أدب السيرة الذاتية عبدالواحد السويح - ذكريات القيروان... (1...16)

(1)

سنة 1991 كنت طالبا سنة ثانية بكلية الآداب رقادة وكنت أنتمي إلى الطلبة العرب التقدميين الوحدويين وكانت سنة مشتعلة بسبب حرب الخليج الثانية التي أدت إلى ارتفاع حدة المعارضة داخل الجامعات التونسية.
ولأن الحس الثوري كان عنيفا لدينا آنذاك كنا عرضة لهجمات متكررة من الأمن التونسي واعتقلات شتى طالت عديد الطلبة فدخلنا في إضرابات مفتوحة.
في تلك الفترة لم تكن ثمة هواتف جوالة فكنا في مدننا البعيدة نتنسم أخبار الجامعة وأخبار الامتحانات التي مثلت هاجسنا الأكبر لذلك كنا نواجه انتقادات عديدة من عائلاتنا ومن المحيطين بنا ولوما لا مثيل له عن تقاعسنا ومكوثنا في بيوتنا بعيدا عن الجامعة.
وحدث أن سافرت من المنستير إلى القيروان وتوجهت صوبا إلى مبيت رقادة فإذا بكل من هناك يؤكدون أن هجوما متوقعا سيتم الليلة من طرف الأمن ووجدت جميع الطلبة المرابطين في المبيت يحزمون أمتعتهم لمغادرة المكان قبل أن يخيم الليل والتوجه إلى غابة رقادة.
لا أخفي عليكم فقد تملكني ذعر شديد خاصة وأن لي سابقة اعتقال رهيبة سأحدثكم عنها في مناسبة قادمة فعدت أدراجي ومن حسن حظي أن وجدت إلهام العلاني وهي طالبة سنة أولى وصديقة مقربة باعتبار أنها كانت حبيبة أخي وصديقي أستاذ الفلسفة حاليا رجب ابراهم Rjab Brahem
قالت إلهام إن رجال البوليس في كامل أرجاء القيروان يعتقلون كل من يشتبه في كونه طالبا أو طالبة وتمنت لو تمكنا من الوصول إلى بيت جدتها بالمدينة العتيقة بسلام لكني على عكسها فقد عاد لي إطمئناني فإلهام تنتمي إلى أعرق عائلات القيروان وهي تقطن في العاصمة أصلا ولا شك أن رفقتي إياها ستمكنني من النجاة.
وفعلا وصلنا بسلام والظلام أوشك على التخييم وكان من المستحيل أن أجد وسيلة نقل تنقلني إلى المنستير وفكرة أني سأبيت الليلة في بيت جدة إلهام ستكون رائعة لو تمت فأنا فلاح خجول ومن المستحيل أن أطلب ذلك ولكن خوفي انقشع بمجرد أن استقبلتي الجدة وكأنني حفيدها وأدخلتني غرفة لم أكن أحلم أن أنام فيها ليلتئذ ثم وبعد ساعة بالضبط أتتني بطبق كسكس بالقديد القيرواني الذي ظل طعمه الساحر يسيل لعابي إلى حد اليوم فرغم قرب المسافة بين المنستير والقيروان فإن قديدهم يختلف عن قديدنا شكلا وطعما وطريقة في الإعداد.
نمت تلك الليلة شبعانا هادئا قرير العين في منزل قيرواني أصيل كان سببا قويا في قصة حب عنيفة مازالت تجمعني بالقيروان. (وللحديث بقية.)

***

(2)

كنت طالبا وسيما في مبيت رقادة هذا المبيت المختلط إذ كنا نتقاسم مع الطالبات الساحة والمطعم والمشرب وكنت بالإضافة إلى وسامتي شخصا هادئا تبدو عليه آثار النعمة والأصل. أما الصفة الأكثر خطورة والتي فتحت عليّ وابل مطاردة الطالبات لي فتكمن في تجاهلي التام لهن وكأني عمر بن أبي ربيعة في زمانه فكن يعجبن من هذا التعالي وبعضهن يعتبرنه غرورا. والحقيقة أن الأمر لا يعدو أن يكون انشغالا ففي تلك السنة كنت مغرما بالفتاة التي غيرت مسار حياتي والتي كتبت فيها جميع قصائدي ونصوصي. كنت أحبها بطريقة عنيفة ومدمرة وكانت تسيطر على مشاعري سيطرة مطلقة. وحتى لا أطيل عليكم فقد كان حبي لها حبا عذريا شبيها إلى حد كبير بحب المجنون لليلى أو حب جميل لبثينة. كنت إلى ذلك الحين شابا متعففا لم يمارس الجنس مرة واحدة في حياته فأنا أنتمي إلى عائلة محافظة تنظر إلى تلك العلاقات على أنها أكبر حرام.
في سنتي الثانية في قسم اللغة العربية وآدابها شاء القدر أن أتعرف على طالبة قادمة من المرسى. شدني دفء ملامحها ورقة صوتها وجمالها العربي الأخّاذ فكنت أعاملها بلطف بل كنت أحرص على أن تبقى معي أكثر ما يمكن من الوقت وكانت هي بدورها تنتظرني كل ليلة لنتعشى سويا ثم ننزوي في مكان ما من الساحة أو خارج المبيت ونقضي الليل كله نتسامر ونتبادل الأحاديث.
أخبرتها عن تفاصيل حياتي كلها باستثناء سري الخطير والمتمثل في قصة حبي الغريبة لأنها وللأمانة كانت حبا من طرف واحد وربما لهذا السبب أخفيت هذا الأمر. وحدثتني هي بدورها عن تفاصيل تفاصيل حياتها.
ذات ليلة نزل مطر مفاجىء وكنا نتمشى سويا فهرولنا معا في ركن مُغطّى في الظلام وقد ابتلّت ملابسنا قليلا. ليلتها احتظنتتي وهي موزعة بين الارتجاف والخوف. دقات قلبها واهتزاز نهديها أشعر بهما في صدري. فيض من الحنان يغمرني وإحساس جميل يتملكني: كأنها أختي أو أمي ولا مكان للشيطان الذي يحدثوننا عنه بيننا.
قلت لها سأغني لك أغنية ومسكت بيديها وظلت هي تستمع:
"النكد والغصة
يا فاطمة بعد النكد والغصة
يا فاطمة بعد
النكد والغصة
يدور الفلك وانروحوا للمرسى
يا فاطمة بعد...."
وما إن سمعت كلمة المرسى حتى هوت علي بشفتيها فاستسلمت لها دون حراك فتعجّبتْ كل العجب من جمودي ودهشتي المفاجئة ثم هرولت بعيدا باكية. وعلمت فيما بعد أنها أحبتني بقوة ولكن عدم تجاوبي معها تلك الليلة دمرها فقررت الإبتعاد عني لكن ما لم تدركه عرْبية -وهو اسمها- أني والله لم أكن إلى حد تلك الليلة قد جربتُ القبل بل إني لا أعرف حتى كيف يقبّل رجل امرأة.
بعد شهر من تلك الحادثة رأيتها رفقة طالب جديد وشائعات كثيرة حول مغامراتهما في غابة رقادة. ينظر رجب ابراهم إليهما ثم ينظر إليّ ويقول ساخرا : يا ناري، الفول يجي للي ما عندوش زروس.
فأبتسم غير مبال وابتسمتُ أكثر لما حان الوقت الذي أشهرت فيه كامل أضراسي.

***

(3)

إثر نجاحي الذي تأخر كثيرا في امتحان البكالوريا سنة 1988 طلبت شعبة العربية في جميع كليات تونس آنذاك ولكي أتم تعمير الخانات المتبقية طلبت شعبة جديدة تم إلحاقها عبر الصحف وهي شعبة العلوم السياسية فتم توجيهي إليها ولم يكن لي أي خيار سوى حزم أمتعتي والتوجه إلى العاصمة وبالتحديد إلى كلية العلوم القانونية والسياسية والاجتماعية تونس 2 وفي المبيت بأريانة تم لقائي الأول بالصديق الشاعر الأزهر الحامدي Lazher Hamdi فقد كان المشترك بيننا كفيلا لجعلنا صديقين حميمين: الشعر والبعد والسن والكآبة التي تخيم علينا من حين لآخر.
سنة 1989 تم إلغاء شعبة العلوم السياسية لأسباب يطول شرحها والتحق الطلاب الموافقون بشعبة العلوم القانونية أما الرافضون فقد سُمح لهم بالتوجه إلى أي مجال يريدونه فكانت فرصتي للاتحاق بكلية الآداب وهذا ما تم فكانت رقادة القيروان.
وفي اليوم الأول الذي التحقت فيه بالمبيت تأتي المفاجأة التي ما كنت أتوقعها: الشاعر المتشرد الأزهر الحامدي بشحمه ولحمه وأسنانه التي هدها التدخين وصلعته الصغيرة وضحكاته الغريبة التي لا تجعلك تعلم إن كانت حقيقية أم عقابا متعمدا لكآبة لا تخفى عن أحد، يفتح ذراعيه ويحضنني كمن لقي حبيبا بعد طول غياب.
كان قد عانى مثلي من أجواء العاصمة ومن دراسة السياسة والقانون وها هو الآن معي في الكلية التي لا مناص لها من استقبالنا ولم الفخر بأن نكون من طلابها.
كان -ولا يزال- شاعرا حقيقيا وكان صفويا في كتاباته وله قدرة عجيبة على ركوب اللغة الأصيلة وتطويعها وكتابة نصوص على شاكلة القيروانيين مثقلة بالرموز والإيحاءات الصوفية فالأزهر الحامدي أصيل الباطن التي تبعد بعض الكيلومترات عن القيروان المدينة وهو إلى ذلك تلميذ أسطورتي الأدب والشعر المنصف الوهايبي Moncef Ouhaibi ومحمد الغزي Mohamed Ghozzi وكدت في تلك الفترة أحفظ ديوانيْ "من البحر تأتي الجبال" و"كتاب الماء كتاب الجمر" لكثرة ما كان الأزهر الحامدي يهذي بهما.
كنت منبهرا شعريا به وكان بدوره منبهرا بي ولم تتجاوز علاقتنا حدود الشعر فالأزهر الحامدي غير منتم وأنا قومي تقدمي وهو خالي القلب وأنا عاشق وهو متعدد العلاقات بينما علاقاتي كانت محدودة. أذكر أننا شاركنا معا في عديد الأمسيات الشعرية بالقيروان وسوسة والمنستير وبعد تخرجنا ظللت أتنسم بعض أخباره إلى أن التقيته منذ سنوات في بيت الشعر القيرواني.
يبدو أن القلوب الطيبة لا مكان لها في مجتمع الذئاب فالأزهر رغم وظيفته المحترمة ظل يعاني ما كان يعانيه في الماضي وكأن الكآبة مكتوبة على جبينه. تبادلنا الحديث وانتبهنا إلى أن المشترك الذي كان بيننا تدعم فهو أبو طه وابني الثاني اسمه أيضا طه وهو يعاني عاطفيا وماديا تماما كما أعاني.
الأزهر الحامدي أحد نجوم مبيت رقادة وكان من ضمن مجموعة من الطلبة الذين هدتهم الظروف الاجتماعية السيئة وكنت أستقبل بعضهم في حجرتي التي نسيت رقمها بالطابق الأرضي، تلك الحجرة التي سميناها آنذاك الكرنك لما يحدث فيها من اجتماعات سرية ولقاءات بين الطلبة المتسيسين..

***

(4)
عبد الواحد السويح
-------------------------------------
كنت ومازلت من الذين لا يمكنهم الإبطاء عن موعد الغداء أو العشاء لذلك تجدني في مقدمة الطابور في مبيت رقادة رفقة من استطعت إقناعهم بضرورة أن نحصّل أرزاقنا منذ البداية فمن يدري فقد لا يبقى لنا سوى الفواضل إن تأخرنا وبهكذا حجة استطعت إقناعهم رجب إبراهم Rjab Brahem وإلهام وخالد بوغمورة Khaled Boughamoura و"تفاحة" ولست أذكر والله العظيم هل كان اسمها الحقيقي أم هو مجرد كنية فتفاحة هذه حكايتها حكاية. فهي طالبة أصيلة القيروان لها ابتسامة ساحرة وشخصية مرحة جدا وأكثر ما يلفت الانتباه إليها رقتها المفرطة في الكلام فلا مكان للجهر في صوتها فجميع الحروف تخرج من فمها مهموسة. كانت تنتقي ملابسها بعناية وتعتني بأظفارها أيما اعتناء وأجزم أنها تقضي الساعات أمام المرآة قبل أن تخرج في كامل بهائها ينبعث منها عطر باريسي فاخر.
نجلس خمستنا على الطاولة والأطباق أمامنا كنت من الذين يكرهون الكلام أثناء الأكل لذلك أكتفي بالإصغاء إلى نكاتهم وأحاديثهم دون مشاركة وخلال خمس دقائق أكون قد أنهيت أكلي. بينما تفاحة لم تبدأ بعد، تتأمل طبقها الفارغ إلا من سلطة الخضار ثم تتناول الفرشاة لتلتقط قطعة طماطم صغيرة تتفحصها أولا ثم تأكلها بتأن ورجب ينظر إليها بوجهه الضاحك ويقول لها:
- ياسر فيناس يا تفاحة
فتبتسم وترد عليه بصوتها المهموس:
- ياي! أنا باهته فيكم قداه تاكلو. والله كان ماجيتش اوبليجي ما ندخلش الريستورون هيذا.
ثم يأتي دور البرتقالة أو التفاحة أو حبات المشمش لنضطر أن نبقى مع تفاحة قرابة العشر دقائق وهي تفحص الغلال وتقشرها بعناية ثم تقطعها بالسكين لتأكل منها قطعة أو قطعتين ولا تظنوا أننا منزعجون من انتظارها، بالعكس فقد كنا نتابعها بمتعة لا تضاهيها متع مشاهدة الأفلام الجميلة.
نخرج سويا مباشرة في اتجاه المشرب لنشتري كؤوسا من الشاي ثم نختار ظلال شجرة لنرتاح تحتها ونتبادل الأحاديث وككل مرة يمر "جنغر" أمامنا بقامته المديدة وجسمه القوي وخِلالٌ بيده يزيل به ما علق باسنانه من فضلات الطعام. كان وحشَ أكلٍ بأتم معنى الكلمة فيشير إليه رجب ضاحكا موجها الكلام إلى تفاحة:
- هاو الجمل يا تفاحة.
فتجيبه منزعجة:
- خيت خيت خيييت... وننفجر ضاحكين.

***

(5)

في بداية التسعينات هيمن الاتحاد العام التونسي للطلبة ذو الميولات الإخوانية هيمنة مطلقة على انتخابات الطلبة في الجامعة التونسية وفي المقابل شهد الاتحاد العام لطلبة تونس ذو الميولات اليسارية انهيارا تاما. في هذه الأثناء لمع نجم القوميبن ليتحولوا إلى قوة تضاهي قوة الإخوان فتنقسم الجامعة تبعا لذلك إلى إسلاميين وقوميين.

في مبيت رقادة كان أنصار التيارين بالمرصاد لجميع الحساسيات الأخرى ليصل الأمر حد العنف اللفظي والمادي خصوصا ضد اليساريين من وطد(١) ووطج(٢) ومود(٣) وغيرهم. أما أن يكون أحدهم تجمعيا أو دستوريا أو حتى محل شبهة تصنفه ضمن النظام الحاكم آنذاك فهذا يؤدي به إلى الإقصاء والتنمر والتعرض إلى العنف بشتى أنواعه.
كنت صراحة ممن تعاطفوا مع الإخوان قبل مجيئي إلى مبيت رقادة وهو تعاطف مأتاه القلب لا العقل فقلبي العامر بالإيمان يمكن اصطياده بسهولة ليكون معاديا لكل التيارات الإلحادية وشاء القدر أن يكون شريكي في مبيت الكارافال بأريانة ناشط إسلامي
اكتشفت من خلال معاشرتي إياه حقيقة أولئك البشر التي سأحدثكم عنها في قسم المذكرات الخاصة بتونس العاصمة.
هذا الشريك يعود له الفضل في خروجي من الاتحاد العام التونسي للطلبة والانتماء إلى الطلبة العرب الوحدويين التقدميين.
نعود إلى أجواء مبيت رقادة وإلى غرفة "الكرنك" التي أقيم بها والتي فيها تدار الاجتماعات السرية وتخفى بها المناشير والمعلقات الثورية فقد كان المتحدث باسم الطلبة العرب محمد علي صديقا حميما يثق بي أيما ثقة رغم تعجب أغلب الطلبة الجنوبيين من أخلاق هذا الساحلي التي لا تشبه أخلاق الساحليين في رأيهم. فقد كانوا مقتنعين أن الطلبة القادمين من ولايات سوسة والمنستير والمهدية من الطبقة المرفهة المدللة المتصالحة مع السلطة والتي لا يمكن أن تحمل هموما أو تتبنى قضية أو تؤمن بالفكر الثوري حتى أن أحدهم وهو المتحدث باسم البعث العراقي كان يعتبرني من مفقري الساحل رغم أن مظهري لا يدل على ذلك.
كانت حرب الخليج الثانية هي الحدث الذي ننام عليه ونصحو. حتى أننا سنة 1991 رابطنا بالمبيت وأضربنا على الدروس بالكلية المحاذية له.
وفي خضم التناحرات السياسية داخل صفوفنا والصراع الرهيب بين الإخوان والقوميين كانت نقطة الالتقاء الوحيدة بيننا تتمثل في السخرية من اليساريين فكان لا بد كلما عقدوا اجتماعاتهم من ترديد الشعار الشهير آنذاك:
- يا وطج يا حقير حسمت فيك الجماهير ...
غير أنه من الإنصاف أن أعترف لكم باعتباري من الطلبة المتسيسين أن جميع من بالمبيت أو الكلية كانوا يُنزّلون المتحدث باسم ال"مود" مراد المهدواني منزلة خاصة إذ لا أحد آنذاك من المتحدثين باسم التيارات السياسية بقادر على منافسته في الخطابة والحجاج فكنا جميعا نتمتع بما يقول ونخفي ذلك حتى عن أنفسنا.

هوامش
١ الوطد هم الوطنيون الديمقراطيون .
٢ الوطج هم الوطنيون الجامعيون.
٣المود هم مناضلون وطنيون ديمقراطيون.

***

(6)

التجوّل في غابات "رقّادة" ليلا سُنّة تعوّد عليها جميع الطّلبة وبلا استثناء. فأمّا العُشّاق فإنّهم يتوزّعون في اتّجاه الأماكن البعيدة عن الأعين وأمّا بقيّة الطّلبة أمثالي فإنّ رفقتهم لبعضهم تحكُمها المصادفة لا غير.
في أغلب الأوقات كنتُ أتجوّل مع من يجالسني في الأكل: رجب ابراهم Rjab Brahem، تفّاحة، إلهام، عرْبيّة، رضا السبوعي، الأزهر الحامدي Lazher Hamdi، هنية الصومري، عبد الستار العانس، زمردة والناصر بوعزة رياحي.
كان الناصر أصيل "المويسات"، طالبا متفوّقا استطاع في عام النّكسة 1991 أن يحقّق شهرة ذائعة الصّيت بسبب نجاحه الغريب الذي تمّ الإعلان عنه تحت عنوان "نجاح سهو" في ورقة عُلّقت خصّيصا له. والحقيقة أن الناصر بوعزة يستحقّ نجاحه آنذاك عن جدارة فهو لا يتحمّل سهو الإدارة التي حين وزّعت أوراق الامتحانات مدّته بورقة منقوصة من نصف المطلوب لذلك فإنه لم يشتغل إلا على النصف الثاني وأبدع فيه أيما إبداع.
كان الناصر يحبّ كثيرا رفقتي فقد وجد فيّ نفسه في أكثر من مجال وكانت أخلاق الفلاحين تجمعنا بالإضافة إلى تعففه إذ لم نسمع يوما بمغامرة لهذا الطالب ذي الملامح العربية الأصيلة بعينين حوراوين تشع منهما نظرة حادة خلف نظارة طبية لا يتركها أبدأ. وأعترف لكم أني لم أكتشف النّبوغ المعرفيّ في هذا الصديق إلا بعد وقت طويل بسبب طبيعته الميالة إلى المرح وخَطّه الرديء.
كان عند التجوال تماما مثلي لا يتكلم كثيرا وكنا نكتفي بالغناء أو بالأصح كان يدفعني إليه دفعا فرغم يقيني أني فاشل تماما في الأداء إلا أن الناصر بوعزة الرياحي يَطرب لصوتي فيؤدي بي ذلك إلى المواصلة وترديد الأغنيات التي أحفظها وهذا ما لم يكن حاصلا حين أتجول مع رجب ابراهم فقد كنت أخجل من الغناء أمامه لبراعته في الأداء وخاصة في ترديده أغنية "من غير ليه" لمحمد عبد الوهاب التي كنت أسمعها بتأثر واضح يصل بي حد البكاء وخاصة حين يأتي رجب على مقطع:
خايف طيور الحب تهجر عشها
وترحل بعيد
خايف على بحر الدفا
ليلة شتاء
يصبح جليد جليد...
فكنت أمسح ما انسكب من مآقيّ خلسة وكل ذرة من ذرات جسدي تخفق لحبيبتي البعيدة والتي أجزم أن لا علم لها بما يعتمل في قلبي من مشاعر وأحاسيس.
كنت أغني ذلك المقطع بحرقة أيضا للناصر بوعزة الرياحي الذي لم يكن يعلم أن مجرد الاستماع إليّ آنذاك يحقق لي سعادة لا متناهية إذ بفضله أتمكن من إفراغ شحنات الألم التي تجتاحني جراء حب مستحيل. ما أجمل هذا الصديق الذي سيجمعني به القدر ثانية في مدينة "سبيبة" لنعيش سويا تفاصيل مدهشة ستفاجىء كل من يعرفنا (وللحديث بقية...)

***

(7)

كانت ليلة استثنائية في مبيت رقادة فأنصار الاتجاه الإسلامي يتوعدون "بشير" أحد رموز الطلبة العرب ويطالبونه فورا بعقد اجتماع إخباري والاعتذار علنا لهم أمام الطلبة وسحب ما تفوه به ضدهم مما يعتبرونه تشويها لهم وأكاذيب..

كنت صراحة أرتعد من الخوف فكل أشكال العنف تعودت عليها إلا العنف الجسدي إذ لا يمكن تخيل حدة ردة الفعل فمثلما لدينا أسلحة مخفية في حجراتنا تحسبا للدفاع عن أنفسنا فالأكيد أن الإسلاميين وهم محسوبون على العنف لديهم مثلنا بل أكثر.
ليلتها بشير معي في "الكرنك" وهو طالب من قفصة نحيل إلى أبعد الحدود خفيف الظل والحركة له شارب كثيف أسود يمنحه وقارا عجيبا وله طريقة في الكلام محببة إلى انفس جميع من يستمع إليها. بادرته بالكلام مبديا خشيتي عليه:
- ما ضر لو سحبت كلامك يا بشير فتجنبنا ما يمكن أن يعود علينا بالوبال هذه الليلة؟ فرد باسما:
- إنه المستحيل بعينه وربما الموت أفضل لي بكثير من ذلك الموقف المذل. ثم أردف:
- لا تخش عليّ يا عبد الواحد، إنهم جبناء ولن يفعلوا شيئا أمام العموم وما أخشاه حقا هو ردة فعلهم أثناء الظلام.
كان رفيق الغانمي المتحدث باسم الاتجاه الإسلامي طالبا مخيفا فهذا الباجي رغم وسامته وعنايته الفائقة بنظافة هندامه لا يبتسم أبدأ وكان حادا جدا في مداخلاته يعطيك انطباعا أنك أمام متحدث أشبه بالزعيم لا يتسلل الضعف مطلقا إليه وهو من القلائل الذين صادفوني في حياتي وحافظوا على مسحة الجدية هذه فحتى لما جمعنا القدر مجددا في العاصمة التونسية فإن التغييرات التي شملت رفيق الغانمي طالت باطنه ولم تأت ولو قليلا على ظاهره.
ترى كيف ستكون ردة رفيق على ما أتاه بشير؟ كنت أدخّن بنهم ف"الحلوزي" يملأ درج خزانتي فقد كنت حريصا على شراء كميات كبيرة من هذه السجائر الرخيصة تحسبا للليالي الطويلة وقلة ذات اليد. كانت الهواجس تعصف بي ولم أغادر غرفتي ليلتئذ ولم أستطع بل لم أحاول أصلا أن أنام كنت متيقظا أصيخ السمع حتى للخطوات التي أستشعرها خارج الحجرة. كانت مشاعر الترقب الممزوجة بالتحفز والخوف تجتاحني وفي خضم تلك الحالة تقترب من حجرتي خطوات مهرولة أثارت فيّ الرعب ثم تعقبها طرقات خفيفة متواصلة.
- اشكون؟
- حل يا عبد الواحد، لزهر.
تنفست الصعداء وفتحت الباب.
- اشبيك يا لزهر؟ لاباس؟
- خوك امعوق يا عبد الواحد اعطيني اشوية دخان ماك عندك ستوكات حلوزي.
بدخول الأزهر الحامدي Lazher Hamdi إلى غرفتي عادت لي الطمأنينة وعرفت أن بشيرا لم يعتذر وأن الإسلاميين لم يفعلوا شيئا وأن الأمر لا يعدو أن يكون استعراضا للعضلات ورسائل مضمونة الوصول إلى كل من تسوّل له نفسه الإساءة لأخطر تيار آنذاك بمبيت رقادة تحت إمرة رفيق الغانمي.

***

(8)

سنة 1991 استوفيت حقي في التمتع بالمبيت الجامعي وكان لزاما علي أن أبحث لي عن سكن ولم يستغرق الأمر كثيرا من الوقت فعديد الطلبة هم في مثل وضعيتي لذلك اتصل بي الرفاق من الطلبة العرب أصيلي سيدي بوزيد والقصرين لأكون شريكا معهم في بيت مواجه لمعمل التبغ والدخان بالمنصورة ولأن البيت يتكون من طابقين اقترحوا علي أن اتدبر ساكنا آخر. وعن طريق الصدفة يشاء القدر أن يعترضني طالب علاقتي به سطحية يبحث عن منزل للكراء فكان هو شريكي في الطابق العلوي بمنصورة القيروان.
كانت المسافة الفاصلة بين بيتنا الجديد ومقر كلية الآداب برقادة هي نفسها تقريبا الفاصلة بينه وبين مركز المدينة بالقيروان لذلك كثيرا ما كنا نفضل المشي في الاتجاهين رغم توفر وسائل النقل.
وتمضي الأيام والليالي لأتأكد من صدق المثل المتداول الذي يقول إن الطيور على أشكالها تقع فشريكي طالب من سيدي بوزيد ريفي نقي الظاهر والباطن الابن البكر في عائلته ينادي أمه باسمها زبيدة وكذلك أباه حمة فهم يقطنون في بيت جدهم وجدتهم وكان من العيب على الابن أن ينادي على زوجته باسمها في حضرة أبويه فما بالك أن يناديه ابنه بأبي وقد ترعرع في محيط، الأب الوحيد فيه هو الجد أو "سيدي" في حين تُنادى الجدة ب"دادا".
كنت في البداية منزعجا من هذا الشريك الذي يبالغ في النقاء فهو لا يشرب، لا يدخن، منظم إلى أبعد الحدود، غير متسيس ولا عاشق، يقوم في الصباح، يسعى إلى الفلاح، يغسل اليدين والوجه والرجلين في حين كنت فوضويا إلى أبعد الحدود، مدخنا، ورثت حب الخمر من أبي واخوتي الثلاثة، عاشقا، مهموما، بقضايا الأمة، شاعرا شابا... هههه إلا أن انزعاجي لم يكن له مبرر فشريكي الذي والله نسيت اسمه كان سعيدا بفوضويتي بل كان يود لو استطعت أن أغير من بعض طباعه فكان له ما أراد وشرعت في ترويضه والخروج به من عالم السكون إلى عالم الحركة.
في تلك السنوات كان ثمة أكثر من قاعة للسينما بالقيروان فكنا ننزل يوميا إلى مركز المدينة ونختار الأفلام الأكثر إثارة وخصوصا الأيروتيكية. مشاعر غريبة تنتابنا وثقافة جنسية سينمائية حصلناها في انتظار تجربة أولى كنا نحلم بها. ورغم حبي العذري المجنون آنذاك لمن كانت بعيدة عني أعترف لكم أن نوازع الشهوة بدأت تتضخم بداخلي فكنت لا أنام إلا قبل أن أعيش لحظات ممتعة في حلم يقظة أحرص بعناية فائقة على تصويره ويدي تحت الغطاء تتجاوب معي في همة ونشاط وكنت ألاحظ بيسر أن ما يحدث معي هو تماما ما يحدث مع شريكي الذي أستطيع في الظلام مشاهدة الغطاء أسفل بطنه في حركة صعود وهبوط.
لا أخفي عليكم فقد تغيرت نظرتي قليلا إلى الطالبات وندمت أشد الندم على الفرص التي ضاعت مني وأصبحت أبحث عمن يوافقن على الممارسة الجنسية خارج دائرة الحب وهن للأمانة قليلات ولا خيار لي إلا التوجه إلى "كارتي" القيروان في مدخل البلاد العتيقة وهو أمر مستحيل بالنسبة إلى شاب خجول مثلي تجاوز العشرين ولم يجرب الجنس مرة في حياته واقتنع من خلال تنشئته الاجتماعية أن هذا السلوك حرام محرم فقررت أن أترك هذه الرغبة للصدفة واثقا من تحققها يوما ما فأنا ورغم جميع هناتي، شخصية دونجوانية بالنسبة إلى الكثير من الطالبات.
وتشاء الصدف أيضا أن يكون في جوارنا بيت اكترته طالبتان واحدة من المهدية والأخرى من بوسالم أذكر جيدا اسميهما ينتميان إلى اليسار وأعرفهما حق المعرفة بحكم أنهما تدخنان وتبالغان في وضع المساحيق وارتداء الملابس المغرية وكانتا قبل أن نتجاور في نظري من أحقر الطالبات لما سمعته عن مغامراتهما الجنسية وخصوصا مع الأساتذة فكنت اعتبرهما فاجرتين لا تستحقان حتى نظرة من نظرات عيني. إلا أن الأمر اختلف الآن وأصبحت أحلم أن أنام بينهما وأتمتع بما أحلم به كل ليلة وأرسمه في الظلام. ولا أطيل عليكم فقد تمكنت بعد جهد بسيط من كسب ثقتهما فأصبحتا لي صديقتين علمتاني لأول مرة كيف تتحول القذارة إلى جمال. والمعذرة سأتوقف الآن وربما في مرة قادمة سأواصل الحديث عن مغامرتي معهن التي لا يشبهها إلا الجنون.

***

(9)

نزلت وحدي يومئذ. ثمة شريط سينمائي لن أنسى جرأته: "كاليغولا" ولن أنسى مشاهد العنف والإثارة التي يتضمنها بالإضافة إلى ما يطرحه من دراما تاريخية كانت من ضمن اهتماماتي. كان شريكي لا يشاهد الفيلم أكثر من مرة لذلك اعتذر لي بلطف ونزلت وحدي.
وبما أني وحدي فقد كانت فرصة جميلة لأعرج بعد إعادة مشاهدة الفيلم على حانة "المحشي" وهي من الحانات الشعبية في القيروان تزدحم كل عشية بالسكارى من مختلف الفئات الاجتماعية. كانت البيرة رخيصة أيامئذ وكنت بسهولة أستطيع أن أبتاع ست زجاجات "سلتيا" وأحيانا ثمانية. لا أريد أن أتجاوز الكمية التي تكتمل معها نشوتي وتحرك "الناموسة" في رأسي (بلغة السكارى).
لم يكن لدي رفيق مخصوص لكن ولضيق المكان تزدحم طاولتي الصغيرة بأكثر من سكير سرعان ما يتحول التحفظ بيننا في بداية الجلسة إلى تلقائية عجيبة تجعل جميع من على الطاولة صفحات مقروءة. ما أطيب السكارى وما أشد تواضعهم وإيمانهم بالله. فاجأني أحدهم يوما بقوله:
- صحة ليكم الطلبة شايخين فاها كان انتوما!
أجبته مندهشا: باش؟
فرد كالواثق من نفسه: منكم للوِزّ اش اتحبوا أكثر من هكة؟ وأشار بيديه إلى صدره في حركة خليعة.
هذا النوع من الجلساء أنزعج منهم حقا. لم أنس لحظة في تلك السنوات أني طالب ملتزم منشغل بقضايا الأمة معارض للأنظمة العربية العميلة وأحمد الله أني أحسن التعامل مع هذه المواقف دون الالتجاء إلى العنف أو ما شابه. ابتسمت له وقلت فعلا "صحة لينا" وأردفت: "كل وقت وجيله والحياة مهياش جنس أكاهو". ثم استأذنته للذهاب إلى التواليت.
وتواليت "بار المحشي" غريبة حقا إذ لا يوجد فيها سوى مرحاض أرضي وحيد بابه معطل لا ينغلق ويحدث دائما أنك إن أردت التبول وحتى إن دخلت بمفردك فسيلتحق بك إثنان أو ثلاثة سكارى يتبولون معك في نفس المرحاض فيمسك كل واحد قضيبه ويتبول غير مكترث بالآخر.
في مرحاض "المحشي" تيقنت نهائيا من فحولتي التي أخفيتها طيلة عشرين سنة أو أكثر ومن يدري قد أشهرها الليلة على جارتيّ المتحررتين "ك" و"ص". كنت ولا أخفي شيئا عنكم مهووسا بهما في تلك الأيام بل إن أحلام اليقظة الليلية لم تكن إلا معهما.
ما كدت أخرج من الحانة حتى وجدت نفسي وجها لوجه مع شريكي الذي ارتبك أكثر حتى مما ارتبكت فقد كنت أخفي عنه أمر البيرة رغم يقيني أنه على علم بذلك. لكن ما الذي أتى به إلى هنا؟ ألم يعتذر عن مرافقتي؟
كان شريكي بريئا حقا فهو من النوع الذي لا يستطيع إخفاء أي شيء بمجرد أن تحرجه بالسؤال قال:
- مشيت للكارطي.
قالها بهدوء غريب وكأنّ ما قام به فعل عادي. صدمتني جرأته وتزعزعت للحظة ثقتي به. صحت في وجهه:
- يا اوحيد ما اتقليش عاد؟
رد بنفس الهدوء الغريب:
- برا رتحك ربي والله ندمت برشا أما الله غالب.
- احكيلي اش اعملت؟
- دخلت نلقاها متكية على جنبها نصفها اللوطاني برك عريان ماغزرتليش حتى غزرة قاتلي هيا ازرب روحك راني قالقة وفادة وروحي طالعة لخالقها. نحيت سروالي وصليبي حبيت انبوسها قاتلي ما ناقصة كان البوس يلا ازربني واقلب اعليا منظرك. غزرت للماتريال متاعي نلقاه ترخي وحسيت بروحي نرعش. لبست دبشي وخلصتها واطلعت ساقاي أعلى من راسي.
ربما كان يتوقع مني أن أضحك لكني تألمت كثيرا وحزنت لأجله وقلت له:
- مش مشكل الواحد قد ما يعيش يتعلم أما راهو احنا ماناش متاع الحاجات هاذي برا خيرها في غيرها هيا نعملو دورة في البلاد العربي وانخلص عليك حاجة.
تأخرنا كثيرا ذلك اليوم حتى خيم الليل ثم عدنا أدراجنا في اتجاه بيتنا بالمنصورة صامتين حتى إذا ما كدنا نصل استوقفتنا دورية أمنية متكونة من ضابطين خاطبنا أحدهما بطريقة عنيفة:
- منين جايين ووين ماشين هات بطاقات التعريف.
أخرجنا بطاقتينا وسلمناهما لهما. ابتعدا قليلا وبعد وقت ليس بالقصير تقدما نحونا وبادرني أحدهما بالسؤال:
- انت بنبلي فاش تعمل هنا؟ قلت له إني طالب وبيتي على بعد أمتار من هنا وكنت رفقة صديقي هذا في المقهى. التفت الضابط إلى زميله وقال له: هذا السيد ينتمي إلى أخطر منطقة بالساحل التونسي بنبلة ولن نطلق سراحه حتى نتأكد من أمره.

***

(10)

لا أدري لم جمعنا القدر حتى قبل أن نكشف عن توجهاتنا الإبداعية وغرامنا بالكتابة فمن الوهلة الأولى بمبيت رقادة تقع هذه الطيور على بعضها: الأزهر الحامدي Lazher Hamdi . الناصر بوعزة رياحي ، عفيفة الزهرة Zahra Afifa وأنا طبعا وكنا تقريبا معا في كل مكان من المبيت. أذكر أننا يوما وفي إطار جولتنا المعتادة في غابة رقادة أن اعترضنا رجل يركب حمارا فأصرت عفيفة على ركوب الحمار وكنت أرى في عينيها الصغيرتين وبشرتها المبالغة في البياض وشعرها الذي يميل قليلا إلى الاصفرار ورقة صوتها بل رقة كل شيء فيها رغبة لا تضاهيها رغبة في امتطاء الحمار وبصراحة لم يعجبني ذلك الأمر فقد أحسست وكأنها سائحة أوروبية توقفت عند مشهد غير مألوف في ثقافتها وفعلا فعفيفة أو زهرة الصحراء كما تطلق على نفسها طالبة أصيلة مدينة المنستير تقطن بالتحديد في سقانص التي لا يقطن بها فى العادة سوى الأثرياء بل إن ملابسها وطريقة كلامها لا يدلان إلا على أنها طالبة من طبقة اجتماعية راقية.
وما لم استسغه أنا راق للزهر والناصر بوعزة فساعداها على تحقيق رغبتها وتمكنت أخيرا عفيفة من ركوب الحمار الذي لم تتمالك نفسها عليه فظلت تتمايل ذات اليمين وذات الشمال وكنا نضحك ضحكا هستيريا.
عفيفة هذه ستكون في فترة ما الأقرب لي في حياتي وستنشأ بيننا علاقة استثنائية سأعود إليها في القسم المخصص لمذكرات سوسة.
ثمة مبدعون آخرون أيضا في مبيت رقادة على غرار مراد العمدوني والصحبي السالمي والأسعد العياري الذي سيكون للحديث عنه بقيات...

***

(11)

كانت 1989 سنتي الدراسية الأولى بكلية الآداب رقادة بالقيروان. جئت من العاصمة بعد تجربة قصيرة في دراسة العلوم السياسية التي لم أكن مصيبا في اختيارها فقد كان حب الأدب ينمو في كياني ولا يترك المجال لا للسياسة ولا للحقوق أو الاجتماع. ومن كلية العلوم القانونية والسياسية والاجتماعية تونس 2 أحط الرحال بالقيروان وأختار شعبة اللغة العربية وآدابها محملا بأوراقي ونصوصي الأولى التي لم يكن يعرفها آنذاك إلا خاصة الخاصة من أصدقائي وأهمهم الأزهر الحامدي الذي حدث له ما حدث لي بالضبط فكان خير رفيق لي في هذا الانتقال.
هدوئي وعفتي وملابسي الأنيقة وجمال وجهي وسلوكي وعدة أشياء أخرى لا تخلف إلا انطباعا وحيدا: هذا الطالب الجديد لا يمكن أن يكون إلا ابن أصول. وهي حقيقة ورب العالمين لذلك لم أجد أية صعوبة في التواصل مع الآخرين طلبة وعملة وأساتذة.
أول حصة لي في مادة العروض وأمام القاعة كنا ننتظر مجيء الأستاذ. وقع اسمه ليس بالغريب عن مسامعي: محمد البدوي. وكم كانت دهشتي عظيمة حين تقدم نحونا رجل أعرفه جيدا وأحمل عنه انطباعات ليست بالجيدة. هذا أستاذ العربية بالمعهد الفني بالمنستير حيث زاولت مرحلة الثانوي وكم كنت أشمئز من جبته وقفته وابتسامته الدائمة ونظرات عينيه التي تبحلق يمينا وشمالا فيعتريني مباشرة الإحساس بأنه أستاذ غريب فأحمد الله كثيرا أني لا أدرس عنده.
يتقدم محمد البدوي نحونا وما من تغيير أراه إلا الاستعاضة عن الجبة بسروال ترڨال وسورية زرقاء وعن القفة بمحفظة بلهاء كبيرة الحجم. ابتلعت السكين بدمه ودخلت القاعة لأستمع إليه وملعون أبو العروض وإلي خلّف العروض.
كان هذا لقائي الأول بأهم رجل قابلته في حياتي.

***

(12)

تحولت حصة العروض بالنسبة إليّ إلى أجمل حصّة وذلك لسببين حبي الشعر ودقة اختيارات محمد البدوي للبيوت التي نشتغل عليها فقد كان حريصا على إرفاق كل بيت بظروف تلفظه فيمتزج الشعر بالسرد وبأخبار الشعراء.
كان الدرس اليوم حول بحر البسيط وأصل تفعيلاته:
مُسْتَفْعِلُنْ فَاعِلُنْ مُسْتَفْعِلُنْ فَاعِلُنْ
••• مُسْتَفْعِلُنْ فَاعِلُنْ مُسْتَفْعِلُنْ فَاعِلُنْ
وسمي بسيطا لأنه انبسط عن مدى الطويل، وجاء وسطه فعلن وآخره فعلن. قيل: سُمِّيَ الْبَسِيْط بهذا الاسم لانبساط أسبابه، أي تواليها في مستهل تفعيلاته السباعية، وقيل: لانبساط الحركات في عَرُوْضه وضربه...
ولم يرد علينا في تاريخ الشعر من التزم التزاما كاملا بهذا الوزن النظري وأتحدى أيا كان أن يأتيني ببيت تكون فيه تفعيلات البسيط دون زحافات أو علل...
كان البدوي يقول هذا الكلام بكل ثقة في النفس بل لا ينتظر من أحد مقاطعة ما هو مسلّم به. غير أني آنذاك شاعر شاب شرع منذ وقت ليس بالقصير في تجريب البحور وكتابة ما تجود القريحة به على تفعيلاتها أقف في القاعة متحديا لأقول: أستاذ، أعرف بيتا على بحر البسيط بكامل تفعيلاته النظرية ودون زحاف ولا علة.
توقف البدوي عن الكلام دون أن ينظر إليّ ثم تواضعا -هكذا أحسستُ- نظر إلى صاحب الصوت قائلا هيا أيها العارف اخرج إلى السبورة وارسم لنا هذا البيت لنقطّعه معا.
كنت متأكدا حينها أنه استجاب لملاحظتي لأسباب بيداغوجية لا غير حتى يقنع هذا الطالب الذي هو أنا بخطإ معلوماته وحتى يجنبه مستقبلا عدم تعطيل سير الدرس.
تقدمت إلى السبورة. أخذت الطباشير وكتبت:
يا زهرة في خيالي، كل يوم معي
في النوم والحلم والآمال والمضجع
تناول محمد البدوي الطباشير الأحمر وشرع في تقطيع البيت.
مستفعلن، فاعلن، مستفعلن، فاعلن
مستفعلن، فاعلن، مستفعلن، فاعلن
نظر إليّ بكل حب وفخر واعتزاز كنت أرتدي قميصا ذهبيا عليه بعض الرسومات السوداء وفوقه فاست كوير بنية اللون وبنطلون دجين وحذاء أسود وسلسلة من الذهب الخالص تتدلى من عنقي. مظهري يوحي بأمرين حينها بأني ميسور الحال وبأني فتى أحلام كل بنت ولا علامة في شكلي توحي بما يحمله الشعراء من هموم.
قال لي: لمن هذا البيت؟. أجبته والإحساس بالخجل يعتريني: هو مطلع قصيدة لي كتبتها في أختي زهرة.
- وهل تكتب الشعر؟
- لي بعض المحاولات.
ابتسم ابتسامة عريضة وقال لي: مدني بها سأقدمك في برنامج واحة المبدعين.

***

(13)

في تلك السنوات بدأت في نشر بعض النصوص والخواطر في صحف الصدى والأيام وصباح الخير وأصبحت معروفا لدى بعض من ينشر مثلي من أدباء شبان على غرار فتى الجنون رابح مجبري والأسعد الوهايبي Assaad Mok Ouhaibi وعبد الواحد عمري وغيرهم ولم يستغرق الأمر كثيرا لألتقي بالشقيق الأصغر للمنصف الوهايبي فقد كنت حريصا في تلك الأثناء على مواكبة جميع الأنشطة الثقافية في الكلية وخارج الكلية.
كان الأسعد الوهايبي شخصية مخيفة بالنسبة إليّ آنذاك فبالإضافة إلى تفوقه الشعري فقد كان متمردا يدخن بشراهة فائقة ولا يتوانى عن التفاخر بعربدته وجنونه. قرأ لي نصوصا عديدة لعل ما بقي في الذاكرة منها انبناء أحدها على جميع حروف اللغة العربية أو جميع أيام الأسبوع فقد اختلط علي الأمر. وحدثني عن عزمه على إحياء أماس شعرية خاصة بالمساجين. تعاطفت معه كثيرا آنذاك وظللنا صديقين عن بعد ولم يتجدد اللقاء بيننا إلا مؤخرا بعد ثلاثين سنة في نزل السبلانديد بالقيروان حين وجدت نفسي وجها لوجه معه فبادرني بتحية من يعرفني جيدا ولم أدار اضطرابي إلا حين نطق كمال العيادي الكينج Kamal Ayadi King:
- الأسعد الوهايبي، أكيد تعرفه.
ثم أردف بهمس في أذني: هل تعلم يا عبد الواحد أن الأسعد الوهايبي هو الأكثر موهبة في عائلة الوهايبي لكن للزمن أحكامه.
وبسبب الكينج كنت مقيما بذلك النزل فقد حرص كمال العيادي في إطار استضافة بيت الشعر القيرواني إياه أن أكون شريكه ولم تمانع طبعا سيدة الشعر القيروانية Jamila Mejri بل بالعكس فقد كانت هي بدورها تخطط لاستضافتي وللأمانة فهذه السيدة تفتح بيتها لكل من يحمل في ذاته بذرة حب الشعر باثا كان أم متقبلا وسأخصص أجزاء عديدة من هذه السيرة لأكشف عن الجوانب الإنسانية والإبداعية لامرأة اعتلت عرش الشعر والسلوك الحضاري وشيدت لنفسها هرما خاصا بها يتشامخ وسط أهرامات القيروان العديدة.
كيف لا أعرفه يا كينج لكن ما أوحش الغياب وما أشد مكر السنوات! الأسعد الوهايبي الشاب الأبيض النحيل يتحول إلى كهل تظهر عليه بعض البدانة وتميل بشرته إلى السمرة. صافحته بحرارة صادقة وظللت طوال السهرة أسترق النظر إليه. الأسعد الوهايبي تغير بنسبة مائة بالمائة لكن الزمن لم يستطع اغتيال ملامح وجهه الجميلة بل بالعكس كان جذابا إلى أبعد الحدود لا يتكلم كثيرا غير أن المنصت إليه يلاحظ أن تدخلاته في محلها وأن الرجل له رؤية مخصوصة للعالم وأن قرابته الدموية للمنصف ومعز الوهايبي لم تؤثر قيد أنملة في المبادىء التي يؤمن بها بل لاحظت ليلتئذ أنه يختلف فكريا كل الاختلاف مع كبيرنا في الاسبلانديد المنصف الوهايبي Moncef Ouhaibi الذي كان نجم السهرة بلا منازع.

***

(14)

"أنا بالغرفة 109
وغرفتك محجوزة
نزل سبلانديد"
كانت هذه رسالة كمال العيادي الكينج Kamal Ayadi King تركها لي على الميسنجر ما إن قرأتها حتى غمرتني مشاعر شتى. وأخيرا سنلتقي والشخصية الإنشائية التي كثيرا ما تعددت قراءاتي لها ستتحول بعد ساعات إلى شخصية آدمية. الكينج بشحمه ولحمه، ببذاءته وفسقه، ببراءته وطهره، بذكائه وخبثه، سيكون ماثلا أمامي إنسانا وليس نصا.
لم يستغرق الأمر طويلا فالقيروان قريبة من المنستير ونزل سبلانديد أشهر من نار على علم. توقفت بي التاكسي التي أخذتها من محطة القيروان أمام النزل وفي البهو كان ثمة من يستقبل الزبائن ومعه شاب طويل بهي بدا لي صديقا لعامل الاستقبال. كانا يتحدثان عن الكينج.
- في بالك الكينج بحذانا؟
- يزي عاد!
- والله عمري ما ريت واحد في رجوليتو إنسان محترم ونظيف أكثر ملي تتصور.
- في بالي ريت أفيش كبير فيه تصويرتو على السور مقابل قهوة طقطق أما ما كنتش نعرف الي هو ساكن هنا.
- عدك بيه يخرج اقعد بحذايا اتاو يهبط. ثم نظر لي: اتفضل صديقي..
ابتسمت وقلت له أنا صديق الكينج وغرفتي محجوزة وأتيت من المنستير بدعوة من بيت الشعر القيرواني.
- مرحبا خويا انت زادا كاتب؟
- اينعم...
كان حوارا بسيطا عاديا لكنه أكد لي ما كنت قد توقعته من أن زيارة كمال العيادي للقيروان حدث بما تعنيه الكلمة.
أتممت إجراءات التسجيل والتحقت بغرفتي.غفوت قليلا وافقت على رنة رسائل الميسنجر في هاتفي:
"نحن في بار سبلانديد
تحت الفندق
في القاعة الداخلية
القاعة الأخيرة"
نزلت بسرعة ودخلت البار وشاهدت الكينج يلوح لي بيده ومعه بعض الأشخاص عانقته بحرارة كان نحيلا على غير ما كان يتراءى لي في الصور وما لفت انتباهي أيضا نظافة أسنانه ورطوبة بشرته وربطت ذلك مباشرة بإقامته بأوروبا. حييت الجميع وجلست إلى جواره.
كانت تلك الطاولة مخصوصة والنادل يلبي الطلبات وعلامات الفرح بادية عليه ولأن لكل جلسة زعيما فقد كان الكينغ هو الزعيم فهو بؤرة المواضيع والحركة في حين كنا البقية توسعا وانتشارا للمواضيع التي يطرحها والنكات التي يقولها والذكريات الجميلة التي يعرضها علينا من السنوات التي قضاها بروسيا ومصر وألمانيا.
في مثل هذه الجلسات يعتريني الخجل وأكتفي بالإنصات والتفاعل دون المشاركة في الأحاديث فأنا ضعيف جدا في اللغة الدارجة ومن النوع الذي لا يجيد قول النكت. وبعد مضي نصف ساعة تقريبا يكتمل النصاب بقدوم المنصف الوهايبي.
- عبد الواحد هل شاهدت يوما معجزة في حياتك؟
فاجأني سؤال الكينغ وارتبكت أي ارتباك إذ لعل سؤاله محمول على الاستعارة.
- معجزة؟ لم أفهم يا كمال!
ابتسم كطفل ثم قال الآن ستشاهد معجزة.
قام من دون عكاز وهو الذي شرب أكثر من عشر زجاجات بيرة وأخذ ينط على ساق واحدة ويرقص ويمشي في الحانة جيئة وذهابا وكأنه شاب في العشرين. لقد خيب كمال العيادي كامل توقعاتي لأنه من الصعب بل من المستحيل أن أحاصر فيه الجانب الآدمي خارج إطار الإبداع فقد بدا لي يومها نصا إبداعيا في شكل إنسان، ولم يتخط في نظري أجواء ما كشفت كتاباته عنه. هل تصدقون لو قلت لكم إن الكينج بشحمه ولحمه هو فعلا مفاتيح القيروان وحومة علي باي وليس للربيع علامة وغيرها مما كتب وإن هذا الرجل تتماهى إنسانيته مع عوالمه الإبداعية لدرجة يعسر الفصل بينهما فلا تصدقوا حيل التخييل التي يوهمكم بها لأن الشخوص التي يحدثكم عنها ماثلة فيه بالقوة فأخرجها لكم بالفعل. وأتحدى أيا كان بقادر على الفصل بين الطبع والصنعة في أدب الكينج
وللحديث بقية...

***

(15)

يشاء تخطيطي أن ننزل معا من الحافلة القادمة من رقادة أمام معمل التبغ بالمنصورة أنا وجارتاي الشهيتان أسلم عليهما فما صدقتا ذلك وفوجئت أنهما تعرفان اسمي بل اسمي المختصر الذي لا يعرفه إلا خاصة الخاصة:
- أهلا وحيد، ?ça va
- أهلا بجارتي العزيزة انستو ببعضكم..
تنفجر (ك) ضحكا وترد: الجار وصّى عليه الرسول..
أداري خجلي المفاجىء قائلا: أي حاجة تستحقوها آني بحذاكم.
فتبتسم (ص) بدورها وتقول:
- مرحبا بيك وحيد très gentil
ثم أردفت:
- ايجا أسهر بحذانا مع الثمنية ونّسنا شوية..
(ونسنا!) ما أقوى سحري وما أشد فحولتي. كنت أعتقد أن هذه الدعوة ستكلفني أسابيع بل أشهرا لكن وبمجرد احتكاك بسيط معهما وقعتا في فخي. عدت كما يعود سيف الدولة وضاح الوجه باسم الثغر وقلت في نفسي لا بأس من شحذ سيفي وسن أسناني قبل الساعة الثامنة ليلا.
عدت مسرعا إلى حجرتي وأخذت دشا خفيفا وحرصت على تحليق عانتي وإبطيّ. وفجأة ينتابني إحساس غريب أحاول جاهدا أن أتخلص منه وأستعيض عنه بكل ما هو إيجابي. ماذا لو عدتَ بخفيّ حنين أيها العاشق العذري؟ هل تدرك معنى أن يفشل الإنسان في تجربته الأولى؟ ستلاحقك لعنات الحبيبة البعيدة في كل خطوة تخطوها. لكن مع ذلك إهدأ يا وحيد ستنام بينهما وستدخل هذا المجال من بابه الكبير أنت شاب جميل وقوي ولك ميزة تعشقها كل النساء فلا تتردد وكن جريئا وانس تماما أنها تجربتك الأولى فلو تيقنتا من ذلك ستتحول إلى أضحوكة إلى نكتة يلوكها جميع الطلبة.
طرقت الباب طرقات خفيفة وكنت تقريبا وفي إطار استعدادي أرتدي ملابس النوم. Survêtement وجوارب بيضاء نظيفة ونعلا شتويا. فتحت (ص) الباب فاعترضتني روائح غريبة لم تكن الروائح التي كنت أتوقعها فكأني في حجرة رفاقي في الطايق السفلي. لم يكن البيت منظما ولا نظيفا أعقاب السجائر ملقاة هنا وهناك ومنضدة عليها رماد وبعض الملابس والأوراق والكتب منثورة في كل زاوية تقريبا.
تلقتني (ك) بابتسامة صادقة وفسحت لي مجالا للجلوس. كنا ثلاثتنا على الأرض نفترش زربية قديمة ووراءنا بعض الوسائد البالية. وبعد حديث قصير تنهض (ك) قائلة: لحظة نجيب العشاء...
بيض مقلي وسلطة خضار وشوربة لسان عصفور عليها رشة معدنوس وبعض قطع الخبز وزجاجة ماء. كانتا تأكلان بشراهة في حين كنت أتأنق في أكلي لكي أبدو جنتلمانا ثم قامت (ص) بتنظيف المكان وعادت تحمل مشروبا غازيا وأوراق ال(رامي):
- هيا يا وحيد العب معانا طرح..
أعجبتني الفكرة خصوصا وأنهما تقريبا بملابس النوم. أي انحناءة منهما ينكشف على إثرها الصدر وأي حركة من حركات فخذيهما تُظهر القطعة الشفافة التي لا تستر ما كنت أشتهي وأريد.
كنت ألعب معهما من دون عقل تقريبا لأنه أطلق العنان لملء الجسم الاسفنجي والأجسام الكهفية بالدم، وهذه الأجسام تحتوي على تجاويف يتجمع فيها الدم الشرياني ثم ينحصر بسبب انقباض الأوردة، ولا يزول هذا الانقباض إلا بعد عملية القذف. ولأن القذف لم يحن بعد كون عضوي خيمة حقيقية في حجري.
- يا وحيد لاباس؟
تساءلت إحداهن مشيرة إلى خيمتي وانفجرتا ضاحكتين... استجمعت شجاعتي كلها وجرأة ما شاهدت من أفلام أيروتيكية لأقول:
- أنتما حقا مثيرتان ولا قدرة لي على مقاومة هذه الإثارة الله غالب غصبا عني وتظاهرت بالابتسام.
ربتت (ك) على خيمتي كمن تربت أم على ابنها ودندنت:
ننّي ننّي جاك النوم ثم قامت وجذبت إليها (ص) وعلى موسيقى الslow شاهدت أجمل رقصة في حياتي. كانتا متعانقتين والصدر على الصدر بل الحلمتان على الحلمتين وبريق خاطف من العيون يقول أشياء وأشياء يا ويلي! اندمجت معهما دون أن أشاركهما الرقص وعاد عقلي يعمل فتهاوت خيمتي وعشت لحظات مجنونة أدركت حينها معنى الحب وتذكرت حبيبتي البعيدة وتمنيت لو رقصت معها هذه الرقصة وليذهب الجنس إلى الجحيم...
قالت (ص):
- وحيد، فتحنا لك بيتنا لأننا علمنا أنك شاعر. لا تصدق كل ما يقال عنا. وما شاهدته الآن بأم عينك هو الحقيقة الوحيدة في حياتنا نعيشها بنهم ونحن نعلم علم اليقين أنها ستغتال يوما في مجتمع الخيام وأشارت إلى موقع خيمتي...

***

(16)

كانت الطالبة (ز ) الأقرب إلى عالمي فهي شبيهة إلى حد كبير بأخواتي البنات. طالبة تكتفي باستعمال الماء والصابون في تجميل نفسها ولا تزيل الشعر من حاجبيها أو جسمها كما تفعل أغلب الطالبات ولا تهتم مطلقا بالموضة في لباسها بل إنها أحيانا تتغطى ب"منشف" وهو رداء صوفي تقليدي منتشر في جهة الساحل التونسي كانت ترتديه الفتيات في خروجهن من البيت قبل ثورة السفور في بداية الثمانينات من القرن الماضي.

و(ز) طالبة أبية أصيلة وتلقائية تجعل أي شاب يخجل من نفسه قبل أن يفكر مجرد التفكير في معاكستها وهي بالإضافة إلى ذلك ذات جمال طبيعي أخّاذ ولو استعانت كما تفعل رفيقاتها بأفانين الماكياج لتحولت إلى ملكة جمال الكون.
حدثتتي (ز) كثيرا عن سيدي بوعلي مدينتها وعن عائلتها وعن أبويها الكادحين وكان حلمها أن تكون فخرا لوالدها الذي لم ينجب غير البنات لذلك اختارت طريق العفة والنقاء. وكنت مشدوها لصراحتها وأخلاقها البدوية التي تشبه كثيرا أخلاق سكان مدينة بنبلة. وكانت لا تخجل من الاعتراف أنها مخطوبة لشاب تعتبره زوجها المستقبلي وكان يزورها أسبوعيا في المبيت وبيني وبينكم كنت أحسد ذلك الشاب على ارتباطه ب(ز) لأني أرى فيها فتاة أحلامي وكنت أدعو ربي خلسة أن تكون حبيبتي في مثل نقائها وأصالتها.
كانت (ز) واضحة وضوح الشمس فجميع الطلبة يحملون عنها نفس الصورة لكني كنت مستغربا من أمر واحد سألتها يوما عنه:
- (ز) انحب انقلك حاجة من غير ما تتغشش..
- خير يا وحيد..
- صاحبتك l'intime ، ما ابعدك عليها!
وصديقتها المقربة هذه حكايتها حكاية فهي الوجه المقابل ل(ز): فتاة تعتني أيما اعتناء بمظهرها حتى كأنها سيدة متزوجة وليست بكرا ولم نستطع أن نعرف عنها شيئا سوى هذا الظاهر فهي لا تتكلم أبدأ لا تفرح لا تحزن لا تسمح لأحد بالاقتراب منها وكأنها صنم من الأصنام التي توضع في بوتيكات الملابس الجاهزة.
- بنت بلادي وجارتي وراهي يا وحيد باهية برشا ما يغركش المظاهر.
وامض يا زمان وتعال يا زمان و(ز) لا أثر لها لا في الكلية ولا في المبيت بينما صديقتها المقربة تزداد تبرجا بشكل لافت. شاهدنا جميعا الحناء والحرقوس في يديها وقدميها مما يعني أنها تزوجت حديثا مبارك أيتها العزيزة لكن أين (ز)؟ طبعا هي لا ترد ولا تبتسم ولا تغضب وتمضي في مشيتها بكل تيه وخيلاء.
وأخيرا جاءني الرد. وها هي (ز) أمامي.
كانت أشبه بفتاة تعرضت توا للاغتصاب عيناها مهدّمتان من أثر البكاء وشعرها الذي بالكاد يظهر من لحافها الأسود منهدل في غير نظام ووجهها أصفر وجفاف غريب يطبق على شفتيها وكأنها لم تأكل منذ أيام (ز)ما بك هل أنت بخير يا حلوة المبيت؟
- صديقتي المقربة استطاعت أن تنتزع مني خطيبي وتحول وجهته إليها وقد تزوجا منذ أسبوعين.
لم أعرف كيف أطيب خاطرها فأنا من النوع الذي لا يتقن العبارات الخشبية. آثرت الصمت.
- ما أقسى الخيانة يا وحيد فكرت في الانتحار ولكن درءا لكلام الناس وحفاظا على سمعة أبي فضلت أن أبتلع السكين بدمها. وها أنا أمامك مجروحة مجروحة....
هذه الحادثة قتلت (ز) التي نعرفها لتتحول إلى طالبة أخرى حزينة مترددة شاردة الذهن لا تثق بأحد لا تتكلم لا تبتسم ولا تضحك أبدأ...
يتيع

.../...

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى