أمل الكردفاني - مسرح الفراغ...

كنت أرسم الكاريكاتير في عهد الصبا. والكاركتير هو رسم تبسيطي لعقدة ما (سياسية أو اجتماعية..الخ) عبر مجاز صوري، ولا بد أن تعبر الرسمة عن مفارقة ما تخلق الدهشة أو الطرفة. غير أن البعض كان يطلب مني رسم أشياء غريبة، فهو يطلب أن أرسم له كاريكاتيراً من قصة طويلة، وكأنك مخرج سينمائي، وليس محكوماً بمساحة واحدة وصغيرة وبعد واحد. ذات هذه المشكلة وجدتها عندبعض المسرحيين وهم يصفون خشبة المسرح، فهناك مثلاً من يصفون قائلين: هناك غرفة تفضي إلى صالة والصالة تفضي إلى مطبخ وكل ذلك داخل منزل يطل على حديقة وخلفه شارع طويل يمتد حتى آخر القرية حيث مبنى البلدية؟!!!
ولا أعرف كيف يتخيل هؤلاء خشبة المسرح؟
كما أن هناك مشاكل كثيرة تتعلق بتعدد مشاهد المسرحية واختلافها مما أنتج محاولات علاجية، كالخشبة الدوارة، أو تقسيم الخشبة لعدة أقسام، بل ظهر المسرح ثلاثي الأبعاد والمسرح الرقمي..الخ.
في الواقع ظللت لا أميل إلى خشبة مسرح معقدة، وتوجيه المكان عبر السينوغرافيا؛ إلى الحد الذي يحول المنصة الى سينما. بل أرى أن المسرح المعتمد فقط على أداء الممثلين يزيد من ترابط المتفرجين مع العمل المسرحي ككل. في اعتقادي -أو مزاجي الشخصي- أرى أن المسرح يجب أن يتضمن أقل ما يمكن من أدوات توجيهية، وأن لا تكون الأدوات على قلتها مبذول فيها جهد كبير، فإذا احتجنا مثلاً إلى لافتة مثل "حلاق حمرة الشندول" فيمكن كتابتها على ورق كرتون بقلم عادي، ويفضل أن يكون الأداء المسرحي هو المعبر عن وجود صالون حلاقة. حتى بالنسبة للمناطق الراقية كالقصور الملكية أو التي تمتلكها الطبقة الراقية، فيجب ألا تتضمن أي أثاث، بل يتم التعبير عنها من خلال الأداء المسرحي، مثل تصرفات صاحب القصر، أو تعبير الضيوف عن انبهارهم بثراء المكان.
مسرح الفضاء أو الفراغ Theater of emptiness
شاهدته وانبهرت به في أيام المدرسة الوسطى -بين المرحلة الابتدائية والثانوية- ففي المدرسة كانت خشبة المسرح عبارة عن مصطبة فقيرة من الأسمنت ومطلية بالجير، بل ولم تكن هناك ستارة، وفي الأيام الثقافية كان هناك بعض الطلبة الموهوبين يصعدون إلى المسرح ويقدمون عروضاً فردية مضحكة، فكان هناك زميل موهوب جداً يدعى "الضقيل"، وهو الذي كان يمثل عدة شخصيات في مشهد واحد، فهو يمثل دور الشاب القادم من الزراعة إلى المدينة، والذي يغازل فتاة المدينة، وهو نفسه يقوم بدور فتاة المدينة، ويمثل عدة شخصيات أخرى، وكان مضحكاً جداً وتحمل مسرحياته الصغيرة هذه -والتي لا تتجاوز عشر دقائق- رسالة اجتماعية. كذلك أتذكر أنني ألفت ومثلت مسرحية ومثلناها في إحدى القاعات بدون اي أدوات سوى خشبة المسرح الخالية، وقد ضحك الجمهور فيها كثيراً وخاصة من شخصيتي التي كانت تعبر عن الشعب الجائع، وكان من المفترض أن أقول في نهاية المسرحية "أنا شبعان" كتعبير عن التغيير، ولكنني اخطأت وقلت نفس الجملة "أنا جيعاااان" وهذا ما اضحك الجماهير كثيراً. هذا المسرح البسيط الذي لم يكن فيه أي أدوات كان فيه تفاعل كبير، كمسرح الشارع، وأتذكر أن "الضقيل" الذي لا أعرف أين انتهى به المطاف في مسيرة الحياة وكيف حدث تدمير موهبته الفذة تلك فلم أره بعد ذلك، أتذكر أن تمثيله جعلنا نتخيل كل شيء في المسرح، كمحل العصير، والأنثى الجميلة، والأراضي الزراعية، وضجيج المدينة والسيارات التي يحاول تفاديها. ذات الأمر سنجده في المسرح الإذاعي، حيث لا نرى شيئاً، بل ولا حتى الممثلين، ولكن يلعب ذكاء الممثل البارع، والأصوات المصاحبة دوراً في تحفيز خيالنا كمستمعين.
المسرح البسيط أو مسرح الفراغ هو مسرح لا يرتبط بالطبقة البرجوازية، بل هو مسرح "كل مكان"، ولكن الصعوبة الوحيدة التي قد تواجه هذا المسرح هو قدرات الممثلين، كالقدرة على ملء الفراغات بالارتجال، باختصار هو يحتاج إلى ممثلين بارعين جداً بالإضافة إلى ذكاء النص المسرحي.
-------

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى