كان الاستبداد السياسيّ ملمحًا مُهِمًّا في الحياة اليومية للمواطن المسلم من خلال انتشار رقعة الدولة العثمانية حتى تلك الأجزاء التي تآكلت فيها السيادة العثمانية وتواجد فيها الاستعمار الغربي فإن نوعًا من السيادة والاستبداد السياسيّ كان ممارَسًا وبقوة، فالشعوب الإسلاميّة بصفة عامة والشعوب العربية الإسلاميّة بصفة خاصة خضعت لهذا الاستبداد في شتى صوره فما بين رحى الاستعمار الغربي وسيطرة الدولة العثمانية كان العالم الإسلاميّ والعربي بصفة خاصة في حالة من التشتت والتشرذم بكل صوره، يعيش في عالم من الخرافة الثقافية وسيطرة الجمود العقليّ على الفكر الثقافي والديني بل إن الموروث كان هو الحاضر بقوة ليحكم عصر لم يولد فيه وليس له نفس آلياته، ولا مصالح المجتمع وأهدافه واحدة أو ثابتة، فقد تغيرت بتغير الزمن إلا أن الحاكم الثقافي والديني المنتزع من النص والتفسير الجامد له كان طاغيًا وحاضرًا ولا يسمح بأن يخرج من بين دفتيه جديد أو تطوير ولو كان ذاتيًّا.
ولَمْ يَكُنْ هذا الاستبداد السياسيّ بعيدًا عن الاستبداد الديني فالاستبداد الديني هو أحد أهم أدوات الحكام المستبدين للسيطرة والتحكم والتمكين السياسيّ بتخدير العقول تحت شعار طاعة أولي الأمر الذين هم أساس الاستبداد بكل صوره، وعلى ذلك فإن أفكار المدرسة العقليّة الحديثة وُجدت في مناخ قريب من المعترك السياسيّ الذي ولد فيه فكر المعتزلة ولا يمكن تنحية هذا الأثر على الأفكار تمامًا فالأفكار تولد لخدمة البشر وليس من قبيل الترف الفكري والعقلى.
وتحت تأثير هذه العوامل يمكن القول إن المجددين في فكر المعتزلة أنصار المدرسة العقليّة تعاملوا مع هذا الموروث أو التراث بطريقة أو منهج انتقائي فأخذوا منه ما يتفق وحاجتهم في القضايا المعاصرة فلم يشغلهم مثلاً قضية مثل قضية خلق القرآن رغم الضجة الضخمة التي صاحبتها في نشأتها وما أدت إليه على نحو ما سلف من فُرقة وصلت إلى حد التكفير والسجن والتعذيب كما لم يهتموا بقضية منزلة مرتكب الكبيرة بل كان تركيزهم في كتابتهم على العقل وأعمالة والاختيار والعدالة وهي قضايا تفضي في النهاية إلى خدمة واقع المسلمين وتحاول تغييره وترسيخ مفهوم التحرر السياسيّ، هنا تختفي المفاهيم والمعتقدات التعبدية ولو نسبيًّا والتي تتعلق بباب العبادات وصفات الخالق وماهية القرآن لتظهر محلها وبشدة على السطح الكتابات والأفكار التي تدعو إلى إعمال العقل والحرية والعدالة والتقارب بين الأديان.
فالأصول الخمسة التي قام على أساسها فكر المعتزلة لم تعد لها جميعًا ذات الأهمية بل كان هناك تفاوت فبعضها يبدو أكثر أهمية من البعض الآخر، وتأتي هذه الأهمية بحكم الحاجة إليها في هذا العصر وظروفه والمناخ الاجتماعي والسياسيّ السائد في هذه اللحظة، فالإنسان سيكون مختارًا ومسئولاً عن أفعاله لا ليحاسَب على أعماله في الآخرة فقط بل ليصنع مستقبله في الدنيا بإرادته دون أن يخضع لمبدأ الجبر فينكس الرأس ويقبل بما يمليه عليه الحكام والمستعمرون، والعدل والحرية قيم ومبادئ مطلوبة لتحقيق المساواة بين الناس في الحقوق والواجبات ولمقاومة الاستعمار وانتزاع الحقوق بالقوة لو لزم الأمر.
يمكن القول إن المفاهيم التي بُنيت عليها مدرسة العقل لدى أنصار الفكر الاعتزالي انتقلت من البيئة التعبدية الحاضنة لها لتتحول إلى بيئة المعاملات ولم يعد الهاجس والباعث لنشر هذه الأفكار هو تأثيرها على المسلك الديني وأثرها في الحساب والثواب والعقاب وطاعة الخالق بقدر ما أصبحت الحاجة إليها في الحياة والواقع الذي يعيشه المسلمون، كما أن المستهدف منها هو أثرها على الحياة اليومية والعلاقة بين الحاكم والمحكوم والمسلم والغير من أبناء الديانات الأخرى والعلاقة بينهما وحدودها.
إذن، يمكن القول إن أفكار المعتزلة انتقلت من أفكاروقيم تحكم العلاقة بين الفرد وخالقه إلى قيم تحكم العلاقة بين الفرد وحاكمه وبين الفرد والفرد، انتقلت من العلاقة بين الفرد وعالم الثواب والعقاب إلى الفرد ودنياه وحاضره، أو انتقلت من الغيب المتناهي إلى الحاضر الملموس.
ورغم أن هذا التيار بدأ في كتابته دائمًا محاولاً إثبات أن هذه القيم مصدرها الدين الإسلاميّ الحنيف، وأنه وإن كان الغرب عرفها فليس معنى ذلك أنه يحتكرها، فإنه لم يسلم من النقد والتجريح، فالبعض رأى أن هذه الأفكارمن تأثير الثورات الفرنسية وما أحدثته من تغيير في المفاهيم فقيم العدل والحرية والمساواة بمفهومها الغربي انتقلت إلى الشرق إثر البعثات التي أُرْسِلت إلى الخارج ومع المبتعثين أمثال رفاعة الطهطاوي وخير الدين التونسي ثم جاء دور جمال الدين الأفغاني في نشرها، والأخير تعرض إلى هجمة شرسة من العديد من الكتابات والتي خلصت إلى أنه مجرد ماسوني مارق هدفه تدمير الإسلام وتأثر به تلميذه الإمام محمد عبده ([1]).
ويمكن القول إن ملامح المدرسة العقليّة ظهرت بشدة لدى جمال الدين الأفغاني لدى رده على الدهريين([2]) من جهة ومن جهة أخرى عند رده على الفيلسوف والمستشرق رينان ([3]).
فلدى رده على الدهريين يقول الأفغاني «إن الإسلام يتميز بأنه صقل العقول بصقال التوحيد وتطهيرها من لوث الأوهام، وإن من أصوله الاعتقاد بالله، وبأنه متفرد بتصريف الأكوان متوحد في خلق الأفعال ومن الواجب طرح كل ظن في إنسان أو جماد يكون له في الكون أثر من نفع أو ضر أو إعطاء أو منع أو إعزاز أو إذلال أو نحو ذلك من خرافات كل واحدة منها كافية في إعمال العقول أو طمس نورها».
ويضيف في موضع آخر: «إن الدين الإسلاميّ فتح أبواب الشرف للأنفس كلها وأثبت لكل نفس الحق في طلب أيّ فضيلة ومحق امتياز الأجناس وتفاضل الأصناف وقرر الميزات البشرية على أساس الكمال العقليّ والنفسي فالناس إنما يتفاضلون بالعقل والفضيلة لا بإيّ شيء آخر ولا نجد من الأديان ما يجمع أطراف هذه القاعدة». كما يضيف: «إن الدين الإسلاميّ يكاد يكون متفردًا من بين الأديان بتقريع المعتقدين بلا دليل وتوبيخ المتبعين للظنون فهو يطالب المتدينين بأن يأخذوا بالبرهان في أصول دينهم وطالما خاطب العقل وطالما حاكَم العقل وتنطق نصوصه بأن السعادة من نتائج العقل والبصيرة وأن الشقاء والضلالة من لواحق الغفلة وإهمال العقل وانطفاء نور البصيرة» ([4]).
ولم يختلف المنهج العقليّ الذي برز في الرد على الدهريين في رده على رينان والذي هاجم الإسلام متهمًا إيّاه باللاعقلانية وعدم القدرة على استيعاب الحياة بما فيها من ثقافة وعلم فقد ذهب إلى القول في كتابه المشهور «ابن رشد والرشدية» إلى أن الإسلام لم يستطِع أن يتحول وينتحل أيّ عنصر من الحياة المدنية أو العلمانية فقد نزع من جوفه كل أصل من الثقافة العقليّة. ورد عليه الأفغاني ردًّا كشف الخلل المنهجي الذي وقع فيه رينان عندما لم يميز بين الإسلام كدين خالص والصورة التي انتشر بها الإسلام في العالم، أيْ إن هناك سوء فهم للإسلام حصل من قِبَل المستشرقين وإن رينان نفسه لم يميز بين الإسلام وعادات وسلوك المجتمعات وطبيعة الشعوب التي اعتنقت الإسلام ([5]).
وبعد مرحلة الأفغاني ظهر تلميذه النجيب الإمام محمد عبده، وبدا محمد عبده مخلصًا للأفكار والمبادئ التي نقلها عن أستاذه جمال الدين الأفغاني، لكن هناك أمرين يجب التوقف عندهما أولاً ولو أن هناك ترابطًا فكريًّا بين محمد عبده والأفغاني لكن لا يعني ذلك أن الإمام محمد عبده كان امتدادًا للأفغاني، فالواقع أن محمد عبده كان ثمرة أيضًا للمخاض الفكري الذي عاشته مصر قبل ظهور الأفغاني والذي بدأت ملامحه ممثلة في رفاعة الطهطاوي وعلي باشا مبارك وغيرهم فهي البذور الأولى لمدرسة التجديد الفكري والديني التي برزت على يد محمد عبده.. والأمر الثاني أن الأفغاني الذي انتقل من بلد لبلد ومن مكان لآخر لَمْ يَكُنْ بالتأكيد تربطه رابطة ببلد محدد وتجذبه بقوة مثل محمد عبده، فارتباط محمد عبده واستقراره في وطنه مصر جعل جل اهتمامه بإصلاح الأحوال في مصر، لذا فقد تغير الأسلوب وإن لم يتغير المنهج، فجمال الدين الأفغاني الذي كان مهتمًّا بالتأكيد باهتمامات تغلب عليها مقاومة الاستبداد في صورته السياسيّة والدينية وهي مهمة تصلح في كل مكان وزمان فإن محمد عبده انشغل بقضايا وطنه مصر لذلك ركز على مقاومة الاستبداد ولكن من خلال إصلاح أحوال التعليم في مصر فإذا كان يُنظر لمحمد عبده على أنه رائد الفكر المصري الحديث ([6]) فإن البعض يرى أنه رائد من رواد التعليم ([7])، كما أن من المسلم به أنه اهتم بإصلاح القضاء والأوقاف ومِنْ ثَمَّ فقد كان محمد عبده هو المفكر الذي سخر المدرسة العقليّة وأفكارها في خدمة المجتمع وتطويره دون أن يقتصر على مجرد طرح نظري لقضايا جدلية محضة ولعل ذلك يكون أول نقل لمدرسة العقل من التنظير الديني إلى الممارسة الحياتية.
ويبرز المنهج العقليّ للإمام محمد عبده فيما أولاه من اهتمام بعلم المنطق فمنذ بواكيره الأولى وهو طالب في الأزهر كتب مقالاً أشار فيه إلى أهمية علم المنطق، فقال: «إن العلوم المنطقية إنَّما وُضعت لتقويم البراهين وتمييز الأفكار غثها من الثمين وتبين كيف تتركب المقدمات لإنتاج المطلوب... وأيّ مقدمة يصح أن تؤخذ... وأيها يجب أن تُطرح فهذا علم حقيق بأن يتخذ سلمًا لجميع العلوم». وقال أيضًا في ترسيخ المدرسة العقليّة: «إذا لم نصرف الفكر في تقويم البراهين وتسديدها وكيفية الوقوف على الحقائق وتحديدها ففي أيّ شيء نصرفه؟ فإن ضل عنا رشدنا وغاب عنا سدادنا فهل بشيء سوى الدليل نعرفه». وللأمام مجموعة من الدروس في علم المنطق قام بتدريسها لطلاب الأزهر جمعها سعد الدين التفتازاني وسماها «رسالة تهذيب المنطق» ([8]).
ويبدو جليًّا إعلاء قيمة المنهج العقليّ في قوله: «وتآخى الدين والعقل لأول مرة في كتاب مقدس على لسان نبي مرسل بتصريح لا يقبل التأويل وتقرر بين المسلمين كافة إلا من لا ثقة بعقله ولا بدينه. إن من قضايا الدين ما لا يمكن الاعتقاد به إلا من طريق العقل كالعلم بوجود الله وبقدرته على إرسال الرسل وعلمه بما يوحي به إليهم وإرادته لاختصاصهم برسالته وما يتبع ذلك مما يتوقف عليه فهم معنى الرسالة وكالتصديق بالرسالة نفسها، كما أجمعوا على أن الدين إن جاء بشيء قد يعلو على الفهم فلا يمكن أن يأتي بما لا يستحيل عند العقل» ([9]).
ويبرز بوضوح تطور المدرسة العقليّة لدى محمد عبده فانتقال المدرسة العقليّة من الأصول الخمسة لدى المعتزلة إلى الأصول الثمانية لدى الإمام محمد عبده، فالإمام محمد عبده يضع نظرية جديدة ويضع من خلالها أصولاً للإسلام كدين سماوي ويبرز دور العقل في هذه الأصول فهو يعدد هذه الأصول على النحو الآتي:
الأصل الأول النظر العقليّ لتحصيل الإيمان
والأصل الثاني للإسلام تقديم العقل على ظاهر الشرع عند التعارض
والأصل الثالث من أصول الأحكام في الإسلام البعد عن التكفير
الأصل الرابع الاعتبار بسنن الله في الخلق
الأصل الخامس للإسلام قلب السلطة الدينية
الأصل السادس للإسلام حماية الدعوة لمنع الفتنة
الأصل السابع للإسلام مودة المخالفين في العقيدة
الأصل الثامن في الإسلام الجمع بين مصالح الدنيا والآخرة.
وبالنظر والتحليل لهذه الأصول نجد أنها جميعًا تصب في اتجاهين الأول إعلاء قيمة العقل، والثاني العلاقة بين المسلم والحياة، شاملة علاقة المسلم بالمسلم والمسلم بغير المسلم وتحرير المسلمين في حياتهم من السلطة الدينية ومراعاة المصالح التي تكون ضرورية للحياة دون مساس بالآخرة، وهو ما يؤكد وجهة نظرنا عن أن مدرسة العقل انتقلت في العصر الحديث من تسخير العقل في نواحي العقيدة وتحليل صفات الخالق والقضايا الدينية كالعذاب وخلق القرآن إلى تسخير العقل وتوظيفه لخدمة الدين وفهم الدين على أنه في خدمة الحياة ولتحسين صورتها وتحقيق كرامة المسلمين وحريتهم وليس أداة للاستبداد ولا سببًا لمعاداة الغير.
ومن الواضح جدًّا مدى تأثير البيئة التي عاشت فيها كل مدرسة في العصر الذي كانت فيه، كما أنه من الواضح تأثر المدرسة القديمة بالفلسفة اليونانية التي قامت على الغيبيات وتحليل العقل، أمّا مدرسة العقل في العصر الحديث فإنها تأثرت بالظروف السياسيّة والاجتماعية التي يعيشها المسلمون والاحتكاك بغير المسلم، أصبحت هذه القضايا تشغل حيزًا جعل من مناقشتها أصلاً من أصول الدين بحسب مدرسة العقل في العصر الحديث ومؤسسها الحقيقي الإمام محمد عبده.
وإذا أردنا أن نتأكد من الاهتمام بالعقل وحدود دوره نجد الإمام يقول صراحة في الأصل الأول وهو النظر العقليّ في تحصيل الإيمان: «فأول أساس وُضِع عليه الإسلام هو النظر العقليّ، والنظر عنده هو وسيلة الإيمان الصحيح، فقد أقامك منه على سبيل الحجة وقاضاك إلى العقل ومن قاضاك إلى حاكم فقد أذعن إلى سلطته فكيف يمكنه بعد ذلك أن يجور أو يثور عليه. بلغ هذا الأصل بالمسلمين أن قال قائلون من أهل السنة: إن الذي يستقصي جهده في الوصول إلى الحق ثم لم يصل إليه ومات طالبًا غير واقف عند الظن فهو ناجٍ فأيّ سعة لا ينظر إليها الحرج أكمل من هذه السعة؟ ».
وفي الأصل الثاني، الذي هو تقديم العقل على ظاهر الشرع عند التعارض يقول الإمام: «اتفق أهل الملة الإسلاميّة إلا قليلاً ممن لا يُنظر إليه على أنه إذا تعارض العقل والنقل أخذ بما دل عليه العقل، وبقي في النقل طريقان طريق التسليم بصحة المنقول مع الاعتراف بالعجز عن فهمه وتفويض الأمر إلى الله في علمه والطريق الثانية التأويل مع المحافظة على قوانين اللغة حتى يتفق معناه مع ما أثبته العقل وبهذا الأصل الذي قام على الكتاب وصحيح السنة وعمل النبي (صلى الله عليه وسلم) مُهِّدَت بين يدي العقل كل سبيل وأزيلت من سبيله جميع العقبات واتسع له المجال إلى غير حد فماذا عساه يبلغ نظر الفيلسوف حتى يذهب إلى ما هو أبعد من هذا؟ وأيّ فضاء يسع أهل النظر وطلاب العلوم إن لم يسعهم هذا الفضاء؟ إنْ لَمْ يَكُنْ في هذا متسع لهم فلا وسعتهم أرض بجبالها ووهادها ولا سماء بأجرامها وأبعادها» ([10]).
ثم يظهر من تناول باقي الأصول تأثر المدرسة العقليّة بالبيئة التي تعيش فيها من جهة من حيث العلاقات بين الأفراد سواء داخل أمة الإسلام أو بينهم وبين أبناء الديانات السماوية المختلفة فيجعل الأصل الثالث لديه البعد عن التكفير، وهو في هذا الأصل يرفض تكفير المعارضين في الأفكار حتى يصل به القول إلى: «إذا صدر قول من قائل يحتمل الكفر من مائة وجه ويحتمل الإيمان من وجه واحد حُمِل على الإيمان ولا يجوز حمله على الكفر» ([11]).
ثم يجعل من أصول الإسلام الأصل السابع لديه وهو مودة المخالفين في العقيدة، ويشير إلى زواج المسلم من الكتابية وما لها من حقوق ولم يفرق الإسلام بين ما لها من حق وما للزوجة المسلمة.
ويظهر أيضًا أثر البيئة في ذلك الأصل الجديد للمدرسة العقليّة الحديثة. ونعني بالجديد أنه جديد من حيث الإشارة إليه ورفعه في فكر أهل العقل إلى مرتبة الأصل الراسخ من أصول الإسلام ألا وهو الأصل الخامس لدى الإمام وهو قلب السلطة الدينية، وهو يقول فيه «إنه أصل من أصول الإسلام انتقل إليه -وما أجلّه من أصل- قلب السلطة الدينية والإتيان عليها من أساسها». ويضيف: «هدم الإسلام بناء تلك السلطة ومحا أثرها، حتى لم يبقَ لها عند الجمهور من أهله اسم ولا رسم، لم يدع الإسلام لأحد بعد الله ورسوله سلطانًا على عقيدة أحد ولا سيطرة على إيمانه على أن الرسول (صلى الله عليه وسلم) كان مُبَلِّغًا ومُذكرًا لا مهيمنًا ولا مسيطرًا، قال (تعالى) {فذكر إنَّما أنت مذكر لست عليهم بمصيطر} ([12])، ولم يجعل لأحد من أهله أن يحل ولا أن يربط لا في الأرض ولا في السماء بل الإيمان يعتق المؤمن من كل رقيب عليه فما بينه وبين الله سوى الله وحده ويرفع عنه كل رق إلا العبودية لله وحده([13]).
وهكذا تدعو المدرسة العقليّة إلى التحرر من كل سلطة دينية تجعل من نفسها حَكمًا وتضع أحكامها على الناس.
ثم يتناول الإمام السلطان في الإسلام فيقرر أن الخليفة عند المسلمين ليس بمعصوم ولا هو مهبط الوحي ولا من حقه الاستئثار بتفسير الكتاب والسنة... ويضيف أنه مطاع ما دام على المحجة ونهج الكتاب والسنة والمسلمون له بالمرصاد فإذا انحرف عن المنهج أقاموه عليه وإذا اعوج قوموه بالنصيحة والإعذار إليه ولا طاعة لمخلوق في معصية الخالق فإذا فارق الكتاب والسنة في عمله وجب عليهم أن يستبدلوا به غيره ما لَمْ يَكُنْ في استبداله مفسدة تفوق المصلحة فالأمة -أو نائب الأمة- هو الذي ينصبه والأمة هي صاحبة الحق في السيطرة عليه وهي التي تخلعه متى رأت ذلك من مصلحتها فهو حاكم مدني من جميع الوجوه ([14]).
وهكذا نلمح في هذا الأصل أن الإمام نفى السلطة الدينية عن الحاكم والخليفة وينتهي إلى أن الحاكم هو حاكم مدني بكل الوجوه، كما أنه يقرر مبدأ سيادة الأمة. وغني عن البيان أن ذلك كان ردًّا على ما رسخته دولة الخلافة العثمانية من استبداد للحكم باسم الولاية الدينية.
إذن، فالمدرسة العقليّة على يد الإمام محمد عبده انتقلت من حيز العبادات والجنة والنار وخلق القرآن إلى حيز المعاملات لتستخدم العقل في تحرير المسلمين من سيطرة رجال الدين ورجال السلطة السياسيّة والدعوة إلى التلقي بالعقل والتعامل مع الموروث بالعقل.
ويؤكد الإمام ذلك مختتمًا قوله: «ويقولون إنْ لَمْ يَكُنْ للخليفة ذلك السلطان الديني أفلا يكون للقاضي أو للمفتي أو شيخ الإسلام؟ وأقول إن الإسلام لم يجعل لهؤلاء أدنى سلطة مدنية قررها الشرع الإسلاميّ ولا يسوغ لواحد منهم أن يدعي حق السيطرة على إيمان أحد أو عبادته لربه أو ينازعه في طريق نظره» ([15]).
وهكذا من الواضح مدى التطور الذي لَحِقَ بمدرسة العقل في العصر الحديث فهي لم تعد مشغولة بكثير من القضايا الدينية البحتة بقدر ما أصبح هدفها تحرير عقل المسلم من ربقة الموروث وقيد الفهم الخاطئ للنص والادعاء بعدم قابليته للمراجعة والتمحيص والتحقيق فضلاً عن تحريره من سيطرة رجال الدين باسم الدين وسيطرة رجال السلطة الزمنية باسم الدين والادعاء بأن الخلافة هي خلافة في الشرع وفي الدين والدنيا وأن الطاعة العمياء من موجباتها ولوازمها، فنجد أن الإمام يشير بكل صراحة إلى أن الحاكم في الإسلام هو حاكم مدني وإن التزم بأصول الدين والكتاب والسنة وإن كان مجتهدًا أو فقيهًا. ثم يقرر في المقابل مبدأ سيادة الأمة على أساس مدى التزام ولي الأمر أو الحاكم بالكتاب والسنة. وهو يشير إلى أن هذه السيادة أو السلطة التي للأمة قد تكون لمن ينوب عنها، ولا شك أنّه كان يقصد المجالس النيابية وليدة التطور السياسيّ والقانوني المنظم لشئون الحكم في العصر الحديث.
الإمام محمد عبده والمعتزلة
وإذا كان الأمر كذلك بالنسبة لأصول الإسلام لدى مدرسة العقل في العصر الحديث وهو تأثرها بالبيئة الحاضنة لأفكارها فإنه حتى فيما يتعلق بالمذهب العقليّ نفسه ثمة خلاف واضح في حدود التسليم للعقل وإعمال هذا العقل.
فتأييد الإمام محمد عبده للمدرسة العقليّة بمفاهيمها لدى المعتزلة لَمْ يَكُنْ كاملاً ولا تسليمًا بكل ما قالوه فيقول: «تفرقت السبل بأتباع واصل وتناولوا من كتب اليونان ما لاق بعقولهم وظنوا من التقوى أن تؤيد العقائد بما أثبته العلم دون تفرقة بين ما كان منه راجعًا إلى أوليات العقل وما كان سرابًا في نظر الوهم» ([16]). فالإمام يضع لنفسه مدرسة مستقلة بذاتها يبرز العقل فيها وإن كان مقدمًا لكن في حدود وبشروط.
والإمام يختلف مع غلاة المعتزلة إذ يضع حدودًا للعقل البشري وذلك في معرض الكلام عن صفات الله (عز وجل) تحت عنوان «كلام في الصفات إجمالاً» فيقول (رحمة الله عليه): »... اشتغل الإنسان بتحصيل العلم بأقرب الأشياء إليه وهي نفسه وأراد أن يعرف بعض عوارضها وهل هي عرض أم جوهر؟ هل هي قبل الجسم؟ أم بعده؟ هل هي فيه؟ أم مجردة منه؟ كل هذه الصفات لم يصل العقل إلى إثبات شيء منها يمكن الاتفاق عليه وإنّما مبلغ علمه أنه عَرَفَ أنه موجود حي له شعور وإرادة وكل ما أحاط به بعد ذلك من الحقائق الثابتة فهو راجع إلى تلك العوارض التي وصل إليها ببديهيته، أمّا كنه شيء من ذلك وكيفية اتصافه ببعض صفاته فهو مجهول عنده ولا يجد سبيلاً للعلم به، هذا حال العقل الإنساني مع ما يساويه في الوجود أو ينحط عنه بل وكذلك شأنه فيما يظن من الأفعال أنه صادر عنه كالفكر وارتباطه بالحركة والنطق فما يكون من أمره بالنسبة إلى ذلك الوجود الأعلى؟ ماذا يكون اندهاشه بل انقطاعه (الانقطاع بمعنى العجز) إذا وجه نظره إلى ما لا يتناهى من الوجود الأزلي الأبدي.... فالذي يوجبه علينا الإيمان هو أن نعلم أنه موجود لا يشبه الكائنات، أزلي، أبدي حي، عالم، مُريد، قادر، متفرد في وجوده وصفاته وفي صنع خلقه وأنه متكلم سميع بصير وما يتبع ذلك من الصفات التي جاء الشرع (نرى أن المقصود بالشرع هنا هو النص) بإطلاق أسمائها عليه، أما كون الصفات زائدة على الذات وكون الكلام صفة غير ما اشتمل عليه العلم من معاني الكتب السماوية وكون السمع والبصر غير العلم بالمسموعات والمبصرات ونحو ذلك من الشئون التي اختلف عليها النظار وتفرقت فيها المذاهب فمما لا يجوز الخوض فيه، إذ لا يمكن لعقول البشر أن تصل إليه والاستدلال على شيء منه بالألفاظ الواردة ضعف في العقل وتغرير بالشرع لأن استعمال اللغة لا ينحصر في الحقيقة ولئن انحصر فيها فوضع اللغة لا تراعي فيه الموجودات بكنهها الحقيقي وإنّما تلك مذاهب فلسفة، إن لم يضل فيها أمثلهم فلم يهتدِ فيها فريق إلى رأي مقنع، فما علينا إلا الوقوف عند ما تبلغه عقولنا وأن نسأل الله أن يغفر لمن آمن به وبما جاء به رسله ممن تقدمنا» ([17]).
وهكذا يبدو جليًّا أن العقل البشري عند الإمام محمد عبده له حدود يقف عندها ولا يستطيع الإدراك بعدها وأنه يتعين التسليم بما ورد بشأنها من شرع الله على حد قول الإمام. ونرى أن ما أشار إليه بلفظ الشرع إنَّما يقصد ما ورد به النص القطعي الثابت بيقين، القطعي أيضًا في دلالته.
ليس هذا فحسب بل خالف أيضًا المعتزلة الأوائل في تقريره المعجزات للرسول فيقول: «فمتى ظهرت المعجزة وهي مما لا يقدر عليه البشر وقارن ظهورها دعوى النبوة علم بالضرورة أن الله ما أظهرها إلا تصديقًا لمن ظهرت على يده وإن كان هذا العلم قد يقارنه الإنكار مكابرة» ([18]).
وكان موقفه من الجبر والاختيار وقدرة العبد على خلق أفعاله موقفًا وسطًا، خلاصته أن العبد يريد وأن خلق الفعل والتمكين له من الله فيقول: «كما يشهد سليم العقل والحواس من نفسه أنه موجود ولا يحتاج في ذلك إلى دليل يهديه أو معلم يرشده كذلك يشهد أنه مدرك لأعماله الاختيارية يزن نتائجها بعقله ويقدرها بإرادته ثم يصدرها بقدرة ما فيه، ويعد إنكار شيء من ذلك مساويًا لإنكار وجوده في مجافاته لبداهة العقل... ومع ذلك فقد يريد إرضاء خليل فيغضبه وقد يطلب كسب رزق فيفوته وربما سعى إلى منجاة فسقط في مهلكة... ويتجه من ذلك إلى أن في الكون قوة أسمى من أن تحيط بها قدرته وأن وراء تدبيره سلطانًا لا تصل إليه سلطته».
وينتهي إلى القول: «على هذا قامت الشرائع وبه استقامت التكاليف ومن أنكر شيئًا منه فقد أنكر مكان الإيمان من نفسه وهو عقله الذي شرفه الله بالخطاب في أوامره ونواهيه».
وينتقد القائلين بالاختيار المطلق والجبر المطلق بقوله: «وقد خاض فيه الغالون من كل ملة خصوصًا المسيحيين والمسلمين ثم لم يزالوا بعد طول الجدال وقوفًا حيث ابتدأوا وغاية ما فعلوا أن فرقوا وشتتوا فمنهم القائل بسلطة العبد على جميع أفعاله واستقلاله المطلق (المعتزلة) وهو غرور ظاهر ومنهم من قال بالجبر وصرح به (وهم الجبرية) ومنهم من قال به وتبرأ من اسمه (الأشعرية الذين قالوا إن العبد يكسب أفعاله ثم انتهوا في النهاية إلى ما انتهى إليه أهل الجبر) وهو هدم للشريعة ومحو للتكاليف وإبطال لحكم العقل البديهي وهو عماد الإيمان». وينهي القضية في صراحة ووضوح فينتهي إلى تقرير أمرين أولهما أن العبد يكسب أفعاله بإرادته وقدرته ما هو وسيلة لسعادته وثانيهما أن قدرة الله هي مرجع لجميع الكائنات وأن من آثارها ما يحول بين العبد وبين إنفاذ ما يريده وأنه لا شئ سواها يمكن له أن يمد العبد بالمعونة فيما لم يبلغ كسبه» ([19]).
وفي الصفات التي يجب الاعتقاد بها يقول: «ومن الصفات ما جاء ذكره على لسان الشرع ولا يحيله العقل إذا حمل على ما يليق بواجب الوجود، ولكن لا يهتدي إليه النظر وحده ويجب الاعتقاد بأنه (جل شأنه) متصف بها اتباعًا لما قرره الشرع وتصديقًا لما أخبر به» ([20]).
ويضيف الإمام في موضع آخر: «إن العقل البشري وحده ليس في استطاعته أن يبلغ بصاحبه ما فيه سعادته في هذه الحياة اللهم إلا قليل ممن لم يعرفهم الزمن... وليست عقول الناس سواء في معرفة الله تعالى ولا في معرفة حياة بعد هذه الحياة، فهم وإن اتفقوا في الخضوع لقوة أسمى من قواهم وشعر معظمهم بيوم بعد هذا اليوم ولكن أفسدت الوثنية عقولهم وانحرفت عن مسلك السعادة فليس في سعة العقل الإنساني في الأفراد كافة أن يعرف من الله ما يجب أن يعرف ولا أن يفهم من الحياة الأخرى ما ينبغي أن يفهم ولا أن يقرر لكل نوع من الأعمال جزاءه في تلك الدار الآخرة» ([21]).
ويعترف الإمام بقصور العقل البشري قائلاً: «لهذا كله كان العقل البشري محتاجًا في قيادة القوى الإدراكية والبدنية إلى ما هو خير له في الحياتين إلى معين يستعين به في تحديد أحكام الأعمال وتعيين الوجه في الاعتقاد بصفات الألوهية ومعرفة ما ينبغي أن يعرف من أحوال الآخرة. ولا يكون لهذا المعين سلطان على نفسه حتى يكون من جنسه ليفهم منه أو عنه ما يقول وحتى يكون ممتازًا على سائر الأفراد بأمر فائق على ما عرف في العادة وما عرف في سنة الخليقة ويكون بذلك مبرهنًا على أنه يتكلم عن الله الذي يعلم مصالح العباد على ما هي عليه، ويعلم صفاته الكمالية وما ينبغي أن يعرف منها والحياة الآخرة وما أُعِدَّ فيها فيكون الفهم عنه والثقة بأنه يتكلم عن العليم الخبير معينًا للعقل على ضبط ما تشتت عليه أو إدراك ما ضعف عن إدراكه وذلك المعين هو النبي» ([22]).
ومما لا ريب فيه أن النبي لا يُقصَد به النبي كبشر وإنما النبي بما يوحى إليه من قرآن وما ينطق من سنة.
ويبدو جليًّا المنطق العقليّ واضحًا في منهج الإمام محمد عبده في التفسير، فالإمام محمد عبده وإن أخذ بالمنهج العقليّ فإنه لم يذهب إلى ما ذهب إليه المعتزلة من استخدام التأويل لخدمة أفكارهم وتطويع النصوص القاطعة الدلالة لإخراجها من دلالتها الصريحة إلى ما يتفق مع آرائهم ونزعتهم العقليّة، أما الإمام فكان واضحًا بضرورة الوقوف عند ما لا يستوعبه العقل البشري فيقول صراحة: «إننا إذا وجدنا أنفسنا إزاء نص يوهم ظاهره شيئًا من التشبيه فيجب على كل حال أن نفسره متجنبين المعنى الظاهر، وعلينا أن نسلك أحد طريقين فإما أن نفوض الأمر إلى الله في معرفة النص وهذا يفيد التوقف عن التأويل مع الاعتقاد بأن المعنى الظاهر ليس هو المقصود وإما أن نؤله تأويلاً يستند إلى قرائن مقبوله» ([23]).
وحتى حين يرى الإمام إمكانية التأويل فإنه لا يخضعه لسلطان العقل وحده أسوة بما فعل المعتزلة وأصحاب مدرسة العقل المتقدمين بل يخضعه لضوابط موضوعية متمثلة في الالتزام بقواعد اللغة وأحكامها فيقول: «وطبيعي أن يجري التأويل وفاقًا لقواعد اللغة وأحكامها فإن استعمال اللغة لا ينحصر في الحقيقة ولئن انحصر فيها فوضع اللغة (لا تراعى فيه الموجودات بكنهها الحقيقي)».
وهو ينتقد بشدة قدامى المفسرين الذين يشتطون في تفسيرهم وكما يقول: «يجترئون على الغيب فيذكرون من شئونه ما استأثر الله بعلمه ثم يخترعون من الأحاديث ما يسند أوهامهم وينسبون إلى السلف ما يظنون أنه يُقوي مزاعمهم» ([24]).
ومع ذلك انتقد البعض مدرسة الإمام محمد عبده ومَن سبقوه كالأفغاني وانتهى ([25]) إلى أن هذه المدرسة هي من أكثر المدارس العقلانية المعاصرة تأثرًا بالمعتزلة. ويمكن تلخيص فكرة هذه المدرسة ومنهجها -من وجهة نظرهم- فيما يلي:
أولاً: أنها أعطت العقل أكثر من حقه فقدمته على الوحي وفسرت به القرآن وأخذت به عند معارضة الأحاديث الصحيحة.
ثانيًا: تأويل حقائق الدين ومسائله بما لا يعارض العقل من جهة ولا يعارض النظريات العلمية الغربية من جهة أخرى.
وبِناءً على هذا أوَّلوا المعجزات والخوارق وأنكروا بعضها.
ثالثًا: تبرير الحضارة الغربية والثناء عليها ومجاراتها ولو على حساب جوانب من العقيدة والدين. وهذا مَهَّد السبيل بدوره لسيطرة كثير من الأفكار والتقاليد الغربية في السياسة والمجتمع.
أما تأثرهم بالاعتزال فهو في جوانب، منها ([26]):
- إنكار كثير من الأحاديث التي لا يقبلها العقل.
- إنكار بعض المعجزات ورد بعضها.
- عدم تعديل الصحابة كلهم وربما تنقص بعضهم عددًا من صحابة رسول الله (صلى الله عليه وسلم).
- تحكيمهم العقل فيما يعارض الشرع.
- إنكار بعض الغيبيات أو تأويلها كالجن والسحر وغيرها، كما سبق بيان ذلك.
ذكر الأستاذ أنور الجندي هذه المدرسة وأثرها في قوله: ([27]) «إذا كان جمال الدين هو أول من فتح باب المنطق والفلسفة في الفكر العربي الحديث بحسبانه طريقًا إلى الدفاع عن الإسلام في مواجهة الفلسفات الحديثة، على نفس المنهج الذي اتخذه المعتزلة، فإن محمد عبده هو الذي عمَّق هذا الاتجاه حتى أطلق عليهما: اسم (معتزلة العصر الحديث) ».
وقال اللورد كرومر في كتابه «مصر الحديثة»: «إن محمد عبده كان مؤسسًا لمدرسة فكرية حديثة، قريبة الشبه من تلك التي أسسها السيد أحمد خان في الهند مؤسس جامعة عليكرة».
ونحن لا نتفق مع الرأي السابق، خاصة أن ما عرضناه من فكر الإمام وأقواله يوهن من صحة هذا الرأي على إطلاقه وإن كان للإمام محمد عبده تأويل خاص في مسألة الجن أو في بعض المسائل إنَّما ذلك لا يمس بجوهر فكره الصريح ودعوته إلى احترام العقل والوقوف به عند حدود معينة، ولدينا أن الإمام محمد عبده مؤسس مدرسة العقل في العصر الحديث، بيّنا حدود اتفاقه واختلافه مع منهج المعتزلة والتطور الذي أحدثه في مضمون مدرسة العقل والمحتوى الفكري لها بل والأصول العامة التي قامت عليها بقدر يتفق مع موضوع هذه الدراسة.
[HR][/HR]
المراجع
([1]) راجع: محمد العبده وطارق عبد الحليم «المعتزلة بين القديم والحديث»، الطبعة الأولى 1987، دار الأرقم، برمنجهام، ص 127 وما بعدها. وتذهب جل الدراسات التي تتهم جمال الدين الأفغاني بأنه من أعداء الإسلام إلى أنه محسوب على الماسونية وأنه إيراني المنشأ تربى في أحضان الرافضية وأنه أسس أكبر محافل ماسونية في الشرق. ونحن هنا لسنا في مجال التعقيب على هذا الكلام أو الرد عليه بقدر تناولنا لكون الأفغاني أحد الذين أعادوا تأسيس مدرسة العقل في العصر الحديث. الواقع أيضًا أن الدراسات لم تُبنَ على أسس موضوعية ودراسات متكاملة لفكر الأفغاني بل هي تقوم على انتزاع بعض العبارات واستخلاص بعض الأفكار من سياقات محددة لتؤكد مصداقية رأيها دون دراسة شاملة ومتعمقة لفكر الرجل، فضلاً عن أنه لا يمكن إغفال استنادها إلى الكثير من المصادر التي كانت لا تعارض الأفغاني فحسب بل تعارض المنهج العقلي كلية ومِنْ ثَمَّ فهي تحاول النيل من أنصاره فإن لم يسعفها النقاش العقلي والعلمي لجأت إلى التجريح والرمي بالنقائص والعداوة للدين، وهو للأسف منهج ما زال سائدًا لدى كثير من الإسلاميين بل المثقفين العرب وهو سلوك ثقافي واجتماعي يحتاج إلى مراجعة فإثارة العواطف والنعرات الدينية لم تعد تكفي وحدها في مجال المناقشة والمجادلات الفكرية، وتجييش العاطفة لن يُسكِت أنوار العقول وألسنة البحث العلمي والاجتهاد حتى ولو لَمْ يَكُنْ الصواب في جانبها.
(1) الدهريين هم أنصار نظرية النشوء والارتقاء وإنكار الخالق والدعوة إلى ان الكون خلق بالمصادفة.
([3]) راجع: دكتور زاهد روسان منهج الأفغاني العقلي في دفاعه عن الإسلام مجلة جامعة دمشق المجلد 24 العدد الأول والثاني 2008.
([4]) راجع: جمال الدين الأفغاني الرد على الدهريين، عرَّبه محمد عبده، ط الأولى، القاهرة مكتبة الخانجي 1955 ص 78 وما بعدها.
([5]) راجع: منهج الأفغاني، المرجع السابق، ص 28.
([6]) انظر دكتور عثمان أمين مؤلفه الرائع رائد الفكر المصري الإمام محمد عبده منشورات المجلس الأعلى للثقافة ط2 1996 وانظر للمقدمة الرائعة للدكتور عاطف العراقي التي أشار فيها إلى اختلافه مع الباحث في كون الإمام محمد عبده فيلسوفًا إلا أنه أشار إلى أنه رائد للتجديد الفكري والديني في عصره وأنه بذل جهدًا وجهدًا كبيرًا وخاض معارك فكرية ودخل في صميم المشكلات الاجتماعية والفكرية....................
([7]) راجع: د محمد فوزي عبدالمقصود الفكر التربوي للأستاذ الإمام محمد عبده وآلياته في تطوير التعليم وتناول فيه اهتمامات الإمام في إصلاح التعليم الأزهري والتعليم العادي من خلال دار العلوم فضلاً عن تطوير الدعوة والدعاة.
([8]) راجع: دكتور عثمان أمين، المرجع السابق، ص 74 وما بعدها.
([9]) الإمام محمد عبده الأعمال الكاملة د. محمد عمارة- رسالة التوحيد الجزء الثالث ص374 وما بعدها.
([10]) راجع: الأعمال الكاملة الجزء الثالث ص 301 و302 وما بعدها.
([11]) راجع: الأعمال الكاملة، الجزء الثالث، ص 302.
([12]) سورة الغاشية الآية 22.
([13]) راجع:، المرجع السابق، ص304
([14]) المرجع السابق، ص307 و308.
([15]) المرجع السابق، ص 309.
([16]) الأعمال الكاملة رسالة التوحيد، المرجع السابق، ص379.
([17]) الأعمال الكاملة الجزء الثالث، المرجع السابق، ص 395 و396.
([18]) الأعمال الكاملة الجزء الثالث المرجع السابق، ص 416 و417.
([19]) الأعمال الكاملة، المرجع السابق، ص 403 و404.
([20]) المرجع السابق، الأعمال الكاملة الجزء الثالث رسالة التوحيد ص 393.
([21]) مرجع سابق الأعمال الكاملة جزء 3 ص 411 وما بعدها.
([22]) المرجع السابق، الأعمال الكاملة جزء 3 ص 314.
([23]) مشار إليه لدى دكتور أمين عثمان، المرجع السابق، ص 156 وما بعدها.
([24]) راجع: دكتور أمين عثمان، المرجع السابق، ص 156 وما بعدها.
([25]) محمد أحمد الزهراني، «الفكر الاعتزالي وأثره في الفكر الإسلامي المعاصر»، [5/ 8] مقال رائع، ص 10، منشور بتاريخ الثلاثاء 22 رجب 1433 الموافق 12 يونيو
http://www.islamtoday.net/bohooth/artshow 2012.
([26]) انظر العلمانية للدكتور سفر الحوالي، ص577.
([27]) انظر على سبيل المثال: العصريون معتزلة اليوم. يوسف كمال ص114، الطبعة الثانية 1410هـ، دار الوفاء. اليقظة الإسلامية أنور الجندي، ص132. وكذلك لمزيد حول هذا الاتجاه: تجديد الفكر الإسلامي للأستاذ جمال سلطان، ص35 وما بعدها. مشار إليهما في مرجع (العصريون معتزلة اليوم).
ولَمْ يَكُنْ هذا الاستبداد السياسيّ بعيدًا عن الاستبداد الديني فالاستبداد الديني هو أحد أهم أدوات الحكام المستبدين للسيطرة والتحكم والتمكين السياسيّ بتخدير العقول تحت شعار طاعة أولي الأمر الذين هم أساس الاستبداد بكل صوره، وعلى ذلك فإن أفكار المدرسة العقليّة الحديثة وُجدت في مناخ قريب من المعترك السياسيّ الذي ولد فيه فكر المعتزلة ولا يمكن تنحية هذا الأثر على الأفكار تمامًا فالأفكار تولد لخدمة البشر وليس من قبيل الترف الفكري والعقلى.
وتحت تأثير هذه العوامل يمكن القول إن المجددين في فكر المعتزلة أنصار المدرسة العقليّة تعاملوا مع هذا الموروث أو التراث بطريقة أو منهج انتقائي فأخذوا منه ما يتفق وحاجتهم في القضايا المعاصرة فلم يشغلهم مثلاً قضية مثل قضية خلق القرآن رغم الضجة الضخمة التي صاحبتها في نشأتها وما أدت إليه على نحو ما سلف من فُرقة وصلت إلى حد التكفير والسجن والتعذيب كما لم يهتموا بقضية منزلة مرتكب الكبيرة بل كان تركيزهم في كتابتهم على العقل وأعمالة والاختيار والعدالة وهي قضايا تفضي في النهاية إلى خدمة واقع المسلمين وتحاول تغييره وترسيخ مفهوم التحرر السياسيّ، هنا تختفي المفاهيم والمعتقدات التعبدية ولو نسبيًّا والتي تتعلق بباب العبادات وصفات الخالق وماهية القرآن لتظهر محلها وبشدة على السطح الكتابات والأفكار التي تدعو إلى إعمال العقل والحرية والعدالة والتقارب بين الأديان.
فالأصول الخمسة التي قام على أساسها فكر المعتزلة لم تعد لها جميعًا ذات الأهمية بل كان هناك تفاوت فبعضها يبدو أكثر أهمية من البعض الآخر، وتأتي هذه الأهمية بحكم الحاجة إليها في هذا العصر وظروفه والمناخ الاجتماعي والسياسيّ السائد في هذه اللحظة، فالإنسان سيكون مختارًا ومسئولاً عن أفعاله لا ليحاسَب على أعماله في الآخرة فقط بل ليصنع مستقبله في الدنيا بإرادته دون أن يخضع لمبدأ الجبر فينكس الرأس ويقبل بما يمليه عليه الحكام والمستعمرون، والعدل والحرية قيم ومبادئ مطلوبة لتحقيق المساواة بين الناس في الحقوق والواجبات ولمقاومة الاستعمار وانتزاع الحقوق بالقوة لو لزم الأمر.
يمكن القول إن المفاهيم التي بُنيت عليها مدرسة العقل لدى أنصار الفكر الاعتزالي انتقلت من البيئة التعبدية الحاضنة لها لتتحول إلى بيئة المعاملات ولم يعد الهاجس والباعث لنشر هذه الأفكار هو تأثيرها على المسلك الديني وأثرها في الحساب والثواب والعقاب وطاعة الخالق بقدر ما أصبحت الحاجة إليها في الحياة والواقع الذي يعيشه المسلمون، كما أن المستهدف منها هو أثرها على الحياة اليومية والعلاقة بين الحاكم والمحكوم والمسلم والغير من أبناء الديانات الأخرى والعلاقة بينهما وحدودها.
إذن، يمكن القول إن أفكار المعتزلة انتقلت من أفكاروقيم تحكم العلاقة بين الفرد وخالقه إلى قيم تحكم العلاقة بين الفرد وحاكمه وبين الفرد والفرد، انتقلت من العلاقة بين الفرد وعالم الثواب والعقاب إلى الفرد ودنياه وحاضره، أو انتقلت من الغيب المتناهي إلى الحاضر الملموس.
ورغم أن هذا التيار بدأ في كتابته دائمًا محاولاً إثبات أن هذه القيم مصدرها الدين الإسلاميّ الحنيف، وأنه وإن كان الغرب عرفها فليس معنى ذلك أنه يحتكرها، فإنه لم يسلم من النقد والتجريح، فالبعض رأى أن هذه الأفكارمن تأثير الثورات الفرنسية وما أحدثته من تغيير في المفاهيم فقيم العدل والحرية والمساواة بمفهومها الغربي انتقلت إلى الشرق إثر البعثات التي أُرْسِلت إلى الخارج ومع المبتعثين أمثال رفاعة الطهطاوي وخير الدين التونسي ثم جاء دور جمال الدين الأفغاني في نشرها، والأخير تعرض إلى هجمة شرسة من العديد من الكتابات والتي خلصت إلى أنه مجرد ماسوني مارق هدفه تدمير الإسلام وتأثر به تلميذه الإمام محمد عبده ([1]).
ويمكن القول إن ملامح المدرسة العقليّة ظهرت بشدة لدى جمال الدين الأفغاني لدى رده على الدهريين([2]) من جهة ومن جهة أخرى عند رده على الفيلسوف والمستشرق رينان ([3]).
فلدى رده على الدهريين يقول الأفغاني «إن الإسلام يتميز بأنه صقل العقول بصقال التوحيد وتطهيرها من لوث الأوهام، وإن من أصوله الاعتقاد بالله، وبأنه متفرد بتصريف الأكوان متوحد في خلق الأفعال ومن الواجب طرح كل ظن في إنسان أو جماد يكون له في الكون أثر من نفع أو ضر أو إعطاء أو منع أو إعزاز أو إذلال أو نحو ذلك من خرافات كل واحدة منها كافية في إعمال العقول أو طمس نورها».
ويضيف في موضع آخر: «إن الدين الإسلاميّ فتح أبواب الشرف للأنفس كلها وأثبت لكل نفس الحق في طلب أيّ فضيلة ومحق امتياز الأجناس وتفاضل الأصناف وقرر الميزات البشرية على أساس الكمال العقليّ والنفسي فالناس إنما يتفاضلون بالعقل والفضيلة لا بإيّ شيء آخر ولا نجد من الأديان ما يجمع أطراف هذه القاعدة». كما يضيف: «إن الدين الإسلاميّ يكاد يكون متفردًا من بين الأديان بتقريع المعتقدين بلا دليل وتوبيخ المتبعين للظنون فهو يطالب المتدينين بأن يأخذوا بالبرهان في أصول دينهم وطالما خاطب العقل وطالما حاكَم العقل وتنطق نصوصه بأن السعادة من نتائج العقل والبصيرة وأن الشقاء والضلالة من لواحق الغفلة وإهمال العقل وانطفاء نور البصيرة» ([4]).
ولم يختلف المنهج العقليّ الذي برز في الرد على الدهريين في رده على رينان والذي هاجم الإسلام متهمًا إيّاه باللاعقلانية وعدم القدرة على استيعاب الحياة بما فيها من ثقافة وعلم فقد ذهب إلى القول في كتابه المشهور «ابن رشد والرشدية» إلى أن الإسلام لم يستطِع أن يتحول وينتحل أيّ عنصر من الحياة المدنية أو العلمانية فقد نزع من جوفه كل أصل من الثقافة العقليّة. ورد عليه الأفغاني ردًّا كشف الخلل المنهجي الذي وقع فيه رينان عندما لم يميز بين الإسلام كدين خالص والصورة التي انتشر بها الإسلام في العالم، أيْ إن هناك سوء فهم للإسلام حصل من قِبَل المستشرقين وإن رينان نفسه لم يميز بين الإسلام وعادات وسلوك المجتمعات وطبيعة الشعوب التي اعتنقت الإسلام ([5]).
وبعد مرحلة الأفغاني ظهر تلميذه النجيب الإمام محمد عبده، وبدا محمد عبده مخلصًا للأفكار والمبادئ التي نقلها عن أستاذه جمال الدين الأفغاني، لكن هناك أمرين يجب التوقف عندهما أولاً ولو أن هناك ترابطًا فكريًّا بين محمد عبده والأفغاني لكن لا يعني ذلك أن الإمام محمد عبده كان امتدادًا للأفغاني، فالواقع أن محمد عبده كان ثمرة أيضًا للمخاض الفكري الذي عاشته مصر قبل ظهور الأفغاني والذي بدأت ملامحه ممثلة في رفاعة الطهطاوي وعلي باشا مبارك وغيرهم فهي البذور الأولى لمدرسة التجديد الفكري والديني التي برزت على يد محمد عبده.. والأمر الثاني أن الأفغاني الذي انتقل من بلد لبلد ومن مكان لآخر لَمْ يَكُنْ بالتأكيد تربطه رابطة ببلد محدد وتجذبه بقوة مثل محمد عبده، فارتباط محمد عبده واستقراره في وطنه مصر جعل جل اهتمامه بإصلاح الأحوال في مصر، لذا فقد تغير الأسلوب وإن لم يتغير المنهج، فجمال الدين الأفغاني الذي كان مهتمًّا بالتأكيد باهتمامات تغلب عليها مقاومة الاستبداد في صورته السياسيّة والدينية وهي مهمة تصلح في كل مكان وزمان فإن محمد عبده انشغل بقضايا وطنه مصر لذلك ركز على مقاومة الاستبداد ولكن من خلال إصلاح أحوال التعليم في مصر فإذا كان يُنظر لمحمد عبده على أنه رائد الفكر المصري الحديث ([6]) فإن البعض يرى أنه رائد من رواد التعليم ([7])، كما أن من المسلم به أنه اهتم بإصلاح القضاء والأوقاف ومِنْ ثَمَّ فقد كان محمد عبده هو المفكر الذي سخر المدرسة العقليّة وأفكارها في خدمة المجتمع وتطويره دون أن يقتصر على مجرد طرح نظري لقضايا جدلية محضة ولعل ذلك يكون أول نقل لمدرسة العقل من التنظير الديني إلى الممارسة الحياتية.
ويبرز المنهج العقليّ للإمام محمد عبده فيما أولاه من اهتمام بعلم المنطق فمنذ بواكيره الأولى وهو طالب في الأزهر كتب مقالاً أشار فيه إلى أهمية علم المنطق، فقال: «إن العلوم المنطقية إنَّما وُضعت لتقويم البراهين وتمييز الأفكار غثها من الثمين وتبين كيف تتركب المقدمات لإنتاج المطلوب... وأيّ مقدمة يصح أن تؤخذ... وأيها يجب أن تُطرح فهذا علم حقيق بأن يتخذ سلمًا لجميع العلوم». وقال أيضًا في ترسيخ المدرسة العقليّة: «إذا لم نصرف الفكر في تقويم البراهين وتسديدها وكيفية الوقوف على الحقائق وتحديدها ففي أيّ شيء نصرفه؟ فإن ضل عنا رشدنا وغاب عنا سدادنا فهل بشيء سوى الدليل نعرفه». وللأمام مجموعة من الدروس في علم المنطق قام بتدريسها لطلاب الأزهر جمعها سعد الدين التفتازاني وسماها «رسالة تهذيب المنطق» ([8]).
ويبدو جليًّا إعلاء قيمة المنهج العقليّ في قوله: «وتآخى الدين والعقل لأول مرة في كتاب مقدس على لسان نبي مرسل بتصريح لا يقبل التأويل وتقرر بين المسلمين كافة إلا من لا ثقة بعقله ولا بدينه. إن من قضايا الدين ما لا يمكن الاعتقاد به إلا من طريق العقل كالعلم بوجود الله وبقدرته على إرسال الرسل وعلمه بما يوحي به إليهم وإرادته لاختصاصهم برسالته وما يتبع ذلك مما يتوقف عليه فهم معنى الرسالة وكالتصديق بالرسالة نفسها، كما أجمعوا على أن الدين إن جاء بشيء قد يعلو على الفهم فلا يمكن أن يأتي بما لا يستحيل عند العقل» ([9]).
ويبرز بوضوح تطور المدرسة العقليّة لدى محمد عبده فانتقال المدرسة العقليّة من الأصول الخمسة لدى المعتزلة إلى الأصول الثمانية لدى الإمام محمد عبده، فالإمام محمد عبده يضع نظرية جديدة ويضع من خلالها أصولاً للإسلام كدين سماوي ويبرز دور العقل في هذه الأصول فهو يعدد هذه الأصول على النحو الآتي:
الأصل الأول النظر العقليّ لتحصيل الإيمان
والأصل الثاني للإسلام تقديم العقل على ظاهر الشرع عند التعارض
والأصل الثالث من أصول الأحكام في الإسلام البعد عن التكفير
الأصل الرابع الاعتبار بسنن الله في الخلق
الأصل الخامس للإسلام قلب السلطة الدينية
الأصل السادس للإسلام حماية الدعوة لمنع الفتنة
الأصل السابع للإسلام مودة المخالفين في العقيدة
الأصل الثامن في الإسلام الجمع بين مصالح الدنيا والآخرة.
وبالنظر والتحليل لهذه الأصول نجد أنها جميعًا تصب في اتجاهين الأول إعلاء قيمة العقل، والثاني العلاقة بين المسلم والحياة، شاملة علاقة المسلم بالمسلم والمسلم بغير المسلم وتحرير المسلمين في حياتهم من السلطة الدينية ومراعاة المصالح التي تكون ضرورية للحياة دون مساس بالآخرة، وهو ما يؤكد وجهة نظرنا عن أن مدرسة العقل انتقلت في العصر الحديث من تسخير العقل في نواحي العقيدة وتحليل صفات الخالق والقضايا الدينية كالعذاب وخلق القرآن إلى تسخير العقل وتوظيفه لخدمة الدين وفهم الدين على أنه في خدمة الحياة ولتحسين صورتها وتحقيق كرامة المسلمين وحريتهم وليس أداة للاستبداد ولا سببًا لمعاداة الغير.
ومن الواضح جدًّا مدى تأثير البيئة التي عاشت فيها كل مدرسة في العصر الذي كانت فيه، كما أنه من الواضح تأثر المدرسة القديمة بالفلسفة اليونانية التي قامت على الغيبيات وتحليل العقل، أمّا مدرسة العقل في العصر الحديث فإنها تأثرت بالظروف السياسيّة والاجتماعية التي يعيشها المسلمون والاحتكاك بغير المسلم، أصبحت هذه القضايا تشغل حيزًا جعل من مناقشتها أصلاً من أصول الدين بحسب مدرسة العقل في العصر الحديث ومؤسسها الحقيقي الإمام محمد عبده.
وإذا أردنا أن نتأكد من الاهتمام بالعقل وحدود دوره نجد الإمام يقول صراحة في الأصل الأول وهو النظر العقليّ في تحصيل الإيمان: «فأول أساس وُضِع عليه الإسلام هو النظر العقليّ، والنظر عنده هو وسيلة الإيمان الصحيح، فقد أقامك منه على سبيل الحجة وقاضاك إلى العقل ومن قاضاك إلى حاكم فقد أذعن إلى سلطته فكيف يمكنه بعد ذلك أن يجور أو يثور عليه. بلغ هذا الأصل بالمسلمين أن قال قائلون من أهل السنة: إن الذي يستقصي جهده في الوصول إلى الحق ثم لم يصل إليه ومات طالبًا غير واقف عند الظن فهو ناجٍ فأيّ سعة لا ينظر إليها الحرج أكمل من هذه السعة؟ ».
وفي الأصل الثاني، الذي هو تقديم العقل على ظاهر الشرع عند التعارض يقول الإمام: «اتفق أهل الملة الإسلاميّة إلا قليلاً ممن لا يُنظر إليه على أنه إذا تعارض العقل والنقل أخذ بما دل عليه العقل، وبقي في النقل طريقان طريق التسليم بصحة المنقول مع الاعتراف بالعجز عن فهمه وتفويض الأمر إلى الله في علمه والطريق الثانية التأويل مع المحافظة على قوانين اللغة حتى يتفق معناه مع ما أثبته العقل وبهذا الأصل الذي قام على الكتاب وصحيح السنة وعمل النبي (صلى الله عليه وسلم) مُهِّدَت بين يدي العقل كل سبيل وأزيلت من سبيله جميع العقبات واتسع له المجال إلى غير حد فماذا عساه يبلغ نظر الفيلسوف حتى يذهب إلى ما هو أبعد من هذا؟ وأيّ فضاء يسع أهل النظر وطلاب العلوم إن لم يسعهم هذا الفضاء؟ إنْ لَمْ يَكُنْ في هذا متسع لهم فلا وسعتهم أرض بجبالها ووهادها ولا سماء بأجرامها وأبعادها» ([10]).
ثم يظهر من تناول باقي الأصول تأثر المدرسة العقليّة بالبيئة التي تعيش فيها من جهة من حيث العلاقات بين الأفراد سواء داخل أمة الإسلام أو بينهم وبين أبناء الديانات السماوية المختلفة فيجعل الأصل الثالث لديه البعد عن التكفير، وهو في هذا الأصل يرفض تكفير المعارضين في الأفكار حتى يصل به القول إلى: «إذا صدر قول من قائل يحتمل الكفر من مائة وجه ويحتمل الإيمان من وجه واحد حُمِل على الإيمان ولا يجوز حمله على الكفر» ([11]).
ثم يجعل من أصول الإسلام الأصل السابع لديه وهو مودة المخالفين في العقيدة، ويشير إلى زواج المسلم من الكتابية وما لها من حقوق ولم يفرق الإسلام بين ما لها من حق وما للزوجة المسلمة.
ويظهر أيضًا أثر البيئة في ذلك الأصل الجديد للمدرسة العقليّة الحديثة. ونعني بالجديد أنه جديد من حيث الإشارة إليه ورفعه في فكر أهل العقل إلى مرتبة الأصل الراسخ من أصول الإسلام ألا وهو الأصل الخامس لدى الإمام وهو قلب السلطة الدينية، وهو يقول فيه «إنه أصل من أصول الإسلام انتقل إليه -وما أجلّه من أصل- قلب السلطة الدينية والإتيان عليها من أساسها». ويضيف: «هدم الإسلام بناء تلك السلطة ومحا أثرها، حتى لم يبقَ لها عند الجمهور من أهله اسم ولا رسم، لم يدع الإسلام لأحد بعد الله ورسوله سلطانًا على عقيدة أحد ولا سيطرة على إيمانه على أن الرسول (صلى الله عليه وسلم) كان مُبَلِّغًا ومُذكرًا لا مهيمنًا ولا مسيطرًا، قال (تعالى) {فذكر إنَّما أنت مذكر لست عليهم بمصيطر} ([12])، ولم يجعل لأحد من أهله أن يحل ولا أن يربط لا في الأرض ولا في السماء بل الإيمان يعتق المؤمن من كل رقيب عليه فما بينه وبين الله سوى الله وحده ويرفع عنه كل رق إلا العبودية لله وحده([13]).
وهكذا تدعو المدرسة العقليّة إلى التحرر من كل سلطة دينية تجعل من نفسها حَكمًا وتضع أحكامها على الناس.
ثم يتناول الإمام السلطان في الإسلام فيقرر أن الخليفة عند المسلمين ليس بمعصوم ولا هو مهبط الوحي ولا من حقه الاستئثار بتفسير الكتاب والسنة... ويضيف أنه مطاع ما دام على المحجة ونهج الكتاب والسنة والمسلمون له بالمرصاد فإذا انحرف عن المنهج أقاموه عليه وإذا اعوج قوموه بالنصيحة والإعذار إليه ولا طاعة لمخلوق في معصية الخالق فإذا فارق الكتاب والسنة في عمله وجب عليهم أن يستبدلوا به غيره ما لَمْ يَكُنْ في استبداله مفسدة تفوق المصلحة فالأمة -أو نائب الأمة- هو الذي ينصبه والأمة هي صاحبة الحق في السيطرة عليه وهي التي تخلعه متى رأت ذلك من مصلحتها فهو حاكم مدني من جميع الوجوه ([14]).
وهكذا نلمح في هذا الأصل أن الإمام نفى السلطة الدينية عن الحاكم والخليفة وينتهي إلى أن الحاكم هو حاكم مدني بكل الوجوه، كما أنه يقرر مبدأ سيادة الأمة. وغني عن البيان أن ذلك كان ردًّا على ما رسخته دولة الخلافة العثمانية من استبداد للحكم باسم الولاية الدينية.
إذن، فالمدرسة العقليّة على يد الإمام محمد عبده انتقلت من حيز العبادات والجنة والنار وخلق القرآن إلى حيز المعاملات لتستخدم العقل في تحرير المسلمين من سيطرة رجال الدين ورجال السلطة السياسيّة والدعوة إلى التلقي بالعقل والتعامل مع الموروث بالعقل.
ويؤكد الإمام ذلك مختتمًا قوله: «ويقولون إنْ لَمْ يَكُنْ للخليفة ذلك السلطان الديني أفلا يكون للقاضي أو للمفتي أو شيخ الإسلام؟ وأقول إن الإسلام لم يجعل لهؤلاء أدنى سلطة مدنية قررها الشرع الإسلاميّ ولا يسوغ لواحد منهم أن يدعي حق السيطرة على إيمان أحد أو عبادته لربه أو ينازعه في طريق نظره» ([15]).
وهكذا من الواضح مدى التطور الذي لَحِقَ بمدرسة العقل في العصر الحديث فهي لم تعد مشغولة بكثير من القضايا الدينية البحتة بقدر ما أصبح هدفها تحرير عقل المسلم من ربقة الموروث وقيد الفهم الخاطئ للنص والادعاء بعدم قابليته للمراجعة والتمحيص والتحقيق فضلاً عن تحريره من سيطرة رجال الدين باسم الدين وسيطرة رجال السلطة الزمنية باسم الدين والادعاء بأن الخلافة هي خلافة في الشرع وفي الدين والدنيا وأن الطاعة العمياء من موجباتها ولوازمها، فنجد أن الإمام يشير بكل صراحة إلى أن الحاكم في الإسلام هو حاكم مدني وإن التزم بأصول الدين والكتاب والسنة وإن كان مجتهدًا أو فقيهًا. ثم يقرر في المقابل مبدأ سيادة الأمة على أساس مدى التزام ولي الأمر أو الحاكم بالكتاب والسنة. وهو يشير إلى أن هذه السيادة أو السلطة التي للأمة قد تكون لمن ينوب عنها، ولا شك أنّه كان يقصد المجالس النيابية وليدة التطور السياسيّ والقانوني المنظم لشئون الحكم في العصر الحديث.
الإمام محمد عبده والمعتزلة
وإذا كان الأمر كذلك بالنسبة لأصول الإسلام لدى مدرسة العقل في العصر الحديث وهو تأثرها بالبيئة الحاضنة لأفكارها فإنه حتى فيما يتعلق بالمذهب العقليّ نفسه ثمة خلاف واضح في حدود التسليم للعقل وإعمال هذا العقل.
فتأييد الإمام محمد عبده للمدرسة العقليّة بمفاهيمها لدى المعتزلة لَمْ يَكُنْ كاملاً ولا تسليمًا بكل ما قالوه فيقول: «تفرقت السبل بأتباع واصل وتناولوا من كتب اليونان ما لاق بعقولهم وظنوا من التقوى أن تؤيد العقائد بما أثبته العلم دون تفرقة بين ما كان منه راجعًا إلى أوليات العقل وما كان سرابًا في نظر الوهم» ([16]). فالإمام يضع لنفسه مدرسة مستقلة بذاتها يبرز العقل فيها وإن كان مقدمًا لكن في حدود وبشروط.
والإمام يختلف مع غلاة المعتزلة إذ يضع حدودًا للعقل البشري وذلك في معرض الكلام عن صفات الله (عز وجل) تحت عنوان «كلام في الصفات إجمالاً» فيقول (رحمة الله عليه): »... اشتغل الإنسان بتحصيل العلم بأقرب الأشياء إليه وهي نفسه وأراد أن يعرف بعض عوارضها وهل هي عرض أم جوهر؟ هل هي قبل الجسم؟ أم بعده؟ هل هي فيه؟ أم مجردة منه؟ كل هذه الصفات لم يصل العقل إلى إثبات شيء منها يمكن الاتفاق عليه وإنّما مبلغ علمه أنه عَرَفَ أنه موجود حي له شعور وإرادة وكل ما أحاط به بعد ذلك من الحقائق الثابتة فهو راجع إلى تلك العوارض التي وصل إليها ببديهيته، أمّا كنه شيء من ذلك وكيفية اتصافه ببعض صفاته فهو مجهول عنده ولا يجد سبيلاً للعلم به، هذا حال العقل الإنساني مع ما يساويه في الوجود أو ينحط عنه بل وكذلك شأنه فيما يظن من الأفعال أنه صادر عنه كالفكر وارتباطه بالحركة والنطق فما يكون من أمره بالنسبة إلى ذلك الوجود الأعلى؟ ماذا يكون اندهاشه بل انقطاعه (الانقطاع بمعنى العجز) إذا وجه نظره إلى ما لا يتناهى من الوجود الأزلي الأبدي.... فالذي يوجبه علينا الإيمان هو أن نعلم أنه موجود لا يشبه الكائنات، أزلي، أبدي حي، عالم، مُريد، قادر، متفرد في وجوده وصفاته وفي صنع خلقه وأنه متكلم سميع بصير وما يتبع ذلك من الصفات التي جاء الشرع (نرى أن المقصود بالشرع هنا هو النص) بإطلاق أسمائها عليه، أما كون الصفات زائدة على الذات وكون الكلام صفة غير ما اشتمل عليه العلم من معاني الكتب السماوية وكون السمع والبصر غير العلم بالمسموعات والمبصرات ونحو ذلك من الشئون التي اختلف عليها النظار وتفرقت فيها المذاهب فمما لا يجوز الخوض فيه، إذ لا يمكن لعقول البشر أن تصل إليه والاستدلال على شيء منه بالألفاظ الواردة ضعف في العقل وتغرير بالشرع لأن استعمال اللغة لا ينحصر في الحقيقة ولئن انحصر فيها فوضع اللغة لا تراعي فيه الموجودات بكنهها الحقيقي وإنّما تلك مذاهب فلسفة، إن لم يضل فيها أمثلهم فلم يهتدِ فيها فريق إلى رأي مقنع، فما علينا إلا الوقوف عند ما تبلغه عقولنا وأن نسأل الله أن يغفر لمن آمن به وبما جاء به رسله ممن تقدمنا» ([17]).
وهكذا يبدو جليًّا أن العقل البشري عند الإمام محمد عبده له حدود يقف عندها ولا يستطيع الإدراك بعدها وأنه يتعين التسليم بما ورد بشأنها من شرع الله على حد قول الإمام. ونرى أن ما أشار إليه بلفظ الشرع إنَّما يقصد ما ورد به النص القطعي الثابت بيقين، القطعي أيضًا في دلالته.
ليس هذا فحسب بل خالف أيضًا المعتزلة الأوائل في تقريره المعجزات للرسول فيقول: «فمتى ظهرت المعجزة وهي مما لا يقدر عليه البشر وقارن ظهورها دعوى النبوة علم بالضرورة أن الله ما أظهرها إلا تصديقًا لمن ظهرت على يده وإن كان هذا العلم قد يقارنه الإنكار مكابرة» ([18]).
وكان موقفه من الجبر والاختيار وقدرة العبد على خلق أفعاله موقفًا وسطًا، خلاصته أن العبد يريد وأن خلق الفعل والتمكين له من الله فيقول: «كما يشهد سليم العقل والحواس من نفسه أنه موجود ولا يحتاج في ذلك إلى دليل يهديه أو معلم يرشده كذلك يشهد أنه مدرك لأعماله الاختيارية يزن نتائجها بعقله ويقدرها بإرادته ثم يصدرها بقدرة ما فيه، ويعد إنكار شيء من ذلك مساويًا لإنكار وجوده في مجافاته لبداهة العقل... ومع ذلك فقد يريد إرضاء خليل فيغضبه وقد يطلب كسب رزق فيفوته وربما سعى إلى منجاة فسقط في مهلكة... ويتجه من ذلك إلى أن في الكون قوة أسمى من أن تحيط بها قدرته وأن وراء تدبيره سلطانًا لا تصل إليه سلطته».
وينتهي إلى القول: «على هذا قامت الشرائع وبه استقامت التكاليف ومن أنكر شيئًا منه فقد أنكر مكان الإيمان من نفسه وهو عقله الذي شرفه الله بالخطاب في أوامره ونواهيه».
وينتقد القائلين بالاختيار المطلق والجبر المطلق بقوله: «وقد خاض فيه الغالون من كل ملة خصوصًا المسيحيين والمسلمين ثم لم يزالوا بعد طول الجدال وقوفًا حيث ابتدأوا وغاية ما فعلوا أن فرقوا وشتتوا فمنهم القائل بسلطة العبد على جميع أفعاله واستقلاله المطلق (المعتزلة) وهو غرور ظاهر ومنهم من قال بالجبر وصرح به (وهم الجبرية) ومنهم من قال به وتبرأ من اسمه (الأشعرية الذين قالوا إن العبد يكسب أفعاله ثم انتهوا في النهاية إلى ما انتهى إليه أهل الجبر) وهو هدم للشريعة ومحو للتكاليف وإبطال لحكم العقل البديهي وهو عماد الإيمان». وينهي القضية في صراحة ووضوح فينتهي إلى تقرير أمرين أولهما أن العبد يكسب أفعاله بإرادته وقدرته ما هو وسيلة لسعادته وثانيهما أن قدرة الله هي مرجع لجميع الكائنات وأن من آثارها ما يحول بين العبد وبين إنفاذ ما يريده وأنه لا شئ سواها يمكن له أن يمد العبد بالمعونة فيما لم يبلغ كسبه» ([19]).
وفي الصفات التي يجب الاعتقاد بها يقول: «ومن الصفات ما جاء ذكره على لسان الشرع ولا يحيله العقل إذا حمل على ما يليق بواجب الوجود، ولكن لا يهتدي إليه النظر وحده ويجب الاعتقاد بأنه (جل شأنه) متصف بها اتباعًا لما قرره الشرع وتصديقًا لما أخبر به» ([20]).
ويضيف الإمام في موضع آخر: «إن العقل البشري وحده ليس في استطاعته أن يبلغ بصاحبه ما فيه سعادته في هذه الحياة اللهم إلا قليل ممن لم يعرفهم الزمن... وليست عقول الناس سواء في معرفة الله تعالى ولا في معرفة حياة بعد هذه الحياة، فهم وإن اتفقوا في الخضوع لقوة أسمى من قواهم وشعر معظمهم بيوم بعد هذا اليوم ولكن أفسدت الوثنية عقولهم وانحرفت عن مسلك السعادة فليس في سعة العقل الإنساني في الأفراد كافة أن يعرف من الله ما يجب أن يعرف ولا أن يفهم من الحياة الأخرى ما ينبغي أن يفهم ولا أن يقرر لكل نوع من الأعمال جزاءه في تلك الدار الآخرة» ([21]).
ويعترف الإمام بقصور العقل البشري قائلاً: «لهذا كله كان العقل البشري محتاجًا في قيادة القوى الإدراكية والبدنية إلى ما هو خير له في الحياتين إلى معين يستعين به في تحديد أحكام الأعمال وتعيين الوجه في الاعتقاد بصفات الألوهية ومعرفة ما ينبغي أن يعرف من أحوال الآخرة. ولا يكون لهذا المعين سلطان على نفسه حتى يكون من جنسه ليفهم منه أو عنه ما يقول وحتى يكون ممتازًا على سائر الأفراد بأمر فائق على ما عرف في العادة وما عرف في سنة الخليقة ويكون بذلك مبرهنًا على أنه يتكلم عن الله الذي يعلم مصالح العباد على ما هي عليه، ويعلم صفاته الكمالية وما ينبغي أن يعرف منها والحياة الآخرة وما أُعِدَّ فيها فيكون الفهم عنه والثقة بأنه يتكلم عن العليم الخبير معينًا للعقل على ضبط ما تشتت عليه أو إدراك ما ضعف عن إدراكه وذلك المعين هو النبي» ([22]).
ومما لا ريب فيه أن النبي لا يُقصَد به النبي كبشر وإنما النبي بما يوحى إليه من قرآن وما ينطق من سنة.
ويبدو جليًّا المنطق العقليّ واضحًا في منهج الإمام محمد عبده في التفسير، فالإمام محمد عبده وإن أخذ بالمنهج العقليّ فإنه لم يذهب إلى ما ذهب إليه المعتزلة من استخدام التأويل لخدمة أفكارهم وتطويع النصوص القاطعة الدلالة لإخراجها من دلالتها الصريحة إلى ما يتفق مع آرائهم ونزعتهم العقليّة، أما الإمام فكان واضحًا بضرورة الوقوف عند ما لا يستوعبه العقل البشري فيقول صراحة: «إننا إذا وجدنا أنفسنا إزاء نص يوهم ظاهره شيئًا من التشبيه فيجب على كل حال أن نفسره متجنبين المعنى الظاهر، وعلينا أن نسلك أحد طريقين فإما أن نفوض الأمر إلى الله في معرفة النص وهذا يفيد التوقف عن التأويل مع الاعتقاد بأن المعنى الظاهر ليس هو المقصود وإما أن نؤله تأويلاً يستند إلى قرائن مقبوله» ([23]).
وحتى حين يرى الإمام إمكانية التأويل فإنه لا يخضعه لسلطان العقل وحده أسوة بما فعل المعتزلة وأصحاب مدرسة العقل المتقدمين بل يخضعه لضوابط موضوعية متمثلة في الالتزام بقواعد اللغة وأحكامها فيقول: «وطبيعي أن يجري التأويل وفاقًا لقواعد اللغة وأحكامها فإن استعمال اللغة لا ينحصر في الحقيقة ولئن انحصر فيها فوضع اللغة (لا تراعى فيه الموجودات بكنهها الحقيقي)».
وهو ينتقد بشدة قدامى المفسرين الذين يشتطون في تفسيرهم وكما يقول: «يجترئون على الغيب فيذكرون من شئونه ما استأثر الله بعلمه ثم يخترعون من الأحاديث ما يسند أوهامهم وينسبون إلى السلف ما يظنون أنه يُقوي مزاعمهم» ([24]).
ومع ذلك انتقد البعض مدرسة الإمام محمد عبده ومَن سبقوه كالأفغاني وانتهى ([25]) إلى أن هذه المدرسة هي من أكثر المدارس العقلانية المعاصرة تأثرًا بالمعتزلة. ويمكن تلخيص فكرة هذه المدرسة ومنهجها -من وجهة نظرهم- فيما يلي:
أولاً: أنها أعطت العقل أكثر من حقه فقدمته على الوحي وفسرت به القرآن وأخذت به عند معارضة الأحاديث الصحيحة.
ثانيًا: تأويل حقائق الدين ومسائله بما لا يعارض العقل من جهة ولا يعارض النظريات العلمية الغربية من جهة أخرى.
وبِناءً على هذا أوَّلوا المعجزات والخوارق وأنكروا بعضها.
ثالثًا: تبرير الحضارة الغربية والثناء عليها ومجاراتها ولو على حساب جوانب من العقيدة والدين. وهذا مَهَّد السبيل بدوره لسيطرة كثير من الأفكار والتقاليد الغربية في السياسة والمجتمع.
أما تأثرهم بالاعتزال فهو في جوانب، منها ([26]):
- إنكار كثير من الأحاديث التي لا يقبلها العقل.
- إنكار بعض المعجزات ورد بعضها.
- عدم تعديل الصحابة كلهم وربما تنقص بعضهم عددًا من صحابة رسول الله (صلى الله عليه وسلم).
- تحكيمهم العقل فيما يعارض الشرع.
- إنكار بعض الغيبيات أو تأويلها كالجن والسحر وغيرها، كما سبق بيان ذلك.
ذكر الأستاذ أنور الجندي هذه المدرسة وأثرها في قوله: ([27]) «إذا كان جمال الدين هو أول من فتح باب المنطق والفلسفة في الفكر العربي الحديث بحسبانه طريقًا إلى الدفاع عن الإسلام في مواجهة الفلسفات الحديثة، على نفس المنهج الذي اتخذه المعتزلة، فإن محمد عبده هو الذي عمَّق هذا الاتجاه حتى أطلق عليهما: اسم (معتزلة العصر الحديث) ».
وقال اللورد كرومر في كتابه «مصر الحديثة»: «إن محمد عبده كان مؤسسًا لمدرسة فكرية حديثة، قريبة الشبه من تلك التي أسسها السيد أحمد خان في الهند مؤسس جامعة عليكرة».
ونحن لا نتفق مع الرأي السابق، خاصة أن ما عرضناه من فكر الإمام وأقواله يوهن من صحة هذا الرأي على إطلاقه وإن كان للإمام محمد عبده تأويل خاص في مسألة الجن أو في بعض المسائل إنَّما ذلك لا يمس بجوهر فكره الصريح ودعوته إلى احترام العقل والوقوف به عند حدود معينة، ولدينا أن الإمام محمد عبده مؤسس مدرسة العقل في العصر الحديث، بيّنا حدود اتفاقه واختلافه مع منهج المعتزلة والتطور الذي أحدثه في مضمون مدرسة العقل والمحتوى الفكري لها بل والأصول العامة التي قامت عليها بقدر يتفق مع موضوع هذه الدراسة.
[HR][/HR]
المراجع
([1]) راجع: محمد العبده وطارق عبد الحليم «المعتزلة بين القديم والحديث»، الطبعة الأولى 1987، دار الأرقم، برمنجهام، ص 127 وما بعدها. وتذهب جل الدراسات التي تتهم جمال الدين الأفغاني بأنه من أعداء الإسلام إلى أنه محسوب على الماسونية وأنه إيراني المنشأ تربى في أحضان الرافضية وأنه أسس أكبر محافل ماسونية في الشرق. ونحن هنا لسنا في مجال التعقيب على هذا الكلام أو الرد عليه بقدر تناولنا لكون الأفغاني أحد الذين أعادوا تأسيس مدرسة العقل في العصر الحديث. الواقع أيضًا أن الدراسات لم تُبنَ على أسس موضوعية ودراسات متكاملة لفكر الأفغاني بل هي تقوم على انتزاع بعض العبارات واستخلاص بعض الأفكار من سياقات محددة لتؤكد مصداقية رأيها دون دراسة شاملة ومتعمقة لفكر الرجل، فضلاً عن أنه لا يمكن إغفال استنادها إلى الكثير من المصادر التي كانت لا تعارض الأفغاني فحسب بل تعارض المنهج العقلي كلية ومِنْ ثَمَّ فهي تحاول النيل من أنصاره فإن لم يسعفها النقاش العقلي والعلمي لجأت إلى التجريح والرمي بالنقائص والعداوة للدين، وهو للأسف منهج ما زال سائدًا لدى كثير من الإسلاميين بل المثقفين العرب وهو سلوك ثقافي واجتماعي يحتاج إلى مراجعة فإثارة العواطف والنعرات الدينية لم تعد تكفي وحدها في مجال المناقشة والمجادلات الفكرية، وتجييش العاطفة لن يُسكِت أنوار العقول وألسنة البحث العلمي والاجتهاد حتى ولو لَمْ يَكُنْ الصواب في جانبها.
(1) الدهريين هم أنصار نظرية النشوء والارتقاء وإنكار الخالق والدعوة إلى ان الكون خلق بالمصادفة.
([3]) راجع: دكتور زاهد روسان منهج الأفغاني العقلي في دفاعه عن الإسلام مجلة جامعة دمشق المجلد 24 العدد الأول والثاني 2008.
([4]) راجع: جمال الدين الأفغاني الرد على الدهريين، عرَّبه محمد عبده، ط الأولى، القاهرة مكتبة الخانجي 1955 ص 78 وما بعدها.
([5]) راجع: منهج الأفغاني، المرجع السابق، ص 28.
([6]) انظر دكتور عثمان أمين مؤلفه الرائع رائد الفكر المصري الإمام محمد عبده منشورات المجلس الأعلى للثقافة ط2 1996 وانظر للمقدمة الرائعة للدكتور عاطف العراقي التي أشار فيها إلى اختلافه مع الباحث في كون الإمام محمد عبده فيلسوفًا إلا أنه أشار إلى أنه رائد للتجديد الفكري والديني في عصره وأنه بذل جهدًا وجهدًا كبيرًا وخاض معارك فكرية ودخل في صميم المشكلات الاجتماعية والفكرية....................
([7]) راجع: د محمد فوزي عبدالمقصود الفكر التربوي للأستاذ الإمام محمد عبده وآلياته في تطوير التعليم وتناول فيه اهتمامات الإمام في إصلاح التعليم الأزهري والتعليم العادي من خلال دار العلوم فضلاً عن تطوير الدعوة والدعاة.
([8]) راجع: دكتور عثمان أمين، المرجع السابق، ص 74 وما بعدها.
([9]) الإمام محمد عبده الأعمال الكاملة د. محمد عمارة- رسالة التوحيد الجزء الثالث ص374 وما بعدها.
([10]) راجع: الأعمال الكاملة الجزء الثالث ص 301 و302 وما بعدها.
([11]) راجع: الأعمال الكاملة، الجزء الثالث، ص 302.
([12]) سورة الغاشية الآية 22.
([13]) راجع:، المرجع السابق، ص304
([14]) المرجع السابق، ص307 و308.
([15]) المرجع السابق، ص 309.
([16]) الأعمال الكاملة رسالة التوحيد، المرجع السابق، ص379.
([17]) الأعمال الكاملة الجزء الثالث، المرجع السابق، ص 395 و396.
([18]) الأعمال الكاملة الجزء الثالث المرجع السابق، ص 416 و417.
([19]) الأعمال الكاملة، المرجع السابق، ص 403 و404.
([20]) المرجع السابق، الأعمال الكاملة الجزء الثالث رسالة التوحيد ص 393.
([21]) مرجع سابق الأعمال الكاملة جزء 3 ص 411 وما بعدها.
([22]) المرجع السابق، الأعمال الكاملة جزء 3 ص 314.
([23]) مشار إليه لدى دكتور أمين عثمان، المرجع السابق، ص 156 وما بعدها.
([24]) راجع: دكتور أمين عثمان، المرجع السابق، ص 156 وما بعدها.
([25]) محمد أحمد الزهراني، «الفكر الاعتزالي وأثره في الفكر الإسلامي المعاصر»، [5/ 8] مقال رائع، ص 10، منشور بتاريخ الثلاثاء 22 رجب 1433 الموافق 12 يونيو
http://www.islamtoday.net/bohooth/artshow 2012.
([26]) انظر العلمانية للدكتور سفر الحوالي، ص577.
([27]) انظر على سبيل المثال: العصريون معتزلة اليوم. يوسف كمال ص114، الطبعة الثانية 1410هـ، دار الوفاء. اليقظة الإسلامية أنور الجندي، ص132. وكذلك لمزيد حول هذا الاتجاه: تجديد الفكر الإسلامي للأستاذ جمال سلطان، ص35 وما بعدها. مشار إليهما في مرجع (العصريون معتزلة اليوم).