- 1 -
عرف قراء (الرسالة) أن الأستاذ السباعي توعدني بمقالتين خطيرتين: الأولى في تحديد ما قال في الشيخ المرصفي، والثانية في دفع النظرية التي نهبها من كتاب النثر الفني، وكان يرجو أن أنتظر إلى أن يفرغ من المقالتين المرتقَبتين، لعلني أعتبر فلا أجترئ عليه، وقد شاع أني من كبار المجترئين!
وقد نشر مقالته الأولى، فعرفنا أنه يصر على اتهام الشيخ سيد المرصفي بالغرور، ولم يبق إلا أن ينشر مقالته الثانية، وهي مقالة عرفنا مضمونها مقدماً، فهو سيُثبت أنه لم يَسرق من كتاب (النثر الفني) وإنما سَرَق منه مؤلف (النثر الفني) فكان حاله حال اللص الذي رأى صاحب الدار يمشي من بُعد فصاح: (مين اللي ماشي هناك!)
وأنا لن أنتظر إلى أن يفرغ الأستاذ من تحبير مقالته الثانية، فما كان أول باحث سَرَق من كتاب النثر الفني، ولن يكون آخر باحث يسرق من كتاب النثر الفني، فقد كتمتُ سرقته من كتابي أربع سنين، لأني أشعر بالارتياح كلما تذكرت أن عندي ذخائر يطلع إليها الناهبون من الفضلاء.
لن أنتظر، لن أنتظر، فليواجهني إن استطاع؛ وأنا ماضٍ إليه بقلمٍ أمضى من السيف وأعنف من القضاء، ولن أتركه بعافية أو يعترف بأنه يستر جنايته على المبرد بجنايته على المرصفي.
ولكن كيف جَنَى على المبرد وقد قضى شبابهُ في خدمة كتاب (الكامل)؟
تلك هي النقطة، كما يقول لافونتين!
اسمعوا كلمة الحق، أيها الناس:
المبرِّد دان اللغة والأدب والنحو والتصريف والتاريخ الإسلامي بكتابٍ نفيس اسمه (الكامل) وهذا الكتاب قد شرَّق وغرَّب فانتقل من يد إلى يد ومن بلد إلى بلد على اختلاف الأجيال، وبذلك تعرَّض للتصحيف والتحريف، وإذاً كان من الواجب ألا يتقدم لنشره من أبناء العرب غير من يملك القدرة على إصلاح ما أفسدت تلك الأجيال.
فهل يكون السباعي بيومي هو المصلح المنشود وما قال أحدٌ بأن الله وهبه نعمة الذوق الأدبي، وهي نعمةٌ سامية لا يظفر بها من كل جيل غير آحاد؟
كان المصلح المنشود لكتاب الكامل هو شيخنا العظيم (سيد بن علي المرصفي) الذي قضى من عمره عشرين سنة وهو يراوح المبرِّد ويغاديه بالنظر الثاقب والفهم العميق.
ولكن المرصفي مات وصار من حق كل باغٍ أن يتقوّل عليه كيف شاء، ولو كان في منزلة السباعي بيومي، وهو كما وصف نفسه أستاذ بدار العلوم!
هل سمعتم أشياء من أقوال الدكتور طه حسين؟
أتعب الدكتور طه نفسه في النَّيل من (دار العلوم) فكان يقول: هي مدرسةٌ عاقر، ومن الواجب أن تُغْلَق بدون تسويف!
فهل غضب السباعي بيومي وهو (أستاذ بدار العلوم) كما ذيَّل اسمه وهو يحاورني بمجلة الرسالة الغراء؟
وكيف يغضب والدكتور طه رجل يضر وينفع، وهو يملك المحو والإثبات في أعضاء بعض اللجان بوزارة المعارف، والسباعي يطمع في أن يعيَّن عضواً باللجنة التي تنقل كتاب (هانوتو) من الفرنسية إلى العربية؟!
أما الشيخ المرصفي فهو اليوم جسدٌ هامد لا يملك دفع الضر عن سمعته ولو صدر عن باغٍ في منزلة السباعي بيومي
الشيخ سيد المرصفي مات وشبع من الموت، وهو اليوم لا يملك دفع عادية الذباب
مات المرصفي ثم مات، ولكن تلاميذه أحياء، والويل كل الويل لمن يتعرض لشيخنا العظيم بكلمة سوء، ولو كان من أعز الأصدقاء.
أَيُشتَم المرصفي في مصر وهو قَريع الزمخشري والمبرِّد؟
ألم يكف المرصفي أن يعيش غريباً ويموت غريباً؟
لم يوجد في الأزهر من يدرك قيمة الشيخ سيد المرصفي غير الشيخ محمد عبده، وبموت (الأستاذ الإمام) أصبح المرصفي من الغرباء.
وقد عرف المصريون قيمة الشيخ محمد عبده بعد الموت، فكيف يجهلون قيمة الشيخ سيد المرصفي بعد الموت؟
السباعي بيومي هو الذي أراد الإعلان عن نفسه بالقدح في الشيخ المرصفي، فليدفع ثمن ذلك الإعلان بلا إمهال
ولكن كيف يدفع ذلك الثمن؟
إلى رجال الأدب العربي أسوق الحديث:
أخرج السباعي كتاباً سماه (تهذيب الكامل) في جزأين أولهما في المنثور ثانيهما في المنظوم، ومعنى ذلك أنه قدَّم وأخَّر في نصوص الكامل ليقع المنثور في جانب والمنظوم في جانب. فهل يرى القراء أن هذا عملٌ مطلوب؟ وهل يرون أن المبرد كان يعزّ عليه أن يصنف كتابه على هذا الوضع لو أراد؟
المبرد راوَحَ بين المنثور والمنظوم لحكمة تعليمية، هي نقل الذهن من فنّ إلى فنّ ليبعد عنه السآمة والملال، وقد أضاع السباعي تلك الحكمة التعليمية بصنيعه (الجميل)
والفرق بين الكامل وتهذيب الكامل هو الفرق بين روح المبرد وروح السباعي، فأنت حين تقرأ الكامل تواجه روحاً لطيفاً هو روح أبي العباس - طيب الله ثراه - وقد كان مثلاً رائعاً في صباحة الوجه ولطافة الروح، وحين تقرأ تهذيب الكامل تواجه روح السباعي بيومي، وهو روح السباعي بيومي بلا نزاع ولا جدال!
ومهما يكن من شيء فقد استطاع السباعي أن يطارد المرصفي، المرصفي شارح الكامل، المرصفي الذي أقام البراهين على أن مصر وُجِد فيها رجلٌ يصاول المبرد، ويمشي إليه مَشْيَ البازل إلى البازل في شراسة وكبرياء.
استطاع السباعي أن يحرِّم على شرح المرصفي دخول (دار العلوم) ليجهل طلبة تلك (الدار) أسرار كتاب الكامل، وليجهلوا مبلغ أستاذهم السباعي من (العلم) بما وقع في (الكامل) من تحريف وتصحيف.
أنا أعرف أن دار العلوم مدرسة عالية لا يزورها أحدٌ من المفتشين، إلا إن ظمئ إلى فنجان من القهوة يحتسيه في مكتب العميد أو مكتب الوكيل، وإذاً فمن العسير أن تسنح الفرصة لمحاسبة الأستاذ السباعي بيومي على ما يصنع في تكوين الطلبة بتلك الدار، وهم الجيل المقبل من رجال التربية والتعليم.
أعرف ذلك، وأعرف أن الذوق نهاني عن زيارة دروس الأستاذ السباعي بالجامعة الأمريكية، وأنا عن تفتيشها مسئول، لأنه لا يجوز ذوقاً أن أفتش على مدرس رأته وزارة المعارف صالحاً للمشاركة في إعداد المدرسين.
ولكن يظهر أن الأستاذ السباعي محتاج إلى من يعاونه على إعداد دروسه بدار العلوم، فقد رأيت أنه لم يفطن إلى ما في كتاب (تهذيب الكامل) من تصحيف وتحريف قضى بهما انتقال (الكامل) من يد إلى يد ومن بلد إلى بلد على اختلاف الأجيال!
يضاف إلى ذلك أن كتاب (تهذيب الكامل) تسرَّب إلى (كلية اللغة العربية) وقد يتسرب إلى (كلية الآداب) بحجة أن الدكتور طه حسين قَرَنه بكتاب (مدامع العشاق) في أحد فصول (حديث الأربعاء)
ماذا أريد أن أقول؟
أنا أريد النص على الأغلاط التي عجز عن إدراكها ذهن السباعي، وفطن لها عقل المرصفي، وهي أغلاطٌ ستؤذي السباعي أعنف الإيذاء، لأنها ستقنعه بأن ثناء الدكتور طه حسين على صنيعه في كتاب خدمة الكامل لن ينجيه من عذاب النقد الأدبي، وهو عذابٌ أليم
سأقوم بهذا الواجب خدمة لأبناء دار العلوم وخدمة لجميع طلاب الأدب العربي، وعلى الأستاذ السباعي أن يناقشني إن استطاع، وهو لن يستطيع، ولو ظاهره ألوف من المعجبين بقدرته على الاستهانة بفضائل التدقيق والتحقيق
والأستاذ السباعي قد شتمني بمجلة الرسالة مرتين، فليكف عن شتمي - غير مأمور - فإن الألسنة والأقلام لم تبقِ في شتمي مزيداً لمستزيد، ولو حاسبَ الله أعدائي وخصومي على ما اجترحوا آثمين في إيذائي لسلط عليهم شآبيب البلاء.
لا تشتمني، يا سيد سباعي، فحسبي ما أعاني من البلوى بمحنة النقد الأدبي. ألا تراني أحاور أناساً لا أرتضيهم نساخاً لمقالاتي ومؤلفاتي؟
لقد لامني الناصحون على ما اقترفت من التنازل إلى مساجلة بعض الناس، فهل تعرف كيف كان جوابي؟
لقد أجبت بأن الأدب كالعلم، والعالم يشرِّح جسم الضفدعة كما يشرِّح جسم الإنسان، فمن واجب الأديب أن يفهم أنْ لا عيب في أن يهتم بتشريح ما يضاف إلى الأدب ولو صدر عن نكرات
لا تشتمني، يا سيد سباعي، ولا تصفني بالغرور والاجتراء، فلو أنك رأيت الدنيا بعينيّ لطاب لك أن تتخلّق مثل أخلاقي، فما اغتررت وما اجترأت إلا وأنا أعرف أن في الدنيا ناساً أخف وزناً من الهباء
لا تشتمني، يا سيد سباعي، فأنا رجلٌ (شَقيم) وذلك حرف لا يخفى عليك
لا تشتمني، يا سيد سباعي، فما أملك محاسبتك لو أردت الانتصاف لنفسي، وماذا أقول في تجريحك ولستَ بشاعر ولا كاتب ولا مؤلف ولا خطيب؟
ليس لك غير نقل نصوص (الكامل) من مكان إلى مكان، فهل فهمت أسرار (الكامل)؟ وهل (هذبت) أو (شذبت) تلك الغابة الشجراء؟
ما أنت و (الكامل) أيها المفضال؟!
الأمر في ذلك لشيخنا العظيم سيد بن علي المرصفي، الشيخ الذي ربانا على الصراحة والصدق والاخلاص، وهو المنافس الأعظم للأساتذة الاماجد: محمد المهدي ومحمد الخضري وإسماعيل رأفت ومنصور فهمي وأحمد ضيف وطه حسين.
أما بعد فقد آن للأستاذ السباعي أن يقرأ ما يرضيه، وعليه أن يجيب، إن كان يملك الجواب، وهيهات ثم هيهات!!
1 - في تهذيب الكامل ج2 ص 262 قال الأخطل:
نازعتهم طيّب الراح الشمول وقد ... صاح الدجاج وحانت وقعة الساري
ولم يلتفت السباعي إلى التحريف في (نازعتهم) وقد التفت إليه المرصفي، فنص على أن الصواب (نازعته) لأن الأخطل يقول قبل هذا البيت:
وشاربٍ مزيجٍ بالكأس نادمني ... لا بالحَصوُر ولا فيها بسوّار
2 - في تهذيب الكامل ج1 ص38 ورد قول الشاعر:
إذا ما حقبٌ جالَ ... شددناه بتصدير وهنا أتعب السباعي نفسه فأثبت في الهامش نقلاً عن المضاف إلى المتن أن هذا الشاعر هو الوليد بن يزيد بن عبد الملك، وهذا خطأ ظاهر، وإنما الشعر ليزيد بن ضبة الثقفي يمدح الوليد بن يزيد، وقد أفضت إليه الخلافة (انظر تحقيق الشيخ المرصفي ج1 ص101 من رغبة الآمل في شرح الكامل)
وعذر الأستاذ السباعي أنه غير مسئول عن التحقيق، لأنه أستاذ بدار العلوم!!
3 - في تهذيب الكامل ج2 ص307 قال المبرد: روُي لنا أن رجلاً من الصالحين كان عند إبراهيم بن هشام فأنشد إبراهيم قول الشاعر:
إذ أنت فينا لمن ينهاك عاصيةٌ ... وإذ أجرّ إليكم سادرًا رسني
فقام ذلك الرجل فرمى بشق ردائه وأقبل يسحبه حتى خرج من المجلس، ثم رجع على تلك الحال فجلس، فقال له هشامٌ: ما بك؟ فقال: إني كنت سمعت هذا الشعر فاستحسنته فآليت أن لا أسمعه إلا جررت ردائي كما سحب هذا الرجل رَسَنه
والشاهد في كلمة (رجل من الصالحين) فقد أشقى الأستاذ السباعي نفسه بالنص في الهامش على أنه ابن أبي عتيق، نقلاً عما أضيف إلى متن الكامل، فهل سمع أحد أن ابن أبي عتيق كان يُعَد في الصالحين ومساعداته لعمر بن أبي ربيعة تشهد بأنه كان من أهل الخلاعة والمجون؟ لا يُطلَب من السباعي فهم هذه الدقائق، فلنرض تحقيق الشيخ المرصفي وقد نقل أن ذلك الرجل الصالح هو أبو عبيدة بن عمار بن ياسر (رغبة الآمل ج1 ص155)
4 - في تهذيب الكامل ج2 ص308 قال الشاعر:
فقلت له تجنّبْ كل شيء ... يعاب عليك إن الحرّ حرّ
ثم قال المبرد في التعقيب على هذا البيت: فهذا كلام ليس فيه فضلٌ عن معناه، وقوله (إن الحرّ حرّ) إنما تأويله أن الحرّ على الأخلاق التي عهدنَ في الأحرار، ومثل ذلك (أنا أبو النجم وشعري شعري) أي شعري كما بلغك وكم كنت تعهد، وكذلك قولهم (الناس الناس) أي الناس كما كنت تعهدهم.
وتعقيب المبرد سديد، ولكن الأستاذ السباعي ينقل في الهامش أن من هذا قول الله عز وجل: (فغشيهم من اليّم ما غشيهم) بدون أن يدرك أن الأخفش الذي نقل عنه قد أخطأ الفهم، فالآية ليست مما اتحد فيه المبتدأ والخبر لفظاً، وإنما هو موصول أسند إليه فعلٌ جُعل مثله صلة، للمبالغة في التهويل (رغبة الآمل ج1 ص155). وكان المأمول أن لا تغيب هذه المسألة البسيطة عن ذهن أستاذ بدار العلوم.
5 - في تهذيب الكامل ج2 ص309 تكلم المبرد عن الخيل المحبوكة الأصلاب فقال: (المحبوك الذي فيه طرائق، يقال لطرائق الماء حُبك واحدها حِباك). وبهذا سها المبرد سهواً لم يفطن له السباعي، فقد فسر الكلمة بما لا يراد منها في تركيبها، والصواب أن يقول: فالمحبوك الذي أُحكم خَلقه، من حبكت الثوب إذا أحكمت نسجه، يريد أن أصلاب الخيل موثقة مدمجة. ثم يقول: والمحبوك أيضاً الذي فيه طرائق (رغبة الآمل ج1 ص161) وهو كتاب المرصفي المحكوم عليه بالغرور والادعاء!!
6 - في تهذيب الكامل ج2 ص212، أنشد المبرد قول حاتم الطائي:
إن الكريم من تلفت حوله ... وإن اللئيم دائم الطرف أقودُ
وقد غيرّ المبرد لفظ البيت وروايته، بدون أن يتنبه السباعي لذلك، والصواب:
فمنهم جوادٌ قد تلفّت حوله ... ومنهم لئيم دائم الطرف أقود
لأن حاتماً يقول قبل هذا البيت:
كذاك أمور الناس راض دنية ... وسامٍ إلى فرع العلا متورد
(راجع رغبة الآمل ج1 ص177)
7 - في تهذيب الكامل ج2 ص312 ورد قول الأشهب ابن رُمَيْلَة:
أُسود شرًى لاقتْ أسود خفية ... تساَقوا على حرد دماء الأساود
وقد تفضا الأستاذ السباعي فأثبت في الهامش أن رميلة هي أم الشاعر، ولم يتعب الأستاذ في هذا التحقيق، فقد نقله عما أضاف أبو الحسن إلى متن الكامل، فكيف يجيب لو سأله أحد طلبة دار العلوم عن أبي هذا الشاعر وهو قد عرف أمه وجهل أباه؟
الجواب عند الشيخ المرصفي (المغرور) فقد جاء في رغبة الآمل ج1 ص179 أن أبا هذا الشاعر وهو ثور بن أبي حارثة ابن عبد الدار.
8 - وفي تهذيب الكامل ج2 ص 92 ورد قول ابن الإطنانة
وإجشامي على المكروه نفسي ... وضربي هامة البطل المُشيح
وسكت السباعي عن (الإطنابة) فلم نعرف أهو اسم أم الشاعر أم اسم أبيه، وإنما سكت السباعي لأنه لم يجد ما ينقله عن أبي الحسن، فليعرف إن شاء إن الإطنابة هي أم الشاعر، أما أبوه فهو عامر بن زيد مناة أحد أشراف الخزرج (رغبة الآمل ج2 ص23)
9 - في تهذيب الكامل ج2 ص315 قال رجل من بني عبس يخاطب عروة بن الورد:
لا تشتمني يا ابن ورد فإنني ... تعود على مالي الحقوق العوائد
ومن يؤثر الحق النؤوب تكن به ... خصاصة جسم وهو طيان ماجد
وإني امرؤٌ عافى إنائي شِركةٌ ... وأنت أمرؤ عافي إنائك واحد
أقسِّم جسمي في جسوم كثيرة ... وأحسو قَراح الماء والماء بارد
والسياق الذي أورده الأخفش وغفل عنه السباعي يوهم أن الأبيات الأربعة من شعر ذلك العبسي، والصواب أن العبسي لم يقل غير البيتين الأولين، أما البيتان الأخيران فهما جواب عروة بن الورد، وقد نقل الشيخ المرصفي (ج1 ص195) أن عبد الملك بن مروان كان يحفظ لعروة الأبيات الأخيرة، وثانيها هذا البيت:
أتهزأ مني أنْ سمنتَ وأن ترى ... بجسمي شحوب الحق والحق جاهدُ
فإن ارتاب الأستاذ السباعي في تصحيح الشيخ المرصفي فليرجع إلى ديوان الحماسة في باب الأضياف والمديح ليرى هذه الأبيات الأخيرة منسوبة إلى عروة بن الورد، والمفهوم أن ديوان الحماسة مما يحفظه الطلبة بمدرسة دار العلوم!
ثم أما بعد، فهذا هو المنهاج الذي سنسلكه في بيان فضل المرصفي على السباعي وعلى جميع من يقرأون الكامل للمبرد، وسنرى فيما بعد غرائب وأعاجيب من غفلة السباعي عن فهم أغراض المبرد، فكيف ترونه يصنع؟ هل يصر على القول بأن المرصفي كان رجلاً مغروراً، وأن من الجريمة أن يدخل كتابه (دار العلوم) ليخلو الجوّ لمن تفوتهم البسائط من الأغلاط؟
لقد أنذرني الأستاذ السباعي، فهل يجيب عن هذه المؤاخذات قبل أن ينفذ ذلك الإنذار الفظيع؟
المهمّ هو أن ينظر أبناء دار العلوم في هذه المؤاخذات الموَّجهة برفق إلى نسخة (تهذيب الكامل) لا إلى الأستاذ السباعي، فما أجرؤ على الهجوم عليه، وهو أديبٌ يراني ويرى أستاذي من المغرورين المجترئين! المهمّ هو الصدق في خدمة اللغة العربية، وأنا بهذه الدراسات أخدم لغة العرب خدمةً يعجز عنها السباعي بيومي. وإن طال الشوط وسيطول فسيندم السباعي على ما اجترح من ستر جنايته على المبرد بجنايته على المرصفي.
إن قلبي ليكتحل بالغُبار الذي يثيره قلمي، فمن طاب له أن يلقاني في ميدان النقد الأدبي فليوطّن نفسه على مكاره لا يصبر على لأوائها غير الخناذيد.
وإلى اللقاء، فللحديث شجون وشجون
زكي مبارك
مجلة الرسالة - العدد 399
بتاريخ: 24 - 02 - 1941
عرف قراء (الرسالة) أن الأستاذ السباعي توعدني بمقالتين خطيرتين: الأولى في تحديد ما قال في الشيخ المرصفي، والثانية في دفع النظرية التي نهبها من كتاب النثر الفني، وكان يرجو أن أنتظر إلى أن يفرغ من المقالتين المرتقَبتين، لعلني أعتبر فلا أجترئ عليه، وقد شاع أني من كبار المجترئين!
وقد نشر مقالته الأولى، فعرفنا أنه يصر على اتهام الشيخ سيد المرصفي بالغرور، ولم يبق إلا أن ينشر مقالته الثانية، وهي مقالة عرفنا مضمونها مقدماً، فهو سيُثبت أنه لم يَسرق من كتاب (النثر الفني) وإنما سَرَق منه مؤلف (النثر الفني) فكان حاله حال اللص الذي رأى صاحب الدار يمشي من بُعد فصاح: (مين اللي ماشي هناك!)
وأنا لن أنتظر إلى أن يفرغ الأستاذ من تحبير مقالته الثانية، فما كان أول باحث سَرَق من كتاب النثر الفني، ولن يكون آخر باحث يسرق من كتاب النثر الفني، فقد كتمتُ سرقته من كتابي أربع سنين، لأني أشعر بالارتياح كلما تذكرت أن عندي ذخائر يطلع إليها الناهبون من الفضلاء.
لن أنتظر، لن أنتظر، فليواجهني إن استطاع؛ وأنا ماضٍ إليه بقلمٍ أمضى من السيف وأعنف من القضاء، ولن أتركه بعافية أو يعترف بأنه يستر جنايته على المبرد بجنايته على المرصفي.
ولكن كيف جَنَى على المبرد وقد قضى شبابهُ في خدمة كتاب (الكامل)؟
تلك هي النقطة، كما يقول لافونتين!
اسمعوا كلمة الحق، أيها الناس:
المبرِّد دان اللغة والأدب والنحو والتصريف والتاريخ الإسلامي بكتابٍ نفيس اسمه (الكامل) وهذا الكتاب قد شرَّق وغرَّب فانتقل من يد إلى يد ومن بلد إلى بلد على اختلاف الأجيال، وبذلك تعرَّض للتصحيف والتحريف، وإذاً كان من الواجب ألا يتقدم لنشره من أبناء العرب غير من يملك القدرة على إصلاح ما أفسدت تلك الأجيال.
فهل يكون السباعي بيومي هو المصلح المنشود وما قال أحدٌ بأن الله وهبه نعمة الذوق الأدبي، وهي نعمةٌ سامية لا يظفر بها من كل جيل غير آحاد؟
كان المصلح المنشود لكتاب الكامل هو شيخنا العظيم (سيد بن علي المرصفي) الذي قضى من عمره عشرين سنة وهو يراوح المبرِّد ويغاديه بالنظر الثاقب والفهم العميق.
ولكن المرصفي مات وصار من حق كل باغٍ أن يتقوّل عليه كيف شاء، ولو كان في منزلة السباعي بيومي، وهو كما وصف نفسه أستاذ بدار العلوم!
هل سمعتم أشياء من أقوال الدكتور طه حسين؟
أتعب الدكتور طه نفسه في النَّيل من (دار العلوم) فكان يقول: هي مدرسةٌ عاقر، ومن الواجب أن تُغْلَق بدون تسويف!
فهل غضب السباعي بيومي وهو (أستاذ بدار العلوم) كما ذيَّل اسمه وهو يحاورني بمجلة الرسالة الغراء؟
وكيف يغضب والدكتور طه رجل يضر وينفع، وهو يملك المحو والإثبات في أعضاء بعض اللجان بوزارة المعارف، والسباعي يطمع في أن يعيَّن عضواً باللجنة التي تنقل كتاب (هانوتو) من الفرنسية إلى العربية؟!
أما الشيخ المرصفي فهو اليوم جسدٌ هامد لا يملك دفع الضر عن سمعته ولو صدر عن باغٍ في منزلة السباعي بيومي
الشيخ سيد المرصفي مات وشبع من الموت، وهو اليوم لا يملك دفع عادية الذباب
مات المرصفي ثم مات، ولكن تلاميذه أحياء، والويل كل الويل لمن يتعرض لشيخنا العظيم بكلمة سوء، ولو كان من أعز الأصدقاء.
أَيُشتَم المرصفي في مصر وهو قَريع الزمخشري والمبرِّد؟
ألم يكف المرصفي أن يعيش غريباً ويموت غريباً؟
لم يوجد في الأزهر من يدرك قيمة الشيخ سيد المرصفي غير الشيخ محمد عبده، وبموت (الأستاذ الإمام) أصبح المرصفي من الغرباء.
وقد عرف المصريون قيمة الشيخ محمد عبده بعد الموت، فكيف يجهلون قيمة الشيخ سيد المرصفي بعد الموت؟
السباعي بيومي هو الذي أراد الإعلان عن نفسه بالقدح في الشيخ المرصفي، فليدفع ثمن ذلك الإعلان بلا إمهال
ولكن كيف يدفع ذلك الثمن؟
إلى رجال الأدب العربي أسوق الحديث:
أخرج السباعي كتاباً سماه (تهذيب الكامل) في جزأين أولهما في المنثور ثانيهما في المنظوم، ومعنى ذلك أنه قدَّم وأخَّر في نصوص الكامل ليقع المنثور في جانب والمنظوم في جانب. فهل يرى القراء أن هذا عملٌ مطلوب؟ وهل يرون أن المبرد كان يعزّ عليه أن يصنف كتابه على هذا الوضع لو أراد؟
المبرد راوَحَ بين المنثور والمنظوم لحكمة تعليمية، هي نقل الذهن من فنّ إلى فنّ ليبعد عنه السآمة والملال، وقد أضاع السباعي تلك الحكمة التعليمية بصنيعه (الجميل)
والفرق بين الكامل وتهذيب الكامل هو الفرق بين روح المبرد وروح السباعي، فأنت حين تقرأ الكامل تواجه روحاً لطيفاً هو روح أبي العباس - طيب الله ثراه - وقد كان مثلاً رائعاً في صباحة الوجه ولطافة الروح، وحين تقرأ تهذيب الكامل تواجه روح السباعي بيومي، وهو روح السباعي بيومي بلا نزاع ولا جدال!
ومهما يكن من شيء فقد استطاع السباعي أن يطارد المرصفي، المرصفي شارح الكامل، المرصفي الذي أقام البراهين على أن مصر وُجِد فيها رجلٌ يصاول المبرد، ويمشي إليه مَشْيَ البازل إلى البازل في شراسة وكبرياء.
استطاع السباعي أن يحرِّم على شرح المرصفي دخول (دار العلوم) ليجهل طلبة تلك (الدار) أسرار كتاب الكامل، وليجهلوا مبلغ أستاذهم السباعي من (العلم) بما وقع في (الكامل) من تحريف وتصحيف.
أنا أعرف أن دار العلوم مدرسة عالية لا يزورها أحدٌ من المفتشين، إلا إن ظمئ إلى فنجان من القهوة يحتسيه في مكتب العميد أو مكتب الوكيل، وإذاً فمن العسير أن تسنح الفرصة لمحاسبة الأستاذ السباعي بيومي على ما يصنع في تكوين الطلبة بتلك الدار، وهم الجيل المقبل من رجال التربية والتعليم.
أعرف ذلك، وأعرف أن الذوق نهاني عن زيارة دروس الأستاذ السباعي بالجامعة الأمريكية، وأنا عن تفتيشها مسئول، لأنه لا يجوز ذوقاً أن أفتش على مدرس رأته وزارة المعارف صالحاً للمشاركة في إعداد المدرسين.
ولكن يظهر أن الأستاذ السباعي محتاج إلى من يعاونه على إعداد دروسه بدار العلوم، فقد رأيت أنه لم يفطن إلى ما في كتاب (تهذيب الكامل) من تصحيف وتحريف قضى بهما انتقال (الكامل) من يد إلى يد ومن بلد إلى بلد على اختلاف الأجيال!
يضاف إلى ذلك أن كتاب (تهذيب الكامل) تسرَّب إلى (كلية اللغة العربية) وقد يتسرب إلى (كلية الآداب) بحجة أن الدكتور طه حسين قَرَنه بكتاب (مدامع العشاق) في أحد فصول (حديث الأربعاء)
ماذا أريد أن أقول؟
أنا أريد النص على الأغلاط التي عجز عن إدراكها ذهن السباعي، وفطن لها عقل المرصفي، وهي أغلاطٌ ستؤذي السباعي أعنف الإيذاء، لأنها ستقنعه بأن ثناء الدكتور طه حسين على صنيعه في كتاب خدمة الكامل لن ينجيه من عذاب النقد الأدبي، وهو عذابٌ أليم
سأقوم بهذا الواجب خدمة لأبناء دار العلوم وخدمة لجميع طلاب الأدب العربي، وعلى الأستاذ السباعي أن يناقشني إن استطاع، وهو لن يستطيع، ولو ظاهره ألوف من المعجبين بقدرته على الاستهانة بفضائل التدقيق والتحقيق
والأستاذ السباعي قد شتمني بمجلة الرسالة مرتين، فليكف عن شتمي - غير مأمور - فإن الألسنة والأقلام لم تبقِ في شتمي مزيداً لمستزيد، ولو حاسبَ الله أعدائي وخصومي على ما اجترحوا آثمين في إيذائي لسلط عليهم شآبيب البلاء.
لا تشتمني، يا سيد سباعي، فحسبي ما أعاني من البلوى بمحنة النقد الأدبي. ألا تراني أحاور أناساً لا أرتضيهم نساخاً لمقالاتي ومؤلفاتي؟
لقد لامني الناصحون على ما اقترفت من التنازل إلى مساجلة بعض الناس، فهل تعرف كيف كان جوابي؟
لقد أجبت بأن الأدب كالعلم، والعالم يشرِّح جسم الضفدعة كما يشرِّح جسم الإنسان، فمن واجب الأديب أن يفهم أنْ لا عيب في أن يهتم بتشريح ما يضاف إلى الأدب ولو صدر عن نكرات
لا تشتمني، يا سيد سباعي، ولا تصفني بالغرور والاجتراء، فلو أنك رأيت الدنيا بعينيّ لطاب لك أن تتخلّق مثل أخلاقي، فما اغتررت وما اجترأت إلا وأنا أعرف أن في الدنيا ناساً أخف وزناً من الهباء
لا تشتمني، يا سيد سباعي، فأنا رجلٌ (شَقيم) وذلك حرف لا يخفى عليك
لا تشتمني، يا سيد سباعي، فما أملك محاسبتك لو أردت الانتصاف لنفسي، وماذا أقول في تجريحك ولستَ بشاعر ولا كاتب ولا مؤلف ولا خطيب؟
ليس لك غير نقل نصوص (الكامل) من مكان إلى مكان، فهل فهمت أسرار (الكامل)؟ وهل (هذبت) أو (شذبت) تلك الغابة الشجراء؟
ما أنت و (الكامل) أيها المفضال؟!
الأمر في ذلك لشيخنا العظيم سيد بن علي المرصفي، الشيخ الذي ربانا على الصراحة والصدق والاخلاص، وهو المنافس الأعظم للأساتذة الاماجد: محمد المهدي ومحمد الخضري وإسماعيل رأفت ومنصور فهمي وأحمد ضيف وطه حسين.
أما بعد فقد آن للأستاذ السباعي أن يقرأ ما يرضيه، وعليه أن يجيب، إن كان يملك الجواب، وهيهات ثم هيهات!!
1 - في تهذيب الكامل ج2 ص 262 قال الأخطل:
نازعتهم طيّب الراح الشمول وقد ... صاح الدجاج وحانت وقعة الساري
ولم يلتفت السباعي إلى التحريف في (نازعتهم) وقد التفت إليه المرصفي، فنص على أن الصواب (نازعته) لأن الأخطل يقول قبل هذا البيت:
وشاربٍ مزيجٍ بالكأس نادمني ... لا بالحَصوُر ولا فيها بسوّار
2 - في تهذيب الكامل ج1 ص38 ورد قول الشاعر:
إذا ما حقبٌ جالَ ... شددناه بتصدير وهنا أتعب السباعي نفسه فأثبت في الهامش نقلاً عن المضاف إلى المتن أن هذا الشاعر هو الوليد بن يزيد بن عبد الملك، وهذا خطأ ظاهر، وإنما الشعر ليزيد بن ضبة الثقفي يمدح الوليد بن يزيد، وقد أفضت إليه الخلافة (انظر تحقيق الشيخ المرصفي ج1 ص101 من رغبة الآمل في شرح الكامل)
وعذر الأستاذ السباعي أنه غير مسئول عن التحقيق، لأنه أستاذ بدار العلوم!!
3 - في تهذيب الكامل ج2 ص307 قال المبرد: روُي لنا أن رجلاً من الصالحين كان عند إبراهيم بن هشام فأنشد إبراهيم قول الشاعر:
إذ أنت فينا لمن ينهاك عاصيةٌ ... وإذ أجرّ إليكم سادرًا رسني
فقام ذلك الرجل فرمى بشق ردائه وأقبل يسحبه حتى خرج من المجلس، ثم رجع على تلك الحال فجلس، فقال له هشامٌ: ما بك؟ فقال: إني كنت سمعت هذا الشعر فاستحسنته فآليت أن لا أسمعه إلا جررت ردائي كما سحب هذا الرجل رَسَنه
والشاهد في كلمة (رجل من الصالحين) فقد أشقى الأستاذ السباعي نفسه بالنص في الهامش على أنه ابن أبي عتيق، نقلاً عما أضيف إلى متن الكامل، فهل سمع أحد أن ابن أبي عتيق كان يُعَد في الصالحين ومساعداته لعمر بن أبي ربيعة تشهد بأنه كان من أهل الخلاعة والمجون؟ لا يُطلَب من السباعي فهم هذه الدقائق، فلنرض تحقيق الشيخ المرصفي وقد نقل أن ذلك الرجل الصالح هو أبو عبيدة بن عمار بن ياسر (رغبة الآمل ج1 ص155)
4 - في تهذيب الكامل ج2 ص308 قال الشاعر:
فقلت له تجنّبْ كل شيء ... يعاب عليك إن الحرّ حرّ
ثم قال المبرد في التعقيب على هذا البيت: فهذا كلام ليس فيه فضلٌ عن معناه، وقوله (إن الحرّ حرّ) إنما تأويله أن الحرّ على الأخلاق التي عهدنَ في الأحرار، ومثل ذلك (أنا أبو النجم وشعري شعري) أي شعري كما بلغك وكم كنت تعهد، وكذلك قولهم (الناس الناس) أي الناس كما كنت تعهدهم.
وتعقيب المبرد سديد، ولكن الأستاذ السباعي ينقل في الهامش أن من هذا قول الله عز وجل: (فغشيهم من اليّم ما غشيهم) بدون أن يدرك أن الأخفش الذي نقل عنه قد أخطأ الفهم، فالآية ليست مما اتحد فيه المبتدأ والخبر لفظاً، وإنما هو موصول أسند إليه فعلٌ جُعل مثله صلة، للمبالغة في التهويل (رغبة الآمل ج1 ص155). وكان المأمول أن لا تغيب هذه المسألة البسيطة عن ذهن أستاذ بدار العلوم.
5 - في تهذيب الكامل ج2 ص309 تكلم المبرد عن الخيل المحبوكة الأصلاب فقال: (المحبوك الذي فيه طرائق، يقال لطرائق الماء حُبك واحدها حِباك). وبهذا سها المبرد سهواً لم يفطن له السباعي، فقد فسر الكلمة بما لا يراد منها في تركيبها، والصواب أن يقول: فالمحبوك الذي أُحكم خَلقه، من حبكت الثوب إذا أحكمت نسجه، يريد أن أصلاب الخيل موثقة مدمجة. ثم يقول: والمحبوك أيضاً الذي فيه طرائق (رغبة الآمل ج1 ص161) وهو كتاب المرصفي المحكوم عليه بالغرور والادعاء!!
6 - في تهذيب الكامل ج2 ص212، أنشد المبرد قول حاتم الطائي:
إن الكريم من تلفت حوله ... وإن اللئيم دائم الطرف أقودُ
وقد غيرّ المبرد لفظ البيت وروايته، بدون أن يتنبه السباعي لذلك، والصواب:
فمنهم جوادٌ قد تلفّت حوله ... ومنهم لئيم دائم الطرف أقود
لأن حاتماً يقول قبل هذا البيت:
كذاك أمور الناس راض دنية ... وسامٍ إلى فرع العلا متورد
(راجع رغبة الآمل ج1 ص177)
7 - في تهذيب الكامل ج2 ص312 ورد قول الأشهب ابن رُمَيْلَة:
أُسود شرًى لاقتْ أسود خفية ... تساَقوا على حرد دماء الأساود
وقد تفضا الأستاذ السباعي فأثبت في الهامش أن رميلة هي أم الشاعر، ولم يتعب الأستاذ في هذا التحقيق، فقد نقله عما أضاف أبو الحسن إلى متن الكامل، فكيف يجيب لو سأله أحد طلبة دار العلوم عن أبي هذا الشاعر وهو قد عرف أمه وجهل أباه؟
الجواب عند الشيخ المرصفي (المغرور) فقد جاء في رغبة الآمل ج1 ص179 أن أبا هذا الشاعر وهو ثور بن أبي حارثة ابن عبد الدار.
8 - وفي تهذيب الكامل ج2 ص 92 ورد قول ابن الإطنانة
وإجشامي على المكروه نفسي ... وضربي هامة البطل المُشيح
وسكت السباعي عن (الإطنابة) فلم نعرف أهو اسم أم الشاعر أم اسم أبيه، وإنما سكت السباعي لأنه لم يجد ما ينقله عن أبي الحسن، فليعرف إن شاء إن الإطنابة هي أم الشاعر، أما أبوه فهو عامر بن زيد مناة أحد أشراف الخزرج (رغبة الآمل ج2 ص23)
9 - في تهذيب الكامل ج2 ص315 قال رجل من بني عبس يخاطب عروة بن الورد:
لا تشتمني يا ابن ورد فإنني ... تعود على مالي الحقوق العوائد
ومن يؤثر الحق النؤوب تكن به ... خصاصة جسم وهو طيان ماجد
وإني امرؤٌ عافى إنائي شِركةٌ ... وأنت أمرؤ عافي إنائك واحد
أقسِّم جسمي في جسوم كثيرة ... وأحسو قَراح الماء والماء بارد
والسياق الذي أورده الأخفش وغفل عنه السباعي يوهم أن الأبيات الأربعة من شعر ذلك العبسي، والصواب أن العبسي لم يقل غير البيتين الأولين، أما البيتان الأخيران فهما جواب عروة بن الورد، وقد نقل الشيخ المرصفي (ج1 ص195) أن عبد الملك بن مروان كان يحفظ لعروة الأبيات الأخيرة، وثانيها هذا البيت:
أتهزأ مني أنْ سمنتَ وأن ترى ... بجسمي شحوب الحق والحق جاهدُ
فإن ارتاب الأستاذ السباعي في تصحيح الشيخ المرصفي فليرجع إلى ديوان الحماسة في باب الأضياف والمديح ليرى هذه الأبيات الأخيرة منسوبة إلى عروة بن الورد، والمفهوم أن ديوان الحماسة مما يحفظه الطلبة بمدرسة دار العلوم!
ثم أما بعد، فهذا هو المنهاج الذي سنسلكه في بيان فضل المرصفي على السباعي وعلى جميع من يقرأون الكامل للمبرد، وسنرى فيما بعد غرائب وأعاجيب من غفلة السباعي عن فهم أغراض المبرد، فكيف ترونه يصنع؟ هل يصر على القول بأن المرصفي كان رجلاً مغروراً، وأن من الجريمة أن يدخل كتابه (دار العلوم) ليخلو الجوّ لمن تفوتهم البسائط من الأغلاط؟
لقد أنذرني الأستاذ السباعي، فهل يجيب عن هذه المؤاخذات قبل أن ينفذ ذلك الإنذار الفظيع؟
المهمّ هو أن ينظر أبناء دار العلوم في هذه المؤاخذات الموَّجهة برفق إلى نسخة (تهذيب الكامل) لا إلى الأستاذ السباعي، فما أجرؤ على الهجوم عليه، وهو أديبٌ يراني ويرى أستاذي من المغرورين المجترئين! المهمّ هو الصدق في خدمة اللغة العربية، وأنا بهذه الدراسات أخدم لغة العرب خدمةً يعجز عنها السباعي بيومي. وإن طال الشوط وسيطول فسيندم السباعي على ما اجترح من ستر جنايته على المبرد بجنايته على المرصفي.
إن قلبي ليكتحل بالغُبار الذي يثيره قلمي، فمن طاب له أن يلقاني في ميدان النقد الأدبي فليوطّن نفسه على مكاره لا يصبر على لأوائها غير الخناذيد.
وإلى اللقاء، فللحديث شجون وشجون
زكي مبارك
مجلة الرسالة - العدد 399
بتاريخ: 24 - 02 - 1941