أدب السيرة الذاتية عبدالواحد السويح - ذكريات القيروان... (1...8)

(1)

سنة 1991 كنت طالبا سنة ثانية بكلية الآداب رقادة وكنت أنتمي إلى الطلبة العرب التقدميين الوحدويين وكانت سنة مشتعلة بسبب حرب الخليج الثانية التي أدت إلى ارتفاع حدة المعارضة داخل الجامعات التونسية.
ولأن الحس الثوري كان عنيفا لدينا آنذاك كنا عرضة لهجمات متكررة من الأمن التونسي واعتقلات شتى طالت عديد الطلبة فدخلنا في إضرابات مفتوحة.
في تلك الفترة لم تكن ثمة هواتف جوالة فكنا في مدننا البعيدة نتنسم أخبار الجامعة وأخبار الامتحانات التي مثلت هاجسنا الأكبر لذلك كنا نواجه انتقادات عديدة من عائلاتنا ومن المحيطين بنا ولوما لا مثيل له عن تقاعسنا ومكوثنا في بيوتنا بعيدا عن الجامعة.
وحدث أن سافرت من المنستير إلى القيروان وتوجهت صوبا إلى مبيت رقادة فإذا بكل من هناك يؤكدون أن هجوما متوقعا سيتم الليلة من طرف الأمن ووجدت جميع الطلبة المرابطين في المبيت يحزمون أمتعتهم لمغادرة المكان قبل أن يخيم الليل والتوجه إلى غابة رقادة.
لا أخفي عليكم فقد تملكني ذعر شديد خاصة وأن لي سابقة اعتقال رهيبة سأحدثكم عنها في مناسبة قادمة فعدت أدراجي ومن حسن حظي أن وجدت إلهام العلاني وهي طالبة سنة أولى وصديقة مقربة باعتبار أنها كانت حبيبة أخي وصديقي أستاذ الفلسفة حاليا رجب ابراهم Rjab Brahem
قالت إلهام إن رجال البوليس في كامل أرجاء القيروان يعتقلون كل من يشتبه في كونه طالبا أو طالبة وتمنت لو تمكنا من الوصول إلى بيت جدتها بالمدينة العتيقة بسلام لكني على عكسها فقد عاد لي إطمئناني فإلهام تنتمي إلى أعرق عائلات القيروان وهي تقطن في العاصمة أصلا ولا شك أن رفقتي إياها ستمكنني من النجاة.
وفعلا وصلنا بسلام والظلام أوشك على التخييم وكان من المستحيل أن أجد وسيلة نقل تنقلني إلى المنستير وفكرة أني سأبيت الليلة في بيت جدة إلهام ستكون رائعة لو تمت فأنا فلاح خجول ومن المستحيل أن أطلب ذلك ولكن خوفي انقشع بمجرد أن استقبلتي الجدة وكأنني حفيدها وأدخلتني غرفة لم أكن أحلم أن أنام فيها ليلتئذ ثم وبعد ساعة بالضبط أتتني بطبق كسكس بالقديد القيرواني الذي ظل طعمه الساحر يسيل لعابي إلى حد اليوم فرغم قرب المسافة بين المنستير والقيروان فإن قديدهم يختلف عن قديدنا شكلا وطعما وطريقة في الإعداد.
نمت تلك الليلة شبعانا هادئا قرير العين في منزل قيرواني أصيل كان سببا قويا في قصة حب عنيفة مازالت تجمعني بالقيروان. (وللحديث بقية.)

***

(2)

كنت طالبا وسيما في مبيت رقادة هذا المبيت المختلط إذ كنا نتقاسم مع الطالبات الساحة والمطعم والمشرب وكنت بالإضافة إلى وسامتي شخصا هادئا تبدو عليه آثار النعمة والأصل. أما الصفة الأكثر خطورة والتي فتحت عليّ وابل مطاردة الطالبات لي فتكمن في تجاهلي التام لهن وكأني عمر بن أبي ربيعة في زمانه فكن يعجبن من هذا التعالي وبعضهن يعتبرنه غرورا. والحقيقة أن الأمر لا يعدو أن يكون انشغالا ففي تلك السنة كنت مغرما بالفتاة التي غيرت مسار حياتي والتي كتبت فيها جميع قصائدي ونصوصي. كنت أحبها بطريقة عنيفة ومدمرة وكانت تسيطر على مشاعري سيطرة مطلقة. وحتى لا أطيل عليكم فقد كان حبي لها حبا عذريا شبيها إلى حد كبير بحب المجنون لليلى أو حب جميل لبثينة. كنت إلى ذلك الحين شابا متعففا لم يمارس الجنس مرة واحدة في حياته فأنا أنتمي إلى عائلة محافظة تنظر إلى تلك العلاقات على أنها أكبر حرام.
في سنتي الثانية في قسم اللغة العربية وآدابها شاء القدر أن أتعرف على طالبة قادمة من المرسى. شدني دفء ملامحها ورقة صوتها وجمالها العربي الأخّاذ فكنت أعاملها بلطف بل كنت أحرص على أن تبقى معي أكثر ما يمكن من الوقت وكانت هي بدورها تنتظرني كل ليلة لنتعشى سويا ثم ننزوي في مكان ما من الساحة أو خارج المبيت ونقضي الليل كله نتسامر ونتبادل الأحاديث.
أخبرتها عن تفاصيل حياتي كلها باستثناء سري الخطير والمتمثل في قصة حبي الغريبة لأنها وللأمانة كانت حبا من طرف واحد وربما لهذا السبب أخفيت هذا الأمر. وحدثتني هي بدورها عن تفاصيل تفاصيل حياتها.
ذات ليلة نزل مطر مفاجىء وكنا نتمشى سويا فهرولنا معا في ركن مُغطّى في الظلام وقد ابتلّت ملابسنا قليلا. ليلتها احتظنتتي وهي موزعة بين الارتجاف والخوف. دقات قلبها واهتزاز نهديها أشعر بهما في صدري. فيض من الحنان يغمرني وإحساس جميل يتملكني: كأنها أختي أو أمي ولا مكان للشيطان الذي يحدثوننا عنه بيننا.
قلت لها سأغني لك أغنية ومسكت بيديها وظلت هي تستمع:
"النكد والغصة
يا فاطمة بعد النكد والغصة
يا فاطمة بعد
النكد والغصة
يدور الفلك وانروحوا للمرسى
يا فاطمة بعد...."
وما إن سمعت كلمة المرسى حتى هوت علي بشفتيها فاستسلمت لها دون حراك فتعجّبتْ كل العجب من جمودي ودهشتي المفاجئة ثم هرولت بعيدا باكية. وعلمت فيما بعد أنها أحبتني بقوة ولكن عدم تجاوبي معها تلك الليلة دمرها فقررت الإبتعاد عني لكن ما لم تدركه عرْبية -وهو اسمها- أني والله لم أكن إلى حد تلك الليلة قد جربتُ القبل بل إني لا أعرف حتى كيف يقبّل رجل امرأة.
بعد شهر من تلك الحادثة رأيتها رفقة طالب جديد وشائعات كثيرة حول مغامراتهما في غابة رقادة. ينظر رجب ابراهم إليهما ثم ينظر إليّ ويقول ساخرا : يا ناري، الفول يجي للي ما عندوش زروس.
فأبتسم غير مبال وابتسمتُ أكثر لما حان الوقت الذي أشهرت فيه كامل أضراسي.

***

(3)

إثر نجاحي الذي تأخر كثيرا في امتحان البكالوريا سنة 1988 طلبت شعبة العربية في جميع كليات تونس آنذاك ولكي أتم تعمير الخانات المتبقية طلبت شعبة جديدة تم إلحاقها عبر الصحف وهي شعبة العلوم السياسية فتم توجيهي إليها ولم يكن لي أي خيار سوى حزم أمتعتي والتوجه إلى العاصمة وبالتحديد إلى كلية العلوم القانونية والسياسية والاجتماعية تونس 2 وفي المبيت بأريانة تم لقائي الأول بالصديق الشاعر الأزهر الحامدي Lazher Hamdi فقد كان المشترك بيننا كفيلا لجعلنا صديقين حميمين: الشعر والبعد والسن والكآبة التي تخيم علينا من حين لآخر.
سنة 1989 تم إلغاء شعبة العلوم السياسية لأسباب يطول شرحها والتحق الطلاب الموافقون بشعبة العلوم القانونية أما الرافضون فقد سُمح لهم بالتوجه إلى أي مجال يريدونه فكانت فرصتي للاتحاق بكلية الآداب وهذا ما تم فكانت رقادة القيروان.
وفي اليوم الأول الذي التحقت فيه بالمبيت تأتي المفاجأة التي ما كنت أتوقعها: الشاعر المتشرد الأزهر الحامدي بشحمه ولحمه وأسنانه التي هدها التدخين وصلعته الصغيرة وضحكاته الغريبة التي لا تجعلك تعلم إن كانت حقيقية أم عقابا متعمدا لكآبة لا تخفى عن أحد، يفتح ذراعيه ويحضنني كمن لقي حبيبا بعد طول غياب.
كان قد عانى مثلي من أجواء العاصمة ومن دراسة السياسة والقانون وها هو الآن معي في الكلية التي لا مناص لها من استقبالنا ولم الفخر بأن نكون من طلابها.
كان -ولا يزال- شاعرا حقيقيا وكان صفويا في كتاباته وله قدرة عجيبة على ركوب اللغة الأصيلة وتطويعها وكتابة نصوص على شاكلة القيروانيين مثقلة بالرموز والإيحاءات الصوفية فالأزهر الحامدي أصيل الباطن التي تبعد بعض الكيلومترات عن القيروان المدينة وهو إلى ذلك تلميذ أسطورتي الأدب والشعر المنصف الوهايبي Moncef Ouhaibi ومحمد الغزي Mohamed Ghozzi وكدت في تلك الفترة أحفظ ديوانيْ "من البحر تأتي الجبال" و"كتاب الماء كتاب الجمر" لكثرة ما كان الأزهر الحامدي يهذي بهما.
كنت منبهرا شعريا به وكان بدوره منبهرا بي ولم تتجاوز علاقتنا حدود الشعر فالأزهر الحامدي غير منتم وأنا قومي تقدمي وهو خالي القلب وأنا عاشق وهو متعدد العلاقات بينما علاقاتي كانت محدودة. أذكر أننا شاركنا معا في عديد الأمسيات الشعرية بالقيروان وسوسة والمنستير وبعد تخرجنا ظللت أتنسم بعض أخباره إلى أن التقيته منذ سنوات في بيت الشعر القيرواني.
يبدو أن القلوب الطيبة لا مكان لها في مجتمع الذئاب فالأزهر رغم وظيفته المحترمة ظل يعاني ما كان يعانيه في الماضي وكأن الكآبة مكتوبة على جبينه. تبادلنا الحديث وانتبهنا إلى أن المشترك الذي كان بيننا تدعم فهو أبو طه وابني الثاني اسمه أيضا طه وهو يعاني عاطفيا وماديا تماما كما أعاني.
الأزهر الحامدي أحد نجوم مبيت رقادة وكان من ضمن مجموعة من الطلبة الذين هدتهم الظروف الاجتماعية السيئة وكنت أستقبل بعضهم في حجرتي التي نسيت رقمها بالطابق الأرضي، تلك الحجرة التي سميناها آنذاك الكرنك لما يحدث فيها من اجتماعات سرية ولقاءات بين الطلبة المتسيسين..

***

(4)
عبد الواحد السويح
-------------------------------------
كنت ومازلت من الذين لا يمكنهم الإبطاء عن موعد الغداء أو العشاء لذلك تجدني في مقدمة الطابور في مبيت رقادة رفقة من استطعت إقناعهم بضرورة أن نحصّل أرزاقنا منذ البداية فمن يدري فقد لا يبقى لنا سوى الفواضل إن تأخرنا وبهكذا حجة استطعت إقناعهم رجب إبراهم Rjab Brahem وإلهام وخالد بوغمورة Khaled Boughamoura و"تفاحة" ولست أذكر والله العظيم هل كان اسمها الحقيقي أم هو مجرد كنية فتفاحة هذه حكايتها حكاية. فهي طالبة أصيلة القيروان لها ابتسامة ساحرة وشخصية مرحة جدا وأكثر ما يلفت الانتباه إليها رقتها المفرطة في الكلام فلا مكان للجهر في صوتها فجميع الحروف تخرج من فمها مهموسة. كانت تنتقي ملابسها بعناية وتعتني بأظفارها أيما اعتناء وأجزم أنها تقضي الساعات أمام المرآة قبل أن تخرج في كامل بهائها ينبعث منها عطر باريسي فاخر.
نجلس خمستنا على الطاولة والأطباق أمامنا كنت من الذين يكرهون الكلام أثناء الأكل لذلك أكتفي بالإصغاء إلى نكاتهم وأحاديثهم دون مشاركة وخلال خمس دقائق أكون قد أنهيت أكلي. بينما تفاحة لم تبدأ بعد، تتأمل طبقها الفارغ إلا من سلطة الخضار ثم تتناول الفرشاة لتلتقط قطعة طماطم صغيرة تتفحصها أولا ثم تأكلها بتأن ورجب ينظر إليها بوجهه الضاحك ويقول لها:
- ياسر فيناس يا تفاحة
فتبتسم وترد عليه بصوتها المهموس:
- ياي! أنا باهته فيكم قداه تاكلو. والله كان ماجيتش اوبليجي ما ندخلش الريستورون هيذا.
ثم يأتي دور البرتقالة أو التفاحة أو حبات المشمش لنضطر أن نبقى مع تفاحة قرابة العشر دقائق وهي تفحص الغلال وتقشرها بعناية ثم تقطعها بالسكين لتأكل منها قطعة أو قطعتين ولا تظنوا أننا منزعجون من انتظارها، بالعكس فقد كنا نتابعها بمتعة لا تضاهيها متع مشاهدة الأفلام الجميلة.
نخرج سويا مباشرة في اتجاه المشرب لنشتري كؤوسا من الشاي ثم نختار ظلال شجرة لنرتاح تحتها ونتبادل الأحاديث وككل مرة يمر "جنغر" أمامنا بقامته المديدة وجسمه القوي وخِلالٌ بيده يزيل به ما علق باسنانه من فضلات الطعام. كان وحشَ أكلٍ بأتم معنى الكلمة فيشير إليه رجب ضاحكا موجها الكلام إلى تفاحة:
- هاو الجمل يا تفاحة.
فتجيبه منزعجة:
- خيت خيت خيييت... وننفجر ضاحكين.

***

(5)

في بداية التسعينات هيمن الاتحاد العام التونسي للطلبة ذو الميولات الإخوانية هيمنة مطلقة على انتخابات الطلبة في الجامعة التونسية وفي المقابل شهد الاتحاد العام لطلبة تونس ذو الميولات اليسارية انهيارا تاما. في هذه الأثناء لمع نجم القوميبن ليتحولوا إلى قوة تضاهي قوة الإخوان فتنقسم الجامعة تبعا لذلك إلى إسلاميين وقوميين.

في مبيت رقادة كان أنصار التيارين بالمرصاد لجميع الحساسيات الأخرى ليصل الأمر حد العنف اللفظي والمادي خصوصا ضد اليساريين من وطد(١) ووطج(٢) ومود(٣) وغيرهم. أما أن يكون أحدهم تجمعيا أو دستوريا أو حتى محل شبهة تصنفه ضمن النظام الحاكم آنذاك فهذا يؤدي به إلى الإقصاء والتنمر والتعرض إلى العنف بشتى أنواعه.
كنت صراحة ممن تعاطفوا مع الإخوان قبل مجيئي إلى مبيت رقادة وهو تعاطف مأتاه القلب لا العقل فقلبي العامر بالإيمان يمكن اصطياده بسهولة ليكون معاديا لكل التيارات الإلحادية وشاء القدر أن يكون شريكي في مبيت الكارافال بأريانة ناشط إسلامي
اكتشفت من خلال معاشرتي إياه حقيقة أولئك البشر التي سأحدثكم عنها في قسم المذكرات الخاصة بتونس العاصمة.
هذا الشريك يعود له الفضل في خروجي من الاتحاد العام التونسي للطلبة والانتماء إلى الطلبة العرب الوحدويين التقدميين.
نعود إلى أجواء مبيت رقادة وإلى غرفة "الكرنك" التي أقيم بها والتي فيها تدار الاجتماعات السرية وتخفى بها المناشير والمعلقات الثورية فقد كان المتحدث باسم الطلبة العرب محمد علي صديقا حميما يثق بي أيما ثقة رغم تعجب أغلب الطلبة الجنوبيين من أخلاق هذا الساحلي التي لا تشبه أخلاق الساحليين في رأيهم. فقد كانوا مقتنعين أن الطلبة القادمين من ولايات سوسة والمنستير والمهدية من الطبقة المرفهة المدللة المتصالحة مع السلطة والتي لا يمكن أن تحمل هموما أو تتبنى قضية أو تؤمن بالفكر الثوري حتى أن أحدهم وهو المتحدث باسم البعث العراقي كان يعتبرني من مفقري الساحل رغم أن مظهري لا يدل على ذلك.
كانت حرب الخليج الثانية هي الحدث الذي ننام عليه ونصحو. حتى أننا سنة 1991 رابطنا بالمبيت وأضربنا على الدروس بالكلية المحاذية له.
وفي خضم التناحرات السياسية داخل صفوفنا والصراع الرهيب بين الإخوان والقوميين كانت نقطة الالتقاء الوحيدة بيننا تتمثل في السخرية من اليساريين فكان لا بد كلما عقدوا اجتماعاتهم من ترديد الشعار الشهير آنذاك:
- يا وطج يا حقير حسمت فيك الجماهير ...
غير أنه من الإنصاف أن أعترف لكم باعتباري من الطلبة المتسيسين أن جميع من بالمبيت أو الكلية كانوا يُنزّلون المتحدث باسم ال"مود" مراد المهدواني منزلة خاصة إذ لا أحد آنذاك من المتحدثين باسم التيارات السياسية بقادر على منافسته في الخطابة والحجاج فكنا جميعا نتمتع بما يقول ونخفي ذلك حتى عن أنفسنا.

هوامش
١ الوطد هم الوطنيون الديمقراطيون .
٢ الوطج هم الوطنيون الجامعيون.
٣المود هم مناضلون وطنيون ديمقراطيون.

***

(6)

التجوّل في غابات "رقّادة" ليلا سُنّة تعوّد عليها جميع الطّلبة وبلا استثناء. فأمّا العُشّاق فإنّهم يتوزّعون في اتّجاه الأماكن البعيدة عن الأعين وأمّا بقيّة الطّلبة أمثالي فإنّ رفقتهم لبعضهم تحكُمها المصادفة لا غير.
في أغلب الأوقات كنتُ أتجوّل مع من يجالسني في الأكل: رجب ابراهم Rjab Brahem، تفّاحة، إلهام، عرْبيّة، رضا السبوعي، الأزهر الحامدي Lazher Hamdi، هنية الصومري، عبد الستار العانس، زمردة والناصر بوعزة رياحي.
كان الناصر أصيل "المويسات"، طالبا متفوّقا استطاع في عام النّكسة 1991 أن يحقّق شهرة ذائعة الصّيت بسبب نجاحه الغريب الذي تمّ الإعلان عنه تحت عنوان "نجاح سهو" في ورقة عُلّقت خصّيصا له. والحقيقة أن الناصر بوعزة يستحقّ نجاحه آنذاك عن جدارة فهو لا يتحمّل سهو الإدارة التي حين وزّعت أوراق الامتحانات مدّته بورقة منقوصة من نصف المطلوب لذلك فإنه لم يشتغل إلا على النصف الثاني وأبدع فيه أيما إبداع.
كان الناصر يحبّ كثيرا رفقتي فقد وجد فيّ نفسه في أكثر من مجال وكانت أخلاق الفلاحين تجمعنا بالإضافة إلى تعففه إذ لم نسمع يوما بمغامرة لهذا الطالب ذي الملامح العربية الأصيلة بعينين حوراوين تشع منهما نظرة حادة خلف نظارة طبية لا يتركها أبدأ. وأعترف لكم أني لم أكتشف النّبوغ المعرفيّ في هذا الصديق إلا بعد وقت طويل بسبب طبيعته الميالة إلى المرح وخَطّه الرديء.
كان عند التجوال تماما مثلي لا يتكلم كثيرا وكنا نكتفي بالغناء أو بالأصح كان يدفعني إليه دفعا فرغم يقيني أني فاشل تماما في الأداء إلا أن الناصر بوعزة الرياحي يَطرب لصوتي فيؤدي بي ذلك إلى المواصلة وترديد الأغنيات التي أحفظها وهذا ما لم يكن حاصلا حين أتجول مع رجب ابراهم فقد كنت أخجل من الغناء أمامه لبراعته في الأداء وخاصة في ترديده أغنية "من غير ليه" لمحمد عبد الوهاب التي كنت أسمعها بتأثر واضح يصل بي حد البكاء وخاصة حين يأتي رجب على مقطع:
خايف طيور الحب تهجر عشها
وترحل بعيد
خايف على بحر الدفا
ليلة شتاء
يصبح جليد جليد...
فكنت أمسح ما انسكب من مآقيّ خلسة وكل ذرة من ذرات جسدي تخفق لحبيبتي البعيدة والتي أجزم أن لا علم لها بما يعتمل في قلبي من مشاعر وأحاسيس.
كنت أغني ذلك المقطع بحرقة أيضا للناصر بوعزة الرياحي الذي لم يكن يعلم أن مجرد الاستماع إليّ آنذاك يحقق لي سعادة لا متناهية إذ بفضله أتمكن من إفراغ شحنات الألم التي تجتاحني جراء حب مستحيل. ما أجمل هذا الصديق الذي سيجمعني به القدر ثانية في مدينة "سبيبة" لنعيش سويا تفاصيل مدهشة ستفاجىء كل من يعرفنا (وللحديث بقية...)

***

(7)

كانت ليلة استثنائية في مبيت رقادة فأنصار الاتجاه الإسلامي يتوعدون "بشير" أحد رموز الطلبة العرب ويطالبونه فورا بعقد اجتماع إخباري والاعتذار علنا لهم أمام الطلبة وسحب ما تفوه به ضدهم مما يعتبرونه تشويها لهم وأكاذيب..

كنت صراحة أرتعد من الخوف فكل أشكال العنف تعودت عليها إلا العنف الجسدي إذ لا يمكن تخيل حدة ردة الفعل فمثلما لدينا أسلحة مخفية في حجراتنا تحسبا للدفاع عن أنفسنا فالأكيد أن الإسلاميين وهم محسوبون على العنف لديهم مثلنا بل أكثر.
ليلتها بشير معي في "الكرنك" وهو طالب من قفصة نحيل إلى أبعد الحدود خفيف الظل والحركة له شارب كثيف أسود يمنحه وقارا عجيبا وله طريقة في الكلام محببة إلى انفس جميع من يستمع إليها. بادرته بالكلام مبديا خشيتي عليه:
- ما ضر لو سحبت كلامك يا بشير فتجنبنا ما يمكن أن يعود علينا بالوبال هذه الليلة؟ فرد باسما:
- إنه المستحيل بعينه وربما الموت أفضل لي بكثير من ذلك الموقف المذل. ثم أردف:
- لا تخش عليّ يا عبد الواحد، إنهم جبناء ولن يفعلوا شيئا أمام العموم وما أخشاه حقا هو ردة فعلهم أثناء الظلام.
كان رفيق الغانمي المتحدث باسم الاتجاه الإسلامي طالبا مخيفا فهذا الباجي رغم وسامته وعنايته الفائقة بنظافة هندامه لا يبتسم أبدأ وكان حادا جدا في مداخلاته يعطيك انطباعا أنك أمام متحدث أشبه بالزعيم لا يتسلل الضعف مطلقا إليه وهو من القلائل الذين صادفوني في حياتي وحافظوا على مسحة الجدية هذه فحتى لما جمعنا القدر مجددا في العاصمة التونسية فإن التغييرات التي شملت رفيق الغانمي طالت باطنه ولم تأت ولو قليلا على ظاهره.
ترى كيف ستكون ردة رفيق على ما أتاه بشير؟ كنت أدخّن بنهم ف"الحلوزي" يملأ درج خزانتي فقد كنت حريصا على شراء كميات كبيرة من هذه السجائر الرخيصة تحسبا للليالي الطويلة وقلة ذات اليد. كانت الهواجس تعصف بي ولم أغادر غرفتي ليلتئذ ولم أستطع بل لم أحاول أصلا أن أنام كنت متيقظا أصيخ السمع حتى للخطوات التي أستشعرها خارج الحجرة. كانت مشاعر الترقب الممزوجة بالتحفز والخوف تجتاحني وفي خضم تلك الحالة تقترب من حجرتي خطوات مهرولة أثارت فيّ الرعب ثم تعقبها طرقات خفيفة متواصلة.
- اشكون؟
- حل يا عبد الواحد، لزهر.
تنفست الصعداء وفتحت الباب.
- اشبيك يا لزهر؟ لاباس؟
- خوك امعوق يا عبد الواحد اعطيني اشوية دخان ماك عندك ستوكات حلوزي.
بدخول الأزهر الحامدي Lazher Hamdi إلى غرفتي عادت لي الطمأنينة وعرفت أن بشيرا لم يعتذر وأن الإسلاميين لم يفعلوا شيئا وأن الأمر لا يعدو أن يكون استعراضا للعضلات ورسائل مضمونة الوصول إلى كل من تسوّل له نفسه الإساءة لأخطر تيار آنذاك بمبيت رقادة تحت إمرة رفيق الغانمي.

***

(8)

سنة 1991 استوفيت حقي في التمتع بالمبيت الجامعي وكان لزاما علي أن أبحث لي عن سكن ولم يستغرق الأمر كثيرا من الوقت فعديد الطلبة هم في مثل وضعيتي لذلك اتصل بي الرفاق من الطلبة العرب أصيلي سيدي بوزيد والقصرين لأكون شريكا معهم في بيت مواجه لمعمل التبغ والدخان بالمنصورة ولأن البيت يتكون من طابقين اقترحوا علي أن اتدبر ساكنا آخر. وعن طريق الصدفة يشاء القدر أن يعترضني طالب علاقتي به سطحية يبحث عن منزل للكراء فكان هو شريكي في الطابق العلوي بمنصورة القيروان.
كانت المسافة الفاصلة بين بيتنا الجديد ومقر كلية الآداب برقادة هي نفسها تقريبا الفاصلة بينه وبين مركز المدينة بالقيروان لذلك كثيرا ما كنا نفضل المشي في الاتجاهين رغم توفر وسائل النقل.
وتمضي الأيام والليالي لأتأكد من صدق المثل المتداول الذي يقول إن الطيور على أشكالها تقع فشريكي طالب من سيدي بوزيد ريفي نقي الظاهر والباطن الابن البكر في عائلته ينادي أمه باسمها زبيدة وكذلك أباه حمة فهم يقطنون في بيت جدهم وجدتهم وكان من العيب على الابن أن ينادي على زوجته باسمها في حضرة أبويه فما بالك أن يناديه ابنه بأبي وقد ترعرع في محيط، الأب الوحيد فيه هو الجد أو "سيدي" في حين تُنادى الجدة ب"دادا".
كنت في البداية منزعجا من هذا الشريك الذي يبالغ في النقاء فهو لا يشرب، لا يدخن، منظم إلى أبعد الحدود، غير متسيس ولا عاشق، يقوم في الصباح، يسعى إلى الفلاح، يغسل اليدين والوجه والرجلين في حين كنت فوضويا إلى أبعد الحدود، مدخنا، ورثت حب الخمر من أبي واخوتي الثلاثة، عاشقا، مهموما، بقضايا الأمة، شاعرا شابا... هههه إلا أن انزعاجي لم يكن له مبرر فشريكي الذي والله نسيت اسمه كان سعيدا بفوضويتي بل كان يود لو استطعت أن أغير من بعض طباعه فكان له ما أراد وشرعت في ترويضه والخروج به من عالم السكون إلى عالم الحركة.
في تلك السنوات كان ثمة أكثر من قاعة للسينما بالقيروان فكنا ننزل يوميا إلى مركز المدينة ونختار الأفلام الأكثر إثارة وخصوصا الأيروتيكية. مشاعر غريبة تنتابنا وثقافة جنسية سينمائية حصلناها في انتظار تجربة أولى كنا نحلم بها. ورغم حبي العذري المجنون آنذاك لمن كانت بعيدة عني أعترف لكم أن نوازع الشهوة بدأت تتضخم بداخلي فكنت لا أنام إلا قبل أن أعيش لحظات ممتعة في حلم يقظة أحرص بعناية فائقة على تصويره ويدي تحت الغطاء تتجاوب معي في همة ونشاط وكنت ألاحظ بيسر أن ما يحدث معي هو تماما ما يحدث مع شريكي الذي أستطيع في الظلام مشاهدة الغطاء أسفل بطنه في حركة صعود وهبوط.
لا أخفي عليكم فقد تغيرت نظرتي قليلا إلى الطالبات وندمت أشد الندم على الفرص التي ضاعت مني وأصبحت أبحث عمن يوافقن على الممارسة الجنسية خارج دائرة الحب وهن للأمانة قليلات ولا خيار لي إلا التوجه إلى "كارتي" القيروان في مدخل البلاد العتيقة وهو أمر مستحيل بالنسبة إلى شاب خجول مثلي تجاوز العشرين ولم يجرب الجنس مرة في حياته واقتنع من خلال تنشئته الاجتماعية أن هذا السلوك حرام محرم فقررت أن أترك هذه الرغبة للصدفة واثقا من تحققها يوما ما فأنا ورغم جميع هناتي، شخصية دونجوانية بالنسبة إلى الكثير من الطالبات.
وتشاء الصدف أيضا أن يكون في جوارنا بيت اكترته طالبتان واحدة من المهدية والأخرى من بوسالم أذكر جيدا اسميهما ينتميان إلى اليسار وأعرفهما حق المعرفة بحكم أنهما تدخنان وتبالغان في وضع المساحيق وارتداء الملابس المغرية وكانتا قبل أن نتجاور في نظري من أحقر الطالبات لما سمعته عن مغامراتهما الجنسية وخصوصا مع الأساتذة فكنت اعتبرهما فاجرتين لا تستحقان حتى نظرة من نظرات عيني. إلا أن الأمر اختلف الآن وأصبحت أحلم أن أنام بينهما وأتمتع بما أحلم به كل ليلة وأرسمه في الظلام. ولا أطيل عليكم فقد تمكنت بعد جهد بسيط من كسب ثقتهما فأصبحتا لي صديقتين علمتاني لأول مرة كيف تتحول القذارة إلى جمال. والمعذرة سأتوقف الآن وربما في مرة قادمة سأواصل الحديث عن مغامرتي معهن التي لا يشبهها إلا الجنون.

***


يتبع
.../...

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى