أ. د. ثناء محمود قاسم - المدينة الجامعية (7..12)

(7)

مع مشكلات السكن الجماعي وسلبياته، كانت المدينة الجامعية مكانًا آمنًا تمامًا ، نستطيع التجول بحرية في حديقتها والمساحات الواسعة صباحًا ومساءً، نهارًا وليلًا. نستطيع أن ننام في حجراتنا دون خوف أو توجس، تستطيع الواحدة منا أن تستيقظ في أى وقت من أوقات الليل، وتسير وحدها في طرقة طويلة حتى تصل إلى حمام الدور الذي يكون في آخر الطرقة بجوار السلم. حمام واسع متعدد الحجرات والأحواض. كان المبنى لا تغلق أنواره ليلًا، تسير فيه تحت أضواء ساطعة. ويمكن أن نلتقي بواحدة أو اثنتين تؤنس الطرقة بذهاب أو عودة من الحمام، كانت الحركة تكثر والإئتناس يعلو في الطرقة، حيث السهر والسمر بين البنات، وتُفتح الحجرات المقابلة بعضها لبعض، فإذا كانت هناك من تغط في نومها وتغلق حجرتها، فإنها تنام في حراسة الأصوات والحركة. كانت جلبة البنات تبث الحياة في الحوائط والأركان وتوقظها معنا في الليل وتبدو كأنها من لحم ودم. كانت الحركة والونس في الليل أكثر منه في النهار . ظل الوضع في المبنى الثاني (مبنى الفرقة الثانية) على تلك الحال حتى سرى كلام قوى بين أرجاء المبنى عن شبح يظهر في الليل، يتجول في الطرقات وفي كل الأدوار. كلام ليس بالهزل ولا المزاح، كلام لم نقنع معه أنه ممكن أن يكون مجرد إشاعة أطلقتها واحدة من البنات. فقد أكدت أكثر من واحدة بصوت جاد وصادق ومرتعد، أنها تسمع الشبح في عز الليل يضحك وينطلق ويعربد ويصدر أصواتًا غير مفهومة . سرى الخوف والرعب مع الكلام حتى جاب المبنى بأكمله وأصبح هو الحدث الأعظم في يومياتنا. حل الرعب محل الأمان والطمأنينة. أصبح الذهاب إلى الحمام وبخاصة ليلًا عملية انتحارية بامتياز، لا تستطيعه واحدة بمفردها. فكنا نذهب إليه قبل النوم في جماعة، حتى في أوقات الصباح أو النهار. ومما زاد الطين بلة أن إدارة المدينة أزمعت قبل انصرام العام الجامعي على تجديد دورات المياه في المبنى، فقامت بتكسير الأرضيات وهدم بعض الحوائط وعزل الكهرباء، وأصبح المكان بالمخلفات والردم والظلام الدامس مكانًا شبه مهجور، يصلح تمامًا أن يكون سكنًا جيدًا للأشباح. ولست أدري ما السبب الذي يدعو الإدارة أن تقوم بعملية التجديد أو الترميم أثناء تواجد البنات خلال العام الدراسي؟! لماذا لا تؤجل هذا العمل إلى الإجازة الصيفية عقب المغادرة؟ّ! لكننا أصبحنا محاصرين بالأمر الواقع، فقد تم هدم دورة المياه إلى آخر العام. وأصبح المكان مثيرًا للخوف حتى لو لم يكن هناك كلام عن وجود شبح، فما بالنا بالجمع بين الاثنين ؟ فبدأنا نربط بين توقيت ظهور الشبح وهدم دورة المياه، فهل خرجوا علينا منها، أم أن الأشباح قد استغلت هذا المكان المهجور وسكنوا فيه؟ وكان نتيجة هذا أن خلت الطرقات تمامًا من الحركة ليلًا، وساد الصمت الرهيب والسكون المستريب، وغلقت أبواب الحجرات . لكن المشكلة الكبرى إذا ما اضطرت واحدة منا إلى الذهاب إلى الحمام ليلًا وحدها، لا تستطيع أن توقظ زميلتها وتقلق راحتها لمجرد مرافقتها. نجح الشبح في أن ينهي يومنا مبكرًا، وأن يخرس أصواتنا، ويكبل حركاتنا, وأبقى لنا مساحة محدودة من الطمأنينة لا تخرج عن حدود باب الحجرة المغلق علينا، مادمنا بالداخل فنحن في أمان.
وذات ليلة صماء خرساء ساكنة نائمة، استيقظتُ على صوت أقدام تتجول في طرقتنا، أنصتُ لوقع الخطوات الواثقة وهى تقترب من باب حجرتي، وأنا أصوب عيني تجاه عقب الباب، في انتظار مرور الشبح ومن ثم الابتعاد والتجاوز، لكنه لم يمض لحال سبيله كما توقعت، فقد توقف عند باب حجرتي، ورأيت ظله يتحرك وهو على بعد متر تقريبًا مني، ثم سمعت صوت تكسير وعملية ما تتم على الباب. لا أستطيع نسيان هذه اللحظات التي كاد قلبي فيها أن يتوقف، كتمت أنفاسي خوفًا من أن يسمعها الشبح ويعرف أنني لست نائمة وأنني أراه، فيخترق الباب متجاوزًا المتر الذي يفصلنا ويدخل إلى ويؤذيني. ولم أستطع الحركة ولا حتى تحريك نظري إلى صديقتي التي كان رأسها مجاورا لرأسي وهى نائمة، وعلى بعد سنتيمترات، وتعجبت كيف عجزتْ يدي عن الحركة لكي أضعها على صديقتي وأوقظها، الخوف والرعب والفزع شلوا حركتي تمامًا. ثم مضى الشبح متجاوزًا الحجرة. ولست أدري كيف قضيت بقية الليل في هذه الأجواء؟ في الصباح قصصت على صديقتي ما حدث، ومن هوله لم تصدق حتى فتحنا باب الحجرة لنخرج، فوجدنا أن الأطباق البلاستيكية التي تحمل آيات من القرآن الكريم، التي جلبتها معي من السويس مكسورة ومتناثرة. كنا نستعين بهذه الأطباق في التبرك والتزين بوضعها على الورق المزركش الذي كنا نكسو به باب الحجرة كعادة بعض البنات في المدينة. فتأكد لنا ما كنا نسمع عن خبر الشبح، فليس من المعقول أن يكون الشبح مجرد بنت تتلاعب بنا، لسببين؛ الأول هو أنها تخاف أن تسير وحدها بين الطرقات والأدوار في هذا الوقت وتقوم بهذه الحركات. والثاني هو توقعها أنه ممكن أن ينكشف أمرها بسهولة إذا ما فكرت وقررت أى حجرة من الحجرات الكثيرة أن تفتح الباب فجأة ولو على سبيل حب الاستطلاع والتثبت من شخصية البنت التي تتلاعب بنا، ومن ثم تعرض نفسها لعقوبة أقلها الفصل من المدينة. وبخاصة أنه كان بيننا بنات فيهن جرأة وقوة. لكن في الحقيقة رغم كل هذا، لم تفكر واحدة منا ولم تجرؤ على فتح باب الحجرة فجأة أثناء تجول سيادة حضرة الشبح .
وللحديث بقية .

***

(8)

مضت بنا الأيام أنا وصديقتي في المبنى الثاني دون مخالطة أو اندماج مع جيراننا في الحجرات المجاورة ، ولست أدري هل فرضنا نحن على الواقع عزلتنا أم فرضها هو علينا ؟ فرغم كثرة العدد ، ورغم حرصنا على احترام علاقة الجوار، لم نقترب من أحد اقترابًا يلغي المسافات والخطوط ، فآثرنا الاحتفاظ بخصوصيتنا وثنائيتنا ، ربما فرض علينا هذا قناعتنا بأن منظار الابتعاد يرينا محاسن الناس أكثر من معايبهم ، وأن منظار المخالطة ربما يرينا ما يكشفه المجهر المسلط على خلية الحرباء أو الحدأة . وقناعتنا –أيضًا- بأنه لا يغرينا الدخول في جماعات تبدو متآلفة منسجم بعضها مع بعض ؛ فليس شرطًا أن ما يألفه الآخرون نألفه نحن ، وأن ما يتقبله الآخرون نتقبله نحن ، فكن لنا على سبيل (الطيور على أشكالها تقع ) ، و(أخو الجهالة في الشقاوة ينعم) .
ولم نتعمد الاختلاط الحذر الذي جرى بيننا وبين الحجرة المقابلة لحجرتنا ، فقد تسلل إلينا دون أن نعرف متى ؟ وكيف؟ ولماذا؟ فقد كنا نتشارك أحيانًا الطعام والكلام والضحكات والذهاب إلى الكلية . واحدة منهما من فارسكور محافظة دمياط ، فتاة عادية جدًا في شكلها وسلوكاتها، لكنها جبارة في تسللها إلى قلبك بأريحية المتربع على العرش لا يزحزحه أحد ، بل لا يقدر . أما الثانية فكانت من المنصورة بنتاجها الذي يجسد الأنثى بالملامح الفرنسية المحضة ، لا ظل فيها ولا أثر للملامح المصرية . كانت بيضاء بياضًا مشوبًا بصفرة لا حمرة ، قصيرة جدًا ، نحيفة جدًا ، شعرها ذهبي ناعم يمتد لأكثر من نصف طولها . كان صوتها غريبًا مميزًا ، أخاله حين تتكلم أنه يخرج من أى مكان إلا الحنجرة ، بشيء من التركيز أستطيع تبين أنه ربما كان يخرج من الأنف ، ضحكتها مكتومة ، ابتسامتها عجيبة ، تخالها حين تبتسم أنها على وشك القيام بأحد أعمال الساحرة الشريرة . أراها بمجمل شكلها طفلة دون عمرنا ، وكأنها قد وُضعت بيننا على سبيل الخطأ . والأعجب أنها كانت مخطوبة . كنت أرى أنها لم تبلغ بعد مبلغ الفتاة التي يمكن أن يفكر فيها أحد زوجةً . لكن أحدهم يبدو أنه رأى في شكلها الملون مالم أستطع أنا رؤيته فدعاه إلى خطبتها.
كنت أتعامل وصديقتي معهما سواءً بسواء ، لا نقدم واحدة منهما على الأخرى ، ولا نفضل واحدة منهما على الأخرى ، ولانزيد بينهما أو ننقص في التعامل الودود . كنا لا نشكو شيئاً ولا نعاني شيئًا . حتى بدأنا نستشعر اقتراب الفتاة الدمياطية منا ، وانسحاب المنصورية ، ومضينا ثمت قلنا : لا يعنينا . فربما كان وهمًا ، وربما كانت ثمة أمور خاصة بينهما لا نعرفها .
وفي يوم كنا نجلس في حجرتنا مع الفتاة الدمياطية ، ثم دخلت علينا شريكتها المنصورية تستدعيها ، وأنا وصديقتي غير مباليتين بالأمر تمامًا ، ولا يدفعنا الفضول لمعرفة أى شيء . وفي الوقت نفسه أخذت دورق المياه الفارغ ونزلت إلى الدور الأرضي حيث مبرد المياه ، وحيث التزود بالمياه الباردة المنعشة ، وهذا أمر كنا نتبادله أنا وصديقتي . وفي طريق عودتي إلى الحجرة لمحت الفتاتين تتجاذبان الحديث قرب السلم ، بانفعال مكتوم من الفتاة المنصورية ، وانفعال مكشوف من الفتاة الدمياطية ، وهذا أمر بدا لي عجيبًا ، فعطفت إليهما بابتسامة وبراءة ، وقلت مداعبة وأنا أواصل السير دون توقف :
- الموضوع شكله كبير .
وما كنت أتوقع أنا وصديقتي مطلقًا ما كان يدور في كواليس معيشة الفتاتين ولا نعرف ما أصاب علاقتهما من تطور مضطرب . حتى انفجرت الفتاة الدمياطية وهى تحكي لنا عما كانت تخفيه عنا ، وما عادت تقوى على مداراته أكثر من ذلك . ألقت على مسامعنا عجب العجاب من كلام عن شبكة الحقد والغل التي كانت تتحلق بها شريكتها المنصورية . فقد حكت لنا أنها تغير على شريكتها الدمياطية من تعلقها بي دونها ، وأنني آخذ قدرًا كبيرًا من اهتمامها دونها، فلم تعد – وللعجب- تملكها كما كانت تريد .
عجيب أمر البنات في المدينة الجامعية حين تخطيء الواحدة منهن فهم شراكة الحجرة ، وحين تخطيء فهم التواصل وطبيعة العلاقات .
تحكي لنا وكأنها بركان انفجر بحمم الكتمان . ثم أردفت قائلة أنني حين مررت عليهما منذ قليل بدورق المياه ، اتهمتني غيبًا أنني نزلت من أجل اللحاق بالدمياطية وجعلت من الذهاب بالدورق حجة ليس أكثر . حيث قالت لها :
- إنها لحقت بك لأنها لم تقو على بُعدك ولا تركك لي ولو لحظات .
حكت لنا عن معاناتها مع هذه العقلية المختلة والنفسية المريضة ، وكيف أننا كنا لها مخرجًا ومهربًا منها .
حقًا ، كم تعاني الكثير من البنات في السكن الجماعي ، الذي يجبرهن أحيانًا على معاشرة أضادهن ومن هن لسنا على أشكالهن !!!
بدأتُ أراها- أنا أيضًا- مريضة ، مريضة تستحق الشفقة لا العنف ، فحين انهارت عصبيًا وغادرت الحجرة والمبنى إلى مكان في المدينة للتعافي إلى أخر العام ، ذهبتُ لزيارتها ، في حين رفضتْ الدمياطية التعاطف أو الزيارة ؛ فقد كانت على ثقة من أنها تدعي الانهيار ، وكنت أرى أنا أيضًا ذلك . كنت أراها كما يقولون: كهينة .
ومع اقتراب انتهاء العام الدراسي لم يكن يشغلنا أنا وصديقتي هاجس عن الشريكة الثالثة التي تسكن معنا العام المقبل في مبنى الفرقة الثالثة ذي الحجرات الثلاثية . فلم نخترها ولم تخترنا صراحةً ، لكن كأن اتفاقًا صار بيننا وعهدًا صامتًا سرى ، أنها حتمًا ستكون قدرنا الجميل الذي سيطور من ثنائيتنا ، ويزيد أيامنا في المدينة الجامعية بهاءً نصنع منه ذكريات لا ينقطع أثرها مدى العمر .
وللحديث بقية ...

***

المدينة الجامعية( 9)

ظل هاجس السكن الآمن يطاردني أنا وصديقتي بداية كل عام ، فعلى الرغم من أننا عرفنا مَن التي ستشاركنا حجرتنا في الفرقة الثالثة ، فقد كان القلق يصاحبنا ؛ لأننا لا نستطيع التأكد من سلامة التنفيذ . فطاردتنا الهواجس مع اقتراب العام الدراسي الجديد. فما الذي يضمن لنا وجود حجرة فارغة تمامًا حتى نسجل فيها أسماءنا لحجزها ؟! أليس من الجائز ألا نجد سوى مكانًا واحدًا فارغًا أو مكانين ؟ حيث نجد من سبقتنا وسجلت اسمها ، ومن ثم يتم شغل الكثير من الأماكن في الحجرات فلا نستطيع الانفراد بحجرة لثلاث، فتفرض علينا إدارة المدينة الجامعية -عندئذٍ - إحداهن وتكون هى ثالثتنا ، أو تفرض على كل واحدة منا اثنتين أخريين من الطالبات فنفترق أنا وصديقتي أيضًا.
هواجس تبدو فارغة لكنها مرعبة لمن يعرف مرارة العيش مع شخصيات غير مناسبة وغير ملائمة ، فهذا جدير أن يفسد علينا كل شيء في أيامنا وليالينا وفي حياتنا الجامعية ، فضلًا عن النكد وتعكير المزاج والتوتر العصبي الذي يمكن أن يصاحبنا طوال العام .
كانت إدارة المدينة الجامعية تسمح قبل بدء العام الدراسي بحجز الحجرة التي نريدها شريطة وجود مكان شاغر فيها ، على أن يتم تدوين الاسم بالقلم الرصاص في دفتر الحجز ، لتوسع من فرص التراجع أو تعديل الرغبات فيما بعد . حتى إذا بدأ العام واستقر أمر الاختيار يتم تحبير الأسماء ولا يمكن التراجع فيها بعد ذلك بسهولة. بكّرتُ أنا وصديقتي في الذهاب إلى المدينة الجامعية قبل بدء العام الدراسي لضمان حرية الاختيار والحجز ، وكنا ننزل في شقة أسرتي الفارغة بالقاهرة لهذا الغرض، وكنا نعود بعدها إلى السويس ؛ لأن المدينة لا تفتح أبوابها للسكن إلا مع بداية الدراسة . ذهبنا بقلق وجزع خشية عدم التوفيق . وظلت الهواجس تلاحقنا حتى بعد تسجيل أسمائنا أنا وصديقتي وشريكتنا التي ظفرنا بها العام السابق؛ لأن الأسماء كانت تدون بالقلم الرصاص ، حيث يسهل التلاعب في تغييرها لأغراض خاصة برغبات باقي الطالبات. ولم نكن نطمئن إلا في بداية العام الدراسي فعليًا ورؤية أسمائنا محبرة وينقضي الأمر .
أقمنا في الفرقة الثالثة بالمبنى السابع بالدور الأرضي ، وكان الدور الأرضي من اختياري أنا . وما حدث في الفرقة الثالثة تكرر بحذافيره في الفرقة الرابعة في مسألة تسجيل رغبات السكن، بخطواته وإجراءاته ورغباته وأهدافه وجزعه وقلقه ، حتى المبنى نفسه تكرر؛ حتى الحجرة تكررت . ذهبنا مبكرًا أنا وصديقتي واخترنا الحجرة نفسها ؛ لأننا كنا قد قضينا فيها مع شريكتنا عامًا سعيدًا هادئًا في الفرقة الثالثة، فأردنا تكرار التجربة الرائعة نفسها. لقد نشأت بيننا وبين الحجرة ألفة تكونت من شدة ارتباطنا وتآلفنا بعضنا ببعض، فرأيناها كأنها من ممتلكاتنا . فكانت حجرتنا في المبنى السابع التي أقمنا فيها عامين على التوالي هى أجمل وأثمن مكانًا يقع في ذاكرتي وذكرياتي .
كانت شريكتنا من محافظة دمياط ، وكنت أسمع عن أهل دمياط الوصف بالبخل ، ومن الأقوال الشائعة عنهم قولهم لضيوفهم :
أجيب لك شاى ولا أنت مش كييف؟ تتعشى ولا تنام خفيف؟
لكن شريكتنا كذّبت دون أن تدري كل هذه الأقاويل ، ونسفت كل ما وصلني من صورة مشوهة متداولة بين أناس آثروا وصم العديد من محافظات مصر بصفات لست أدري على أى أساس وضعوها . وبدأت أدرك في هذه السن أنه ليس كل ما يتداول بين الناس يمكن أن يكون صحيحًا و يمكن التعامل على أساسه .
نعم فقد كانت شريكتنا كريمة جدًا سخية جدًا ؛ سخية في ذوقها ، سخية في صدقها، سخية في محاسن أخلاقها ، سخية في جمال عطائها وبذلها ، سخية في هدوئها . لا أزال أتذكرها حين كانت تعود من دمياط عقب زيارة سريعة ، محملة باللحم الأحمر والسمك المشوي والأرز الأبيض، والأغرب أنها كانت تحمل معها في حقائبها آنية من مرقة اللحم ، فنجتمع على أشهى طعام . كان أبوها يعمل قصابًا – بمستوى متواضع- لديه محل صغير بجوار بيتهم في قريتهم بفارسكور . كانت تظهر قرويتها بشكل واضح للرائي، في شكلها وهيئتها وملابسها ، والأعجب أن ملامحها أيضًا كانت تبدو قروية ، ولست أدري كيف؟ فأنا أعرف أن الشخص رجلًا كان أو امرأة ممكن أن تظهر قرويته في ملابسه ، فى طبيعة شخصيته ، فى عاداته وسلوكاته . أما أن تظهر على ملامح وجهه فهذا عجيب . ومع ذلك لم ينقص هذا – عندي- من جمالها وأنوثتها ورقتها ، فكنت أراها ( هانم ) تفوق من تسكن أرقى أحياء القاهرة . فكثيرًا ما نرى من تركب أفخم السيارات وترتدي أفخر أنواع الثياب ، ومن يبدو شعرها ووجهها لامعًا متأنقاً ، لكن حين تسمعها تتكلم في موقف ما ، تجد مستوى متدنيًا من التربية والأخلاق والذوق . فمقاييس الهوانم ، ومعايير التقييم – عندي- لها كيفية أخرى . فإذا لم تكن شريكتنا هى الهانم فمن تكون إذن ؟!
كنت أراها جميلة ، حتى حين كانت تتعصب في موقف ما ، كنت أراها في أجمل حالاتها وأكثرها براءة ، وكنت أضحك من طريقتها عند تعبيرها عن الغضب . كانت ست بيت ممتازة في الطهى والنظافة وسرعة الحركة والعافية في العمل ، تعلمت منها كيفية عمل أجمل صينية بطاطس ، حيث كانت تضيف إليها بعض قطع الثوم وأعواد الشبت . وإلى الآن لايمكن ألا تأتي على بالي مخلفة ابتسامة حزينة على وجهي حين أطهو صينية البطاطس وأضيف إليها قطع الثوم والشبت .
كانت شريكتنا رغم عشرتنا لثلاث سنوات تهابني وتحترمني وتقدرني ، والأعجب أنها كانت تستحي مني خشية أن تبدو أمامي بأي شيء معيب . حتى أنها بعد تخرجنا اتصلت بي تليفونيًا في السويس ، وأخبرتني أنها في القاهرة لتسلم شهادة التخرج ، لم أكد أسمع صوتها من شدة الخجل والاستحياء . بحثت عنها كثيرًا بعد التخرج ، وبعد أن أخذتني السنون والدنيا لسنوات ، لم أمل البحث عنها . أرسلت مرة لها رسالة بقدر ما تذكرت من عنوان ، وباسمها الثلاثي ، أستحثها على التواصل معي ، وأحث أى إنسان تقع في يده رسالتي أن يشفي صدري بمعلومات تدلني على مكانها . لم أعرف أحدًا من محافظة دمياط إلا وسألته عنها . حتى حين ذهبت إلى دمياط لشراء بعض أثاث بيت الزوجية ، وكان صاحب أحد المعارض يقلنا بسيارته الخاصة من الجيزة إلى دمياط ، ومررنا بدمياط ، وقرى دمياط ، وتنسمت عبير هواء ربما حمل أنفاسها، وكأنها تطل علىّ من إحدى المنازل ، لم تشغلني فرحة انتقاء أثاث بيتي الجديد عن أن أسأل عنها صاحب المعرض ، لكن لا الوقت ولا الظروف كانت لتمهلني لأنزل وأبحث عنها . وكثيرًا ما أتساءل بيني وبين نفسي : كيف مضت بها السنون والحياة ؟ هل صارت زوجة ؟ إنها ستكون أجمل زوجة .هل صارت أمًا ؟ إنها ستكون أجمل أم . هل رزقها الله زوجًا استطاع أن يرى جمالها وجمال صفاتها ؟ هل تمتع بطيب عشرتها أم وقع نصيبها في أحد العميان؟
سلمت حبيبتي أينما كنت.

وللحديث بقية ...

***

(10)

كنت في مرحلة ما قبل الجامعة ، تحديدًا منذ ارتدائي الخمار والجلباب في الصف الثاني الإعدادي ، كثيرة الذهاب إلى المسجد ، لصلاة الجمعة والعيدين وحضور الندوات وغير ذلك ، حتى تعلق قلبي تمامًا بكل تعاليم الإسلام وشريعته من عبادات ومقاصد ، شكلًا ومضمونًا .
ودخلت الجامعة دون أن أبتعد عن هذا النهج قيد أنملة ، بل زاد بالقراءة والتأمل وسلامة القلب والفطرة بفضل الله تعالى ، زدت في المظهر بارتداء الإسدال ، وفي المضمون بالتزام العبادات والتعامل الطيب مع من حولي ، مهما كان اختلافهم عن نهجي؛ لأن هذا في ذاته من صميم مقاصد الشريعة الإسلامية . كنت في الكلية والمدينة الجامعية معروفة بهذا الالتزام . أصلي بالبنات - أحيانًا - وبخاصة صلاة الفجر في ردهة المبني . وصليت بهن مرة في يوم من أيام شهر رمضان المبارك ، حيث تم اختياري لإمامة صلاة الفجر في إحدى ساحات المدينة بحضور جمع كبير من البنات ، وكان يومًا رائعًا لي ، وذكرى طيبة . وكنت أحتفي بالليالي المباركة ، ففي مرة - مثلًا – دعوت بنات المبنى للاحتفاء بليلة النصف من شعبان في ركن من الأركان بتوزيع بعض المشروبات وقراءة القرآن وقيام الليل .
وذات ليلة من ليالينا في المدينة ، نما إلى أسماع البنات في حجراتهن صوت إحداهن وهى تغني لأم كلثوم من الأطلال :
وانتبهنا بعد ما زال الرحيق ، وأفقنا ليت أنا لا نفيق
يقظةٌ طاحت بأحلام الكرى ، وتولى الليلُ ، والليُل صديق
وإذا النورُ نذيرٌ طالعٌ ، وإذا الفجرُ مطلٌ كالحريق
وإذا الدنيا كما نعرفها ، وإذا الأحباب كلٌ في طريق
إلى أخر القصيدة .
حتى إذا ما طار الصوت محلقًا في المكان ، خرجن إلى الطرقة لمعرفة مصدر الصوت والغناء ، وتتبعن الصوت حتى وصلن إلى حجرتي ، ففوجئن بأن التي تغني هى أنا . وعرفت بعدها أن كل واحدة كانت حين تسأل تخبرها الأخرى بأن التي تغني هى فلانة ، فتسرع إلى حجرتي ، وتجمعن حتى امتلأت ، وظل البعض يتوافد حتى ازدحمن خارج الحجرة . تعلو وجوههن ابتسامة إعجاب وتعجب في آن واحد . لكن في الحقيقة لم يصدر من أى واحدة منهن أى امتعاض أو اعتراض أو استنكار أو رفض لكون التي تغني لأم كلثوم هى نفسها التي يعرفن فيها التدين والالتزام . وتكرر الأمر مرات ومرات لكن دون تعجب .
نعم كنت أغني أحيانًا في نشوة الراحة النفسية التي كانت تهيمن علينا في حجرتنا مع صديقتي وشريكتنا .
كنت قد بدأت أدندن لنفسي فاستحسنتا الفتاتان صوتي ، ثم بدأت صديقتي تطلب مني الغناء . فأحيانًا كنت أغني بصوت لا يكاد يخرج عن حدود الحجرة ، لكن هذا ما كان يوافقني دائمًا ولا يوافق صوتي الذي كان قَدْرُ الطرب والنغم فيه يتطلب التحرر والانطلاق .
أنا لست محترفة ، ولا أفضل الغناء إلا لنفسي ، ولا أدعي أن صوتي جميل ، لكني أطرب لصوتي ، فتطرب نفسي . ففيه على أية حال نغمة مطربة لا تخطئها الأذن ، وبخاصة حين ينطلق الصوت مخترقًا حدود مكاني.
قالت لي إحداهن ببشاشة وابتسامة رائقة ، حين كنت أدندن وأنا أقف على أحد الأحواض أغسل بعض أدوات الأكل :
- إن صوتك جميل مثل صورتك .
لقد أعجب صوتي أم كلثوم- نفسها - حين كنت في حجرتي مرة منذ سنوات قليلة مضت ، أدندن -بانسجام -مقطعًا من أغنيتها (هجرتك) :
وصبحت بين عقلي وقلبي تايه حيران
أقول لروحي من غلبي انس النسيان
وعندما فرغتُ نظرتُ من شرفتي ، فوجدتُ الست تطل علىّ من الشرفة المقابلة ، بنظارتها وغطاء رأسها ، وابتسامة . ترفع يدها ملوحة لي بتحية الاستحسان . نعم لقد حدث ذلك ، حدث في منامٍ لم أفهم معناه إلى الآن.
أتذكر حين كنت في الصف الأول الإعدادي في حصة الموسيقى ، طلب منا مدرس الموسيقى ترديد نشيد : بلادي بلادي . وكان المدرس كفيفًا وصوته رخيمًا ، يشبه – حين يغني- فخامة صوت العود ورخامته، فقمت مع باقي الطالبات بتنفيذ ما طلب. وكان يمر بيننا متابعًا، فوجدته يقف عندي ويسألني عن اسمي ، ويطلب مني ترديد النشيد بشكل منفرد . وبعد أن غنيت النشيد أثنى على صوتي وقال أن به رنة مطربة للأذن . لكني لم أنشغل بهذا الرأى.
أنا أميل إلى الطرب، لا الغناء ، ولا ترتبط الدندنة عندي و( السلطنة ) بوقت فرح أو وقت حزن ، لكن حين تتملكني حالة طارئة تلح علىّ بأحد الجمل الطربية لا أستطيع الإفلات منها ، وهى حالة تحتاج إلى شيء من الراحة والعافية تسري في البدن , فالغناء - عامة - يحتاج إلى عافية . وقتها ينطلق صوتي في أى مكان وفي أى وقت .
كانت صديقتي تطلب مني –أحيانًا- مقاطع معينة تحب أن تسمعها. والحالة التي كانت تطرأ على صديقتي وتدعوها إلى طلب الاستماع ،غير مرتبطة أيضًا بحالتي الحزن أو الفرح لديها ، ولا كانت تختار وفق حالتها العاطفية . فقد كانت- مثلًا - رغم سعادتها مع خطيبها تطلب الاستماع إلى أغنية شادية ( آخر ليلة ) وهى أغنية حزينة تتحدث عن الفراق .
ظلت هذه الحالة مصاحبة لي منذ مولدها في المدينة الجامعية .
ولا أزال على تلك الحالة إلى الآن ...أدندن وأطرب لصوتي .

***

(11)
السخان . وما أدراك ما السخان ؟ وماذا كان يعني لطلاب المدينة الجامعية أيامنا ؟ هو الذي يقوم مقام البوتجاز المستخدم في البيت ، لكن الفارق بينهما هو نفس الفارق بين السلحفاة والأرنب في مسابقات الجري . هو عبارة عن قاعدة حجرية في حجم الطبق الصغير ، تعلوها دوائر موضوعة بشكل حلزوني ، يلتف معها سلك ، فإذا أردنا تشغيله أوصلناه بالكهرباء ، فيبدأ السلك في الاحمرار شيئًا فشيئًا حتى يصل إلى درجة السخونة المطلوبة . وعندما نضع عليه براد الشاي ننتظر شربه حوالي نصف الساعة ، هذا إذا سلمه الله وأتم العملية بنجاح . فقد كان في الأغلب يصيبه عطل ، وأحيانًا يفرقع في وجوهنا ، ونصاب بالكدر لأننا لن نتمكن من شرب الشاي بعد وجبة الفطور أو الغداء . وكنا إذا أصابه عطل خفيف أصلحناه بأنفسنا ، أما إذا أصابه الشلل التام ، فلا نيأس منه ، كنا نذهب به إلى عامل الكهرباء في المدينة لإصلاحه ، فإما نعود به فرحين ؛ لأننا سنشرب أخيرًا الشاى ، أو نعود بمراسم جنائزية حين يخبرنا عامل الكهرباء بأنه قد انتهى أمره ، فنعود بخيبة وحسرة على عدم إتمام الحالة المزاجية العليا التي يمنحنا إياها كوب الشاى .
وكنا نستخدمه -أيضًا- في تسخين اللانشون الذي كنا نتسلمه لوجبتي العشاء والفطور ، حيث نقوم بتحميره في السمن ؛ لأنه عبارة عن لحم نيء ولابد من تعريضه للتسخين ، وأيضًا لكي يصير طعمه سائغًا . وكنا نستخدمه -كذلك- في تسخين الفول ، ونتحمل البطء الشديد في مجرد التسخين . وأكثر من هذه الاستخدامات الخفيفة لم نكن نستخدمه ، لأن طاقته لا تتحمل. فلم نكن نرهقه ، بل كان هو الذي يرهقنا .
كنا ننوع في السخانات عند تجديد الشراء ، فنضحي بمبلغ أكبر لشراء سخان أكبر أو أكثر جودة أو سخان بسطح من الاستانلس بديلًا للسلك . لكن في كل الأحوال كنا نصل إلى نفس النهايات المؤسفة.
رحلة طويلة من العذاب قضيناها مع رفيق الدرب (السخان) . لكنه كان رفيقًا غادرًا خائنًا للعيش والملح والشاى . مما جعلني أعلن حالة العصيان والتمرد والرفض لهذا السخان المتعب ، وأحضرت بداية من الفرقة الثالثة بوتجاز شعلة ، كان لدينا في بيتنا الكائن بالقاهرة . من وقتها تغيرت يومياتنا ، وانتعش مزاجنا ، وانتقلنا نقلة كبرى وعظيمة ، فقد صار الشاي يغلي في دقيقة واحدة ، وكنا نستخدمه استخدامًا واسعًا ، كنا نطبخ عليه صينية البطاطس ، والأرز ، وكل ما نريد من أصناف الطعام . ولم يعكر مزاجنا عطل أو فرقعة أو تباطؤ .أدخلته خلسة من إدارة المدينة التي كانت تحظر استخدام الغاز ، حرصًا على سلامة الطالبات والمباني ، لكني كنت أرى أنه ليس هناك ما يمنعنا من استعماله مع الحرص والحذر . وأنه إذا كانت إدارة المدينة محقة تماماً في وضع المحاذير للسلامة ، فإن الأمر ليس بهذه الخطورة . كنا نخرجه خلسة من البوابة في حقيبة سفر لكي نملأه من سوق الجيزة بالغاز كلما نفد ، كنا نملأه بالتناوب . وكل مرة كنا نضحك من الطريقة البوليسية المريبة التي كنا نخرج بها البوتجاز أو ندخله إلى المدينة .
ظل احتساء الشاي عقب وجبتي الفطور والغداء عادة ملازمة لي إلى الآن ، لا أزيد عن كوبين في اليوم إلا فيما ندر ، وليس من عادتي شرب الشاى أو القهوة ليلًا ؛ لأنه يحول دون النوم المبكر والهاديء . وعلى الرغم من المحاذير الصحية والطبية التي تمنع تناول الشاى عقب الأكل مباشرة ، وعلى الرغم من الاعتراضات التي يقابلني بها الآن أولادي أحياناً حين أفعل هذا ، فإني في الحقيقة لا ألتزم مطلقًا بهذا الأمر ، وأقدم بأريحية وقناعة شديدة الحالة المزاجية على الناحية الطبية ؛ لأن في رأيي أن الصحة نفسها تتطلب سلامة المزاج لا سلامة المعدة . وأنا تعجبني كلمة (ديل كارنيجي) التي تقول: (إن ألم المعدة لا يأتي مما تأكله ، بل مما يأكلك ). فاعتدال المزاج والراحة النفسية هما أساس الصحة والعافية لا غير، وأكثر فائدة للجسم من الاحتفاظ بالبروتين والحديد وخلافه من ألوان الفيتامينات .
حدث أن مرضت في فترة الامتحانات بالفرقة الرابعة ، ولم أعلم السبب إلى الآن. هل مرضت لأني امتنعت تمامًا عن أكل الفراخ البيضاء التي كانت تُقدم لنا في وجبة الغداء في المدينة ، عقب انتشار هوجة الهرمونات التي تحقن بها الفراخ ، فانخفضت بذلك نسبة البروتين في جسمي ؟ أم هو نظرة حاسدة من المراقب الذي كان يقف بالقرب مني في لجنة الاختبار ، يتأمل ورقتي المنظمة ، المحبرة بالإجابات التي تبدو واثقة الخطى ، والذي أخذ يقلب فيها ، ويثني على ، ويسألني عن بلدي وعن عمل الوالد ، ثم يدعو بالتوفيق ؟ لست أدري ، لكنني تعبت على أثرها ، وأكملت الامتحانات وأنا لا أقوى على الوقوف أو الحركة ، يعلو وجهي الشحوب والسمرة ، ويبدو كأنني خرجت للتو من المقبرة . لكني أدين بالفضل لهذا المرض ، فقد أنقذني في اختبار مقرر من المقررات كنت –لولاه- سأخسر الكثير من الدرجات ، وكان سيحول هذا دون تعييني في الجامعة . كان مقرر الأدب الحديث . أديت الاختبار بشكل يرضيني ، وجئت عند آخر سؤال في ورقة الأسئلة ، فوجدت أن الدكتور قد سأل عن مسألة جوابها من عشر نقاط . كتبت وكتبت وكتبت، حتى إذا ما اقتربت النقاط من الانتهاء قل العزم في استيفاء النقاط الأخيرة . وهذا طبيعي ، لأن في مثل هذه الحالة الإيجاز يكون مناسبًا أكثر. ثم وضعت القلم للاستراحة قليلًا فقد داهمني مغص شديد و أمسكت بطني من الألم ، وأنا أتوجع : آه ...أه ...أثناء هذا التوقف وقعت عيني على السؤال ذي العشر نقاط ، لأتفاجأ أنني قد فهمته خطأ ، فالدكتور يطلب أساسًا النقطة العاشرة فقط . وعلينا إذن استيفاؤها تمامًا وحدها ودون إيجاز . فنسيت الألم ووجدت انتباهًا يسري في ذهني ، وبسرعة قمت بعمل اللازم في السؤال . خرجت من اللجنة لأتفاجأ بأن الدفعة كلها متجمهرة متذمرة من طريقة صياغة الدكتور المخادعة الملتوية في السؤال ، والذي أخطأ أغلبهم فهمه ، ومن ثم سيخسرون درجة السؤال ؛ لأنهم كتبوا النقاط التسع ولم يوفوا النقطة الأخيرة (المطلوبة) حقها .
تأملت المشهد ، وتعجبت وقتها من الموقف وما حدث لي ، فقد كان المغص والألم سببًا في اجتيازى الاختبار بتفوق ، ومن ثم تم تعييني في الكلية .
فالمحن حين يشاء الله يحولها إلى منح .
وللحديث بقية ...

***

(12)

صديقتي . نعم صديقتي ، رغم كل من كُنّ معي وحولي هى فقط التي أصفها بالصديقة ؛ لأسباب كثيرة أعرفها ولا أعرفها ، أدركها ولا أدركها . فهى التي عرفتُها منذ أيامي الأولى في المدينة ، فتكون بهذا أكثر من صاحبتني منهن. وهى – أيضًا- تشبهني في الكثير من الصفات . تلقائية ، تتحدث على سجيتها ، فلا تقلب في الكلام - مداهنةً - قبل أن تقذفه على لسانها ، لا تتدخل فيما لا يعنيها ، لا تؤذي أحدًا ولا تحقد على أحد . أحلامها وأمنياتها و تطلعاتها لا تتعدى حدود حاجتها ، فلا تزن نفسها بالأخريات ، ولا تضع نفسها في مقارنة مع الأخريات ، لا يهمها من تقدمت ومن تأخرت ، من نجحت ومن لم تنجح ، من حققت شيئًا ومن لم تحقق . تركز في حياتها هى فحسب ، تضع لكل مرحلة في حياتها سلمًا من الطموح وتسعى بجد وعزم في ارتقائه . ضحكتها من القلب وغضبها من القلب . كنت أكتشف مع الوقت أننا نرى البعض بنفس المنظار ، و أن لنا فيهن نفس الرأي. تحب المرح جدًا ولا يخرجها إلى الضيق والغيظ إلا اصطدامها بأفعال الخبثاء واللئام من الناس ، ممن يظلم أو يمشي بالفتنة والوقيعة ، ممن يدعي البراءة وهو ملوث ، ممن يلبس ثوب الملاك وهو شيطان . هنا فقط يتبدل حالها .
وما عدا ذلك كل شيء يرضيها وأى شيء يكفيها .
صديقتي . نعم صديقتي ، فهى التي أحبتني لذاتي ودون أي مصلحة ، أحبتني كما لم يحبني أحد . كنت أحس بصدق مشاعرها حين تفرح لفرحي ، وتألم لما قد يؤلمني ، ولا تقصر في دفعه عني . مخلصة غاية الإخلاص ، صادقة غاية الصدق ، نقية غاية النقاء . هونت عليّ أيام غربتي ، ولَطَفَ بي ربي بوجودها رِفقتي وصحبتي. كان التعامل بيننا سلسًا لا عُقَدَ فيه ولا تعقيد ، لا كدر ولا تكدير . ما أجمل أن يرافقك من ترتاح إلى جواره ، بل من تأمنه على روحك وقلبك ونفسك وأيامك وتفاصيلك .
كانت صديقتي تحب مصاحبتي و صحبتي ، كنا نذهب إلى الكلية معًا ونعود معًا ، نقضي في الحجرة أوقاتنا معًا . كنا نسافر إلى بلدتنا معًا ونعود معًا ؛ لذلك لم ترض صديقتي أن تفرقنا المحاضرات ، حيث كانت الفرقة الدراسية تنقسم إلى عددٍ من الشُعب حسب ترتيب الأسماء ، فتختلف مواعيد المحاضرات والسكاشن تبعًا لذلك . فلا يمكنها – كما لم يمكن لغيرها- الانتظام في جدول يخص شعبة أخرى ؛ لأن هذا يؤدي إلى تعارض وخلل وبخاصة في السكاشن .
نعم لم ترض صديقتي أن تفرقنا المحاضرات ، فماذا كانت تفعل ؟ كانت تقوم بدراسة دقيقة وبحث عميق في جداول محاضرات الشُعب كلها ؛ لكي توفق مواعيد محاضرات تجمعنا . وكانت كل عام تستغرق الشهر الأول من الدراسة في إنجاز هذه المهمة ، فكنا نراها طوال الوقت في الكلية والمدينة الجامعية ، ممسكة بالأجندة والقلم الفرنساوى منهمكة في توفيق المحاضرات ، حريصة أشد الحرص على اغتنام أكبر عدد ممكن من المحاضرات التي تجمعنا . ولم تطلب مني مرة تحريك أي موعد لمحاضرة تخصني في جدولي ، كانت هى فقط التي تحرك محاضراتها . وعندما كنا نراها في هذا الانهماك أقول مازحة : إنها تذاكر ، تذاكر جدول . حتى صار هذا عادة و إجراءً ثابتًا لها بداية كل عام . تودعني بحزن في المحاضرة التي نفترق فيها ، وتقابلني بفرحة وسرور في المحاضرة التي تجمعنا . كنت أراها تطل من بعيد وعلى وجهها الطفولي أجمل ابتسامة ، كأنها لم ترني منذ زمن بعيد.
فكيف لا تكون الصديقة هى فحسب ؟!

***

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى