مصطفى نصر - مكتبة البلدية بالإسكندرية... أول مرة أذهب فيها إلى مكتبة البلدية

أرتبطت منذ صغري بمكتبة البلدية – فقد كانت أحلامي في قراءة الكتب أكبر من مصروفي الذي كنتُ أشتري به الكتب والمجلات؛ خاصة مجلة " صباح الخير " التي اكتشفتها بعد صدورها بعام تقريبا، فكنتُ أشتري أعدادها القديمة العدد بخمسة مليمات من محطة مصر.
أتفقت مع صديق لي وأنا في إجازة سنة سادسة إبتدائي، وسرنا من حينا (غربال) إلى شارع منشا – حيث تقع المكتبة، لكن الموظف الذي يجلس خارج المكتبة، رفض دخول صديقي، لأنه كان يرتدي بيجامة، قال له: روح ألبس قميص وبنطلون وتعال.
ودخلت المكتبة لأول مرة، أخذت أبحث في الأدراج التي تحمل " فيشات " أسماء الكتب، وأدراج أخرى تحمل فيشات أسماء المؤلفين.
يومها طلبت رواية " أين عمري " لإحسان عبد القدوس، لكن الموظف الذي يستقبل الكتب، حرك رأسه معترضاً، وغير راضي على ما فعلت: حاتبدأ القراءة بإحسان عبد القدوس؟!
كنت أذهب إلى المكتبة البلدية كل يوم تقريبا، خاصة في الصيف وقت الإجازة الصيفية؛ فأجلس في قاعة القراءة الداخلية وأطلب كتابا، فيأتي إلي عن طريق أسانسير ضيق صغير، أقرأ في الكتاب وأتابع الساعة المعلقة فوق الأسانسير، وقبل إنتهاء الموعد بقليل؛ أعيد الكتاب وأدخل قاعة الإستعارة الخارجية وأطلب كتابين وأعود بهما إلى البيت. لذا؛ كنتُ حريصاً على تقديم إستمارة الإستعارة الخارجية التي لابد أن يضمني فيها موظف يعمل في الحكومة لضرورة ختم الإستمارة بختم النسر. فأبحث عن موظف يعمل في الحكومة ليضمني، وظللت هكذا حتى بعد أن عملت في شركة قطاع عام، فالشركة ليس بها ختم نسر. ورغم أنها تتعامل بملايين الجنيهات وسهل جدا، أن تخصم من راتبي ثمن الكتاب الضائع أو التالف، لكن الروتين العجيب أصر على أن يكون الضامن موظف حكومة لا يقل راتبة عن عشرين جنيها، وظل هذا الشرط حتى بعد أن زادت المرتبات وتجاوزت المائة جنيه بكثير.
وقد أقمت مع أصدقائي – الذين يهوون القراءة مثلي – علاقات وطيدة ببعض موظفي المكتبة، فزرنا أحدهم في بيته بشارع " الحبشة " بمحرم بك؛ عندما علمنا أنه مريض. وكانا الموظفان اللذان يعملان في الإستعارة الخارجية، أحدهما شاب صغير جاحظ العينين، يضع في مكتبه الكتب التي تفضلها البنات: روايات يوسف السباعي وإحسان عبد القدوس، ودواودين شعر نزار قباني. كان يعاملهن بود شديد، وبرومانسية واضحة؛ بينما يعامل الشباب - أمثالي - في قسوة وعنف. والآخر – عم حسين- يدخن سيجار إسمه البستان، وكنا نشتريه له لكي يسهل لنا الإستعارة.
وقد قرأتُ عن فضل كتاب ألف ليلية وليلة في الأيام لطه حسين وغيره من الكتب، فطلبته، لكن الموظف الذي يستقبل الكتب في قاعة الإستعارة الداخلية وكان يرتدي بذلة صفراء، بما يعني بأنه مجرد عامل لا يحمل مؤهلات، رفض أن يسلمني الكتاب، وأعاده ثانية، خشية من أن تكون رغبتي في قراءته من أجل ما فيه من كلمات خارجة. وقد كان هذا الرجل على درجة كبيرة من الثقافة، فكان يناقشني في كتب العقاد وطه حسين وغيرهما.
....
كنتُ أفضل قراءة الكتب في قاعة مكتبة البلدية عن القراءة في مكتبات قصور الثقافة التي لم تكن تلتزم وبالهدوء الموجود في مكتبة البلدية. وأبتعدت بعد ذلك عن المكتبة بعد أن كونت مكتبة كبيرة في بيتي، ولم أكن ألجأ إليها إلا إذا إحتجت إلى كتب نادرة لن أجدها إلا فيها، أو عندما أتطلع على الجرائد والمجلات القديمة التي أحتاج إليها أحيانا في كتابة الروايات أو القصص.
مشكلة مكتبة البلدية هو الروتين السخيف الذي ظل يخنقها لسنوات طويلة، فقد حدث أن زارها رجل ثري عربي أيام كانت تابعة لسكرتير عام المحافظة، وطلب أن يصور كتبا نادرة منها، فأكتشف أنها لا تمتلك آلة تصوير، وإنما يقف أحد السعاة أمام الرواد ويصيح: " إللي عايز يصور حاجة ". ثم يأخذ الكتب ويصورها لدي صاحب ماكينة تصوير، ويدفع الرواد الثمن، فتبرع ذلك الثري بماكينة تصوير، لكن الروتين اللعين حال دون أن تحتفظ المكتبة بها، فالأمر ليس سهلا، المكتبة ستتعامل بالنقود، وهذا يتطلب تدخل الجهاز المركزي للمحاسبات، وربما مجلس الوزراء نفسه، وحرم رواد المكتبة من هذه الميزة. وأنتقلت ماكينة التصوير إلى مكتب سكرتير عام المحافظة.
وكنت أرى موظفا بها يسير في حينا مع واعظ كفيف البصر، فيمسك عصاه ويتحدث معه، وكان يستعير الكتب من المكتبة ويقرأها له، ثم أنتقل هذا الموظف إلى إدارة التراخيص، وجاء إلى بيت عمي في عمل يخص الإدارة التي يعمل بها، وقابلته هناك. وذكرته بأيام المكتبة، فحكى لي بأن لديهم مخطوط كتاب إسمه " عودة الشيخ إلى صباه " وهو يحكي عن علاقات جنسية خارجة، ومكتوب بلغة عامية بذيئة، وأن إبن مدير المكتبة - وهو شاب في فترة المراهقة - صعد إلى الدور العلوي الذي به الكتب، وإستطاع الحصول على المخطوط؛ فأخفاه وذهب به إلى بيته. وبعد وقت قصير أكتشف أمين المكتبة ضياع المخطوط، فذهبوا إلى بيت المدير، وأخذوا الكتاب من إبنه، ثم وصل الخبر إلى سكرتير عام المحافظة – الذي كان يشرف على المكتبة - فأمر بأن يوضع المخطوط في خزانة خاصة، وأن يكون مفتاحها معه هو شخصيا.
حال مكتبة البلدية الآن
ظهور مكتبة الإسكندرية العملاقة؛ جعل الكل يتجه إليها ويتعامل مع مكتبة البلدية – ذات التاريخ الطويل – على إنها شيخ مسن لا يصلح لشيء، فتركوها منتظرين موتها، أو هي كحصان البلدية الذي إذا شاخ، في إنتظار إطلاق طلقة الرحمة عليه، ليرتاحوا منه .
تذكرت الطلبة والطالبات الذين كانوا ينورونها، فيجلسون فوق مقاعدها الخشبية الخشنة صامتين يقرأون ويدونون في كراساتهم؛ إنهم يذهبون الآن إلى مكتبة الإسكندرية.
المكتبة بها كتب نادرة الوجود، ولابد من الإهتمام بها ورعايتها، كما أنها لها أفضال على كل كتاب ومثقفي وفناني الإسكندرية، ومنهم من هاجر إلى القاهرة وحقق نجاحا ملموسا هناك. فمعظم أدباء ومثقفو الإسكندرية قد نهلوا من معينها.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى