذا الإغفال في نفسي، ذاك هو أمرك لي أن أسارع إلى نفي ما سمعت إن كان لم يقع، وإلى الاعتذار منه إن كان قد وقع، وإسرافك في هذا الإسراع تطلبه في أول عدد يصدر من الرسالة، وثالثة الأثافي أن تقول لي: (إلى أن يثبت الراوي افتري عليك، أعلن غضبي على ما بدر منك). سبحانك اللهم وتعاليت! فما كان لأحد أن يقول: (ومن يحلل عليه غضبي فقد هوى) إلا أنت.

تلك الثلاث يا صديقي وغيرهن كن محرضاتي على ترك أول عدد من الرسالة يصدر خلواً من نفيي واعتذاري، لأقف على ما في كنانتك من سهام، ولأتذوق ما قد يصبه غضبك في الجام. وهأنت قد اغتررت فكتبت كلمة ثانية تؤذنني فيها بخصومة تريدها أدبية، والله أعلم بما تريد، وترميني فيها بفرية السرقة منك، جاهلاً كما ستعلم في كلمتي الثانية أنك أنت الذي افتريت وسرقت.

وبعد فإن وصاتي لك يا صديقي أن نتريث، فإن في العجلة وبالاً عليك، وألا تعود تغتر بسكوتي عنك، فما مثلي ومثلك فيه إلا كما قال الأول:

ما بال من أسعى لأجبر عظمه ... حفاظاً وينوي من تطاوله كسري

أظن خطوب الدهر بيني وبينهم ... ستحملهم مني على مركب وعر

وإني وإياهم كمن نبه القطا ... ولو لم تنبه باتت الطير لا تسري

أناة وحلماً وانتظاراً بهم غداً ... فما أنا بالواني ولا الضرع الغمر

السباعي بيومي

مجلة الرسالة - العدد 398
بتاريخ: 17 - 02 - 1941

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى