د. خالد محمد عبدالغني - إجبار التكرار في قصة "كرامات شيخ الماء" لـ محمد جبريل

على مدارسبعين عاما قضاها الروائي المصري محمد جبريل في الكتابة الصحفية والفكرية و الرواية والقصة، سيطرت أجواء مدينته الإسكندرية وحي بحري الذي ولد فيه على عالمه، الذي انعكس في 81 عملا أدبيا ما بين رواية وقصص قصيرة وسيرة ذاتية ودراسات أدبية، أهلته لنيل جائزة الدولة التقديرية في الرواية وتؤهله لنيل جائزة نوبل باقتدار كما حدث مع نجيب محفوظ فكلاهما منحاز في أدبه فنجيب محفوظ عاش في القاهرة وبخاصة الحارة المصرية الفاطمية وانحاز لها في عمله الابداعي وكذلك محمد جبريل ولد بحي بحري بالاسكندرية وانحاز له في عمله الابداعي لتلك المنطقة ولذكريات التنشئة الاجتماعية فيها .
إجبار التكرار أو التكرار القهري هو ظاهرة نفسية يكرر فيها الشخص حدثاً معيناً أو ظروف ذلك الحدث مراراً وتكراراً. يتضمن ذلك إعادة تنشيط الحدث أو وضع نفسه في المواقف التي من المحتمل أن يحدث فيها الحدث مرة أخرى. يمكن لظاهرة «إعادة العيش» تلك أن تكون على شكل الأحلام التي تتكرر فيها ذكريات ومشاعر ما حدث، وحتى تتلاشى. يمكن أيضاً استخدام التكرار القهري لتغطية تكرار السلوك أو أنماط الحياة على نطاق أوسع. وكان هناك "تكرار للأحداث الصادمة لغرض تحقيق إتقان متأخر، تمت رؤيته أولاً وبشكل أكثر وضوحًا في ألعاب الأطفال، على الرغم من أن "نفس النمط يحدث في الأحلام المتكررة وأعراض الصدمة في علم الأعصاب وفي العديد من الأفعال الصغيرة المماثلة للأشخاص الطبيعيين الذين يكررون ذات التجارب المزعجة عدة مرات قبل إتقان هذه التجارب.
يمكن أن تظهر مثل هذه التكرارات المؤلمة في أشكال نشطة أو سلبية. في صورة سلبية، يختار المرء تجاربه الأكثر دراية باستمرار كوسيلة للتعامل مع مشاكل الماضي بدلاً من مواجهتها، معتقدين أن التجارب الجديدة ستكون أكثر إيلامًا من وضعهم الحالي أو جديدة جدًا وغير مجربة على التخيل. في الشكل النشط والتشاركي، يشارك الشخص بنشاط في السلوك الذي يحاكي ضغوطًا سابقة، إما عن قصد أو بغير وعي، بحيث تصبح الأحداث المرعبة في مرحلة الطفولة، في أحداث معينة، مصدر جذب في مرحلة البلوغ.
على سبيل المثال، يمكن للشخص الذي تعرض للضرب في طفولته دمج هذا في ممارساته الجنسية في مرحلة بلوغه؛ أو ضحية الاعتداء الجنسي قد يحاول إغواء شخص آخر ذي سلطة في حياته (مثل رئيسه أو معالجه): محاولة لإتقان مشاعرهم وتجربتهم، بمعنى أنهم يرغبون في المرور بتجربة نفس الوضع بدون وعي بحيث لا يكون هنا كنتائج سلبية كما كان في الماضي عندما عاشوا الوضع لأوَل مرة. من ناحيةأخرى، كان هناك "تكرار بسبب ميل المكبوتين إلى إيجاد منفذ". هنا دفعا لدافع أو الحافز المكبوت لإيجاد الرضا بتجديد الدفاع الأصلي: "يتم تعبئة القلق الذي أثار القمع لأول مرة، مرةً أخرى ويخلق، مع تكرار الدافع، تكرارًا للمضادة للغرائز".
اعتبر فينيخي لأن "التكرارات العصبية من هذا النوع لا تحتوي على أي عنصر ميتافيزيائي"، و "حتى تكرار الفشل الأكثر إيلامًا لمجمع أوديب في الانتقال خلال علاج نفساني ليس" أبعد من مبدأ اللذة".
يرى يونج أنّ تجسيد الإجبار يشير قبل كل شيء إلى الأب، ليس فقط إلى الأب الحقيقي، ولكن إلى "الصورة الأبوية" التي تحمل آثار الأنظمة المنظمة وتعود إلى ملايين السنين من التطور؛ لذلك يبدو مفهوم يونغ أوسع، حيث يتضمن في نشأة الظاهرة كل من البصمة الأبوية، وكذلك البنية الجينية الفطرية. بالمقارنة مع الصدمة، يتمّ التعبير عن الإجبار على التكرار أيضًا في الأحلام المتكررة، أي تلك الأحلام التي تكرر نفسها لأشهر أو حتى سنوات؛ لأنّ الألم الناجم عن تجربة مؤلمة يكون شديدً او ضخمًا بحيث لا يمكن تهدئته بحلم واحد أو كابوس واحد. يشرح فرويد الأحلام البائسة لمرضى "العصاب القهري" على أنّها تكرارٌ مستمرٌ للموقف المأساوي "كما لو كان هذا قبلهم كمهمة حالية لم يتم التغلب عليها". في هذا الصدد، يعتقد فرينز يأنّه في النوم "هناك احتمال أكبر لعودة الانطباعات الحسية التي لم يتم حلها، والمخبأة في الأعماق، والعنيفة للغاية.. التي تتوق إلى حل". في الواقع، فإنّ الحلم الذي تتكرر فيه الأحداث المؤلمة يؤدي إلى "وظيفةالصدمة" في مهمته المتمثلة في استعادة الآثار الحسية والذكريات المحتجزة في الجسد، من خلال التجارب الحسية والجسدية.
يحدثنا جبريل عن حي بحري ليقول : تفتح وعيي على الإسكندرية. وهي المكان الذي تخلقت فيه - حتى الآن - غالبية أعمالي، وبالذات: هذه المنطقة ما بين المنشية وسراي رأس التين، فيها مارس أبطال قصصي حيواتهم، سكنوا البيوت، وتنقلوا في الميادين والشوارع والأزقة، جلسوا على شاطئ الكورنيش، قضوا الأمسيات في حدائق رأس التين، عاشوا اللحظات الهانئة، والقاسية، اصطادوا بالصنارة والجرافة والطرّاحة، واصطادوا المياس ساعات العصاري، ترقبوا النوات وعانوا تأثيراتها، بدءاً باختطاف الرجـال في البحر، إلى الكساد الذي يعشش في ملازمة البيوت، أو شغل الوقت بالجلوس في المقاهي.
ثم يكمل : ذلك كله هو الذي دفعني للكتابة عن بحري، الحي الذي ولدت فيه، ووعيت على المعتقدات والقيم والعادات والتقاليد التي تسمه بخصائص مغايرة، فمنطقة بحري، أصل الإسكندرية، كيلومتر مربع، من اليمين المينا الشرقية، ومن اليسار المينا الغربية، وفي المواجهة خليج الأنفوشي، لسان أرضي، شبه جزيرة في شبه جزيرة الإسكندرية. سمي الخليج ربما لوصله بين الميناء الشرقي والميناء الغربي. أذكر وقفتي على الشاطئ، بالقرب من قصر رأس التين، الصخرة - التي صارت بطلاً أعتز بها - في مدى النظر. أذكرك بروايتي «صخرة في الأنفوشي».
ويستطرد قائلا : ولا أتصور الإسكندرية من دون البحر، يحيط بها، تمضي شوارعها إليه، تعيش على المهن المتصلة به، فغالبية الشخصيات يتنقلون في مهنة الصيد، وحلقة السمك، وورش المراكب، والمهن المتصلة بالميناء، وفي الأجواء الروحانية المتمثلة في الجوامع والزوايا وأضرحة الأولياء ومقاماتهم، وما يتصل بذلك من موالد وأذكار وطرق صوفية. فقد - اعتادت - في طفولتي - قراءة لافتات الدكاكين وأفيشات السينما، وكل ما يحض على القراءة، فقد تشكل وعيي بالتعرف إلى الملامح والقسمات، والشوارع والأزقة والأبواب والنوافذ، كما تعرفت إلى ميادين وشوارع وحواري ومعالم حياة، في الموازيني وأبو العباس والبوصيري والسيالة وحلقة السمك والمسافرخانة والمغاوري والحلوجي والعدوي وقبو الملاح والتمرازية والكورنيش وسراي رأس التين.هذا هو بحري الذي أعرفه، داخلته ظواهر جديدة، لكن ناس بحري الأصليين، أهل الحي القديم، فرضوا عاداتهم وتقاليدهم وسلوكيات حياتهم اليومية على السكان القادمين من أحياء ومدن أخرى.
ومن هنا كانت قصة كرامات شيخ البحر المنشورة بأهرام الجمعة 8/2/2024 ، وفيها ذلك المكان الاثير لديه وهو الاسكندرية وعالم الصيد وعالم الاسطورة والخرافة والجو العجائبي الموجود من قبل في ألف ليلة ولية بل وفي أبرز روايات نجيب محفوظ العجائبية وهي ليالي ألف ليلة وفيهما نفس الجو الاسطوري الروحي او الصوفي فيقول محمد جبريل عن شيخ البحر : كان دائم التنقل بين بحرى وأبو قير، يلتقى الناس فى الأسواق، يطرحون عليه ما يعجزون عن فهمه، أو يختلفون حوله، من قضايا دينهم ودنياهم، يجيب عن كل مسألة بما يغطى جوانبها. يحسن الإنصات إلى متاعبهم وأوجاعهم، يخبر الظروف، يحل المشكلات، يجيد قراءة الأفكار، يطيل التأمل والنظر، يحدس المعنى الذى تحمله الكلمات. إن ثقلت عليه الهموم، حدق فى البحر، لا يقصد وجهة بعينها، لكنه يترك للأفق احتواء ما يثقله من القضايا والمشكلات, وإن طالب الناس – دومًا - أن يقرنوا الكلمات الجميلة بالفعل الجميل، يقبل الناس على الصلاة والصوم بنفس ملهوفة، إذا داخلهم اليقين بما يلغى الريب، اندسوا فى دائرة المريدين، ينتظرون إيماءةأخذ العهد."
وفجر وجود الشيخ تلك الأزمة الحادثة من نقص المياه والرزق :"فاجأ الناس بنبوءة عن جفاف البحر. لم يشر إلى السبب، ولا المتسبب، لكنه أكد أن الناس سيذكرون الأسماك دون أن يتاح لهم رؤيتها. قد ينعم بصيدها، وأكلها، ناس آخرون فى بلاد قريبة وبعيدة، لكن الجفاف الذى يحل بالبحر الملامس لأرضهم سيقضى على الأسماك الموجودة، ويفر المتبقى منها إلى بحار أخري.لاحت النذر، فتبدت كرامات الشيخ مرتضى ما بين تحويل الماء المالح إلى عذب، وإكثار الأسماك فى مناطق عرفت بجدبها، وتذليل الموج فيصير حصيرة، يخطون فوقها، ويقطعون المسافات. إنه نفس الجو العجائبي ونفس المكان الإسكندرية وعوالم البحر الموجودة في رباعية بحري التي كتبها قبل سنوات طويلة وكأننا امام آلية إجبار التكرار المعروفة في التحليل النفسي حيث سيطرة أفكار وقضايا معينة على ذهن الشخص وتعاود الظهور كلما سنحت الفرصة مستغلة وجودها في أعماق اللاشعور حيث كانت بذرتها الأولى في سنوات التكوين الخمس الاولى من حياة الطفلونرى هنا كيف انبعث المبدأ السحري الأصلي والثابت من الأفكار القوية المسيطرة لدى الرضيع الذي تُشبع رغباته المعبِّرة الكلامية وما قبل الكلامية من خلال تجاوب الأم؛ وعلى هذا النحو يمكن تفسير التعاويذ التي تستخدم في العالم السحري الخرافي ، وهذا ما يقول به محمد جبريل نفسه ولهذا كانت القصة مضمونا وشكلا متفقة مع أمرين أولهما اقراره بالانحياز في أدبه لموطنه الأصلي ونشأته ، وثانيا للآلية إجبار التكرار ". ثم يقول جبريل قال الشيخ: "محبة الله مثل مياه المالح، كلما شربت منها احتجت إلى شرب المزيد. سماه الحاج عبد الحافظ أبو حسين بائع المانيفاتورة بسوق الخيط:شيخ الماء. تناقل الناس التسمية، أضافوا حكايات. روى أن الله خصه بقدرة على إخبار المغيبات، وأنه يمتلك قدرة على التنبؤ، واستشراف المستقبل يعرف الطالع، يستعين بقوى الكواكب والنجوم، يصل زواره بعالم الغيب، يعينهم على تدبيرات إبليس، يساعدهم فى معرفة القرين. عرف بقدرته على الاتصال بالعوالم السفلية، يتكلم لغة أهلها، يصدر لها الأوامر التى لا ترد. وهنا ذلك الجو الصوفي الموجود أيضا في رباعية بحري وفي النصوص العجائبية العربية التراثية ، ولكن ما دلالتها هنا في ذلك العصر فقد تشير إلى أنها الوسيلة لعلاج الواقع من ازماته المادية حسيث شح المياة وقلة الرزق فكان الحل هو اللجوء الى ذلك الجوا الصوفي الروحي أي الديني ففيه الخلاص وهي طريق النجاة أيضا ولا أدل عليه من اسمه الشيخ مرتضى ، أي الذي نرضيه بافعالنا فيرزقنا الخير ويسد القص . :"سماه أتباعه مرتضي، وإن لم يذكروا بقية الاسم ولا من أين أتى الشيخ، ولا المهنة التى يشغلها، وإن أزمع البقاء فى الحي، أم أنه يعد لسفرات أخري، تالية. وهنا نتأكد أن الدين هو الحل للازمات وهي قضية عنيقه في تكوين جبريل الروحي والعقلي كما كانت ثابتة في الكثير من أعماله التي اشارات ذلك ولتكوينه فيطفولته وصباه في منطقة بحري والاسكندرية تلك المدينة التي كانت في الاصل مبنية على الفكر اليوناني ولكن وجود المتصوفة المغاربةمنحها بعدا روحيا كبيرا . وكذلك تكون الشيخ مرتضى :"لم تكن له طريقة ينتسب إليها، ولا شيخ يأخذ على يديه. قال إنه فضل أن يخوض تجربته الروحية التى تهتدى بعلم الأئمة. تدرج فى المقامات والأحوال، حتى بلغ نهاية الطريق. كثرت كراماته، مما أوجب اعتقاد الناس فيه". ثم تعددت كرامات الشيخ مرتضى وتناقلها الناس بل واعتادوها ومارسوها بأنفسهم "كثرت - فى الأيام التالية - حالات استعلاء الناس، يغذون السير فوق السحاب، يتخللونه. اعتاد أهل بحرى رؤية المشاة فى الهواء، وعلى الماء، يستغرقهم السير، لا يقتصر تحركهم فى الهواء على السير بالقدمين. ثمة من يقعدون، ومن يجلسون ساقًا على ساق، ومن يدلون أقدامهم فى الفراغ، لا يعودون إلى الالتفات حيث كانوا يعيشون، الأصوات الغائبة المصدر، تردد التسابيح والابتهالات والإنشاد، تجدد الأشواق والمواجيد . وهنا هل يمكن القول بأن محمد جبريل رأى أنه حين يغيب العلم ويسيطر الفقر والجدب تنتشر الخرافة وبخاصة الخرافات التي يمكن ربطها بالدين وبعالم الغيب . .؟ فتكون الحلول لمواجههة الجدب هو طعام لا نصنعه بل يأتينا بلا جهد وهو طعام البحر " اقتصر طعامه على البحر. يقوم بمؤنة أتباعه، ينفق عليهم من صيد البحر, يقارب فى الرزق بين من جنى محصولاً وفيراً، وبين من عاد بشبكته خالية، وبين من تعجز ظروفه عن تلبية احتياجاته. تخرج يده من الماء بأسماك لا تطلب الشيّ، أو القلي، يمضغها المريد على مهل، ويجرع الماء المالح، يتحول إلى أصفى وأعذب من ماء المطر. يزيد السمك بما يفوق حاجة الصيادين، يتخلصون من الأسماك الزائدة بإعادتها إلى البحر، لكل صيد وقته.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى