د. رسول محمَّد رسول - نقد المثقف الوعظيّ... إشكالية المُصلح من منظور اجتماعي

الوعظ هو أحد أدوات الإصلاح في المجتمعات الحية، وهو كمنهج وطريقة يتغير من حين إلى حين، ومن مجتمع أو ثقافة إلى أخرى، وتحت عنوان نقد المثقف الديني ظهرت مؤلفات عدَّة في السنوات القليلة الفائتة تتناول إشكالية المثقف الديني * بعد أن صار لهذا النوع من المثقفين أدوره المتشابكة في ظل توظيف خطابه في مناحٍ أيديولوجية وسياسية وكفاحية وعسكرية وتكفيريَّة، ما يعني أن ظاهرة المثقف الديني أخذت تفرض موجوديتها على الوعي المعاصر بشكل ظاغط وبكل ما فيها من تشابك وتعقيد أحياناً لا فرار من وضعها على محك النقد والمراجعة الفكرية.
ولكي تمضي في طريق هذا النقد لا بُدَّ من تقليب أوراق الماضي النقدية، وتقف عند أدوات المثقفين الدينيين التي اعتمدوها في تصريف خطابهم لإصلاح المجتمع، ومن ذلك أن هؤلاء اعتمدوا الوعظ Sermon كأداة لتوصيل رسالتهم الإصلاحية إلى المجتمع، وسُمي هؤلاء الذين يمارسون هذا الضرب من الاتصال الإصلاحي بالواعظين Sermonizers، ولنا في الفكر العراقي الحديث تجربة رائدة في مجال نقد إصلاحية الواعظين تلك التجربة التي كرَّسها المفكِّر العراقي الراحل علي الوردي، والتي تُعدُّ حتى الآن من التجارب الرائدة في مجال هذا النقد الذي غابَ طويلاً في الثقافة العربية الحديثة عامّة وفي الفكر الاجتماعي على نحو خاص خلال القرن العشرين.
كانت مساهمة علي الوردي 1912 ـ 1995 النقدية قد وضعت الفكر الاجتماعي العراقي في سياق جديد؛ ليس لأنها تصدَّت إلى نقد البُعد السوسيولوجي في المجتمع العراقي حسب، إنما لأنها كرَّست رؤية علمية تعتمد على جملة من الفرضيات في دراسة واستقراء مشكلات المجتمع العراقي؛ فقبل الوردي كان مفكرون عراقيون قد أمعنوا النظر في طبيعة المجتمع العراقي، إلا أن إمعاناتهم تلك بدت ذات منحى انطباعي Impression يفتقرُ إلى أصول البحث العلمي الدقيقة، ناهيك عن أنها لم تأت ضمن مشروع نقدي متكامل الرؤية، وهو ما لجأ إليه الوردي على الأقل في دراسة المجتمع العراقي ضمن ما وضعه من مؤلفات وبحوث حيث يخرج القارئ لمؤلفات الوردي بتصوّر شبه متكامل الأجزاء عن طبيعة المجتمع العراقي بغضِّ النظر عن قيمة الاختلاف مع رؤية الوردي النقدية.
النقد والإصلاح
كان (النقد) في تجربة الوردي مفهوما رئيسا، وظل يُمارس في كل تأملاته أدوارا تفاعلية تجاوزت مجرَّد توصيف الحالة قيد الدراسة إلى محاولة إعادة بناءها وفق رؤية إصلاحية؛ ما يعني أن همَّ (الإصلاح) هو الآخر ظل يمارس أدوارا تموضعية في فلسفة الوردي الاجتماعية بل بدا مأمولاً في مشروعه الفكري رغم اعتقادنا أن مشروع الوردي هو في صميمه مشروع إصلاحي. وفي أقل تقدير يمكننا تلمُّس ملامح رؤيته التكاملية في العلاقة بين النقد والإصلاح، النقد المؤسَّس على رؤية علمية تتوسَّل المناهج الجديدة في دراسة أي حالة أو أزمة، والإصلاح الذي يُعدُّ الغاية القصوى لمفكِّر أفنى حياته من أجل تغيير المجتمع نحو طريق أفضل.
من بديهيات القول: إنَّ كل إصلاح يفترض نقداً، ولمّا كان (المجتمع) هو ميدان بصيرة الوردي وتأملاته في حياته شأنه شأن أي مفكِّر سوسيولوجي آخر، فإن المجتمع العراقي حاز اهتمام الوردي في كل فصول حياته، ومثلما درس طبيعة المجتمع العراقي، وطبيعة الشخصية في هذا المجتمع من الناحية التاريخية، وضمن الموجِّهات الدينية والقيميَّة الوضعية والواقعية التي تحكَّمت في صيرورة وخطاب هذا المجتمع، نظر الوردي في المشهد الإصلاحي بالعراق، وتأمّل مقولاته وشخوصه ومساراته، واستقرأ أعطاله وهمومه ومنحياته ضمن رؤية نقدية تميزت بالوضوح المعارفي، وبجرأة المفكِّر الواقعي الذي انصرف إلى استقراء الأزمة في صيرورتها اليومية برؤية شمولية؛ فمبدئيا يمكن القول إنَّ (نقد الوردي للعلل الاجتماعية كان يتسم بالنظرة الشاملة، ولذلك جاء منهجه موضوعيا من دون تحيز فئوي أو فردي، لأنه لم يجامل الحدث الاجتماعي أو الموقع الاقتصادي أو السياسي المتميز داخل المجتمع العراقي، ولم يبالغ في تسجيل الظاهرة أو المشكلة بل شخَّصها كما هي، وابتعد كل البعد عن الغيبيات والمواعظ والخيال السوسيولوجي (1). وقد انعكست هذه الرؤية على أغلب ما تصدى إليه الوردي في مناقشته للقضايا والإشكاليات وإعادة بناءها برؤية مفكِّر سوسيولوجي إصلاحي شرع بتنضيد رؤيته الفكرية ابتداءً من إعادة النظر في مفهومي (المُصلح) و(الإصلاح) وإعادة بنائهما وفق فلسفة نقدية تفكِّر حراك الواقع وصيروراته بوصفهما غموضا متراكما أملته متغيرات اجتماعية وسياسية معقدة على المجتمع.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى